النبذة الثامنة فرغنا في الجزء الماضي من دحض شبهات الفصل الأول من البحث الأول من كتاب ( أبحاث المجتهدين ) وهو الذي عقده مؤلف الكتاب لإثبات الكتب التي يسمونها التوراة والإنجيل بشهادة القرآن ، وكنا عازمين على أن نبدأ في هذا الجزء بإبطال شبهات الفصل الثاني الذي عقده لإثبات تلك الكتب بالعقل ، وإذ ورد علينا الجزء الخامس من المجلة البروتستنتية المسماة بشائر السلام فرأينا فيها طعنًا شديدًا بالإسلام ، وسبحًا طويلاً في بحار الأوهام ، أحببنا أن نقذف عليه بالحق ، ليدمغه فيزهق ، ونعود - إن شاء الله تعالى - إلى انتقاد ذلك الكتاب في الأجزاء التالية ، وهذا الطعن محصور في ثلاث نبذ : النبذة الأولى عنوانها شجرة النسل المبارك هذه النبذة تابعة لمقالة سابقة يمدح فيها بني إسرائيل ويبين فضلهم ، وقد أعطاهم فوق قدرهم ؛ ولكنه ما قدَر الله حق قدره ، عظَّمهم وأساء الأدب مع الله تعالى ، مدح الشجرة الإسرائيلية وقدح في مقام الألوهية ، وله في ذلك كلام [ تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَداًّ ]( مريم : 90 ) فمنه قوله - وحاكي الكفر ليس بكافر - أَوَلا تقضي من ذلك العجب أن فاطر السموات والأرض يختلي مع بني إسرائيل في البرية يخاطبهم ويخاطبونه ، ويراهم ويرون مجده وبينهم موسى الكليم يتجاذب معه أطراف الحديث ، ويتبادل فصول الخطاب كالإلفين المتآلفين والخليلين المتصافيين . ثم انتقل من هذا إلى غمص سيد المرسلين وخاتم النبيين الذي أكمل الله به الدين وإلى انتقاص جميع العالمين ، فقال : ( فاسمع أيها القارئ المسلم ، وابهت وادهش أليس محمد عندك أعظم الخلق ، فلم يكن أهلاً لأن يخاطب الله رأسًا ، أو يسمع صوته أو يرى مجده مثل عامة إسرائيل فضلاً عن خاصتهم ، بل لم يكن خليقًا أن يخاطب جبرائيل كما قلتم إلا وتغشاه غيبة وغطيط يبلغان منه الجهد ويتفصد لذلك جبينه عرقًا في اليوم الشديد البرد ) انتهى خلطه وخبطه . ونقول : إن هؤلاء الناس تأصلت فيهم الوثنية ، ورسخت جذورها في أعماق نفوسهم حتي صار انتزاعها متعذرًا ما داموا لا يقيمون للعقل وزنًا ، ولا يرون له في كتب الدين معنى ، وتفصيل القول في بيان بطلانهم يطول ولا تفي به مجلتنا كلها ، ولذلك نكتفي بالإجمال فنقول بلسان العقل المحض لا بلسان الإسلام ليكون أدعي للقبول . ( 1 ) إن المسلمين ينقلون أن نبيهم محمدًا صلى الله عليه وسلم صعد إلى السماء ، ورأى من آيات ربه الكبرى ، بل يقول أكثرهم إنه رأى الله سبحانه وتعالى بلا كيف وكلمه بلا واسطة ، وموسى عليه السلام ومن كان معه من بنى إسرائيل إنما رأوا بروقًا ، وسمعوا رعدًا وبوقًا ، وغشيهم دخان كدخان الأتون ، وارتجف بهم الجبل فارتعدوا ووقفوا من بعيد ( وقالوا لموسى تكلم أنت معنا فنسمع ولا يتكلم معنا الله لئلا نموت ) بل قال الرب لموسى : اذهب انحدر ثم اصعد أنت وهارون معك ، وأما الكهنة والشعب فلا يقتحموا ليصعدوا إلى الرب لئلا يبطش بهم . كل هذا مصرَّح به في الباب 19 و20 من سفر الخروج ، وهو يكذِّب قول المجلة إن عامة بني إسرائيل كانوا يخاطبون الله رأسًا ويسمعون صوته ، فما هذا التمويه والإيهام ؟ وورد في القرآن [ وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً ]( الأعراف : 143 ) وقال في محمد [ مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى ]( النجم : 17-18 ) فهل من الإنصاف أن تقولوا نحن الصادقون لأننا قلنا .. ( 2 ) إن بنى إسرائيل الذين خُصوا بهذه العناية ، وهارون الذي أذن له الرب أن يصعد مع موسى وحده من دون الكهنة والشعب - لم يتمسكوا بأعظم الوصايا التي أوصاهم بها الرب يومئذ ، بل تركوا أولها في الذكر والرتبة وهي ( لا يكن لك آلهة أخرى أمامي لا تصنع لك تمثالاً منحوتًا ولا صورة ما ) ... إلخ ؛ فإن هارون بزعمكم وزعم كتبكم هو الذي اتخذ لهم العجل فعبدوه من دون الله ، ألا يكون هذا الشعب الذي اختُص بتلك العناية والتكريم ثم كفر هذا الكفر الجسيم ، جديرًا بالغضب والمقت من الله وسلب نعمته عنه ، وإسباغها على شعب آخر كالشعب العربي الذي نزع به الوثنية من ملايين من الناس ، لم تعد إليهم بفضله وكمال نعمته . ومن الأدلة على غضب الرب على شعب إسرائيل ما أوردناه في النبذة الثالثة ( ص 417 ج 11 ) عن كتاب حزقيال ، فهل يصح استدلاله بعد هذا على أن الله تعالى وتقدس لا يزال عاشقًا - سبحانه سبحانه - لشعب إسرائيل وغاضبًا على سائر خلقه ، وأن عامتهم أفضل من ... ، ومن الغريب أنه يستدل بآيات القرآن العزيز على إنعام الله تعالى على بني إسرائيل ، ولا يستدل بها على كفرهم النعم ورميهم بالنقم ! ! ( 3 ) إن القاعدة الأساسية عند المسلمين في الإيمان هي تنزيه الله تعالى عن مشابهة المخلوقين ، فإذا ورد في الوحي لفظ ينافي ظاهره التنزيه يصرفونه عن ظاهره إلى ضرب من التجوز والتأويل ، وكأن القاعدة الأساسية عند سواهم هي التشبيه والوثنية، لا سيما الذين جعلوا من البشر إلهًا، فإذا ورد في كتبهم كلمة تنافي التنزيه يضيفون إليها أضعافًا ، ويتفننون في القياس عليها . .. إن المجلة خلطت فيما ذكرته عن حالة النبي صلى الله عليه وسلم عند الوحي ؛ لأن ذلك مأخوذ من أحاديث لم يفهمها الكاتب فظن أن كلمة ( غطَّني ) في حديث بدء الوحي من الغطيط الذي هو صوت النائم ، أو صوت هدر البعير وليس كذلك ؛ وإنما معناها ضمني بشدة وضغط ، ثم خلطها بكلمات من حيث وصف الوحي والتأثر منه ، وزعم صاحبها أن عدم التأثر من الوحي أفضل وأكمل وهي دعوى افتحرها لا يقوم عليها دليل ؛ فإننا نقول إنها كانت حالة من حالات الوحي ربما لم يحصل نظيرها لموسى ، فيتأثر تأثر محمد ( عليهما السلام ) على أنه يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل ، فلو فرضنا أن موسى امتاز على محمد بهذه الفضيلة ، فلمحمد مزايا كثيرة يفضله بها ، ومن التجاوز أن يفاضل مثل هذا الكاتب الذي لا يقدر الله حق قدره بين أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام بمجرد الهوى وسوء الفهم . النبذة الثانية من تلك المجلة في سيدنا إسماعيل غمط كاتب المجلة سيدنا إسماعيل عليه السلام في مقام المفاضلة بينه وبين إسحق ، وإذا صح قوله ونقله واستدلاله منهما على أن إسحق أفضل وأنه هو الذبيح ، فإن هذا لا يضر بدين الإسلام شيئًا ، ولا يستحق قوله في هذا المقام أن يصرف في نقده شيء من الوقت . النبذة الثالثة مؤلفو العهد الجديد والدعوة إلى الدين جاء في قسم الأسئلة والأجوبة من المجلة سؤالان ، أحدهما أن أحد أصحابهم المسلمين سألهم : ( هل بطرس و بولس و يوحنا وغيرهم من كتبة العهد الجديد هم رسل الله ؟ وهل جاء في العهد القديم نبوة عن إرسالهم كما جاء عن المسيح ) وكان جواب المجلة أنهم رسل ، ونحن نقول : ما كان لمسلم يعرف عقيدة الإسلام أن يسأل هذا لأن الرسول في اعتقاد المسلمين هو النبي الذي أوحي إليه بدين مستقل ، وأمر بتبليغه للناس ، والنصارى أنفسهم لا يدعون الرسالة بهذا المعنى لبطرس وبولس وغيرهما من مؤلفي الأناجيل ورسائل العهد الجديد ؛ ولأن المسلمين لا يستعملون لفظ النبوة بمعنى البشارة كما هي مستعملة في السؤال ، فإما أن يكون السؤال منتحَلاً للإيهام وهو الأقرب ، وإما أن يكون من مسلم جغرافي ليس له من الإسلام إلا الاسم واللقب والجنسية والنسب ، واستدلوا على رسالة من ذكر بالعجائب ، وأنه ليؤثر عن ولي واحد من أولياء المسلمين أكثر مما يُؤثر عنهم ، وعن المسيح عليه السلام ولم يقولوا إن الأولياء رسل . والسؤال الثاني من صاحب لهم آخر وهو : ( لم انفرد المسيحيون بإرسال المبشرين ، واستمروا على ذلك من عهد ظهورهم إلى الآن ) والجواب ( إن المسيحية هدى ، ومتى كان الهدى في القلب لا يتمالك صاحبه أن يكاتمه أبناء جنسه أو يواربهم فيه ) ثم قال ( إن المسيحيين منفردين بالهدى ) ونحن نقول ( أولاً ) إنه ما قام دين من الأديان في العالم إلا بالدعوة ، وما دَعَا أحد إلى دين إلا ووجد له تابعين ؛ ولكن منها ما انتشر بقوته الذاتية ، أي قوة الهداية والسلطان على النفوس كالإسلام ، ومنها ما انتشر بالإكراه والإلزام كالدين المسيحي ؛ فإنه بقي ثلاثة قرون لا يقبله إلا أفراد قليلون ، ثم دخل فيه بعض ملوك الوثنيين ، فصاروا يُلزمون الناس به بالإكراه كما سنبينه بعدُ - إن شاء الله تعالى - بشهادة التاريخ ، و ( ثانيًا ) إن بني إسرائيل شعب الله الخاص الذين نوَّه بهم صاحب المجلة ما كانوا يدْعُون لدينهم لعهد المسيح الذي هو منهم ، فهل كانت ديانتهم في ذلك العهد ضلالة أم هداية ؟ و ( ثالثًا ) إن البهائية الذين يقولون في البهاء المدفون في عكا كما يقول النصارى في المسيح ، يدعون إلى دينهم في كل مكان وجدوا فيه حتي يوشك أن يكون كل واحد منهم داعيًا ، فهل يقول أصحاب هذه المجلة أنهم على الهدى ، وأنه يجب عبادة البهاء وترك عبادة المسيح أو الجمع بينهما ، و ( رابعًا ) إن الجواب يستلزم أن يكون كل مسيحي داعيًا إلى دينه ؛ لأنه على هدى وصاحب الهدى لا يقدر على كتمانه ؛ ولكننا نرى الدعوة محصورة في أفراد منهم يأخذون عليها الأجر من الجمعيات الدينية ، فهم يدعون لأن الدعوة معاش لهم ، لا لأنها هدى في قلوبهم يفيضون منه على أبناء جنسهم ، و ( خامسًا ) إننا نرى المسيحيين الفضلاء ينتقدون هؤلاء الدعاة المسيحيين المستأجرين ، ويقولون إنهم يضرون المسيحية ولا ينفعونها ، ومن أصحاب الجرائد من انتقدهم كتابة ، و ( سادسًا ) إن كل صاحب دين يعتقد أنه على هدى ، والإنسان إنما ينبعث إلى العمل باعتقاد نفسه ، لا بما عليه الأمر في نفسه ، ولولا ذلك لم يعمل أحد شرًّا ولم يدع أحد إلى باطل ؛ ولكن قد تحول دون الدعوة الحوائل . أما الدعوة الصحيحة التي اندفع اليها أصحابها بقوة الاعتقاد ، فهي دعوة حواريى المسيح عليه الصلاة والسلام ، وما آمن معهم إلا قليل ، ودعوة المسلمين عدة قرون آمن فيها الملايين ، فقد كان التاجر المسلم يدخل مملكة من ممالك أفريقيا أو آسيا فتدخل كلها في الإسلام على يديه ، ولم تنقطع هذه الدعوة بالمرة ؛ ولكنها ضعفت بضعف الإسلام وفقد التربية الدينية ، وإهمال علومه الحقيقية ، وضعف المدنية والحضارة ، وإهمال دول الإسلام أمر الدين ، واعتماد المسلمين على ملوكهم وأمرائهم وحكوماتهم على خلاف ما يفرضه الإسلام عليهم ، ولا يزال الشيعة و البُهر ( الإسماعيلية ) يدعون بقدر الطاقة ، وهؤلاء الملوك والأمراء هم العقبة الأولى في طريق الإسلام ، والعقبة الثانية ملوك أوربا الأقوياء الذين ينصرون دعاتهم ويحمونهم بعد أن يوجهوهم إلى الدعوة ، حتى أنهم ليحاربون مملكة بحجة الانتصار لقسيس واحد ، فالقوة الأوربية هي التي أنطقت لسان هؤلاء الدعاة ، وهي التي أجرت أقلامهم وسددت لرمي مخالفيهم سهامهم ، فتبين أن جواب السؤال الصحيح : أن المسيحيين يبشرون لأن السياسة تدفعهم ، والجنيهات تتبعهم ، والمدافع تمنعهم ( أي تحميهم ) وأما المسلمون فإنهم على ضعفهم العلمي والاجتماعي والسياسي لا يزالون يدعون إلى الدين مندفعين إليه بدافع الاعتقاد ، ولكن على ضعف تؤيده قوة الحق ، فيكون أنجح وأقرب إلى القبول ، وطالما شكا دعاة المسيحيين من تقدم الإسلام في أفريقيا وسبقه للمسيحية مع شدة العناية بنشرها ، وكان أقرب تعليل لهم في ذلك أن الإسلام أقرب إلى الفطرة والعقل وسننشر بعض كلم القسيسين في ذلك ، إن شاء الله . ((يتبع بمقال تالٍ)) ________________________ المنار 4/16/ص619 |