دفع أوهام توضيح المرام
( رداً على الأحمدية القاديانية )
بقلم / سليمان ظاهر
المقدمة
بسم اللّه الرحمن الرحيم نحمده تعالى على اكمال الدين واتمام النعمة، ونصلي على نبيه نبي الرحمة، خاتمالانبياء والمرسلين، وعلى آل بيته الطيبين، وصحبه الانجبين.
وبعد فقد كتب إلي وإلى صديقي العلامة الشيخ أحمد رضا والشيخ محمد رضا الزين، فريق من إخوانناالعامليين من دار هجرتهم فريمون السبرانيون، كتابا يشكون فيه انتشار الدعوة القاديانية فيتلك الديار التي يقوم بنشرها ثلة من رجال تلك النحلة وتاثيرها على نفر منهم استهوتهم فكانوا لها أتباعا، وقد بعثوا إلينا مع كتابهم بكتاب تأليف بعض مبشري المذهب القادياني جلال الدين شمس أحمدي المقيم في حيفا (فلسطين) سماه «توضيح المرام في الرد على علماء حمص وطرابلس»، وقد فوضالصديقان إلي الرد على ما في هذا الكتاب من المزاعم والجواب على مسائل للمكاتبين ليست في صلبالكتاب ولكنها من مراميه التي اوقعت في أنفسهم الشبهات، فرأيت فرض عين ما فوضاه إلى من نقصالكتاب، والجواب على مسائل أولئك المكاتبين مما تقوم به الحجة وتدفع به الشبهة، فاختلست الفرصالسانحة على كثرة الصوارف والشواغل وكتبت ما أحسبه كافيا في المرام، وسميته (دفع أوهام توضيحالمرام)، ومنه تعالى استمد العون في البدء والختام، وقد كسرت رد الكتاب على مقدمة وأبواب وفصولوخاتمة، متحدياً البسط والوضوح ما استطعت.
أما الكتاب فهو يضم بين دفتيه خلاصة ما تمسك به القاديانية من شبهاتهم، وما موهوا به من الحجج الواهية تأييدا لنحلتهم، ولم نر من حاجة لاجابة طلب الكاتبين إلينا بتحصيل كتبهم الأخرى المطبوعة وهي لا تخرج في بناها ومعناها عما حواه هذا الكتاب، كما أننا لا نرى لزاماً طلب بعض دعاتهم إلىالمناظرة ولا إلى المباهلة التي يدعون إليها كل من ينكر بدعتهم، والمباهلة لم يدع اليها سيدالمرسلين (ص) مع كثرة من أنكروا نبوته من مشركي العرب واليهود والنصارى إلا مرة واحدة وهم نصارى نجران، على أن التفاوت بين دعوته(ص) نصارى نجران للمباهلة ودعوتهم هذه عظيم جدا،فهم يزعمون أنهم مسلمون وأنهم لم يشذوا عن الإسلام ولم يغيروا شيئاً من رسومه، ومن يدعونهم إلىالمباهلة هم مسلمون مثلهم، إن لم يكونوا كما هو الواقع أكثر اعتصاماً منهم بعروته، وأبعد عن بدعة دعوى إرسال رسول جديد بعد نبيهم الذي قام إجماع المسلمين على إنتهاء النبوات بنبوته الخالدة، فلماذا أي غرض بعد هذا إلى المباهلة ؟ إن هذا ضرب من ضروب تهويلات القاديانية لا يقيم له عاقل وزنا، ولا يعبأ به مسلم يستمد إسلامه من الكتاب الحكيم ومن السنة النبوية وأدلة العقل وإجماع الأمة ويعلم أن دين محمد(ص) مستكملجامع لكل حاجات البشر في مبدئهم ومعادهم، وله قوام وعليه حفظة قائمون على صيانة شرائعه، ولميترك شيئا مما يتصل بحياتهم الروحية والجسدية والاجتماعية إلى نبي جديد، ولا نص عليه بالعين أوالوصف بل استفاض الخبر، وأيده العقل من عدم خلو الأرض من قائم على إقامة تلك الشرائع مصونةمن التحريف والتبديل، ومن التبشير بظهور المهدي والمسيح (ع) في آخر الزمان، كما نبسط ذلك فيموضعه من هذا الرد.
الكتاب رد على علماء حمص وطرابلس، قدم مؤلفه مقدمة طويلة لا تتصل اتصالا وثيقاًَ بما يرمي إليه من نبوة صاحبه، ولا تثبت دعوة بين فيها ما مني به المسلمون من الابتعاد عن الدين، وما ابتلوا به منجماعات المبشرين الطاغين في الاسلام، وأن الإسلام أصبح غريبا. ونخلص من هذه المقدمة إلى نتيجةوهي ضرورة بعث مجدد له، وأن ذلك المجدد هو بزعمه المسيح الهندي غلام احمد القادياني، ثم استرسل إلى انتقاص قادة الدين والحط من أقدارهم، بزعم سكوتهم عن محاربة البدع والمنكرات، وعن رد شبهات المبشرين وصد تيار الملحدين من المسلمين، ووقوفهم موقف الخصم اللدود في وجه المصلحين،وإسراعهم الى تكفير كل من يحاول تغيير بدعة ودرء ضلاله، لم يستثن من افتئاته أحداً من الأولينوالآخرين، وعرض إلى ما رمي به الحسين بن الحلاج وابن الجنيد والشلبي وأضرابهم من المتصوفة،ثم إلى تكفير من كفر أبناء نحلته الذين لم يشذوا عن الإسلام ولا خرجوا عن حظيرته، وكأنما ادعاؤهممسيحية صاحبهم ونبوته المخالفة للنصوص الصريحة التي لا تقبل تأويلاً ولاجماع المسلمين كافة،ليست من الأمور التي تعنيهم، ولا مما يحسن أن يتناوله النقد والنقض، وأنهم إنما يقومون بآداء المفروض عليهم من محاربة البدع بالتسليم ببدعتهم والاعتراف بنبوة نبيهم المزعوم ومسيحهم الموهوم.
أما انذار النبي (ص) بل انذار اللّه تعالى بوقوع الاختلاف في المسلمين بعد وفاته(ص) فذلك مما نصعليه القرآن المجيد (أفان مات أو قتل انقلبتم على اعقابكم) [آل عمران/144] وحديث النبي (ص) الصحيح في افتراق أمته الى ثلاث وسبعين فرقة كما افترقت أمة موسى(ع) الى إحدى وسبعين فرقة وأمة عيسى (ع) الى اثنتين وسبعين فرقة، إلى أحاديث كثيرة في معنى الاختلاف الذي هو سنة طبيعية في البشر، وكم جاءت آية كريمة محكمة في هذا المضمون (ولن تجد لسنة اللّه تبديلا ) [الفتح/23] وماأرسل تعالى الرسل وأنزل الكتب وشرع الشرائع إلا لتلطيف ذلك الاختلاف وتعديله، وأوضح السبل ونصب الدلائل على دينه الحق ومراداته من التكليف في دار التكليف ولم يدع الناس هملا و (قد تبينالرشد من الغي) [البقرة/256] ببعثة خاتم المرسلين، وبما نزل عليه من الذكر الحكيم، ومع ما في طبيعة هذا الدين والكتاب الذي مهد سبله واسس قواعده الحكيمة من ملاءمة لكل الطباع الانسانية،ومن اساليب رائعة يدرك إعجازها الجاهل والمتعلم والقروي والبدوي، ومن سنن إجتماعية وأخلاقية تنفذ في نفوس كل الجماعات، وما للنبي المبعوث به من خصائص نفسية وخلقية وسيرة فاضلة، فانذلك وما إليه لم يكن كله يكبح جماح النفوس ويحد من طغيانها، وليخرج بها عن الفطرة ويردها إلى المثل الأعلى، اللهم إلا من زكت نفوسهم وسمت خلائقهم ، ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة وماكانت تكاليف اللّه تعالى للعباد بتنية على الالجاء ، فهل كان من خصائص مسيح الهند أن يمد من الفطر ويدرك ما تعجز عنه القدر من إصلاح مجموع البشر بكتابه الجديد، وبما عزاه إلى نفسه وعزاه إليه منمعجزات في على أن من اختص بمثل تلك المعجزات المزعومة وبمثل تلك الموهبة التي لم يؤتها النبي (ص) من إصلاح البشر، كان من مقتضى الحكمة أن ينص على ظهوره والتعريف باسمه وموطنهوعصره.
أن اللّه عز وجل بلطفه الشامل ودينه الكامل لم يترك المسلمين في جاهلية جهلاء وطخية عمياء، وكفىببيانه بيانا وبسنة نبيه الاعظم برهانا، وبحديثه الصحيح «إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي » قاطعاً للمعاذير وبينا للحجة القائمة ومفحما لكل مدع للنبوة.
إن علماء الأمة الذين شاء المسيح الهندي وأتباعه إلصاق وصمة التقصير بهم عن القيام بما فرض عليهممن النصح والارشاد، والدفاع عن حوض الدين القويم، فقد قاموا قديماً وحديثاً بهذا الفرض، وكانوا أحرص الناس على رعاية أصوله وفروعه ، وتدوين ما حذقوا من علوم كتابه، وضبطوا بكل تدقيق ماورد من سنة وحديث، وأسسوا علم الكلام ، وعنوا بعلم المنطق والعلم الالهي، ليحفظوا بهذه العلومالحادثة جوهر الدين، وليبينوا وجوه إعجاز كتابهم الخالد ، وليدفعوا زيغ الملحدين وشبهات المعادين،ولم يخل وللّه الحمد منهم عصر من العصور الاسلامية، ولكنهم لم يدع منهم أحد أنه نبي أو أنه المسيحالمترقب او المهدي المنتظر، ولم يدع النبوة في عصور إنقسام المسلمين إلى فرق، ثم الترقي إلى دعوىالحلول والاتحاد فالألوهية إلا الغلاة من الفرق الثلاث والسبعين ، كما تجد ذلك مبسوطا في كتب المللوالنحل، ولكنه لم يقم بتلك الدعوى قائم، وينجم لها ناجم، حتى يذهب ودعواه كأمس الدابر، متعسراً بأذيال الخيبة والخسران، مخلفاً وراءه سبة التاريخ والأجيال، ولم يكن نصيب من ادعى مثل تلكالدعوى في العصر الأخير إلا كنصيب من تقدمه من الإخفاق، ولم تكن معجزاتهم التي زعموها مؤيدة لدعاواهم، ومنها كتبهم المدعى الايحاء بها إليهم معارضاً بها القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه، وهم من الأعاجم إلا مجموعة ترهات وسخافات وعجمة وطمطمانية، لا يرضى صغارالمتعلمين نسبة مثلها إليه.
ولو كانت البلاغة سلما يرتقى بها إلى دعوى النبوات من فرسانها وسباق حلبة ميدانها أو من مريديهم ،لكان أجدر من الباب والبهاء والقادياني بمثل هذه الدعوى الخاسرة أشباه ابن المقفع وعبد الحميد والجاحظ وابن العميد والصاحب والصابي والخوارزمي والبديع والضبي، دع ما ظهر فبهر من بلاغات أئمة أهل البيت مع غلو من غالى في حبهم ، إلى أن ارتقى بهم عن مرتقى النبوة إلى مقام الألوهية، ولكنه لميزعم زاعم من هؤلاء الغلاة أن بلاغاتهم من معجزاتهم والائمة كانوا يلحقون الغالي في حبهم بالقالي فيبغضهم، وكلاهما منه بريئون.
وأما الدفاع عن الاسلام والمحاماة عن عقائده والرد على شبهات خصومه من ملاحدة وكتابيين ومتفلسفين، فقد بلغ فيه ائمة المسلمين وعلماؤهم العاملون أقصى حد، ولو حاولنا تعداد مجالسمناظراتهم والكتب المصنفة لهم قديماً وحديثاً في هذا المعنى، لأخرجنا سفرا ضخماً، ولأوضحنا لأتباع القادياني أن حماة الإسلام لم يفرطوا في شيء مما يفحم خصومه ويرد كيد أعدائه إلى نحورهم، وما علىالمنكر إلا أن يرجع إلى تلك الكتب المصنفة والمطبوع جلها.
وأما في هذا العصر الذي يزعم أتباع المسيح الهندي تقاعد قادة الدين عن نصرته وقيامه وحده فيه ، وفي دحض شبهات المبشرين والملحدين، ومحاربة البدع والمناكير، فحسبنا في دفعه أن نلم إلمامة وجيزة بذكر فريق من العلماء الأعلام والأساطين العظام، ممن قاموا بقسط عظيم في صد تيار ناصبي العداء لدينهم المتين ، فمنهم مواطنه المجاهد الشيخ رحمة اللّه الهندي ، والشيخ علي البحراني، والشيخ جواد البلاغي النجفي في كتبه الهدى إلى دين المصطفى ، والمدرسة السيارة، والرحلة المدرسية، وإبطال التثليث،والأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده المصري ، وفيلسوف الشرق السيد جمال الدين الافغاني، والسيد محمد رشيد رضا الذي تكاد تتمحض مجلته المنار الإسلامي للدفاع عن الإسلام ومحاربة البدع، والشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء النجفي، والسيد محسن الأمين، والسيد عبد الحسين شرف الدين العامليان، والسيد مير علي الهندي الذي أنفق معظم حياته في الجهاد في سبيل الاسلام وبث دعوته، إلىكثيرين غيرهم ممن يطول الكلام بتعداد أسمائهم، فقد صدعوا بالحجة ونهضوا بما افترضه اللّه عليهم بدون أن يدعوا نبوة أو مسيحية أو رسالة ووحيا.
وأما المعاهد الدينية التي قامت في الأمصار الإسلامية قديما وحديثا وعنيت بتدريس علوم الشريعةوكل ما له تعلق بها وما له مساس بالذود عن نواميسها فالاحاطة به وعده مما يخرجنا عن الفرضالذي قصدنا إليه في هذا الرد، وحسبنا أن نذكر منه ما لا يزال قائما مصابرا الدهور، فمنه جامعة الأزهر، وجامعة النجف الأشرف، وجامع الزيتونة، ومدرسة الواعظين في لكهنور، ومدرستا قم وسبهسالار فيايران، وكل تلك المعاهد إلى كثير أمثالها تخرج المئات في كل عام للإرشاد ونشر مبادىء الدينالاسلامي القويم والتبشير، حتى في كبرى عواصم الدول الأوروبية. وقرأت أخيرا في مجلة الاثنين فيالجزء (51) الصادر في 24 إبريل سنة 1944 في مصر، أن الدكتور علي حسن عبد القادر المصريخريج الأزهر وبعض الجامعات الاوربية، وهو متخصص في المعارف الاسلامية، وقد أنشا في لندن المركز الثقافي الاسلامي واختير له مديرا عاما، والمقصد من إنشاء هذا المركز إلقاء المحاضرات عنالاسلام باللغة الانكليزية، وعرض الدين الحنيف عرضا صحيحا، ودفع الأخطاء التي أُلصقت به، وسيكون بعد قليل باستطاعته إنشاء معهد يتلقى فيه ابناء المسلمين المقيمون في لندن ثقافتهم الدينية،وقد توفق إلى انشاء مجلة ثقافية علمية، وإنشاء مكتبة إسلامية جامعة، وقد أهدت الحكومة البريطانية لهذا المشروع قصراً في اهم أحياء لندن وإلى جانبه قطعة أرض لبناء مسجد عليها، وقد جعل هذاالمشروع الاسلامي الجليل ملك مصر تحت رعايته، ويتقاضى مديره راتبه من جلالة الملك فاروق، أما المدير فيعرف اللغات الانكليزية والفرنسية والالمانية والتركية والفارسية.
وأما اثر جامع الازهر وجامعة النجف وسواهما من الجامعات الإسلامية، ومالها من عمل مجيد فيمصلحة الاسلام وترويج أحكامه ومناضلة خصومه، وما صنف من الكتب النافعة في التبشير بهوالكشف عن أسراره، والمجلات الدورية التي انشئت لهذه الغاية الشريفة (لا كمجلة البشرى المنشئة للقاديانية في حيفا فلسطين لمجرد إثبات نبوة صاحبهم) فان عيانه يغنينا عن البيان وعن البرهان على فساد دعوى أتباع القادياني من تقاعد علماء المسلمين عن حماية دينهم، وأنهم لم يكونوا في فترة ولا في حيرة من أمرهم، ولا ابتعدوا عن الدين الابتعاد الذي يصورونه لتسلم لصاحبهم دعوى انقاذهم برسالته ونبوته من هوة الحيرة والضلال، وما كانوا هم ولا صاحبهم أعرف منهم بأسرار الشريعة وأسرار كتابها الخالد، ولا أحوط منهم بالدفاع عن دينهم المتين، ومن ورائهم اللطف الالهي والتأييد السماوي لهذه الملة الدائمة ما دامت السماوات والأرض.
أما إسراع من أسرع إلى تكفير من كفر ممن ظهر بنحلة مخالفة لظواهر الكتاب والسنة أو نصوصهما الصريحة، والخروج عن إجماع ما أجمع عليه المسلمون فليس ذلك مما يهمنا امره، فإن للإيمان والكفرحدودا ورسوما لم يهملها الشرع، ولسنا في موقف من يحسن أو يقبح تكفير من كفر، وتبديع من بدع،فإن ذلك ليس له علاقة ماسة في صحة مزاعم المسيح الهندي ولا في فسادها، فندع ذلك الى الأهم فيالرد.
هذا ما نراه كافيا في التعليق على مقدمة الكتاب ولنرجع الى نقض فصول الكتاب بما يسمح لنا بهالوقت وتقوم به الحجة.
الباب الأول: في نقض الفصل الاول
صدر المؤلف هذا الفصل ب (نظرة إجمالية على كتب التفاسير) قال:
«لقد أضر المسلمين كثيرا اعتقادهم بصحة كل ما ورد في كتب التفاسير وتركهم التدبر في آيات القرآن المبين، ظانين بأن المفسرين أحاطوا بجميع ما يحويه الكتاب من الأسرار والحقائق والمعارف، ولذلك ترى ردود المشايخ لا تتجاوز أقوال المفسرين، ويجعلون رواياتهم الظنية أساس معتقدهم كأنها منزلة من عند اللّه..الخ ثم عرض لذكريات إختلف في تفسيرها المفسرون متحديا العلماء في الجواب عليها، وذكر أسباب الاختلاف في تفسيرها، وعقب ذلك بقوله: وليقولوا لنا: هل ينطبق حديث من قال فيالقرآن برأيه على تفسيرهم أم لا؟».
أما الحديث، فقد ذكره قبل وهو: (من قال في القرآن برأيه فليتبوا مقعده من النار) ثم أوردالأسئلة وهي أحد عشر وجلها منقول عن تفسير الخطيب الشربيني ، فلندع الجواب عنها الآن إلىالجواب عما زعمه من الاضرار بالمسلمين اعتقادهم بصحة كل ما ورد في التفاسير وتركهم التدبر فيآيات القرآن المبين، إلى آخر كلامه الذي مر ذكره قريبا، ويتلخص جوابه بأمور.
الأمر الأول: أن دعواه انحصار الاضرار بالمسلمين باعتمادهم على أقوال المفسرين بدون تمحيصها وتبين فاسدها من صحيحها مخالفة للواقع، فلم يترك المسلمون التدبر في آيات القرآن المبين والاعتبار بما فيهمن السنن، ولم يكن العلماء العارفون منهم ليقبلوا أقاويل المفسرين على علاتها، وإلا لما كثر الاختلاف ما بينهم وتعددت كتب التفاسير إلى حيث يصعب على الباحث عدها وسردها، وسنفي هذا البحث حقهفي موضعه.
الأمر الثاني: أن الذي أضر بالمسلمين، هو ما نشأ فيهم من ذوي البدع والاهواء ومدعي النبوات والحلول من الغلاة الذي انقرض جلهم، ومن اشتباه العلماء الذين ساقهم الطمع في الزعامة من طريق الابتداع في الدين إلى ادعاء الحلول والنبوة. الأمر الثالث: كيف ساغ له ان يرمي المسلمين كافة بتقليد أمثال الخطيب الشربيني بتفسيره بعض آي الكتاب، بما هو مستمد مادته من الاسرائيليات ومن أحاديث قد محصوها وبينوا الموضوع منها، ومالميصح وما صح منها ولاجلها ولاجل ما وضعه الواضعون منها من الحشويين ومن بعض غلاة الفرقالثلاث والسبعين تأييداً لما ابتدعوه وضعوا علم الحديث وعلم رجاله وعلم الدراية، وهب أن صاحبالكتاب ومسيحه سلكا هذه السبيل، فهل سلكا سبيلا غير سلوكه وعرفا ما لم يعرفه علماء الإسلام ؟وهل في ذلك آية من آيات نبوة المسيح الهندي تحمل المسلمين كافة في مشارق الأرض ومغاربها علىاعتقادها وترك الاجتهاد إلى تقليده ؟ الأمر الرابع: أننا نرى من المفيد والقاطع لحجته الواهية، أن نلم إلمامة قصيرة لا تبعدنا عن الموضوع بماقاله العلماء وذهبوا إليه من مباحث التفسير.
الأول: قال ابن خلدون الفيلسوف الاجتماعي الاسلامي في مقدمته : «وأما التفسير فاعلم أن القرآن نزل بلغة العرب وعلى أساليب بلاغتهم ، فكانوا كلهم يفهمونه ويعلمونمعانيه في مفرداته وتراكيبه، وكان ينزل جملا جملا وآيات آيات لبيان التوحيد والفروض الدينية بحسب الوقائع ، ومنها ما هو في العقائد الإيمانية، ومنها ما هو في إحكام الجوارح، ومنها ما يتقدم، ومنها ما يتأخر ويكون ناسخا له. وكان النبي(ص) يبين المجمل ويميز الناسخ من المنسوخ ويعرفه أصحابه ، فعرفوه وعرفوا نزول الآيات ومقتضى الحال منها منقولاً عنه، إلى أن قال: ونقل ذلك عن الصحابةرضوان اللّه عليهم اجمعين، وتداول ذلك التابعون من بعدهم ونقل ذلك عنهم، ولم يزل متناقلا بينالصدر الأول والسلف حتى صارت المعارف علوماً ودونت الكتب، فكتب الكثير من ذلك ونقلتالآثار الواردة فيه عن الصحابة والتابعين، وانتهى ذلك إلى الطبري والواقدي والثعلبي وأمثال ذلك من المفسرين. ثم صارت علوم اللسان صناعية من الكلام في موضوعات اللغة وأحكام الإعراب والبلاغة في التراكيب، بعد أن كانت ملكات العرب لا يرجع فيها إلى نقل ولا كتاب ، فتنوسي ذلك وصارت تتلقى من كتب أهل اللسان ، فاحتيج إلى ذلك في تفسير القرآن لأنه بلسان العرب وعلى منهاج بلاغتهم، فصار التفسير على صنفين ، تفسير نقلي مستند إلى الآثار المنقولة عن السلف وهي معرفة الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول ومقاصد الآي، وكل ذلك لا يعرف إلا بالنقل عن الصحابة والتابعين، وقد جمع المتقدمون في ذلك وادعوا إلا أن كتبهم ومنقولاتهم تشتمل على الغث والسمينوالمقبول والمردود. والسبب في ذلك أن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم، وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية، وإذا تشوقوا إلى شيء مما تتشوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات وبدء الخليقةوأسرار الوجود، فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدونه منهم، وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى ، وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب ومعظمهم من حمير الذين أخذوا بدين اليهودية، فلما اسلموا بقوا على ما كان عندهم مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية التي لا يحتاطون لها، مثل أخبار بدء الخليقة ومايرجع إلى الحدثان والملاحم وأمثال ذلك ، وهؤلاء مثل كعب الأحبار، ووهب بن منبه، وعبداللّه ابنسلام وأمثالهم، فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم في أمثال هذه الأعراض أخبار موقوفة عليهم وليست مما يرجع إلى الأحكام فتتحرى في الصحة التي يجب بها العمل ، وتساهل المفسرون في مثلذلك وملأوا كتب التفاسير بهذه المنقولات، إلى أن قال : فلما رجع الناس إلى التحقيق والتمحيص وجاء أبو محمد بن عطية من المتأخرين بالمغرب، فلخص تلك التفاسير كلها وتحرى ما هو أقرب إلىالصحة منها إلى كلام طويل بهذا المضمون لا يتعلق لنا غرض بنقله، فأنت ترى من هذه الجملة مصدر تلك المنقولات، وأنها من أقاصيص الإسرائيليين، وأن ناقليها إلى المسلمين في نضارة الاسلام ، هم منالاسرائيليين وسواهم من تشرفوا بدخول الإسلام وأن تلقي من تلقاها منهم بالقبول كان لحسن ظنه بالناقلين، وأن إهمال تمحيصها في الصدر الأول وقبل التدوين ناشىء من أن تلك الأخبار ليست ممايرجع الى الأحكام الشرعية لتتحرى، فتسامحوا فيها كتسامح فريق من المسلمين بأدلة السنن.
على أن تلك الأخبار حتى في الصدر الأول لم يتلقها العارفون بالقبول على الاطلاق وعلى علاتها،وكيف تقبل كلها وفي الكثير منها ما فتح الباب على مصراعيه للتهجم على مقام الانبياء بنسبة كبائر الآثام إليهم، بل أعظم من ذلك بنسبة الكفر إلى بعضهم، فلا يكاد نبي يسلم من التخطئة ومن اجتراح المعاصي، مما ترك علماء المسلمين يخوضون في بحث عصمة الأنبياء ووجوبها، وجوازها وتجويز بعضهم ما أجازته الاسرائيليات من المعصية عليهم، ومنع بعضهم وقوع ذلك البتة قبل التبليغ وبعده، وتفصيلالبعض الآخر بين جواز نسبة الكذب إليهم قبل التبليغ ونفيه بعده، وما إلى ذلك من شجون هذا البحث الذي أفرد له علماء الكلام بابا خاصا، وعصمة الأنبياء مما اتفق جمهور الإسلام عليها وأولوا الآياتالتي ظاهرها نسبة المعصية لهم ، وصنف الشريف المرتضى كتابه (تنزيه الانبياء) في هذا الموضوع.
الثاني: جاء في كشف الظنون لملا كاتب چلبي في علم التفسير وهو بحث مستوفى جامع ، قال بعد أن ذكرشروط التفسير: ومن ذلك القبيل الذين يتكلمون في القرآن بلا سند ولا نقل عن السلف، ولا رعاية للأصول الشرعية والقواعد العربية، كتفسير محمود بن حمزة الكرماني في مجلدين سماه العجائب والغرائب، ضمنه أقوالاً هي عجائب عند العوام وغرائب عما عهد عن السلف، بل هي أقوال منكرة لايحل الاعتقاد عليها ولا ذكرها الا للتحذير، من ذلك قول من قال في ربنا (ولا تحملنا ما لا طاقة لنابه) [البقرة/286]: إنه الحب والعشق، ومن ذلك قولهم في (ومن شر غاسق إذا وقب) [الفلق/3] أنه الذكر إذا قام، وقولهم في (من ذا الذي يشفع عنده): معناه من ذل أي من الذل وذي إشارة إلى النفس ويشف من الشفا جواب من واع أمر من الوعي. وسئل البلقيني عمن فسر بهذا فافتى بأنه ملحد، وأطال في هذا البحث إلى أن قال: ثم اعلم أن العلماء كما بينوا في التفسير شرائط بينوا في المفسر أيضا شرائط، لا يحل التعاطي لمن عري منها أو هو فيها راجل، وهي أن يعرف خمسة عشر علما على وجه الاتقان، والكمال، اللغة، والنحو، والتصريف، والاشتقاق، والمعاني، والبيان، والبديع، والقراءات، وأصولالدين، وأصول الفقه، وأسباب النزول، والقصص، والناسخ، والمنسوخ، والفقه، والأحاديث المبينة لتفسير المبهم والمجمل ، وعلم الموهبة وهو علم يورثه اللّه سبحانه وتعالى لمن عمل بما علم، وهذه العلوم لا مندوحة للمفسر عنها إلى أن قال:
ثم إن تفسير القرآن ثلاثة اقسام:
الأول: علم ما لم يطلع اللّه تعالى عليه أحدا من خلقه، وهو ما استأثر به من علوم أسرار كتابه منمعرفة كنه ذاته، ومعرفة حقائق أسمائه وصفاته، وهذا لا يجوز لأحد الكلام فيه.
والثاني: ما اطلع اللّه سبحانه وتعالى نبيه عليه من أسرار الكتاب واختص به، فلا يجوز الكلام فيه إلا له عليه الصلاة والسلام أو لمن أذن له ، قيل: وأوائل السور من هذا القسم، وقيل: من الأول
والثالث: علوم علمها اللّه تعالى نبيه بما أودع كتابه من المعاني الجلية والخفية وأمره بتعليمها. وهذا ينقسم إلى قسمين: منه ما لا يجوز الكلام فيه إلا بطريق السمع، كأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، والقراءات، واللغات، وقصص الأمم، وأخبار ما هو كائن، ومنه ما يؤخذ بطريق النظر والاستنباط منالألفاظ، وهو قسمان. قسم اختلفوا في جوازه وهو تأويل الآيات المتشابهات، وقسم اتفقوا عليه وهواستنباط الأحكام الأصلية والفرعية والإعرابية لأن مبناها على الأقيسة. وكذلك فنون البلاغة وضروب المواعظ والحكم والإشارات لا يمتنع استنباطها منه لمن له أهلية ذلك، وما عدا هذه الأمور هو التفسير بالرأي الذي نهي عنه، وفيه خمسة أنواع:
الأول: التفسير من غير حصول العلوم التي يجوز معها التفسير.
الثاني: التفسير المتشابه الذي لا يعلمه الا اللّه سبحانه وتعالى.
الثالث: التفسير المقرر للمذهب الفاسد، بان يجعل المذهب اصلا والتفسير تابعا له، فيرد اليه بأي طريق أامكن وإن كان ضعيفا.
والرابع: التفسير بان مراد اللّه سبحانه وتعالى كذا على القطع من غير دليل.
الخامس: التفسير بالاستحسان والهوى.
الثالث: ما جاء في مقدمة مجمع البيان للشيخ ابي الفضل الطبرسي الامامي:
«واعلم أن الخبر قد صح عن النبي (ص) وعن الائمة(ع) القائمين مقامه، ان تفسير القرآن لا يجوز الابالاثر الصحيح والنص الصريح. وروت العامة ايضا عن النبي(ص) انه قال: من فسر القرآن برايهفاصاب الحق فقد اخطا، قالوا: وكره جماعة من التابعين القول في القرآن بالراي كسعيد بن المسيب،وعبيدة السلماني، ونافع، وسالم بن عبداللّه وغيرهم.
والقول في ذلك: ان اللّه سبحانه ندب الى الاستنباط واوضح السبيل اليه ومدح اقواما عليه، فقال:(لعلمه الذين يستنبطونه منهم) [النساء/83]، وذم آخرين على ترك تدبره والاضراب عن التفكرفيه، فقال: (أفلا يتدبرون القرآن ام على قلوب اقفالها) [محمد/24]. وذكر ان القرآن منزل بلسانالعرب، فقال: (إنا جعلناه قرآنا عربيا) [الزخرف/3]. وقال النبي(ص): «اذا جاءكم عني حديثفاعرضوه على كتاب اللّه فما وافقه فاقبلوه وما خالفه فاضربوا به عرض الحائط» فبين أن الكتابحجة ومعروض عليه، وكيف يمكن العرض عليه وهو غير مفهوم المعنى، فهذا وامثاله يدل على ان الخبرمتروك الظاهر فيكون معناه ان صح أن من حمل القرآن على رأيه ولم يعمل بشواهد ألفاظه فأصاب الحق فقد أخطأ الدليل. وقد روي عن النبي (ص) أنه قال: «القرآن ذلول ذو وجوه فاحملوه على أحسنالوجوه»
وروي عن عبداللّه بن عباس انه قسم وجوه التفسير على اربعة اقسام تفسير لا يعذر احد بجهالته،وتفسير تعرفه العرب بكلامها وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه الا اللّه عز وجل.
فاما الذي لا يعذر احد بجهالته فهو ما يلزم الكافة من الشرائع التي في القرآن وجمل دلائل التوحيد،وأما الذي تعرفه العرب بلسانها فهو حقائق اللغة وموضوع كلامهم، وأما الذي يعلمه العلماء فهو تاويلالمتشابه وفروع الأحكام، واما الذي لا يعلمه الا اللّه فهو ما يجري مجرى الغيوب وقيامالساعة»
الرابع: ما جاء في مقدمة التفسير لابن تيمية: «يجب ان يعلم ان النبي(ص) بين لاصحابه معاني القرآنكما بين لهم الفاظه، فقوله تعالى: (لتبين للناس ما نزل اليهم) يتناول هذا وهذا، وقد قال ابو عبد الرحمنالسلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن كعثمان بن عفان وعبداللّه بن مسعود وغيرهما انهم كانوااذا تعلموا من النبي (ص) عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قال: فتعلمناالقرآن والعلم والعمل جميعا، ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة، وقال أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جل في أعيننا، واقام ابن عمر على حفظ البقرة عدة سنين، قيل: ثمان سنين ذكره مالك، وذلك ان اللّه تعالى قال: (كتاب أنزلناه اليك مبارك ليدبروا آياته) [ص/29] وقال: (أفلا يتدبرون القرآن) [النساء/82] وقال: (أفلم يدبروا القول) [المؤمنون/68] وتدبر الكلام بدون فهممعانيه لا يمكن. وكذلك قال تعالى: (إنا انزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) [يوسف/2] وعقل الكلام متضمن لفهمه. ومن المعلوم ان كل كلام فالمقصود منه فهم معانيه دون مجرد الفاظه فالقرآن اولى بذلك،وايضا فالعادة تمنع ان يقرا قوم كتابا في فن من العلم كالطب والحساب ولا يستشرحوه، فكيف بكلاماللّه الذي هو عصمتهم وبه نجاتهم وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم، ولهذا كان النزاع بين الصحابة فيتفسير القرآن قليلا جدا، وهو وإن كان في التابعين أكثر منه في الصحابة فهو قليل بالنسبة إلى منبعدهم، وكلما كان العصر اشرف كان الإجتماع والائتلاف والعلم والبيان فيه أكثر. ومن التابعين من تلقىجميع التفسير عن الصحابة كما قال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس اوقفه عند كل آية منهواساله عنها، ولهذا قال الثوري: اذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به، ولهذا يعتمد على تفسيرهالشافعي والبخاري وغيرهما من اهل العلم، وكذلك الامام احمد وغيره ممن صنف في التفسير يكررالطرق عن مجاهد اكثر من غيره، والمقصود ان التابعين تلقوا التفسير عن الصحابة كما تلقوا عنهم علمالسنة، وان كانوا قد يتكلمون في بعض ذلك بالاستنباط والاستدلال كما يتكلمون في بعض السننبالاستنباط والاستدلال»
وانك ترى مما يخال اننا بلغنا حدود الاسهاب بنقله من اقوال العلماء والمفسرين، ان علماء المسلمين لميلقوا الحبل على الغارب في تفسير كتابهم المجيد، ولم يفسروا آية بمحض الراي والهوى، ولا اهملوا التدبرفيه، ولا اخذوا بقول من اخذوا فيه الا من اطمانوا الى عدالته ووثقوا بصحة نقله، كما انهم لم يحجرواعلى العقول استنباط ما يمكن استنباطه مما لا يخرج عن مبنى الكتاب العزيز ومعناه ولا يخالف سنناللغة، ولم يسكتوا عن تخريج المجروح وتعديل العدل، ولا قبلوا اسرائيليات كعب الاحبار واضرابه، وماالى ذلك مما نعاه عليهم صاحب التوضيح، وهل من الاحتياط للدين والوصول الى اليقين او ما يقربمن اليقين ان يضرب عرض الحائط برواية العدل عمن عاصر التنزيل وصحب من نزل به عليهجبريل، وهو بعد في جدة الاسلام وفي الزمن الذي لم تمتد به يد الانقسام، وهو من اهل اللسان الذيتنزل به البيان، وهو جد واقف على اسباب النزول، وعازف بما تلقاه من الرسول(ص) من بيان مجملهومعرفة محكم آيه، ومتشابهه، وخاصه، وعامه، وناسخه، ومنسوخه، وفحوى خطابه ولحنه، وما الىذلك مما تراه واضحا من مضامين ما نقلناه من كلمات ائمة التفسير وما هو الا غيض من فيض؟ وهلمن الاحتياط ترك ذلك وصرف ظواهر الايات الكريمة الى معان غير جارية على اساليب اللغةالعربية والقرآن لم يتخط تلك الاساليب ولا تجاوزها؟ وهل كان ما ابتدعه المسيح الهندي من تفسيرهاجدر بالاتباع واحرى بان ينصاع اليه المسلمون ويدعوا كل ما تلقوه من سلفهم الصالح؟ وهل بتفسرههذا وبدعواه النبوة يقوى على رفع الاختلاف بين المسلمين ويوحد فرقهم والنبي(ص)، وهو الذي لاينطق عن الهوى، وهو المؤيد بالوحي والتنزيل وجبرائيل لم يتم له رفع الاختلاف بعده وانذر بوقوعهوبما سيكثر عليه من الحديث، بل وفي عهده ولكنه ترك للاسلام هوى ومنارا كمنار الطريق يفنيهم عننبي جديد يهديهم السبيل ويرشدهم الى ما لم يبين من المراشد والمناهج، واذا شئت الوقوف على طريقةالاحمدية في التفسير فارجع الى مقال ضاف كتبه الاستاذ الكاتب اديب التقي البغدادي الدمشقي فيثلاثة اجزاء من مجلة العرفان في مجلدها الحادي عشر، تلقى ما كتبه في مذهبهم عن احد دعاتهم، وهومقال مفيد الم به الماما وافيا بكل ما يتعلق بدعوتهم وعقيدتهم وآرائهم في التفسير التي خالفوا فيها أئمة التفسير، واعملوا أذهانهم في صرف ظواهر الكتاب الى ما هو أشبه بالرموز، واشتطوا اشتطاطا بعيدا شاركوا به المتصوفة، حتى خرجوا عن حكمة اللّه تعالى في إنزاله كتابه بلسان العرب، لافهامهم مراداتهمن آيه التي لم تنزل الا على ما يفهمونه وما كلفهم به من انواع التكاليف من العقائد والاحكاموالقصص وما فيها من العبر، ونسوا ام تناسوا قوله تعالى: (انا انزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون)[يوسف/2] وقوله جل شانه: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) [ابراهيم/4] وهلما فسروا به مما بينه الرسول ولو ساغ فتح الباب لمثل ما فسروا به ما اشتهوا من آي الكتاب، مما لم يؤده الخطاب ويدل عليه اللفظ بإحدى الدلالات، لساغ ذلك للغلاة أن يتاولوا ما تأولوا ويفسروا مافسروا من ألفاظ الصلاة والزكاة والصوم والحج وسائر أنواع التكاليف، برموز ابتدعوها ومعان قصدوها، ترمي كلها إلى الخروج من عهدة التكليف ومن أحكام ظاهرة إلى أحكام باطنة، وما إلىذلك من الفساد العظيم وترويج مذاهب الغلاة، واعادة فتنتها سيرتها الأولى، بعدما انقرض جلها ووقى المسلمون شرها، وحسبك أن تنظر إلى ما فسروا به بعض الآيات في مقال الأستاذ التقي، وفيه ترى العجب العجاب وما لا يخرج عن طريقة الكرماني التي انتهجها في تفسيره، كما تراه في المنقول عن كشفالظنون.
وبعد فإنا نرى في هذه الإلمامة ما يغنينا عن الإسهاب في هذا الباب، ولنرجع إلى جواب أسئلة صاحبالتوضيح عن تفسير الآيات الإحدى عشرة التي تحدى بها مخالفيه من المسلمين.
1 أما الجواب عن السؤال الاول (فيه سكينة من ربكم) [البقرة/248] فالذي استظهره المفسرالجليل الطبرسي في تفسيره مجمع البيان بعد نقل الأقوال التي فسرت بها، أن السكينة أمنة وطمأنينة جعلها اللّه ليسكن إليها بنو اسرائيل، والبقية جائز أن تكون بقيته من العلم أو شيء من علامات الأنبياء، وجائز أن يتضمنها جميعا على ما قاله الزجاج.
وقال الزمخشري في كشافه: والسكينة السكون والطمانينة ونسب ما قيل في تفسيرها مما نقله صاحب التوضيح عن الخطيب الشربيني إلى القيل، وكذلك الطبرسي وهو يشعر بضعفه، وإنما نقلا مانقلاه من أمثال هذا القول المرجوح في نظرهما جريا على عادة المفسرين من تدوينهم كل ما قيل فيتفسير الكتاب المبين وان يصح عندهم.
وجاء في مفاتح الغيب للإمام الفخر الرازي: «اختلفوا في السكينة وضبط الاقوال، منها ان نقول: المرادبالسكينة إما أن يقال: أنه كان شيئا حاصلا في التابوت أو ما كان كذلك، والقسم الثاني هو قول أبي بكر الأصم فانه قال: آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم، أي تسكنون عند مجيئه وتقرون له بالملك وتزول نظرتكم عنه، لأنه متى جاءهم التابوت من السماء وشاهدوا تلك الحالة، فلابد وأن تسكن قلوبهم إليه وتزول نفرتهم بالكلية. وأما القسم الأول وهو أن المراد من السكينة شيءكان موضوعا في التابوت، ففيه أقوال، والقول الأول يقرب من القسم الثاني إلى أن قال: والقول الرابع وهو قول عمرو بن عبيد أن السكينة التي كانت في التابوت شيء لا يعلم، ثم عقب الاقوال بقوله: واعلمان السكينة عبارة عن الثبات والامن، وهو كقوله في قصة الغار (فأنزل اللّه سكينته على رسوله وعلىالمؤمنين)فكذا قوله تعالى: (فيه سكينة من ربكم) معناه الامن والسكون»
وقال القاضي البيضاوي: («فيه سكينة) الضمير للاتيان، اي في اتيانه سكون لكم وطمانينة أو للتابوت، أي مودع فيه ما تسكنون إليه وهو الثورة، وكان موسى(ع) إذا قاتل قدمه فتسكن نفوس بني اسرائيل ولا يفرون، ونسب إلى القيل ما نقله صاحب التوضيح عن الشربيني واتخذ منه مغمزا على المفسرينكلهم، إلى أن قال: وقيل التابوت هو القلب والسكينة ما فيه من العلم والإخلاص وإتيانه مصير قلبه مقراً للعلم والوقار بعد إن لم يكن، فأنت ترى أن البيضاوي استظهر القول الأول وهو ما استظهره الطبرسي والزمخشري والرازي، والقول الأخير من أن المراد بالسكينة القلب هو مما لا يدل عليه منطوق الآية ولا يفهم منها تضمنا وإلزاما، وهو صرف اللفظ عن ظاهره بلا قرينة، وهو اشبه بتمحلاتالباطنية وينطبق على اذواق القاديانية في النضير.
2 والجواب عن السؤال الثاني المنقول عن الشربيني أيضاً في تفسير قوله تعالى: (جعله دكا)[الكهف/98] ففي الكشاف. دكا أي مدكوكا مبسوطا سوى الأرض، وكل ما انبسط من بعد ارتفاع فقد اندك، ومنه الجمل الادك المنبسط السنام، وقرى دكاء اي ارض مستوية»، ومثل ذلكجاء في تفسير البيضاوي والطبرسي والرازي، هؤلاء اربعة من ائمة التفسير وفسروا الدك بما ترى ولميعرضوا الى ما نقله الخطيب الشربيني في معناه الذي اتخذه صاحب التوضيح ذريعة للنحت من ثلةعلماء التفسير.
3 والجواب عن السؤال الثالث الذي نقله عن الشربيني في تفسير (ق والقرآن المجيد) .
ان لعلماء البيان والتفسير الموثوق بعلمهم وتحقيقهم اقوالا في فواتح السور المفردة والمركبة من حرفواحد وحرفين وثلاثة واربعة وخمسة والتي افتتح فيها ثلاثون سورة من سور القرآن الحكيم، وهيمبسوطة كل البسط في مفاتيح الغيب والكشاف، وانوار التنزيل ومجمع البيان وفي فقه اللغة لابن فارسوالصناعتين ، واليك ما جاء في مجمع البيان:
«اختلف العلماء في الحروف المعجمة المفتتحة بهاالسور، فذهب بعضهم الى انها من المتشابهات التي استاثر اللّه بعلمها ولا يعلم تاويلها الا هو، وهذا هوالمروي عن ائمتنا(ع)، وروت العامة عن امير المؤمنين(ع) انه قال: ان لكل كتاب صفوة وصفوة هذاالكتاب حروف التهجي. وعن الشعبي قال: للّه في كل كتاب سر وسره في القرآن سائر حروف الهجاءالمذكورة في اوائل السور، ثم اورد عشرة اقوال:
(1) أنها أسماء السور ومفاتحها. (2) أن المراد بها الدلالة على اسماء اللّه تعالى (3) أنها أسماء اللّه تعالى متقطعة لو أحسن الناس تأليفها لعلموا اسم اللّه الأعظم (4) أنها أسماء القرآن (5) أنها أقسام اقسم اللّه تعالى بها وهي من أسمائه (6) أن كل حرف منها مفتاح اسم من أسماء اللّه تعالى (7) أن المراد بها مدة بقاء هذه الأمة بحساب الجمل بعد إسقاط الحروف المكررة (8) أن المراد بها حروف المعجم (9) أنها تسكيت للكفار، لأن المشركين كانوا تواصوا فيما بينهم أن لا يستمعوا لهذا القرآن وأن يلغوا فيه ، فأنزلاللّه تعالى هذه الحروف حتى إذا سمعوا شيئا غريبا استمعوا إليه وتفكروا واشتغلوا عن تغليطه، فيقعالقرآن في مسامعهم (10) أن المراد بها أن هذا القرآن الذي عجزتم عن معارضته من جنس هذهالحروف التي تتحاورون بها في خطبكم وكلامكم، فاذا لم تقدروا عليها فاعلموا أنه من عند اللّه، لأنالعادة لم تجر بأن الناس يتفاوتون في القدر هذا التفاوت العظيم، وإنما كررت في مواضع استظهارا فيالحجة».
وفي الصناعتين في ذكر الابتداءات: «وإذا كان الابتداء حسنا بديعا، ومليحا رشيقا، كان داعية إلىالاستماع لما يجيء بعده من الكلام، ولهذا المعنى يقول اللّه عز وجل: الم، وحم، وطس، وطسم، وكهيعص،فتقرع اسماعهم بشيء بديع ليس لهم بمثله عهد، ليكون ذلك داعية لهم الى الاستماع لما بعده واللّه اعلمبكتابه».
وأما تفسير (ق) بما نقله الشربيني عن عكرمة والضحاك بجبل محيط بالأرض (الخ) فلم يرو له ذكر فيالكشاف وأنوار التنزيل، وعرض له الطبرسي بلفظ قيل المشعر بضعفه، على ان عكرمة والضحاك لم يكونا من الموثقين عند المحدثين، وأي مبرر تهويل صاحب التوضيح بقول لم يعتمده المحققون فيتخذ منهمطعنا في العلماء كافة، على ان مثل هذا القول الضعيف مما لا يترتب عليه حكم من الأحكام الشرعية ولا عقيدة من العقائد الدينية الصحيحة، فيتخذ من مجرد نقله حكم عام على تجريح عامة أقوال المفسرين والأعراض عنها، وأحداث تفاسير جديدة لا تمت بسبب من الأسباب بأسلوب القرآن الحكيم وأسلوب اللسان العربي المنزل به، وكيف يرى العذر للشبان المتعلمين بترك الإسلام لمجرد ذكر قول لم يرتضه علماء الاسلام، ضاربا عرض الحائط بالأقوال العشرة التي قيلت في مفتتح السور.
ثميقول في مختتم كلامه: بينوا من فسر (ق) برأيه فكأنه يرى أن مثل هذا الرأي مما عمل العلماء بمضمونه وأجمع عليه المفسرون، وأن ذلك آية من آيات نبوة صاحبه..
4 وجواب السؤال الرابع عما قيل في تفسير (ليغفر لك اللّه ما تقدم من ذنبك) [الفتح/2] نقلا عنالشربيني، وسأل بعد نقله الأقوال.. عن المخطئ والمصيب ومن فسر منهم برأيه؟ وملخص الجواب من وجوه:
(1) أن الذي حجره العلماء بل نص القرآن الصريح من التفسير والاستنباط، هو ما كان من غير أهله ممن لا حريجة لهم في الدين ولم يؤتوا قوة الاستنباط، واتبعوا الهوى المحض والرأي المجرد فيما لا مجالي فيه للرأي، وأما من كانوا أهله وخاصته وخالصته فقد نص القرآن على الرجوع إليهم.
ومن منع العلماء الراسخين من تأويل ظواهر الكتاب إذا كان في العمل بالظاهر ما يخالف ما أقره العقلوالشرع من وجوب تنزيه الإله تعالى وتقدس عن صفات المخلوقين وتنزيه الأنبياء عن كل ما ينافيعصمتهم المقررة.
(2) أن الذين ذهبوا إلى عصمة الأنبياء (ع) وهم معظم المسلمين (دع الحشويين) عن الكبائر والصغائر عمدا أو سهوا قبل النبوة وبعدها، فلا مناص لهم عن تأويل كل آية ظاهرها تخطئتهم ونسبة المعصيةلهم، وهذا البحث من المباحث الكلامية تكفلت به كتب الكلام فلا نطيل به الكلام.
(3) أما تفسير هذه الآية والأقوال التي قيلت فيها فهي كثيرة، وإليك ما جاء في الكشاف.. فإن قيل:كيف جعل فتح مكة علة للمغفرة؟ قلت: لم يجعل علة للمغفرة، ولكن الاجتماع ما عدد من الامورالاربعة وهي المغفرة، وإتمام النعمة، وهداية الصراط المستقيم، والنصر العزيز، كأنه قيل: يسرنا لك فتح مكة، ونصرناك على عدوك لنجمع لك بين عز الدارين واغراض العاجل والاجل، ثم قال في تفسيرما تقدم من ذنبك وما تاخر:
يريد جميع ما فرط فيك، وعن مقاتل ما تقدم في الجاهلية وما بعدها،وقيل: ما تقدم من حديث مارية وما تأخر من أمر زيد. وأما الفخر الرازي فقد ذكر وجوها، منها الوجه الذي ذكرناه عن الكشاف، ومنها هو أن فتح مكة كان سببا لتطهر بيت اللّه تعالى من رجسالأوثان، وتطهير بيته سببا لتطهير عبده، ومنها هو أن بالفتح يحصل الحج ثم بالحج تحصل المغفرة، ومنها المراد منه التعريف تقديره إنا فتحنا لك ليعرف أنك مغفور معصوم، فإن الناس كانوا علموا بعد عام الفيل أن مكة لا يأخذها عدو اللّه المسخوط عليه، وإنما يدخلها وياخذها حبيب اللّه المغفور له.
ثم ذكرفي المسالة الثانية فقال: لم يكن للنبي (ص) ذنب فماذا يغفر له؟ قلنا: الجواب عنه قد تقدم مرارا من وجوه: أحدها المراد ذنب المؤمنين، ثانيها المراد ترك الأفضل، ثالثها الصغائر فإنها جائزة على الأنبياء بالسهو والعمد، رابعها المراد العصمة.
قلت: إن تجويز الرازي وقوع الصغائر من الأنبياء عمداً وسهواً هوخلاف ما عليه المحققون من علماء السنة وما أجمع عليه الإمامية.
ثم قال في المسألة الرابعة ما معنى قوله: (وما تأخر). نقول: فيه وجوه: أحدها أنه وعد النبي (ص) بأنه لايذنب بعد النبوة، ثانيها ما تقدم على الفتح وما تأخر عن الفتح، ثالثها العموم، يقال:
إضرب من لقيت ومن لا تلقاه مع أن من لا يلقى لا يمكن ضربه إشارة إلى العموم، رابعها من قبل النبوة ومن بعدها،وعلى هذا فما قبل النبوة بالعفو وما بعدها بالعصمة. ثم عقب ذلك بقوله:
وفيه وجوه أخرى ساقطة منها قول بعضهم: ما تقدم من أمر مارية وما تأخر من أمر زينب، وهو أبعد الوجوه وأسقطها لعدم التئام الكلام، وأطال الكلام في هذا الموضوع إطالة لا غرض لنا فيها ولا يتسع لها المقام.
وهذا ما أول به الآية الشريف المرتضى وبه نختم الجواب، قال:
الذنب مصدر والمصدر يجوز إضافته إلىالفاعل والمفعول معا، فيكون هنا مضافا إلى المفعول والمراد ما تقدم من ذنبهم إليك في منعهم إياك عنمكة وصدهم لك عن المسجد الحرام، ويكون معنى المغفرة على هذا التأويل الإزالة والنسخ لأحكام أعدائه من المشركين عليه، اي يزيل اللّه تعالى ذلك عنك ويستر عليك تلك الوصمة بما يفتح لك منمكة فستدخلها فيما بعد، ولذلك جعله جزاء على جهاده وغرضا في الفتح ووجها له، قال: ولو أنه أرادمغفرة ذنوبه لم يكن لقوله: (إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر اللّه لك) معنى معقول لأن المغفرة للذنوب لاتعلق لها بالفتح فلا يكون غرضا فيه، وأما قوله: (ما تقدم وما تأخر) فلا يمتنع ان يريد به ما تقدم زمانهمن فعلهم القبيح بك وبقومك.
وفي هذه الأجوبة وخاصة الجواب الأخير للشريف مرتضى مقنع لمن أنصف وكان الحق ضالته لا المراء والجدل.
5 وجواب السؤال الخامس عن الأقوال في تأويل (ولقد همت به وهم بها) [يوسف/24].
إن الجواب يُبنى على أحد القولين: قول من يجوز على الأنبياء ارتكاب الكبائر والصغائر من الذنوب،كالحشوية وأضرابهم ممن تلقى ذلك عن الإسرائيليات، وقول من لا يجوز ذلك وهو المختار والذيذهب إليه معظم أئمة المسلمين، فكان لا بد لهم من تأويل هذه الآية على ما ينطبق على المقرر من عصمة الأنبياء بدليل العقل والشرع على أن الآيات الواردة في سورة يوسف تكاد تكون نصا على براءة يوسف(ع) من الهم بالذنب بل ومن حظوره في نفسه الشريفة.
وإليك طائفة من أقوال العلماء في معنى هذه الآية وتأويلها:
الأول: قال ابن حزم من الفصل: وأما قوله: (همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه) فليس كما ظنمن لم يمعن حتى قال من المتاخرين من قال: انه قعد منها مقعد الرجل من المراة، ومعاذ اللّه من هذا انيظن برجل من صالحي المسلمين او مستوريهم فكيف برسول اللّه(ع)، فإن قيل أن هذا قد روي عن ابنعباس (رض) من طريق جيدة الإسناد. قلنا نعم ولا حجة في قول أحد إلا فيما صح عن رسولاللّه (ص) فقط، والوهم في تلك الرواية إنما هو بلا شك عمن دون ابن عباس او لعل ابن عباس لم يقطع بذلك، إذ إنما أخذه عمن لا يدري من هو ولا شك في انه شيء سمعه فذكره، لانه (رض) لم يحضرذلك ولا ذكره عن رسول اللّه (ص)، ومحال أن يقطع ابن عباس عما لا علم له به، لكن معنى الآية لايعدو أحد وجهين: إما أنه هم بالإيقاع بها وضربها كما قال: وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه، وكما يقولالقائل: لقد هممت بك، لكنه (ع) امتنع من ذلك ببرهان أراه اللّه اياه استغنى به عن ضربها وعلم أن الفرار أجدى عليه وأظهر لبراءته على ما ظهر بعد ذلك من حكم الشاهد بأمر قد منالقميص.
والوجه الثاني: أن الكلام تم عند قوله: (ولقد همت به) ثم ابتدأ تعالى خبرا آخر فقال: (وهم بها لولا أن رأى برهان ربه) وهذا ظاهر الآية بلا تكلف تأويل وبهذا نقول، ثم أورد حديثاً مسلسلا عن أنس بنمالك عن رسول اللّه(ص) أن رسول اللّه (ص) قرأ هذه الآية (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) قالرسول اللّه(ص) لما قالها يوسف (ع) قال له جبريل: يا يوسف أذكر همك، فقال يوسف: (وما أُبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء) [الأعراف/53] فليس في هذا الحديث على معنى من المعاني تحقيقالهم بالفاحشة، ولكنه فيه أنه هم بأمر ما وهذا حق كما قلنا، فسقط هذا الاعتراض وصح الوجه الأول والثاني معا، إلا أن الهم بالفاحشة باطل مقطوع على كل حال ، وصح أن ذلك الهم ضرب سيدته وهيخيانته لسيده إذ هم بضرب إمراته، وبرهان ربه هاهنا هو النبوة وعصمة اللّه عز وجل إياه، ولولا البرهان لكان يهم بالفاحشة وهذا لا شك فيه. ولعل من ينسب هذا إلى النبي المقدس يوسف ينزهلنفسه الرذلة عن مثل هذا المقام فيهلك، وقد خشي النبي(ص) الهلاك على من ظن اذ قال للانصاريينحين لقيهما: هذه صفية، ثم قال ومن الباطل الممتنع أن يظن ظان أن يوسف(ع) هم بالزنا وهو يسمعقول اللّه تعالى: (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء) فنسأل من خالفنا عن الهم بالزنا بسوء هو أم بغير سوء، ولو قال: أنه ليس بسوء لعاند الاجماع فإذ هو سوء وقد صرف عنه السوء فقد صرف عنه الهم بيقين، وأيضاً فإنها قالت (ما جزاء من أراد بأهلك سوءا) وأنكر هو ذلك، فشهد الصادق المصدق (إن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين) فصلح أنها كذبت بنص القرآن، وإذ كذبت بنص القرآن فما أراد بها قط سوءا فما هم بالزنا قط، ولو أراد بها الزنا لكانت من الصادقين وهذا بين جدا،وكذلك قوله تعالى عنه: أنه قال: (وإلا تصرف عني كيدهن أصب اليهن وأكن من الجاهلين فاستجابله ربه فصرف عنه كيدهن) فصح عنه انه قط لم يصب إليها»
وللشريف المرتضى في اماليه وكتابه تنزيه الأنبياء بحث طويل في براءة يوسف(ع) وعصمته عند تفسير هذه الآية، وقد كشف اللثام عن الحقيقة في الأمالي كشفا لا مزيد عليه ولم يبق وجها للريبة،ويوافقه في الاجمال ما اوردناه عن ابن حزم في فصله ونرى من تمام الفائدة ان نذكر الآي الدالة علىالبراءة عن أمالي المرتضى، قال: والموضع الذي يشهد بذلك من الكتاب قوله تعالى: (وقال نسوة فيالمدينة إمراة العزيز تراود فتاها عن نفسه) إلى قوله: (في ضلال مبين). وقوله تعالى:
(وراودته التي هوفي بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب) [يوسف/23] وقوله: (الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين) وفي موضع آخر (فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم) والآثار واردة بإطباق مفسري القرآن ومتأوليه على أنها همت بالفاحشة والمعصية، وذكر وجوها لم يذكرها ابن حزم كلها صريحة بتنزيه يوسف (ع) عن المعصية والهم بها وفيما أوردناه كفاية.
6 وجواب السؤال السادس عما نقله عن الجلالين والبيضاوي والخطيب الشربيني في قضية تزويجالنبي (ص) زيدا مولاه زينب ابنة جحش، ثم وقوعها من نفسه موقعا أدى إلى تطليق زيد لها وزواجالنبي(ص) لها.
(1) أن مقام النبي العظيم وخلقه الكريم وسيرته المثلى قبل النبوة وبعدها وثبوت عصمته تأبى التسليم بما ينافي ذلك (2) ان قليلا من التدبر في سرد هذه القصة بسورة الأحزاب يظهر براءته مما حام حول قدسيته من الظنون وما موه به أعداؤه، وخاصة من أظهروا الاسلام واستبطنوا النفاق، وكان قصارىهمهم الكيد له بكل أساليب الكيد والعمل على النيل من مقام النبي (ص) ولهذه القصة أشباه ونظائركقصة الغرانيق، فأخذ من أخذ بروايتهم الفاسدة أحد رجلين: رجل طبع على غرارهم بصلاح الظاهروفساد الباطن، ورجل لم يؤت قوة التمييز فقبل ما ألقي إليه على علاته ولم يدر في خلده والإسلام في طراوته وجدته أن في المسلمين من يكذب الحديث ومن يحاول انتقاص مقام النبوة (3) إن في هذا القول الذي ينبذه العقل والشرع حجة يحتج بها صاحب توضيح المرام على المسلمين والمفسرين منهم، انكان هذا القول مما اجمعوا عليه ويرى فيه مطعنا للمبشرين واعداء الدين المبين، اما وقد كان الاتفاق بل والإجماع على خلافه وعلى تبرئة مقام النبي العظيم (ص) من ارتكاب مثله مضافا الى صراحة الاياتفي هذه التبرئة، فاية قيمة لذلك القول المنبوذ والذي لم يتمسك به الا الحشويون ومن تاثربالاسرائيليات التي هي مجموعة افتراءات على مقام النبوات، وانظر بعد ان ما يقوله ابن حزم فيفصله:
وأما قوله تعالى: (وتخفي في نفسك ما اللّه مبديه وتخشى الناس واللّه أحق ان تخشاه) [الاحزاب/37]فقد انفنا من ذلك اذ لم يكن فيه معصية اصلا ولا خلاف فيما امره اللّه تعالى به، وان ما كان اراده زواجمباح له فعله ومباح له تركه ومباح له طيه ومباح له اظهاره، وإنما خشي النبي(ص) في ذلك خوف أن يقولوا قولا ويظنوا ظنا فيهلكوا كما قال(ع) للانصاريين: انها صفية فاستعظما ذلك، فأخبرهما النبي(ص) أنه إنما أخشى أن يلقي الشيطان في قلوبهما شيئا وهو الذي خشيه (ع) على الناس من هلاك أديانهم بظن يظنونه به (ع) هو الذي يحققه هؤلاء المخذولون المخالفون لنا في هذا الباب من نسبتهم إلىالنبي (ص) تعمد المعاصي ، فهلكت أديانهم وضلوا ونعوذ به من الخذلان، وكان مراد اللّه عز وجل أن يبدي ما في نفسه كما كان سلف في علمه من السعادة لأُمنا زينب رضي اللّه عنها.
وانظر إلى ما يقوله الشريف المرتضى في كتابه تنزيه الأنبياء:
«فان قيل: فما تاويل قوله تعالى: (وإذ تقول للذي أنعم اللّه عليه وأنعمت عليه) [الاحزاب/37] الاية وليس هذا عتابا له(ص) من حيث اضمر ماكان ينبغي ان يظهره وراقب من لا يجب ان يراقبه، فما الوجه في ذلك؟ قلنا: وجه هذه الاية معروف، وهو ان اللّه تعالى لما اراد نسخ ما كانت عليه الجاهلية من تحريم نكاحزوجة الدعي والدعي، هو الذي كان احدهم يجتبيه ويربيه ويضيفه الى نفسه على طريق النبوة، وكانمن عادتهم ان يحرموا على انفسهم نكاح ازواج ادعيائهم كما يحرمون نكاح ازواج ابنائهم، فاوحى اللّه تعالى إلى نبيه (ص) أن زيد بن حارثة وهو دعي رسول اللّه (ص) سيأتيه مطلقا زوجته، وأمره أن يتزوجها بعد فراق زيد لها ليكون ذلك ناسخا لسنة الجاهلية التي تقدم ذكرها، فلما حضر زيد مخاصما زوجته عازما على طلاقها أشفق الرسول (ص) من أن يمسك عن وعظه وتذكيره، لا سيما وقد كان يتصرف على أمره وتدبيره فرجف المنافقون به (ص) إذا تزوج المرأة ويقرفونه بما قد نزهه اللّه تعالى عنه، فقال له: أمسك عليك زوجك تبرئا مما ذكرناه وتنزها، وأخفى في نفسه عزمه على نكاحها بعد طلاقه لها لينتهي إلى أمر اللّه تعالى فيها، ويشهد بصحة هذا التأويل قوله تعالى: (فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر اللّه مفعولا) [الاحزاب/37] فدل على ان العلة في امره بنكاحها ما ذكرناه من نسخ السنة المتقدمة. ثمقال بعد كلام طويل نمسك عن نقله: فان قيل: فما المانع مما وردت به الرواية من ان رسول اللّه(ص)راى في بعض الاحوال زينب ابنة جحش فهواها، فلما ان حضر زيد لطلاقها اخفى في نفسه عزمه علىنكاحها بعده وهواه لها؟ او ليس الشهوة عندكم التي قد تكون عشقا على بعض الوجوه من فعل اللّهتعالى، وان العباد لا يقدرون عليها؟ وعلى هذا المذهب لا يمكنكم انكار ما تضمنه السؤال، قلنا: لم ننكرما وردت به هذه الرواية الخبيثة من جهة ان الشهوة تتعلق بفعل العباد وانها معصية قبيحة، بل من جهة أن عشئق الأنبياء (ع) لمن ليس يحل لهم من النساء منفر عنهم وحاط من رتبتهم ومنزلتهم، وهذا مما لاشبهة فيه، وليس كل شيء يجب ان يجتنبه الانبياء(ع) مقصورا على افعالهم، ألا ترى ان اللّه تعالى قدجنبهم الفظاظة والغلظة والعجلة وكل ذلك ليس من فعلهم، وأوجبنا أيضاً ان يجنبوا الأمراض المنفرة والخلق المشينة كالجذام والبرص وتفاوت الصور واضطرابها، وكل ذلك ليس من مقدورهم ولا فعلهم،وكيف يذهب على عاقل إن عشق الرجل زوجة غيره منفر عنه معدود في جملة معائبه ومثالبه، ونحننعلم أنه لو عرف بهذه الحال بعض الأمناء أو الشهود لكان ذلك قادحا في عدالته وحاطا من منزلته ، وما يؤثر في منزلة أحدنا أولى أن يؤثر في منازل من طهره اللّه وعصمه وأكمله وأعلى منزلته وهذا بين لمن تدبره »
وبعد فلا يتسع المقام لإيراد كلمات أخرى جامعة في هذا الموضوع لطائفة من العلماء الأعلام، ومنهم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده المصري وهي لا تخرج في معناها عما أوردناه، وفيه مقنع لطلاب الحق والحقيقة.
7 وجواب السؤال السابع وهو ما نقله عن الخطيب الشربيني في تفسيره عن البيضاوي بمايتعلق بقصة هاروت وماروت والرواية التي جاءت بشأن تلك القصة، وهي رواية منبثقة من أساطيرالأولين وخرافاتهم ومتلقاة عن الإسرائيليات التي انتبذها المحققون مكانا ناقصيا، فإذاً لا وزن لها عندالعارفين ولا هي مما يفسح المجال لصاحب التوضيح للغمز من قناة المفسرين، ولكنه جرى على عادتهفي تتبع شواذ الاقوال المهجورة وايرادها مورد المسلم المقبول عنده عن عمد وتصميم، للتشبيه على منلا علم له بالتفسير ومن لا يسهل عليه الرجوع الى اهل العلم، والا فان من متناوله احقاق الحق انقصده وهو منه على طرف الثمام. وإليك ما جاء في امالي الشريف المرتضى (ج2 ص 77) ان سالسائل عن قوله تعالى: (واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان الى قوله لو كانوا يعلمون)[البقرة/102] فقال: كيف ينزل اللّه تعالى إلى السحر على الملائكة أم كيف تعلم الملائكة الناس السحر والتفريق بين المرء وزوجه؟ وكيف نسب الضرر الواقع عند ذلك إلى أنه بإذنه وهو تعالى قد نهى عنه وحذر من فعله ؟ وكيف أثبت العلم لهم ونفاه عنهم بقوله: (ولقد علموا لمن اشتراه) ثم قوله: (لوكانوا يعلمون)!! الجواب قلنا: في الآية وجوه كل منها يزيل الشبهة الداخلة على من لا ينعم النظر فيها.
أولها: أن يكون ما في (وما أُنزل على الملكين) بمعنى الذي فكأنه تعالى أخبر عن طائفة من أهل الكتاب بأنهم اتبعوا ما تكذب الشياطين على ملك سليمان وتضيفه إليه من السحر، فبرأه اللّه تعالى من قذفهم وأكذبهم في قولهم، فقال: (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا) باستعمال السحر والتمويه على الناس.ثم قال: (يعلمون الناس السحر وما أُنزل على الملكين) [البقرة/102] وأراد انهم يعلمونهم السحر والذي انزل علىالملكين)وما أُنزل على الملكين، وصف السحر وماهيته وكيفية الاحتيال فيه ليعرفا ذلك ويعرفاه للناس فيجتنبوه ويحذروا منه، كما أنه تعالى قد أعلمنا ضروب المعاصي ووصف لنا أعمال القبائح لنجتنبها، لا لنواقعها لأن الشياطين كانوا إذا علموا ذلك وعرفوه استعملوه وأقدموا على فعله، وإن كان غيرهم من المؤمنين لما عرفه اجتنبه وحاذره وانتفع باطلاعه على كيفيته، ثم قال: وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة يعني الملكين، ومعنى يعلمان يعلمان والعرب تستعمل لفظة علمه بمعنىاعلمه، والذي يدل ان المراد ههنا الاعلام لا التعليم قوله: (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر) أي أنهما لا يعرفانه صفات السحر وكيفيته إلا بعد أن يقولا إنما نحن محنة، لأن الفتنة بمعنى المحنة، وإنما كان محنة بحيث ألقيا إلى المكلفين أمرا لينزجروا عنه وليمتنعوا من مواقعته، وهم إذا عرفوه أمكن أن يستعملوه ويرتكبوه ، فقالا لمن يطلعانه على ذلك: لا تكفر باستعماله ولا تعدل عن الفرض في إلقاء هذا إليك، فإنه إنما ألقي إليك واطلعت عليه لتجتنبه لا لتفعله. ثم قال: (فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه) أي فيعرفون من جهتهما ما يستعلمونه في هذا الباب وإن كان الملكان ما ألقياه إليهم لذلك، ولهذا قال:
(ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم) لأنهم لما قصدوا بتعلمه أن يفعلوه ويرتكبوه لا أن يجتنبوه ضار ذلك لسوء اختيارهم ضررا عليهم.
وثانيها: أن يكون ما أنزل موضعه موضع جر فيكون معطوفا بالواو على ملك سليمان، والمعنى واتبعوا ما كذب به الشياطين على ملك سليمان وعلى ما أُنزل على الملكين أي معهما وعلى ألسنتهما إلى كلام طويل في هذا الوجه.
وثالث الوجوه ان تحمل ما في قوله: وما انزل على الجحد والنفي فكانه تعالى قال: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على مُلك سليمان وما كفر سليمان) ولا أنزل اللّه السحر على الملكين (ولكن الشياطين كفروايعلمون الناس السحر... ببابل هاروت وماروت) ويكون قوله: ببابل هاروت وماروت من المؤخرالذي معناه التقديم، ويكون على هذا التاويل هاروت وماروت رجلين من جملة الناس هذان اسماؤهما،وانما ذكرا بعد ذكر الناس تمييزا وتبيينا، ويكون الملكان المذكوران اللذان نفي عنهما السحر جبرائيلوميكائيل (ع) الى سليمان بن داود(ع) فاكذبهما اللّه تعالى بذلك، ويجوز ان يكون هاروت وماروتيرجعان الى الشياطين كانه قال: ولكن الشياطين هاروت وماروت كفروا ويسوغ ذلك كما ساغ فيقوله تعالى (وكنا لحكمهم شاهدين) [الانبياء/78] ويكون قوله على هذا التاويل (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة) راجعا إلى هاروت وماروت اللذين هما من الشياطين أو من الإنسالمتعلمين للسحر من الشياطين والعاملين به، ويجوز أيضا على هذا التأويل الذي يتضمن النفي والجحدان يكون هاروت وماروت اسمين لملكين ونفى عنهما إنزال السحر بقوله: (وما أنزل على الملكين) ويكون قوله: وما يعلمان من أحد يرجع إلى قبيلتين من الجن أو إلى شياطين الجن والإنس فتحسن التثنية لهذا،وقد روي هذا التأويل الأخير في حمل ما على النفي عن ابن عباس وغيره من المفسرين، وروي عنه أيضا أنه كان يقرأ وما أانزل على الملكين بكسر اللام ويقول: متى كانا العلجان ملكين بل كانا ملكين.
هذا ما أوجزناه عن أمالي الشريف المرتضى ولخصناه من بحث استغرق عدة صفحات لم يعرض فيه إلىتلك الأسطورة التي تعلق بها صاحب التوضيح، موهما انها مما ارتضاه مفسرو المسلمين، ونرى منالمفيد ان ننقل عن فصل ابن حزم ما يتضمن الاعتقاد بعصمة الملائكة وإنكار تلك الأسطورة الإسرائيلية وتأويل الآية بما يكاد يكون إجمالا لما فصله الشريف المرتضى، قال في (الجزء الرابع ص42): قد ذكرنا قبل امر هاروت وماروت ونزيدها هنا بيانا في ذلك.
إن قوما نسبوا إلى اللّه تعالى ما لم يؤت به قط أثرى أن يشتغل به وإنما هو كذب مفترى، من أنه تعالى أنزل إلى الأرض ملكين وهما هاروت وماروت، وأنهما عصيا اللّه تعالى وشربا الخمر، وقتلا النفس وزنيا، وعلما زانية اسم اللّه الأعظم فطارت به إلى السماء فمسخت كوكبا وهي الزهرة، وأنهما عذبا في غار ببابل، وأنهما يعلمان الناس السحر، وحجتهم على ما في هذا الباب خبر رويناه من طريق عمير بنسعيد وهو مجهول، مرة يقال له النخعي ومرة يقال: له الحنفي، ما نعلم له رواية الا هذه الكذبة، وليس أيضا عن رسول اللّه(ص) ولكنه أوقفها عن علي بن أبي طالب (ع)، وكذبة اخرى في أن حد الخمر ليس سنة رسول اللّه (ص) وإنما هو شيء فعلوه وحاشا لهم رضي اللّه عنهم من هذا. قال: ومن البرهان على بطلان هذا كله قول اللّه تعالى:
(الذي لا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيمحميد) ما ننزل الملائكة الا بالحق وما كانوا اذا منظرين) [الحجر/8] فقطع اللّه عز وجل ان الملائكةلا تنزل الا بالحق، وليس شرب الخمر، ولا الزنا، ولا قتل النفس المحرمة، ولا تعليم العواهر اسماءه عزوجل التي يرتفع بها الى السماء، ولا السحر من الحق، بل كل ذلك من الباطل، ونحن نشهد ان الملائكةما نزلت قط بشيء من هذه الفواحش والباطل واذا لم تنزل به فقد بطل ان تفعله، لانها لو فعلته فيالارض لنزلت به وهذا باطل، وشهد عز وجل انه لو انزل علينا الملائكة لما نظرنا، فصح انه لم ينزل قطملك ظاهر الا للنبي بالوحي فقط.
قال: وكذلك قوله تعالى: (ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا) [الانعام/9] فابطل عز وجل انه يمكنظهور ملك الى الناس، وقال تعالى: (ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون) [الأنعام/8] فكذب اللّه عز وجل كل من قال: إن ملكا نزل قط من السماء ظاهرا إلا إلى الأنبياء بالحق من عند اللّه عز وجل فقط، وقال عز وجل: (وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أُنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين) [الفرقان/22] الآية، فرفع اللّه تعالى الإشكال بهذا النص في هذه المسالة وظهر بها كذب من ادعى ان ملكين نزلا الى الناسفعلماهم السحر.
وقد استعظم اللّه عز وجل ذلك من رغبة من رغب نزول الملائكة الى الناس وسمي هذاالفعل استكبارا وعتوا، واخبر عز وجل اننا لا نرى الملائكة ابدا الى يوم القيامة فقط، وانه لا بشرىيومئذ للمجرمين، فاذ لا شك في هذا كله فقد علمنا ضرورة انه لا يخلو من احد وجهين لا ثالث لهما:اما ان هاروت وماروت لم يكونا ملكين وان (ما) في قوله: (وما أُنزل على الملكين) نفي لأن ينزل علىالملكين ، ويكون هاروت وماروت حينئذ بدلا من الشياطين كأنه قال: ولكن الشياطين هاروت وماروت ويكون هاروت وماروت قبيلتين من قبائل الجن كانا يعلمان الناس السحر، وقد روينا هذا القول عن خالد بن أبي عمران وغيره، وروي عن الحسن البصري أنه كان يقرأ على الملكين بكسر اللام، وكان يقول: إن هاروت وماروت علجان من اهل بابل، الا ان الذي لا شك فيه على هذا القولانهما لم يكونا ملكين. واما أن يكون هاروت وماروت ملكين نزلا بشريعته حق بعلم ما على انبياء،فعلماهم الدين وقالا لهم: لا تكفروا نهيا عن الكفر بحق، واخبراهم انهم فتنة يضل اللّه تعالى بهما وبما اتيابه من كفر به ويهدي بهما من آمن به، قال تعالى عن موسى انه قال له: (إن هي إلا فتنتك تضل بها منتشاء وتهدي من تشاء) [الاعراف/155] وكما قال تعالى: (الم احسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يُفتنون) [العنكبوت/2] ثم نسخ ذلك الذي انزل على الملكين، فصار كفرا بعد ان كانايمانا، كما نسخ تعالى شرائع التوراة والانجيل فتمادت الجن على تعليم ذلك المنسوخ، وبالجملة فما فيالاية من نص ولا دليل على ان الملكين علما السحر وانما هو اقحام اقحم بالاية بالكذب والافك، بلوفيها بيان انه لم يكن سحرا بقوله تعالى: (ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أُنزل علىالملكين ببابل) [البقرة/102] ولا يجوز أن يجعل المعطوف والمعطوف عليه شيئا واحدا الا ببرهانمن نص او اجماع او ضرورة والا فلا اصلا، وايضا فان بابل هي الكوفة وهي بلد معروف بقربهامحدودة معلومة ليس فيها غار فيه ملك فصح انه خرافة موضوعة، اذ لو كان ذلك لما خفي مكانهماعلى اهل الكوفة فبطل التعلق بهاروت وماروت.
وبعد فهذا على طوله غيض من فيض مما أول به الآية المحققون من المفسرين، وغرضنا من نقله أحد أمرين: أولهما وجوب عصمة الملائكة، وثانيهما وهو الاهم ابطال تلك الاسطورة، وأنت ترى أن بابالتأويل في هذه الآية غير منسد على من أوتوا قوة الاستنباط، شرط أن لا يقطعوا المسافة بين ظاهرالآية والمعنى المأولة به وأن يمروا بتلك الأسطورة مر الكرام، وفوق كل ذي علم عليم.
وقد أبطل تلك الرواية المفسران الجليلان الرازي والطبرسي ولم يعرض لها الزمخشري،ومن عجائب الأيام وعجائبها لا تتناهى أن يظل يدفع تلك الخرافة هذه الإطالة، ولكن شاء لنا ذلك تمويه صاحب التوضيح!! 8 وجواب السؤال الثامن من وجوه:
1 أن هذا السؤال في الظاهر اعراض على الآية نفسها لا على التفسير، وإلا فمعناها مفهوم جلي.
2 أن قصص القرآن لا يراد بها سرد تاريخ الحوادث وترجمة الأشخاص، وإنما هي عبرة للناس كماقال تعالى في سورة يوسف، الآية 111، بعد ما ذكر موجزا من سيرة الأنبياء (ع) مع اقوالهم: (لقد كان في قصصهم عبرة لأُولي الالباب) وللعبرة وجوه كثيرة وفي تلك القصص فوائد عظيمة، وافضل الفوائدواهم العبر فيها التنبيه على سنن اللّه تعالى في الاجتماع البشري وتاثير اعمال الخير والشر في الحياةالانسانية، وقد نبه اللّه تعالى على ذلك في مواضع من كتابه كقوله: (وقد خلت سنة الأولين) وقوله:(سنة اللّه التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون) وليس المراد بنفي كون قصص القرآن تاريخاً ان التاريخ شيء باطل ضار ينزه القرآن عنه، كما أن قصصه شذور من التاريخ تعلم الناس كيفينتفعون بالتاريخ ، فمثل ما في القرآن من التاريخ البشري كمثل ما فيه من التاريخ الطبيعي من أحوال الحيوان والنبات والجماد ومثل ما فيه من الكلام في الفلك، يراد بذلك التوجه إلى العبرة والاستدلال على قدرة الصانع وحكمته، لا تفصيل مسائل العلوم الطبيعية والفلكية التي يمكن اللّه البشر من الوقوف عليها بالبحث والنظر والتجربة وهداهم إلى ذلك بالفطرة والوحي معا، ولذلك نقول: لو فرضنا أن المسائل التاريخية والطبيعية المذكورة في الكتاب ليست مطابقة إلا لما يرى ويعتقد الناس كلهم أوبعضهم في زمن التنزيل لما كان ذلك طعنا فيه، لأن هذه المسائل لم تقصد بذاتها بل المراد منها توجيه النفوس بطريق الاستفادة بما أشرنا إليه.
3 أن البحث في آيات اللّه كيف وجدت وهل كانت كلها بمحض قدرة اللّه تعالى التي قامت بهاالسماوات والارض، أم كانت لها سنن روحانية خفية عن الجمهور خص اللّه تعالى بها أنبياءه كما خصهم بالوحي الذي هو علم خفي عن الجمهور، فكل ذلك مما لا يفيد البحث فيه بل ربما كان ضاراً
4 أن الآية الشريفة تدل دلالة صريحة على إخفاء موت سليمان، وأن الذي دلهم على موته بعد حين دابة الأرض تأكل منساته، وأن هذا الإخفاء مقصود لحكمة وهي إتمام بناء المسجد والإعلام بأن الجنلا يعلمون الغيب ، ولو علموه ما لبثوا في عملهم الشاق الذي عبر عنه بالعذاب المهين، واما تعيين مدةموته وكم كانت فالروايات مختلفة في تقديرها، ولو قيل بانها كانت عاما وهو اقصى ما قدره بعضالرواة فهل يمتنع ذلك في قدرته تعالى ويكون وقوعه معجزة لسليمان(ع) تضم إلى معجزاته الكثيرة منالنملة والهدهد وتسخير الجن والطير والريح له وما إلى ذلك مما هو أعظم من معجزة إخفاء موته، وأماكيف دبر أمر ملكه والطواف على نسائه مما اتخذه صاحب التوضيح سخرية، فإنا نكل الجواب عليه إلىما نطق به التنزيل.
إن النظر واجب في الأصول التي تثبت بها معرفة اللّه تعالى وصحة النبوة، ومتى اعتقدنا بقدرة اللّه وإرادته وعلمه وكونه اوحى إلى بعض عبيده وألهمهم إرشاد الناس إلى ما يسعدهم في حياتهم الأخرى فإنه يسهل علينا أن نسلم بكل ما يقول الموحى إليهم تسليما، فإن وجدنا فيه شيئا يخالف ظاهره الدليلالعقلي القطعي، يرد إليه بألتاويل أو نفوض الأمر به إلى اللّه مع الاخذ بالدليل القطعي وهذا ما أجمع عليه أئمة المسلمين، وهو كاف في كون الاسلام دين العقل، لأن المسلم لا يترك الدليل العقلي القاطع بحال منالأحوال
6- كيف يستبعد وقوع هذه المعجزة لسليمان من يثبت لصحة نبوة صاحبه ما يربو عليها من المعجزات في عصر الكهرباء والراديو والإبتكار والإختراع؟ على أن جمهرة من جهابذة العلماء المسلمين يرون أن زمن المعجزات والخوارق قد انتهى ببدء نبوة خاتم النبيين المؤيدة بالكتاب المعجزة الخالدة الدائمة ما دامت السماوات والأرض والمناجبة للبشر، وقد أدركوا دور الرشد من طريق العقل والبرهان لا من طريق الخوارق التي كانت تؤيد بها الرسل في دور إستهواء البشر، وهم لم يبلغوا الرشد للترهات والخرافات فتريهم عجزهم بما ظاهره أنه من ذلك النوعكال.. موسى(ع) السحر بآية العصا وعيسى(ع) بآياته شعوذة مداواة المرض بالأوهام لا بقوانينالطب الصحيحة.
7- إن ظاهر الآية (فلما قضينا عليه الموت إلى ما لبثوا في العذاب المهين) [سبأ/14] يدل علىطول المدة التي استبعدها صاحب التوضيح واختتم كلامه بالتهكم، وإلا فلبث ساعة أو ساعتين أو يوم أو يومين أو أياما لا يناسبه التعبير ب (ما) لبثوا في العذاب المهين. وقد حاول الدكتور محمد توفيق صدقي تطبيق لبث سليمان ميتا وهو قائم في صورة الحي على قوانين الطب وأن ذلك كان من نوع (تيبسالموت) ورأيه هذا مذكور في المجلد الخامس من المنار الاسلامي ص 361، ونرى فيما أجبنا به كفاية عنذكر وجوه وإحتمالات أخرى ومقنعا لمن ينشد الحق لا الجدل والمراء والتضليل.
أن القاضي ابن رشد الفيلسوف الإسلامي يرى أن لا تنشر التأويلات التي تظهر للراسخين في العلم ، بلتبقى خاصة بأهلها لئلا تكون سببا لفتح باب الجدل على العامة فيما لا تصل اليه افهامهم من حقائقالعلوم والجدل مدعاة الشكوك، ولذلك يجب تأديب المشككين والإعراض عن المجادلين.
9- وجواب السؤال التاسع في تفسير الرازي للآية (ووجدك ضالا فهدى).
اقتصر صاحب التوضيح على نقل الرازي لبعض الأقوال لبعض المفسرين كالكلبي والسدي ومجاهد،وهي التي تصرح بنسبة الضلال إلى النبي (ص) بمعناه العرفي، ولغرض ما وقف في سؤاله موقف الريبة من حيث إظهاره إرتضاء الرازي بتلك الأقوال، ولو أدى الأمانة في النقل لاستغنى عن الاستفهام عن المخطئ والمصيب في العشرين وجها التي سردها في تفسير ووجدك ضالا، فقد قال بعد نقله قول بعضالمفسرين واقوال الكلبي والسدي ومجاهد:
وأما الجمهور من العلماء فقد اتفقوا على أنه(ع) ما كفر باللّه لحظة واحدة، ثم قالت المعتزلة: هذا غيرجائز عقلا لما فيه من التنفير، وعند أصحابنا هذا غير ممتنع عقلا لأنه جائز في العقول أن يكون الشخص كافرا فيرزقه اللّه الإيمان ويكرمه بالنبوة، إلا أن الدليل السمعي قام على أن هذا الجائز لم يقع،وهو قوله تعالى (ما ضل صاحبكم وما غوى) [النجم/2] . وكان الوجوه العشرين التي أوردها الرازي وجلها إن لم تكن كلها تنزه مقام النبي (ص) عن الضلال وتُثبت له العصمة المتفق عليها أو المجمع عليها عند جماهير المسلمين دع أقوال الحشويين والدساسين لا تنهض برد شبهة المبشرين وتريه القول المصيب والمخطئ، وأي مجال بعد هذا للقدح فيه (ص) من أعدائه، ولقوله: وليقولوا لنا من فسر منهم برأيه.
أما التفسير بالرأي فقد كرر إنكاره من غير ما مرة، وقد سبق تحرير بحثه في أقوال المفسرين ونزيده هنا وضوحا، فإن منع من منع التفسير بالرأي ما كان مستنداً إلى محض الرأي والهوى لا ما كان مستندا إلى السمع وإلى ما يصح في اللغة التي نزل فيها الكتاب، وما كان تاويله منطبقا على قوانينها المحررة، وماكان مما يجب صرفه عن الظاهر فيما يقضي العقل او السمع بذلك وكان المفسر مما فيه مجال للراي ولميرد فيه نقل صحيح او نص صريح، وما كان الجمود على الظواهر وسد باب التفكير والنظر من طبيعةالاسلام وهو ينهى عنهما وينعى على الجامدين والمقلدين جمودهم وتقليدهم في غير ما آية، وكفى برهاناعلى اطلاق الاسلام للعقل النظر وتحريره ما حدث من العلوم الاسلامية المؤسسة على قوانينهالصحيحة، فمن المكابرة رمي صاحب التوضيح علماء المسلمين بالجمود وهو يرى منهم في كل زمانومكان من لا يشق غباره ولا يدرك امده في فلسفة الشريعة الاسلامية، وفي رد كيد الناجين لهولصاحب رسالته الخالدة العداوة الى نحورهم قبل ان يولد نبيهم وبعد ان ولد، لم تخمد لهم نار غيرة، ولمتسكن لهم ريح حمية.
وبعد فلنعد الى تفسير الاية، ففي الكشاف في معنى (ضالا):
«الضلال عن علم الشرائع وما طريقه السمعكقوله: (ما كنت تدري ما الكتاب) وقيل: ضل في صباه في بعض شعاب مكة فرده ابو جهل الى عبدالمطلب، وقيل: أضلته حليمة عند باب مكة حين فطمته وجاءت به لترده على عبد المطلب، وقيل: ضلفي طريق الشام حين خرج به أبو طالب، فهداك فعرفك القرآن والشرائع، أو فأزال ضلالك عنجدك وعمك، ومن قال:
كان على أمر قومه أربعين سنة، فإن أراد انه كان على خلوهم عن العلومالسمعية فنعم، وإن أراد أنه كان على دينهم وكفرهم فمعاذ اللّه، والأنبياء يجب أن يكونوا معصومين قبلالنبوة وبعدها من الكبائر والصغائر الشائنة فيما بال الكفر والجهل بالصانع (ما كان لنا أن نشرك باللّه منشيء)وكفى بالنبي نقيصة أن يسبق له كفر» وقال الشريف المرتضى في كتابه (تنزيه الأنبياء): «فإن قيل: فما معنى قوله تعالى في: (ووجدك ضالافهدى) أوليس هذا يقتضي إطلاقه الضلال عن الدين؟ وذلك مما لا يجوز عندكم قبل النبوة ولابعدها.
الجواب: قلنا في معنى هذه الآية أجوبة:
أولها: أنه أراد وجدك ضالاً عن النبوة فهداك اليها او عن شريعة الاسلام التي نزلت عليه وأمر بتليغها إلى الخلق، وبإرشاده (ص) إلى ما ذكرناه أعظم النعم عليه، والكلام في الآية خارج مخرج الامتنان والتذكير بالنعم، وليس لأحد أن يقول: إن الظاهر بخلاف ذلك لأنه لا بد في الظاهر من تقدير محذوف يتعلق به الضلال، لأن الضلال هو الذهاب والانصراف، فلا بد من أمر يكون منصرفا عنه، فمن ذهب إلى أنه أراد الذهاب عن الدين فلا بد له من أن يقدر هذه اللفظة ثم يحذفها ليتعلق بها، لفظ الضلال وليس هو بذلك أولى منا فيما قدرناه وحذفناه.
وثانيها: أن يكون إراد الضلال عن المعيشة وطريق التكسب، يقال للرجل الذي لا يهتدي طريق معيشته ووجه مكتسبه: هو ضال لا يدري ما يصنع ولا اين يذهب، فامتن اللّه تعالى عليه بأنه رزقه وأغناه وكفاه.
وثالثها: أن يكون أراد وجدك ضالا بين مكة والمدينة عند الهجرة فهداك وسلمك من أعدائك، وهذا الوجه قريب لولا أن السورة مكية وهي مقدمة للهجرة إلى المدينة، اللهم إلا ان يحمل قوله تعالىوجدك على أنه سيجدك على مذهب العرب في حمل الماضي على معنى المستقبل، فيكون له وجه.
ورابعها: أن يكون أراد بقوله ووجدك ضالا فهدى أي مضلولا عنك في قوم لا يعرفون حقك فهداهم إلى معرفتك وأرشدهم إلى فضلك، وهذا له نظير في الاستعمال، يقال: فلان ضال في قومه وبين أهله إذاكان مضلولا عنه.
وخامسها: أنه روي في قراءة هذه الآية الرفع (الم يجدك يتيم فآوى ووجدك ضال فهدى) على أن اليتيم وجده وكذلك الضال، وهذا الوجه ضعيف لأن القراءة غير معروفة ولأن هذا الكلام يسمج ويفسد أكثر معانيه .
وبعد فلا يتسع المقام للزيادة عن هذا القدر وفيه كفاية عن الإسهاب.
10- وجواب السؤال العاشر عن تفسير الاية (أوحينا إليك روحا من أمرنا) [الشورى/52].
قال الفخر الرازي: «والمراد به القرآن، وسماه روحا لأنه يفيد الحياة من موت الجهل أو الكفر » وقال الزمخشري في كشافه: «يريد ما أوحي إليه، لأن الخلق يحيون به في دينهم كما يحيا الجسدبالروح »، وقال الطبرسي في مجمع البيان:
«يعني الوحي بأمرنا ومعناه القرآن لأنه يهتدى به، ففيه حياة من موت الكفر » وهناك أقوال أخرى متقاربة فأي خير في هذا الاختلاف في التعبير الراجع إلى وحدة المعنى ، وهل يرى صاحب التوضيح أن باستطاعة نبيه رفع الاختلاف وتوحيد الآراء وحمل العلماء كافة على إتباع ما يراه في التفسير فيما فيه مسرح للرأي ومجال للاستنباط والاستنتاج؟ 11- وجواب السؤال الحادي عشر عن تفسير (قيل لها أدخلي الصرح) [النمل/44] وهو سؤال أطال فيه الكلام وسبقه أحلام المفسرين، وتخلص من ذلك كله إلى رأي لمسيحه الموعود في تفسير هذه الآية. وأقول : إن كل خبر يتضمن تخطئة نبي من الأنبياء(ع) وليس فيه مجال للتأويل فهو مكذوب معروض عنه، وصريح الآية يدل على أمر سليمان(ع) لملكة سبأ بدخول الصرح وتوهمها أنه لجةوكشفها عن ساقيها، وما عدا ذلك مما عزي إليه من أنه قصد إيهامها لتكشف عن ساقيها ليتبين مانسب اليها من انها شعراء الساقين أم لا، فليس في الآية أدنى إشارة إليه، على أن ذلك من العبث الذي يجب صون النبوة عنه.
وصاحب الكشاف نسب ما نقله صاحب التوضيح عن الشربيني إلى الزعم (والزعم مطيةالكذب) كما قالوا، وكذلك الفخر الرازي والبيضاوي لم ينقل هذا الخبر الموضوع المصنوع في تنزيله.
وبعد فإن جل الاخبار التي رواها القصاصون والمغرمون بالأساطير والإسرائيليات أعرض عنها المحققون ونقدة الاخبار، وماذا يضير المسلمين إذا تمسك بها المبشرون ليجادلوا بها ضعفاء المسلمين،وقد أفسدها حملة العلم منهم ولم يرد بها نص من الكتاب الذي هو والسنة الصحيحة حجة لهم وعليهم،ومن زعم أن المفسرين معصومون لا يخطئون وأن كل ما قالوه وقد يكون في الكثير منه ما يناقضبعضه بعضا واجب الإتباع وقلنا مرارا: إن تفسير القرآن بما لا يخرج عن أساليبه وأساليب العرب ولايخالف الحقائق الطبيعية والكونية والاجتماعية والقواعد العقلية والسمعية المقررة ليس من المحظور، وأن للرأي إذا لم يخالف ذلك كله وكان فيه الكشف عن أسراره التي لا تتناهى مجالا واسعا للتأويل، وأنه لميصح عن النبي (ص) أنه فسر كل آي القرآن لأصحابه حتى ما يتمكن من فهمه العامة والخاصة من أهل اللسان. قال الرافعي في هامش كتابه إعجاز القرآن:
«قد ثبت أن رسول اللّه(ص) قبض ولم يفسر من القرآن إلا قليلا، وهذا وحده يجعل كل منصف يقول: أشهد أن محمدا رسول اللّه، إذ لو كان (ص) فسر للعرب بما يحتمله زمنهم وتطيقه أفهامهم لجمد القرآن جمودا تهدمه عليه الأزمنة والعصور بآلاتها ووسائلها، فإن كلام الرسول نص قاطع، ولكنه ترك تاريخ الإنسانية يفسر كتاب الإنسانية، فتأمل حكمة ذلك السكوت، فهي إعجاز لا يكابر فيه إلا من قلع مخه من رأسه»
وأما ما أطال فيه صاحب التوضيح الكلام في تجويز التفسير وإيراده كلمات بعض العلماء في هذا المعنى فلا نناقشه فيه، وقد ذكرنا الشيء الكثير منه في تضاعيف هذه المباحث بما لا زيادة فيه لمستزيد، بيد أن ذلك لا يعني فتح باب دعوى النبوة للوصول إليه، وهو مما لم يجهله العلماء الذين جمعوا مزايا الاجتهادوالإستنباط ، وفي ذلك عناية بأمر الكتاب وإمتحان للعقول في تدبر آياته وتدارسه، وحسبك ما انبثقمن هذه العناية ومن هذا التوفر على تفهم معانيه من العلوم الاسلامية ومن دعوته العقول إلى التفكير في الآفاق والأنفس وما إلى ذلك من العلوم الأخرى. اتصلت حياة المسلمين بالقرآن الحكيم اتصال اوثيقا بما ناجى به عقولهم وأرواحهم وقلوبهم، وما نصب لهم من الدلائل وأوضح لهم من السبل ومن أرشدهم إلى اقتفاء أثره وأتباعه، وهم الذين لم تخل منهم الأرض ولم تنقطع بهم الحجة، لتقوم حجة في زمن من أزمنتهم تزعم نبوة جديدة بعد إنقطاع النبوات بخاتم الأنبياء صلوات اللّه وسلامه عليه وعلىآله الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجبين وسلم تسليما كثيرا.
نموذج من طريقة القاديانية في التفسير :
رأينا أن نختم هذا الباب بنموذج من طريق القاديانية في تفسير الكتاب العزيز، مما لم يعرفه المفسرون ولا ورد فيه خبر أو أثر للمقابلة، بين تفسيرهم الذي يجعل القرآن مجموعة رموز وأحاجي ويتصل إتصالا وثيقاً بطريقة الباطنية وبعض المتصوفة في التفسير ويبتعد إبتعادا كليا عن ظواهره التي تعبد المخاطبين المكلفين بها وبفهمها بمثل ما يتفاهمون به بأساليبهم الخطابية التي لم يكن القرآن شاذا عنها، اللهم إلا إذا كان قد كلفهم اللّه بكتابه بما لا يطيقون فهمه وهو مناف لحكمة التكليف، وبين مفسريه منالمسلمين الذين تعبدوا بالتفسير على الظواهر التي هي مناط التكليف ومناطه، معتمدين فيما ننقله منآرائهم في التفسير على مقال الأستاذ أديب التقي (المسيح الهندي) الذي استمد مادته من أحد دعاةالقاديانية الأستاذ زين العابدين ولي اللّه شاه أستاذ تاريخ الأديان في كلية صلاح الدين ببيت المقدس سابقا ورئيس معارف الجامعة الأحمدية في مدينة (قاديان) من بنجاب في الهند في ذلك الحين، فمنذلك تفسير الاية (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) [البقرة/102] الآية.
هذه الآية الكريمة تشير إلى واقعتين من تاريخ بني اسرائيل، وهما تأسيس جمعيتين سياسيتين سريتين :الأولى في القدس وهي مؤلفة من بني اسرائيل أنفسهم والأغراب بناة هيكل سليمان، وغايتها قلب ملك سليمان وهدم كيان سلطته.
والثانية: في بابل وخارجها وقد تأسست بتأثير إرميا وحزقيال من أنبياء بني إسرائيل، وغايتها قلب مملكة بابل وتقويضها والقضاء عليها. أما الأولى، فلم ينجح القائمون بها في حياة سليمان، لأن سليمان بطش بهم البطشة الكبرى، وإنما نجحوا بعد موته. وأما الثانية التي في بابل وخارجهافقد نجحت، والشياطين المذكورون في الآية يُراد بهم الأشرار المفسدون من الناس من الأغراب بناة الهيكل والإسرائيليين، والسحر يراد به الكلام الجاذب الذي يستميل القلوب، والملكان هاروت وماروت يراد بهما إرميا وحزقيال من أنبياء بني إسرائيل، وقد سميا ملكين مقابلة للشياطين، ويؤيد هذا الاستعمال ما ورد في حق يوسف(ع) في القرآن (إن هذا إلا ملك كريم) [يوسف/31] ويدل علىأنهما من البشر قول اللّه: (وما يعلمان من أحد) لأن الملائكة لا تعلم البشر، وهاروت وماروت لفظان وضعيان يتضمنان معنى الاستئصال والتدمير لأعداء اليهود وهم البابليون يومئذ، والفتنة يراد بها التمييزبين الخبيث والطيب والصالح والطالح. (فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه) [البقرة/102] أي أن إرميا وحزقيال يعلمان الناس ما يجعلونهم به يتركون أزواجهم وأولادهم ويتبعونهما تفاديا في سبيل اللّه وفرارا الى اللّه (وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن اللّه ويتعلمون مايضرهم ولا ينفعهم) [البقرة/102] إشارة إلى الجمعية الأولى، فإن القائمين بها لم يتمكنوا أن يضروا أحداً لفساد تعاليمهم، ولأنهم شياطين أشرار لا ينجح اللّه أعمالهم، والذين يتعلمون منهم شيئا إنما يتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم إلى كلام يجري هذا المجرى من التعسيف والتكلف لا طائل تحته، فلانتعب أنفسنا والقراء في نقله.
أية مصلحة اقتضت هذه التعمية على المخاطبين بكلام هو من جنس كلامهم إن أعجزهم أسلوبا وبياناً،وأي محذور من إفهامهم الأمر الواقع إن كان على ما يتمحله القاديانيون، على أن في هذا التخريج والتحكم من الاستبعاد والتطبيق على ما قصدوا له ما لا يخفى على الشاري فضلا عن المتعمقين في فهم موارد الكتاب ومصادره. ومن ذلك قولهم في تفسير الآية:
(ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر إلى ما لبثوا في العذاب المهين) [سبأ/12 14] تسخير الريح إشارة إلى ما أوتيه سليمان (ع) منالسلطة البحرية وكثرة مراكبه التي تسيرها الريح، والجن الذين كانوا يعملون لسليمان يراد بهم الأقوامالجبابرة من العمالقة وغيرهم ممن استخدمهم سليمان في أعماله، وقد سموا في آيات اخرى بالشياطين،وكلمات الجن الواردة في أماكن مختلفة من القرآن المجيد بعضها يفسر بمخلوقات كانت قبل الإنسان لانعلم حقيقتها خلقت من نار حينما كانت الكرة الأرضية نارا، وبعضها يفسر بالمردة والجبابرة من الناس،وبعضها بالطبقة المستعبدة من البشر لغيرها، والإنس الطبقة المستعبدة الضعاف كما في الآية الكريمة (يامعشر الجن قد استكثرتم من الإنس) [الأنعام/128] وسورة الجن وما فيها إشارة إلى وفد نصيبين وكانوا من اليهود، (ودابة الأرض) كناية عن يربعام بن سليمان الذي لا يصح للملك، شبه بالدابة لأنهكالدواب سافل ليس فيه سمو وعلو، (المنسأة) العصا أو صولجان الملك كناية عن المملكة لأنه يتوكأ عليها وتكون بها قوة، (فلما تبينت الجن) أي القوم الأشداء الجبابرة من الكنعانيين والكلدانيين، وكذلك قوله تعالى: (ولقد فتنا سليمان والقينا على كرسيه جسدا ثم أناب) [ص/34] المقصود به من الجسد يربعام أي أنه جسد لا روحانية فيه.
وتفسير هذه الآية كتفسير الآية السابقة في الخروج عن منطوقها ومفهومها وفي التكلف الذي لا تحتمله ولا تحمله ألفاظها، ولتفنيده وجوه لا يتسع المقام لذكرها، ومنه الآيات (وحُشر لسليمان جنوده منالجن والإنس والطير ) إلى قوله أنه (صرح ممرد من قوارير) [النمل/17].
(وادي النمل) واد في فلسطين بين جبرين وعسقلان تسكنه قبيلة تسمى (قبيلة النمل) والنملة المتكلمة هي إمراة من هذه القبيلة، والعرب تسمي قبائلها بالنمل كما سميت قبيلة (مازن)، ومعنى (مازن) بيضالنمل، (وتفقد الطير) أي تفقد الطيور في حديقة الطيور، وكان لسليمان حديقة عظيمة فيها من جميع أنواعالطيور، فقال: (ما لي لا أرى الهدهد)، والهدهد هنا اسم رجل كان أرسله إلى سبأ عينا ليأتيه بخبرهم وأبطأ عنه فظن أنه خان ولحق بالعدو، فلذلك قال: (أو لأذبحنه) وكان غاب عن ذاكرته، فلما رأى الطير المسمى بالهدهد في حديقة الطيور فطن إليه لمماثلة الإسمين (قال عفريت من الجن) هو رجل من العمالقة(أنا آتيك به) بالعرش (قبل أن تقوم من مقامك) كان سليمان يريد فتح بلاد سبأ في غير أن يأتوه بعرشها سريعا بعد الفتح، فقال رجل من العمالقة: أنا آتيك بهذا العرش قبل أن تقوم من مقامك، أي قبل أن تنفر أنت لمحاربتهم. و (قال الذي عنده علم من الكتاب) أي رجل من المؤمنين بالكتاب من بني إسرائيل وهو بمقابلة العفريت الذي هو من العمالقة غير المؤمنين (قبل أن يرتد إليك طرفك) يُراد به الدلالة على الإسراع (فلما رآه مستقرا عنده) أي العرش وذلك بعد زمن لأ عقب القول، ومنه يفهم أان الملكة بلقيس أسلمت بعد أن فتح سليمان بلادها (قيل لها أُدخلي الصرح) الصرح الذي صنعه سليمان لبلقيس صفائح من البلور والقوارير، يجري من تحتها الماء، فيخيل للرائي أن هنالك ماء دون زجاج،وقصد بذلك سليمان أن يمثل لها الشمس المعبودة بالنظر إلى خالق الشمس الحقيقي، فقد كانت تعبدالشمس وترى أنها مصدر الربوبية العامة، فأفهمها سليمان أن الربوبية العامة مصدرها ما وراء هذه الأكوان، كما أن الماء الحقيقي ليس الذي حسبته ماء من القوارير وشمرت عن ساقيها من أجله، بل هو ما وراء هذه القوارير، فلما فهمت هي مقصد سليمان: (قالت: رب اني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان للّهرب العالمين) [النمل/44].
وعلى هذا النسق ومن مثل هذا الينبوع إستمدوا تفسيرهم لآي كثيرة من الذكر الحكيم يطول بإيرادها ونقضها الخطب، فليرجع من يطلب ذلك إلى مقال ذلك الأستاذ المفضال.
فلسفتهم في التفسير واللغة
رأينا من الجمام والترويح على نفوس القارئين ان نطرفهم بما جاء في ذلك المقال الممتع الجامع لعقائدالقاديانية ولتاريخهم، وما الى ذلك من امورهم الجديرة بالدرس مما لم يعرفه المفسرون من التفسير، ومالم يصل اليه من تحليل لغوي اللغويون، فمن ذلك قولهم في علة تحريم الخنزير، ان اللّه حرم الخنزير وقدضمن اسمه الاشارة الى تحريمه منذ الاول، لان لفظ (خنزير) مركب من كلمتين هما (خنزر) ومعناها(فاسد جدا) و(آر) ومعناه (ارى) فيكون معنى الاسم المركب (اراه فاسدا جدا) ومن الاتفاق العجيب اناسمه في الهندية (سؤر) وهذا ايضا مركب من كلمتين (سوء) و(آر) اي (اراه سوءا) والعربية ام الالسنةباجمعها وان كلماتها توجد في جميع اللغات بالعدد الكثير، ومن ذا الذي لا يدري ان هذا الحيوان اشدحرصا على اكل النجاسات من جميع الحيوانات الاخرى وانه فوق ذلك وقح ديوث (الخ).
ومنها تفسير الكافور والزنجبيل اللذين وردا في الايتين (ان الابرار يشربون من كاس كان مزاجهاكافورا) [الانسان/5] و (يسقون فيها كاسا كان مزاجها زنجبيلا) [الانسان/17] الكفر في وضعاللغة العربية معناه التفشية والاخفاء، والمراد بالكافور هنا الاشارة الى ان الابرار قد شربوا من كاسالخلوص والحب ما قد اخمد شهواتهم وبرد في قلوبهم محبة الدنيا، فمن تبتل الى اللّه التبتل كله فقد بعدعن شهوات النفس واندفنت شهواته كما تدفن المواد السامة بالكافور. والزنجبيل مركب من كلمتين(زنا) و(جبيل) ومعنى (زنا) في العربية (صعد في الجبل) فمعنى الاية: ان اولياء اللّه الكمل يستوفون نصيباكاملا من القوة الروحانية، ويرتقون كبار العقبات، وتتم على ايديهم صعاب الامور، وسمي الزنجبيلبالعربية زنجبيلا لانه يزيد في الحرارة الغريزية كثيرا ويقوي الضعيف حتى يمكنه ان يتسلق الجبال.وبسرد هاتين الايتين كانما يريد اللّه افهام عباده ان الانسان اذا اقلع عن الشهوات وسار نحو الصلاحبدت فيه حالة تسكن مواده السامة وتخفض من غلواء شهوات النفس، كما يفعل الكافور في تسكينحدة السموم، ومتى زالت شدة السموم ونقه المريض من العلل الباطنة ابتدات مرحلة ثانية يستقويفيها العليل بشراب الزنجبيل، وهذا الشراب الزنجبيلي انما هو تجلي اللّه على عبده بجماله وجلاله، فاذاتقوى الانسان بالتجلي الرباني قدر ان يتسنم الاطوار العالية الشاهقة.
قبل التعليق على هذا التفسير الطريف الى المفسرين والاطباء واللغويين فان كلامهم يجد الطريقمفتوحا للايغال في علمه وفنه، وهكذا يريد القاديانيون من نعيهم على مفسري الكتاب العزيز طريقتهمفي التفسير وليبينوا من الغازه واحاجيه ما يؤول الى ان الكتاب انزل على العرب بلغتهم ولكن بمعان لايفهمونها، وهل هذا مفاد قوله تعالى: (انا انزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) [يوسف/2] وهل منتعقل اي تفهم معانيه ان لا يفهموها؟ وما معنى قوله تعالى: (وما ارسلنا من رسول الا بلسان قومهليبين لهم) [ابراهيم/4] وهل يترك الرسول البيان لقومه في وقت حاجتهم الى البيان الذي هو مناطالتكليف؟ ومن ذلك تفسير السلاسل والاغلال في قوله تعالى: (انا اعتدنا للكافرين سلاسلا واغلالاوسعيرا) [الانسان/4] المراد من هذه الاية، ان الذين يرفضون الحق ولا يبغون اللّه من صميم الفؤاديبلوهم اللّه برد الفعل، فيعانون جهد البلاء في بلبال الحياة الدنيا حتى كانهم مقرنون في الاصفادوينهمكون في الشواغل الارضية، كانما شدت اعناقهم بالاغلال فلا تدعهم يرفعون راسهم نحوالسماء.
هذا ما نراه كافيا في المقابلة بين آراء القاديانية في التفسير وآراء العلماء الراسخين، وهو الى ما سلف منالاقوال في التفسير التي لم تتخط فيه الحقيقة الى التخيلات الشعرية كاف في هذا البحث، ولنعد الى نقضاقاويلهم الاخرى في بقية الفصول.
الباب الثاني: في التعليق على الفصل الثاني
في عدم انقطاع الوحي المزعوم:
أطال صاحب التوضيح الكلام في هذا الفصل محاولا به اثبات عدم انقطاع الوحي بادلة واقوال جلهاللمتصوفين بزعم تاييدها لدعواه، وان نقض كل دليل منها يحتاج الى التطويل في حيث لا طائل،ويؤدي التوسع فيه الى التباعد بين اطراف البحث والى سآمة القارى، فراينا ان نوجزه فيما يلي:
الاول: ان للوحي معاني جمة وهو لفظ مشترك بينها.
1- في القاموس: («الوحي): الاشارة والكتابة والرسالة والالهام والكلام الخفي، وكل ما القيته الىغيرك، والصوت يكون في الناس وغيرهم كالوحى، والوحاة جمع وحي، واوحى اليه بعثه والهمه،ونفسه وقع فيها خوف»
2- في مفردات الراغب الاصبهاني في غريب القرآن: وحي:
اصل الوحي الاشارة السريعة، ولتضمنالسرعة قيل امر وحي، وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض، وقد يكون بصوت مجرد عنالتركيب واشارة ببعض الجوارح وبالكتابة، وقد حمل على ذلك قوله تعالى: (فاوحى اليهم ان سبحوا)[مريم/11] فقد قيل: رمز، وقيل: اعتبار، وقيل: كتب، وعلى هذه الوجوه المذكورة في قوله: (يوحيبعضهم الى بعض)، (وان الشياطين ليوحون الى اوليائهم)فذلك بالوسواس المشار اليه بقوله: (من شرالوسواس الخناس) . وبقوله(ع): وان للشيطان لمة الخبر. ويقال للكلمة الالهية التي تلقى الى انبيائهواوليائه وحي، وذلك اضرب حسبما دل عليه قوله: (وما كان لبشر ان يكلمه اللّه الا وحيا الى قوله آباذنه ما يشاء).
وذلك اما برسول مشاهد ترى ذاته ويسمع كلامه كتبليغ جبريل(ع) في صورة معينة،واما بسماع كلام من غير معاينة كسماع موسى كلام اللّه، واما بالقاء في الروع كما ذكر(ع) «نفث فيروعي». واما بالهام نحو (واوحينا الى ام موسى) [القصص/7] واما بتسخير نحو قوله: (واوحىربك الى النحل) [النحل/68] او بمنام كما قال(ع) «انقطع الوحي وبقيت المبشرات رؤيا المؤمنين».فالالهام والتسخير والمنام دل عليه قوله: (الا وحيا او من وراء حجاب) . وتبليغ جبريل في صورةمعينة دل عليه قوله: (او يرسل رسولا). وقوله: (او قال اوحي الي ولم يوح اليه شيء) [الانعام/93].وذلك لمن يدعي شيئا من انواع ما ذكرنا من الوحي، اي نوع ادعاء من غير ان يحصل له. وقوله:
(وماارسلنا من قبلك من رسول الا نوحي اليه) [الانبياء/25] فهذا الوحي هو عام في جميع انواعه،وذلك ان معرفة وحدانية اللّه تعالى ومعرفة وجوب عبادته ليست مقصورة على الوحي المختص باوليالعزم، بل يعرف ذلك بالعقل والالهام كما يعرف بالسمع، فاذا القصد من الاية تنبيه انه من المحال انيكون رسول لا يعرف وحدانية اللّه ووجوب عبادته، وقوله تعالى: (واذ اوحيت الى الحواريين) [المائدة/111] فذلك وحي بوساطة عيسى(ع) وقوله: (واوحينا اليهم فعل الخيرات) [الانبياء/73] فذلك وحي الى الامم بوساطة الانبياء. ومن الوحي المختص بالنبي(ص) (اتبع مااوحي اليك من ربك). (ان اتبع الا ما يوحى الي). وقوله: (واوحينا الى موسى واخيه)[يونس/87]. فوحيه الى موسى بوساطة جبريل، ووحيه تعالى الى هارون بوساطة جبريل وموسى،وقوله: (اذ يوحي ربك الى الملائكة) فذلك وحي اليهم بوساطة اللوح والقلم فيما قيل، وقوله: (واوحىفي كل سماء امرها) فان كان الوحي الى اهل السماء فقط، فالموحى اليهم محذور ذكره، كانه قال: اوحىالى الملائكة لان اهل السماء هم الملائكة، ويكون كقوله: (اذ يوحي ربك الى الملائكة) [الانفال/12]. وان كان الموحى اليهم هم السماوات، فذلك تسخير عند من يجعل السماء غير حيونطق عند من جعله حيا، وقوله: (بان ربك اوحى) لها فقريب من الاول، وقوله: (ولا تعجل بالقرآنمن قبل ان يقضى اليك وحيه) [طه/114]. فحث على التثبت في السماع وعلى ترك الاستعجال فيتلقينه وتلقنه.
3- وفي النهاية لابن الاثير: («وحا) في حديث (ابي بكر) الوحا الوحا اي السرعة السرعة ويمدويقصر، يقال: توحيت توحيا اذا اسرعت الى ان قال: وفي حديث الحارث الاعور، قال علقمة:
قراتالقرآن في سنتين. فقال الحارث: القرآن هين، الوحي اشد منه، اراد بالقرآن القراءة وبالوحي الكتابةوالخط، الى ان قال:
وانما المفهوم من كلام الحارث عند الاصحاب شيء تقوله الشيعة انه اوحي الىرسول اللّه(ص) شيء فخص به اهل البيت واللّه اعلم، وقد تكرر ذكر الوحي في الحديث ويقع علىالكتابة والاشارة والرسالة والالهام والكلام الخفي، يقال: وحيت اليه الكلام واوحيت»
4- وفي امالي الشريف المرتضى في تاويل الاية. (ما كان لبشر ان يكلمه اللّه الا وحيا او من وراءحجاب) فاما ابو علي الجبائي فانه ذكر ان المراد بالاية (وما كان لبشر ان يكلمه اللّه) الا مثل ما يكلمبه عباده من الامر بطاعته والنهي لهم عن معاصيه وتنبيهه اياهم على ذلك على سبيل الوحي، وانماسمى اللّه ذلك وحيا لانه خاطر وتنبيه وليس هو كلاما على سبيل الافصاح كما يفصح الرجل منالصاحبه اذا خاطبه، والوحي في اللغة انما هو ما جرى مجرى الايحاء والتنبيه على شيء من غير انيفصح به، الى ان قال: وعنى بقوله: (او يرسل رسولا فيوحي باذنه ما يشاء) ارسال ملائكة بكتبهوكلامه الى انبيائه(ع) ليبلغوا عنه ذلك عباده ويامرهم فيه بطاعته وينهاهم عن معاصيه من غير انيكلمهم على سبيل ما كلم به موسى(ع) وهذا الكلام هو خلاف الوحي الذي ذكره اللّه تعالى في اولالاية، لانه قد افصح تعالى لهم في هذا الكلام بما امرهم به ونهاهم عنه، والوحي الذي ذكره تعالى فياول الاية انما هو تنبيه وخاطر وليس افصاحا، وهذا الذي ذكره ابو علي ايضا سديد والكلام محتمل لماذكره.
هذا خلاصة ما اتفق عليه الائمة من مفسرين ولغويين من معاني الوحي الذي هو قدر مشترك بنيها،فانت ترى ان منه ما يشارك به الانسان العاقل المكلف اضعف انواع الحيوان كالنحل والنملوالعنكبوت والاصداف، دع ارقاها من اسراب الطير وما يمشي على اربع وما يمشي على بطنه وما يمشيعلى رجلين واعلاها كلها في سلم الاجتماع وهو الانسان، وهذا المعنى المشترك بين الحيوانات ادناهاوارقاها بل والنباتات، كما يرى علماء النبات قضت العناية الالهية حفظا لاجناس ما ذرا من المخلوقاتوانواعها ان تختص بغرائز والهامات تدفعها الى ما ينفعها وتجنبها ما يضرها، على ان الانسان معمشاركته تلك المخلوقات في الغرائز والالهام منحه اللّه تعالى العقل والحفظ والفكر والذكر، وفتح لهابواب العلم، واستخلفه في الارض لاعمار الارض، ومهد له سبل العروج الى ابعد آفاق الرقي، بما سن لهمن الشرائع على السنة رسل موحى اليهم ممن اختصهم باسمى درجات السمو والعلو تقويما لمسالكهوتثقيفا لمداركه وتقريبا له بالصلة الروحية من خالقه، وامده بمعقبات من ملائكته يحفظونه من بين يديهومن خلفه وبالملكين الحافظين له، وما الى ذلك من ضروب العناية الالهية بهذا البشر السوي الذي هوالدرة اليتيمة في سمط الابداع والنقطة في مركز الاختراع، واقتضت تلك العناية لحكم لا تحصى التفاوتبين افراد، حتى يبلغ درجة انقطاع مساواتهم لمن بلغوا اقصى ذروات الكمال الانساني الذي يفيضالكمال قوة وضعفا على نسبة قبول ذلك الفيض، ممن تتفاوت منهم مراتب قبوله خاشعين لسلطانقوته مختارين او مضطرين، واقتضت المشيئة الربانية مع ما اوتي ذلك الصف من الكمال الانسانيوالقوى القدسية ان تؤيده بالمعجزات الحسية مع تاييده بالمعجزات المعنوية والخلقية.
ان صاحب التوضيح لم يفرق بين معاني الوحي، وحاول ان يخالف نصوص الائمة التي اوردناها بجعلهواردا على معنى واحد، واورد من الشواهد على دعواه ما قد تبين ان جلها ليس من نوع الوحيالمصطلح، وهو ما يوحى به الى الانبياء والمرسلين، فلا نعيده لانه ترديد لا يغني غناء.
ان من الغريب تاويله ما لا يحتمل التاويل من لفظ الحديث الصريح الدلالة عنه(ص) «لم يبق من النبوةالا المبشرات» قالوا:
وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة، حيث قال: ان هذا الحديث لا يدلعلى انقطاع الوحي، محتجا بان ذلك لا يكون حقا بدليل قوله(ص) في حق المسيح الموعود بانه يوحىاليه.
اما اولا فلان حصره بعدم بقاء شيء من النبوة الا المبشرات شامل ولا ريب الوحي الذي هودليل النبوة، بل هو والنبوة متلازمان، واما احتجاجه بالوحي الى المسيح فهو غريب، فاذا صح لهثبوت بقاء الوحي وادعى ان صاحبه ممن يوحى اليه فكيف ينكر الوحي الى نبي بمثل ما يوحى به الىنبيه المزعوم من اقرار شريعة خاتم النبيين واتباعها مع الاعتراف بنسخ شريعته التي نزلت عليه مضافاالى ما ورد من حديث صحيح في نزوله وعمله بشريعة محمد(ص).
ان استدلاله بالحديث.. «لقد كان فيمن قبلكم من بني اسرائيل رجال يكلمون من غير ان يكونوا انبياءفان يك في امتي منهم احد فعمر» لا يؤيد دعواه، فان من المحتمل بل من القوي ان يراد من التكلم ماهو من نوع الالهام وهو ما يراد من احدى معاني الوحي، او ان يكون معناه انهم يعملون بشريعة منيكلمهم اللّه وهم من اوحي اليهم من النبيين، فيكون اطلاق المكلمين من اتباعهم على المكلمين بالوحيوهم النبيون مجازا..
وكذلك لا يثبت مدعاه استدلاله بالحديث «لقد كان فيمن قبلكم من الامم محدثون فان يكن في امتيمنهم احد فانه عمر» فانه يراد من هذا التحديث الفراسة والالهام لا الوحي المخصوص به الانبياء. وقالابن الاثير في النهاية بعد ايراده هذا الحديث: «جاء في الحديث تفسيره انهم الملهمون، والملهم هو الذييلقى في نفسه الشيء فيخبر به حدسا وفراسة، وهو نوع يختص به اللّه تعالى من يشاء من عباده الذيناصطفى مثل عمر، كانهم حدثوا بشيء فقالوه»، على انه يمكن ان يكون المفهوم من التعليق بانالشرطية التي الاصل فيها عدم الجزم بوقوع الشرط في اعتقاد المتكلم في الحديثين انه لا محدث فيالامة حتى ولا عمر، ولكن يثبت في نصهما مزيد فضل لعمر.
واستدلاله على دعواه بقراءة ابن عباس وما ارسلنا من رسول ولا نبي ولا محدث لا يدل على مطلوبه،لان الارسال يشمل الرسول الموحى اليه وغيره. قال تعالى: (اذ ارسلنا اليهم اثنين فذكبوهما فعززنابثالث) [يس/14] وهم لم يكونوا انبياء ولا رسلا منه تعالى، وانما هم رسل عيسى، واطلاقالارسال عليهم مجاز ومثل ذلك المحدثون، ولو افاد التحديث معنى الوحي والرسالة لادعى عمر النبوةاو الوحي او الرسالة، وحاشا ان يدعيها هو او احد من الصحابة واعلام الامة وذوي الرسوخ في العلموالدين والشريعة، ولم يدعها الا شذاذ من الغلاة عن هوس ووسواس او عن قصد وعمد اصطياداللجاه وطلبا للدنيا الواسعة.
هذا ولا نرى حاجة لنقض ادلته الاخرى، وهي في جملتها وتفصيلها لا تخرج عن مضمون تلك الادلةالواهية.
بعض الادلة على انقطاع الوحي واليك طرفا وجيزا من الادلة على انقطاع الوحي:
1- في كتاب (تعريف الاحباء بفضائل الاحياء) للشيخ عبد القادر بن عبد الاله العيدروسي، حديثمسند الى عبداللّه بن عتبة بن مسعود، قال سمعت عمر بن الخطاب (رض) يقول: (ان اناسا كانوايؤخذون بالوحي على عهد رسول اللّه(ص) وان الوحي قد انقطع، وانما ناخذكم الان بما ظهر مناعمالكم، فمن اظهر لنا خيرا امناه وقربناه، وليس الينا من سريرته شيء، اللّه يحاسبه في سريرته، ومناظهر لنا سوى ذلك لم نامنه وان قال سريرتي حسنة).
2- في صحيح البخاري بسنده الى المغيرة بن شعبة: «لا يزال من امتي قوم ظاهرين على الناس حتىياتيهم امر اللّه»، ومثله حديث يسنده الى معاوية (لا يزال من امتي امة قائمة بامر اللّه لا يضرهم منكذبهم ولا من خالفهم حتى ياتي امر اللّه وهم على ذلك). ومثله ما رواه قبل ذلك عن المغيرة ايضاباختلاف يسير في لفظ الحديث (لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى ياتيهم امر اللّه وهمظاهرون). وعن معاوية من يرد اللّه به خيرا يفقهه في الدين، وانما انا قاسم ويعطي اللّه ولن يزالامر هذه الامة مستقيما حتى تقوم الساعة او حتى يأتي امر اللّه.
ان المفهوم من هذه الأحاديث أن الأمة لا تخلو من قائمين بأمر اللّه مؤيدين شريعته عاملين بسنتهاوكتابها، وهم منها متميزون لا بوحي منزل ولا نبي مرسل، بل بما حصلوه من علوم الدين، وبمااكتسبوه من أحكامه، وهي من متناولهم وعلى طرف الثمام، وقد دونت دواوينها واحكمت قواعدهاورسخت اصولها ونمت فروعها ودنت من الجانين ثمراتها، فاغناهم ذلك عن وحي جديد ونبيجديد.
قال ابن تيمية في رسالته (رفع الملام عن الائمة الاعلام):
وبعد فيجب على المسلمين بعد موالاة اللّهورسوله موالاة المؤمنين كما نطق به القرآن، خصوصا العلماء الذين هم ورثة الانبياء الذين جعلهم اللّهبمنزلة النجوم يهتدى بهم في ظلمات البر والبحر، وقد اجمع المسلمون على هدايتهم.
واما الايات الدالة دلالة صريحة على الاستغناء عن الوحي والموحى اليهم فهي اكثر من ان تحصى،فمنها: (ولو ردوه الى الرسول والى اولي الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه) [النساء/83] ومنها قولهتعالى: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم اذا رجعوا اليهم لعلهميحذرون) [التوبة/122] ومنها قوله تعالى: (كنتم خير امة اخرجت للناس تامرون بالمعروف وتنهونعن المنكر) [آل عمران/110] ومنها: (وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس)ومنها: (وما كان اللّه ليضل قوما بعد اذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون) كما قال: (وقد فصل لكم ما حرمعليكم الا ما اضطررتم اليه) ومنها: (فان تنازعتم في شيء فردوه الى اللّه والرسول) [النساء/59]ومعنى ذلك الرد الى كتاب اللّه او الى سنة الرسول بعد موته.
قال ابن تيمية: وقوله: (فان تنازعتم) شرط والفعل نكرة في سياق الشرط، فاي شيء تنازعوا فيه ردوهالى اللّه والرسول، ولو لم يكن بيان اللّه والرسول فاصلا للنزاع لم يؤمروا بالرد اليه، والرسول انزل عليهالكتاب والحكمة كما ذكر ذلك في غير موضع، وقد علم امته الكتاب والحكمة كما قال تعالى:
(ويعلمهمالكتاب والحكمة) [الجمعة/2].
هذا ولنا ان نقول: ان لم يكن الرد الى الكتاب والسنة رافعا للتنازع وحاسما لمادته، وكان هناك من يرداليه غيرهما، لاقتضت الحكمة بيان ذلك المرجع، خاصة اذا كان نبيا موحى اليه محتاجا اليه في رفعالنزاع لضرورة البيان في وقت الحاجة الى البيان، وهذا ما لم يقل به مسلم ولا ورد به نص كتابي ولاحديث نبوي ولا دليل من الادلة التي تعبدنا اللّه بها في احكامه.
وبعد فانت ترى من مجموع هذه الايات ما يستدل به على ان الامة بعد ذلك البيان، وبعد قيام العلماءالراسخين بما قاموا به من ايضاح مناهج الشرع والدين بمحض الاكتساب، وبالجهاد الذي هو طريقالعدالة الحقة في غنية عن وحي سماوي جديد وموحى اليه مؤيد بالمعجزات. اما ما اختص به اهلالبيت وهم ثقل الرسول الاصغر الذين لم يفارقوا الثقل الاكبر وهو القرآن من الالهام وهو غير الوحيوغير النبوة، فقد استفاض به الحديث من طريق الفريقين السنة والشيعة.
ادلته على بقاء الوحي 1- ومن اغرب ما احتج به صاحب التوضيح من نداء السيد منير الحضي داعية مسيحه الهندي علىبقاء الوحي، وهو ما ننقله بحرفه، قال: فلو بقي اللّه الكامل بذاته وصفاته وظهور صفاته غير متلكم بعدالنبي عليه الصلاة والسلام الى يوم القيامة، اذا لا فرق بينه وبين الاصنام والالهة الاخرى الجامدة، ثمدعم قوله هذا بما يلي ولذا نرى اللّه سبحانه يسفه عقول اولئك الذين يعبدون من دونه معبودا ابكماصم بقوله في حق موسى(ع):
(واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار الم يروا انهلا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين) [الاعراف/148] اوليس في هذه الاية دليلقاطع على ان اللّه تكلم بوحي لعباده على الدوام؟ الخ، ولا يخفى ما في هذا الاستدلال من السفسطةوالتمويه وبيان فساده وابطاله من وجوه:
1- منع الملازمة بين مقدم هذه القضية الشرطية التي اصطنعها وتاليهم، اذ لا يلزم من بقائه تعالى بذاتهوصفاته وظهور صفاته ان يكلم بعد النبي(ص) شخصا او اشخاصا من الناس، اما بكلام من نوع ماكلم به رسله من طريق الوحي او بكلام من نوع كلماته التي لا تتناهى: (قل لو كان البحر مدادا لكلماتربي لنفد البحر قبل ان تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا) [الكهف/109] اما اولا فيما يجيب بهالسائل عن وقوع انقطاع الكلام الذي هو من نوع الوحي في زمن الفترة بين نبي ونبي آخر كمثل الفترةبين عيسى ومحمد عليهما السلام، يكون جوابنا وان كان من نوع كلماته التي هي من غير الوحي وهيالمشتملة على استمرار عنايته تعالى بمخلوقاته، ومتجددات آياته في ارضه وسماواته، وشمول الطافه لكلمن ذرا من برياته، فهي دائمة غير منقطعة.
2- ان لازم مقدمته الاولى ان يكون تكليمه تعالى عاما شاملا غير مخصوص باشخاص او زمان،ولازم جواز انقطاعه في زمان، بل وقوعه كما بينا من الفترة بين النبوات جواز انقطاعه بعده(ص) الىيوم القيامة، وهو ما يعتقده المسلمون، دع الغلاة والمتهوسين ومن يستهدفون اغراضا باعتقاد غيرذلك.
3- من لوازم قضيته ان التكليم عام للبشر لا خاص بمسيحه لانه من لوازم دوام الكلام الذي يدعيهولازم ذلك ارتفاع حاجة البشر لوحي خاص لرسول خاص لان البشر كلهم مكلمون.
4- الفرق بعيد جدا بين دعوى دوام الكلام واحتجاجه لها باحتجاجه تعالى على قوم موسى بعبادتهمعجلا من صنع ايديهم من مادة جامدة، كيف عبدوه وهم صانعوه وليس فيه شيء يستحق به ان يعبد؟وحسبهم تسفيها لاحلامهم انه لا يكلمهم، على ان هذا قياس مع الفارق، فان حجته تعالى على منعبدوا العجل المصنوع من جامدات الارض ينحل الى قضية بديهية التسليم، وهي ان هذا العجلالمصنوع الذي اتخذتموه آلها وعبدتموه، ان كان الها مستحقا للعبادة كما تزعمون فمن اظهر ما يلزمكم انيكون قادرا على تكليمكم وهو شاهد محسوس، فاذا لم يقدر على الكلام والتكليم فقد فقد مزيةالالوهية وهي القدرة على الكلام والتكليم فلم يكن آلها، ولم يحتج عليهم تعالى بمزايا الالوهية الاخرىوصفاتها من الخلق والانشاء وما الى ذلك، بل احتج بما هو اظهر في الحجة وابلغ في سخفهم وسفههممن عبادة اصم ابكم جامدا لا يكلمهم ولا يرجع اليهم قولا، وليست الحال كذلك بالنسبة اليه تعالىالذي ان لم يكلمهم حوارا فقد كلمهم اعتبارا وبلسان آثاره وبدائع آياته وادلة وجوده، وناجاهم فيعقولهم وغرائزهم بما هو ابلغ من الكلام وهو اقرب اليهم من حبل الوريد.
5- ان القرآن الكريم هو مما كلم اللّه به نبيه بواسطة الوحي وامته بواسطته، وهو غير منقطع وثابت علىالدوام، وهو في الواقع ونفس الامر تكليم للامة، والقرآن قد احصى كل ما ينتظم امور مبدئها ومعادها.والمسيح الهندي كما يدعي اتباعه لم يؤت شرعا جديدا (وان زعموا انه اوحي اليه بكتاب جديد) فهومكلم كغيره من آحاد الامة.
6- ان من لوازم دعواه تكفير كل من لا يعتقد بوحي ورسالة بعد النبي(ص) وبنبوة المسيح الهندي،فعلى المسلمين والاسلام السلام لانهم لا يعتقدون نبوته، فلتقر عينه وعيون اتباعه بايمانهم وحدهموتكفير اهل القبلة الذي لم يجرؤ على القول به احد من اهل القبلة.
وبعد فهناك وجوه اخرى لبطلان دعواه اعرضنا عنها تجنبا للتطويل حيث لا طائل.
(2) واستدل على بقاء الوحي بالاية (رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من امره على من يشاء منعباده لينذر يوم التلاق) [غافر/15]. ومعنى الروح الوحي، فلما كان اللّه رفيع الدرجات ذو العرش،وتوجد عباده وتوجد حاجة الى الانذار، فكيف يجوز ان يقال: بان الوحي منقطع؟ والجواب: لم اجد فيالاية ما يدل على بقاء الوحي وما كان استمرار وجود العباد واستمرار وجوب الانذار مستلزمينلاستمرار الوحي، فقد بينا آنفا في غير موضع ما لا نحتاج معه الى مزيد بيان بان الانذار حاصلمستمر غير منقطع بالكتاب العزيز الحجة الخالدة القاطعة للمعاذير، وهو المتكلم والمخاطب به عامةالمكلفين الى قيام الساعة، والمفهوم بالمجمع عليه من تفاسيره الخالية من شائبة الاسرائيليات واحاديثالحشويين ودس المعاندين وبالسنة الجامعة القائمة وبالقوام عليهما من امة محمد(ص) التي هي الوسطبين الامم، ولا بد لنا بعد هذا الاجمال من ايراد بعض ما ذكره المفسرون الموثوق بهم في تفسير هذهالاية:
ففي مجمع البيان للطبرسي «(يلقي الروح) وقيل: الروح هو القرآن، وكل كتاب انزله اللّه تعالى على نبيمن انبيائه، وقيل:
الروح الوحي هنا، لانه يحيي به القلب، اي يلقي الوحي على قلب من يشاء ممن يراهاهلا له، يقال: القيت عليه كذا، اي فهمته اياه، وقيل: ان الروح جبرائيل(ع) يرسله اللّه تعالى بامره، عنالضحاك وقتادة، وقيل: ان الروح ههنا النبوة عن السدي (لينذر) النبي بما أوحي إليه يومالتلاق»
وفي انوار التنزيل للبيضاوي «(يلقي الروح من امره) الاية، خبر رابع للدلالة على ان الروحانيات ايضامسخرات لامره باظهار آثارها وهو الوحي، وتمهيد للنبوة بعد تقرير التوحيد، والروح الوحي، ومنامره بيانه لانه امر بالخير او مبدؤه، والامر هو الملك المبلغ» إلى مختاره للنبوة، وقريب منه ماجاء في الكشاف.
وأما الفخر الرازي فنلخص بحثه الطويل في تفسير هذه الاية بما يلي:
واعلم ان اشرف الاحوال الظاهرة في روحانيات هذا العالم ظهور آثار الوحي، والوحي انما يتمباركان اربعة: فاولها: المرسل وهو اللّه سبحانه وتعالى فلهذا أضاف الوحي إلى نفسه فقال:
(يلقي الروح).والركن الثاني: الارسال والوحي، وهو الذي سماه بالروح. والركن الثالث: ان وصول الوحي من اللّهتعالى الى الانبياء لا يمكن ان يكون الا بواسطة الملائكة، وهو المشار اليه في هذه الاية بقوله: (من امره).فالركن الروحاني يسمى امرا، قال تعالى: (واوحى في كل سماء امرها) [فصلت/12] وقال: (الا لهالخلق والامر) [الاعراف/54]. والركن الرابع: الانبياء الذين يلقى الروح اليهم، وهو المشار اليه بقوله:(على من يشاء من عباده) . والفرض والمقصود الاصلي من القاء هذا الوحي اليهم هو صرف الانبياءبخلق عن عالم الدنيا الى عالم الاخرة»
فانت ترى من هذه الاقوال في تفسير الاية احتمالات لم يذكر بينها احتمال استمرار الوحي، ومع ثبوتالاحتمال يبصر الاستدلال.
ثم اورد ادلة اخرى لا تخرج في معناها عن هذين الدليلين، فلا نطيل بنقضها الخطب.
وان اعجب من امر فمن قوله: لم يكن حرمانه اياكم من نعمة الوحي الا لاعتقادكم بانقطاعه وانتم خيرالامم، وقد اوحى اللّه الى كثير من رجال ونساء بني اسرائيل، فكيف لا يوحى اليكم؟ ولكنكم بايديكمتوصدون امام وجوهكم ابواب نعمة اللّه: (وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم ارداكم فاصبحتم منالخاسرين) [فصلت/23].
فانت ترى في زعمه هذا ما يدل على انقطاع الوحي عمن يعتقد انقطاعه، فكان الوحي تابع للاعتقادببقائه واستمراره، وهذا منطق عجيب، ويلزمه على هذا القول الطريف ان يكون الوحي والنبوة ممايحصل بالاكتساب لكل من يعتقد بقاءهما، وقد فاز بنعمتها المسيح الهندي واتباعه وحرمهما من لا يرىعقيدتهم وهم المسلمون كافة، اللهم الا القاديانية ومن انتحل مثل نحلتهم.
ان لنا اسوة حسنة وقدوة صالحة بسلف الامة من الصدر الاول والقرن الاول والذي يليه وبالاصحابوتابعيهم وتابعي تابعيهم، وهم العارفون باللّه تعالى وباحكام دينه وبمعاني كتابه ومحكم آيه ولحنخطابه وبمجاري سنته، وهم لم يفرطوا بشيء من ذلك ولم يدعوا وحيا ولا نبوة واعتصموا بما يغنيهمعن الوحي الموهوم والنبي المزعوم الا وهما الثقلان الاكبر والاصغر ولم ينقصهم شيئا من اقدراهمتركهم الاعتقاد ببقاء الوحي والنبوة، بل اتبعوا في ذلك الدين الحق.
افيرى المسيح الهندي واتباعه انهم افضل منهم جميعا، وان نفوسهم اسمى من نفوسهم واكثر استعدادالتنزل الوحي عليهم، وهم ورثة الانبياء الهادون المهديون، ومن اجدر بان يكون من الخاسرين اهذاالفريق الصالح من الامة الذي لم يخالف نصا ولا يفارق جماعة ولم يدع الحيطة لدينه، ام من يفارق مااجمعت عليه الجماعة واللّه مع الجماعة؟؟ ثم عقد بحثا آخر ذيلا لبحثه في هذا الفصل (بقاء الوحي) فقال:
هل يوحى الى غير الانبياء؟ متمسكابما فهمه او بما اراد به التضليل والتمويه من تخصيصه الوحي بوحي النبوة، وقد سبق ان للوحي معانيفان اراد وحي النبوة فقد بينا انقطاعه بما لا مزيد عليه، وان اراد منه الهداية والالهام واللطف الالهيفذلك باق مستمر.
عود على بدء راينا ان نختم تعليقنا على هذا الفصل (بقاء الوحي) بادلة اخرى سمعية تثبت انقطاعه وتقوي الادلة التياوردناها في الصفحة (81).
فمن ذلك ما ورد في شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد من خطبة لخالد بن الوليد بعد البيعة بالخلافةلابي بكر (رض):
«الا وان الوحي لم ينقطع حتى احكم، ولم يكن بعد النبي نبي فنستبدل بعده نبيا، ولابعد الوحي وحي»
ومنه من خطبة للحسن البصري ذكرها في شرح النهج: «امتكم آخر الامم وانتم خير امتكم، وقداسرع بخياركم فلا تنتظرون المعاينة فكان قد هيهات هيهات ذهبت الدنيا بحاليها وبقيت الاعمال قلائدفي الاعناق، فيا لها موعظة لو وافقت من القلوب حياة، الا انه لا امة بعد امتكم، ولا نبي بعد نبيكم، ولاكتاب بعد كتابكم»
وفي كلام الحسن البصري وهو من اعلام الامة ابطال لكل ما ادعاه القاديانية من بقاء الوحي وارسالرسل بعد الرسول الاعظم(ص) وتنزيل كتاب جديد.
ومنه ما في شرح النهج ردا على النظام: «وكيف ينسب امير المؤمنين الى انه كان يوهم الناس بنزولالوحي وبسيفه ثبت ان ابن عمه خاتم المرسلين، حيث يقول: ما كذبت وكذبت كيف ينتظرون نزولالوحي، فان من نزل عليه الوحي لا يحتاج ان يسند الخبر الى غيره، ويقول: ما كذبت فيما اخبرتكم بهعن رسول اللّه(ص)»
ومنه ما في شرح النهج ايضا في شرح قول علي(ع) من خطبة: ارسله على حين فترة من الرسل «الفترةبين الرسل انقطاع الرسالة والوحي، وكذلك كان ارسال محمد(ص) لان بين محمد وبين عهد عيسى(ع)عهدا طويلا، اكثر الناس على انه ستمائة سنة، ولم يرسل في تلك المدة رسول اللهم الا ما يقال عن خالد بن سنان العبسي، ولم يكن نبيا ولا مشهورا»، وقول علي(ع) ايضا عن شرح النهج «حتىتمت بنبينا(ص) حجته، وبلغ المقطع عذره ونذره» وقال في شرحه: قوله وبلغ المقطع عذره ونذره،مقطع الشيء حيث ينقطع ولا يبقى خلفه شيء منه، اي لم يزل يبعث الانبياء واحدا بعد واحد حتى بعثمحمدا(ص) فتمت به حجته على الخلق اجمعين، وبلغ الامر مقطعه اي لم يبق بعده رسول ينتظر وانتهتعذر اللّه ونذره، فعذره ما بين للمكلفين من الاعذار في عقوبته لهم ان عصوه، ونذره ما انذرهم به منالحوادث، وما انذرهم على لسانه من الرسل»
فهل بعد هذا البيان ما يقطع حجة القاديانية على دعوى بقاء الوحي والرسالة بيان اكثر منه وضوحاوجلاء للحق الذي لا ريب فيه.
وبعد فلو اردنا استقصاء كل ما ورد من سلف الامة وخلفها مما هو نص صريح على انقطاع الوحيوالنبوة، لاحتجنا الى اخراج كتاب ضخم، وما اعرض العلماء عن مثل هذا التاليف في هذا المعنى معسعة التاليف. وتعد طرق التآليف وموضوعاتها الا لانها من البداءة بعد تضافر النصوص على سدباب الوحي والنبوات بنبوة خاتم الانبياء والمرسلين، على انهم عرضوا لهذا البحث في مباحثهم الكلاميةومنه الشيء الكثير في مطاوي ابحاثهم في التفسير والحديث، وقد فرغوا من الحكم على مدعي ذلك انهواحد من اثنين: اما ممرور متهوس موسوس، واما متعمد يلتمس من هذا الباب العلو والظهور ومتاعالدنيا وغرورها ومظاهرها الخلابة، وكلاهما لم تقم له هذه الدعوى حتى افتضحت وبدا عوارها وظهرشنارها (فاما الزبد فيذهب جفاء واما ما ينفع الناس فيمكث في الارض) [الرعد/17] وما كانتدعوى القادياني الا كدعوى من تنباوا من الاغمار في مختلف الاعصار، لم تستحق شيئا من عناية العلماءفي دحضها ونقضها، وكفاهم منها انها كانت صرخة في واد وهبوة من رماد، لم تنجل عن وري زناد،ولم تبق منها السوافي غير سحم الاثافي، وللحق العلو والاستعلاء من قبل ومن بعد واللّه غالب علىامره.
الباب الثالث: في التعليق على الفصل الثالث النبوة في خير الأمم
استند صاحب التوضيح على نداء منير الحضي في اثبات بقاء النبوة بزعم القاديانية وعمدة استدلالهآي من الكتاب الحكيم وبعض الاحاديث، اما الايات:
فالاية الاولى: (اللّه يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس) [الحج: 75ج. قال في وجه الاستدلال:فهذا الاصطفاء بصيغة المضارع يدل على الاستمرار.
والاية الثانية: (يا بني آدم اما ياتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى واصلح)[الاعراف/35]. قال: فلفظ ياتينكم يدل على مجيء الرسل في المستقبل.
الاية الثالثة: (رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من امره على من يشاء من عباده) [المؤمن: 15جفلفظ يؤتي وينزل بصيغة المضارع على بقاء الوحي في المستقبل.
الاية الرابعة: (اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي) [المائدة/3].
الاية الخامسة: (ومن يطع اللّه والرسول) [النساء/69] بان كل من يطيع اللّه ورسوله على حسباطاعته ينال مقاما عند اللّه من احدى المقامات الاربعة المذكورة، بلوغ درجات النبيين والصديقينوالشهداء والصالحين، ومن ضمنها النبوة، وان حرف (مع) في هذه الاية يتضمن معنى (من) ايضا، والايكون معنى الاية بان المطيعين للّه والرسول يكونون في مصاحبة المنعمين عليهم ولا يكونون منهم،وفساد هذا المعنى واضح.
والجواب: اما عن الاستدلال بالاية الاولى بان التعبير بالاصطفاء بصيغة المضارع يدل على الاستمرار،فيدفعه ان التعبير عن الماضي بالمستقبل والمستقبل بالماضي هو من سنن اللغة العربية وخصائصها،وجرى القرآن الشريف على هذا التعبير في آيات كثيرة يتعذر علينا احصاؤها، واحصاؤها مؤد الىالتطويل، فنقتصر على ايراد طائفة من اقوال علماء اللسان والبيان في هذا المعنى، مما فيه الدلالةالصريحة على شيوع هذا التعبير في كلام العرب واستعمال القرآن له.
قال ابن هشام في المغني في القاعدة السادسة: «انهم يعبرون عن الماضي والاتي كما يعبرون عن الشيءالحاضر قصدا لاحضاره في الذهن حتى كانه مشاهد حالة الاخبار نحو: (وان ربك ليحكم بينهم يومالقيامة) لان لام الابتداء للحال، ونحو:
(هذا من شيعته وهذا من عدوه) اذ ليس المراد تقريب الرجلينمن النبي(ص) كما تقول: هذا كتابك فخذه، وانما الاشارة كانت اليهما في ذلك الوقت هكذا فحكيت،ومثله: (واللّه الذي ارسل الرياح فنثير سحابا) قصد بقوله سبحانه وتعالى:
(فنثير) احضار تلك الصورةالبديعة الدالة على القدرة الباهرة من اثارة السحاب، تبدو اولا قطعا ثم تتضام متقلبة بين اطوار حتىتصير ركاما، ومنه: (ثم قال له كن فيكون) اي فكان، (ومن يشرك باللّه فكانما خر من السماء فتخطفهالطير او تهوي به الريح في مكان سحيق)، (ونريد ان نمن على الذين استضعفوا في الارض الى قوله آونري فرعون وهامان)»
وقال السعد التفتزاني في شرح التلخيص (المطول): «(ولو ترى اذ وقفوا على النار)، الخطاب لمحمد(ص)او لكل من يتاتى منه الرؤية، وكذلك قوله تعالى: (ولو ترى اذ الظالمون موقوفون عند ربهم) (ولو ترىاذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم) لتنزيل المضارع منزلة الماضي بصدوره اي المضارع او الكلام عمن لاخلاف في اخباره، فالمستقبل الذي اخبر عنه بوقوعه بمنزلة الماضي المتحقق، او لاستحضار الصورةيعني صورة رؤية الكافرين قائلين: (يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا) وكذا صورة الظالمينموقوفين عند ربهم والمجرمين ناكسي رؤوسهم متقاولين بتلك المقاولات، كما قال اللّه تعالى:
(فتثيرسحابا)بلفظ المضارع بعد قوله تعالى: (الذي ارسل الرياح) استحضارا لتلك الصورة البديعة الدالة علىالقدرة الباهرة».
وقال ابن فارس في كتابه الصاحبي: (باب الفعل ياتي بلفظ الماضي وهو راهن او مستقبل، وبلفظالمستقبل وهو ماض)، واورد على ذلك شواهد منها: (اتى امر اللّه فلا تستعجلوه) اي ياتي ويجيء بلفظالمستقبل وهو ماض، قال الشاعر:
[فولقد امر على اللئيم يسبني فمضيت عنه وقلت: لا يعنينيفقال: امر، ثم قال: ومضيت، وفي كتاب اللّه جل ثناؤه: (فلم تقتلون انبياءاللّه من قبل) وقال:
(واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) اي ما تلت، ومثله: (وقالت اليهودوالنصارى نحن ابناء اللّه واحباؤه قل فلم يعذبكم) المعنى فلم عذب آباءكم بالمسخ، لان النبي(ص) لميؤمر بان يحتج عليهم بشيء لم يكن، لان الجاحد يقول: اني لا اعذب لكن احتج عليهم بماكان»
وقال الثعالبي في كتابه (فقه اللغة): فصل (في الفعل ياتي بلفظ الماضي وهو مستقبل وبلفظ المستقبل وهوماض)، اما الاول فمثل له بقوله تعالى: (اتى امر اللّه فلا تستعجلوه). والثاني بقوله تعالى: (فلم تقتلونانبياء اللّه من قبل) وقوله تعالى:
(واتبعوا ما تتلو الشياطين) اي ما تليت.
وقال ابن الاثير في المثل السائر: «اعلم ان الفعل المستقبل اذا اتي به في حالة الاخبار عن وجود الفعل،كان ذلك ابلغ من الاخبار بالفعل الماضي، وذلك لان الفعل المستقبل يوضح الحال التي يقع فيهاويستحضر تلك الصورة حتى كان السامع يشاهدها، وليس كذلك الفعل الماضي، الى ان قال:
عطفالمستقبل على الماضي ينقسم الى ضربين: احدهما بلاغي وهو اخبار عن ماض بمستقبل، والاخر غيربلاغي وليس اخبارا بمستقبل عن ماض، وانما هو مستقبل دل على معنى مستقبل غير ماض ويراد بهان ذلك الفعل مستمر الوجود لم يمض، فالضرب الاول كقوله تعالى: (واللّه الذي ارسل الرياح فتثيرسحابا فسقناه الى بلد ميت فاحيينا به الارض بعد موتها كذلك النشور) [فاطر/9].
فانه انما قال فتثير مستقبلا وما قبله وما بعده ماض، لذلك المعنى الذي اشرنا اليه هو حكاية الحالالتي يقع فيها اثارة الريح السحاب واستحضار تلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الباهرة، وهكذايفعل بكل فعل فيه نوع تمييز وخصوصية كحال تستغرب او تهم المخاطب او غير ذلك، واورد شواهدعلى ذلك.
واما الضرب الثاني الذي هو مستقبل، فكقوله تعالى: (ان الذين كفروا ويصدون عن سبيل اللّه) [الحج/25] فانه انما عطف المستقبل على الماضي، لان كفرهم كان ووجد ولم يستجدوا بعده كفرا ثانياوصدهم متجدد على الايام لم يمض كونه، وانما هو مستمر يستانف في كل حين، وكذلك ورد قولهتعالى: (الم تر ان اللّه انزل من السماء ماء فتصبح الارض مخضرة ان اللّه لطيف خبير) [الحج/63] الاترى كيف عدل عن لفظ الماضي ههنا الى المستقبل، فقال: فتصبح الارض مخضرة ولم يقل فاصبحتعطفا على انزل، وذلك لافادة بقاء اثر المطر زمانا بعد زمان، فانزال الماء مضى وجوده واخضرارالارض باق لم يمض.
هذا خلاصة ما ذكره ائمة اللسان والبيان وجهابذة البلاغة في معنى اختلاف التعبير باختلاف ما يعبرعنه حقيقة ومجازا واستعارة وكناية لاعتبارات خطابية واسرار بيانية، وبمراعاة تلك الاعتباراتتفاوتت ضروب الكلام وكشفت الاستار عن وجوه اعجاز القرآن، ومن اوتي شيئا من الذوق البيانيوعلما من الاسلوب القرآني وانعم النظر وامعن الفكر في هذه الخلاصة التي احتوت على بيان الحكمة فيالتعبير عن الماضي، بلفظ المستقبل وبلفظ المستقبل عن الماضي يظهر له جليا ان التعبير بلفظ يصطفيبدلا من لفظ اصطفى لحكمة ظاهرة، وهي ان الاية رد لما انكره المشركون من ان يكون الرسول منالبشر، وبيان ان رسل اللّه على ضربين ملائكة وبشر، ولما كان الغرض من اصطفاء الرسل من الضربينوهو التكليف بما يصلح البشر في المبدا والمعاد مستمرا واثره باقيا، اقتضت البلاغة والحكمة التعبير عنالاصطفاء بلفظ المستقبل لا بلفظ الماضي لاستمرار التكليف وبقاء اثره، فهو كمثل التعبير في الايةفتصبح مخضرة بلفظ المستقبل دون الماضي، فاصبحت لبقاء اثر المطر زمانا بعد زمان، فانزال الماء مضىوجوده واخضرار الارض باق غير ماض.
وعن الاية الثانية (يا بني آدم اما ياتينكم رسل منكم) بوجوه:
1 ان يراد من اتيان الرسل استمرار شرائعهم واستمرار تكليف بني آدم باتباعها والعمل بها، سواء منعاصر الرسل او عاصر اوصياءهم في زمن الفترة بين رسول ورسول وزمن تواتر ارسال الرسل او منختمت في ازمانهم النبوات والرسالات، ومثل هذا الاستعمال في لغة العرب واسلوب الكتاب الحكيممستفيض، وتقدم ما يكفينا عن الاعادة من جواز مثل هذا الاستعمال.
2 ان الظاهر من لفظ (يقصون عليكم آياتي) من سلف من الرسل ممن قصوا آيات اللّه عز وجل علىاممهم الذين ارسلوا اليهم وبينوا احكامه، وتم ذلك البيان وانتهت الحجة بخاتمهم محمد(ص) وهو الذيتحقق فيه وفي رسالته الخالدة الباقية ما بقيت السموات والارض مضمون الاية: (وتمت كلمة ربكصدقا وعدلا لا مبدل لكلماته) [الانعام/115] اي (وتمت كلمة ربك) بالاحكام والمواعيد (صدقاوعدلا لا مبدل لكلماته) بنقض او خلف، وبشمول الخطاب (يا بني آدم)، لمن عاصر رسالته ولمنبعدهم عبر بلفظ ياتينكم بالمستقبل لاستمرار رسالته واستمرار التكليف بها.
3 ان هذا التعبير وان كان ظاهره الاستقبال فيجوز ان يكون معدولا به عن الماضي، استحضارا لما فيقصص الانبياء من الاعتبار بآيات اللّه وهي لما فيها من العبر والعظات والتذكر بايام اللّه فيمن انحرفعن سننه التي لا تتبدل، ولما فيها من الروعة وزجر النفوس الجامحة المسترسلة لاهوائها عن مخالفةتلك السنن، وتوقع ان يصيبها ما اصاب امم تلك الرسل من المثلات كان من البلاغة العدول عنالتعبير بلفظ الماضي الى لفظ المستقبل، على ان وصف الرسل في الاية بالقاصين آيات اللّه يدل علىبطلان دعوى ارسال الرسل بعد محمد(ص) لانه اتى بالذكر الحكيم مجتمعة فيه قصص الانبياء وما قصهمن آيات ربه مستكملة جامعة، فلم يبق منها شيء مجهول يحتاج الى من يبينه بعد الرسول.
واذا ضم الى هذه الوجوه النص والاجماع من المسلمين على انسداد باب الرسالات والنبوات، وبماسلف من الدليل على انقطاع الوحي، وبما سناتي به من دليل ساطع وبرهان لامع على انقطاع النبوة لميبق لاحتجاج صاحب التوضيح محصل، على ان تلك الاحتمالات القائمة في تاويل الاية والتي تؤيدهاالشواهد الكثيرة من كلام البلغاء ومن القرآن المجيد كان في بطلان احتجاجه.
وعن الاية الثالثة: (رفيع الدرجات ذو العرش) [غافر/15] مر في تفسير هذه الاية في باب الوحيص87.
وعن الاية الرابعة: (اليوم اكملت لكم دينكم) [المائدة/3] هي على عكس دعواه ادل واليك مافسرت به.
ففي انوار التنزيل للبيضاوي: («اليوم اكملت لكم دينكم) بالنصر والاظهار على الاديان كلها اوبالتنصيض على قواعد العقائد والتوقيف على اصول الشرائع وقوانين الاجتهاد (واتممت عليكمنعمتي)بالهداية والتوفيق، او باكمال الدين، او بفتح مكة وهدم منار الجاهلية».
وفي الكشاف: «(اكملت لكم دينكم) كفيتكم امر عدوكم وجعلت اليد العليا لكم، كما تقول الملوك:اليوم كمل لنا الملك وكمل لنا ما نريد اذا كفوا من ينازعهم الملك ووصلوا الى اغراضهم ومباغيهم، اواكملت لكم ما تحتاجون اليه في تكليفكم من تعليم الحلال والحرام والتوقيف على الشرائع وقوانينالقياس واصول الاجتهاد (واتممت عليكم نعمتي) بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين، وهدم منارالجاهلية ومناسكهم، وان يحج معهم مشرك».
وفي مجمع البيان: «(اليوم اكملت لكم دينكم) قيل: فيه وجوه:
الاول: ان معناه اكلمت لكم فرائضيوحدودي وحلالي وحرامي بتنزيلي ما انزلت وبياني ما بينت لكم، فلا زيادة في ذلك ولا نقصان منهبالنسخ بعد هذا اليوم. الثاني: ان معناه اليوم اكملت لكم حجكم وافردتكم بالبلد الحرام تحجونه دونالمشركين، ولا يخالطكم مشرك. الثالث: ان معناه اليوم كفيتكم الاعداء واظهرتكم عليهم كما تقول:الان كمل لنا الملك وكمل لنا ما نريد بان كفينا ما كنا نخافه.
والمروي عن الامامين ابي جعفر وابي عبداللّه(ع) انه انما انزل بعد ان نصب النبي(ص) عليا(ع) علماللانام يوم غدير خم منصرفة عن حجة الوداع، قالا: وهو آخر فريضة، انزلها اللّه تعالى ثم لم ينزلبعدها فريضة الى كلام بهذا المضمون لا يتعلق لنا به غرض في هذا البحث.
فانت ترى من اقوال هذا الفريق من المفسرين ما هو صريح في عكس ما يفسر به الاية صاحبالتوضيح.
وعن الاية الخامسة: (ومن يطع اللّه ورسوله) [النساء/69] بانها لا تدل على دعواه، واليك ما جاءفي تفسيرها وسبب نزولها، ففي الكشاف: «وهذا ترغيب للمؤمنين في الطاعة حيث وعدوا مرافقة اقربعباد اللّه الى اللّه وارفعهم درجات عنده، الى ان قال: وروي ان ثوبان مولى رسول اللّه(ص) كان شديدالحب لرسول اللّه(ص) قليل الصبر عنه، فاتاه يوما وقد تغير وجهه ونحل جسمه وعرف الحزن فيوجهه، فساله رسول اللّه(ص) عن حاله، فقال: يا رسول اللّه ما بي من وجع غير اني ان لم ارك اشتقتاليك واستوحشت وحشة شديدة حتى القاك، فذكرت الاخرة، فخفت ان لا اراك هناك، لاني عرفتانك ترفع مع النبيين، وان ادخلت الجنة كنت في منزل دون منزلك، وان لم ادخل فذاك حين لا اراكابدا، فنزلت فقال رسول اللّه(ص):
«والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى اكون احب اليه من نفسهوابويه واهله وولده والناس اجمعين، وحكي ذلك عن جماعة من الصحابة»
وعن البيضاوي في كتابه انوار التنزيل: «مزيد ترغيب في الطاعة بالوعد عليها مرافقة اكرم الخلائقواعظمهم قدرا (من النبيين) بيان (للذين) او حال منه، او من ضمير (عليهم)، قسمهم اربعة اقسامبحسب منازلهم في العلم والعمل وحث كافة الناس على ان لا يتاخروا عنهم، وهم الانبياء الفائزونبكمال العلم والعمل المتجاوزون حد الكمال الى التكميل، ثم الصديقون ثم الشهداء ثم الصالحون، وبينمزايا كل قسم منهم، ثم اورد الرواية السابقة في سبب نزول الاية».
وعن مفاتيح الغيب للرازي بعد ان ذكر روايات في اسباب نزول الاية قال: «قال المحققون: لا ينكرصحة هذه الروايات الا ان سبب نزول الاية يجب ان يكون شيئا اعظم من ذلك وهو البعث علىالطاعة والترغيب فيها»((118))، ثم اطال البعث فيما لا يخرج عن معنى مرافقة المطيع للّه ورسولهللانبياء والشهداء والصديقين والصالحين في الجنة في الدار الاخرة لا انه يبلغ بها احدى المقاماتالاربعة ومنها درجة النبوة كما يريد صاحب التوضيح.
وعن مجمع البيان: «(ومن يطع اللّه) بالانقياد لامره ونهيه، (والرسول) باتباع شريعته والرضا بحكمه(فاولئك مع الذين انعم اللّه عليهم) في الجنة، ثم بين المنعم عليهم، فقال: (من النبيين والصديقين) يريدانهيستمتع برؤية النبيين والصديقين وزيارتهم والحضور معهم، فلا ينبغي ان يتوهم من اجل انهم في اعلىعليين انه لا يراهم، وقيل في معنى الصديق: المصدق بكل ما امر اللّه به وبانبيائه لا يدخله في ذلكشك، (والشهداء) يعني المقتولين في الجهاد، (والصالحين) معناه صلحاء المؤمنين الذين لم تبلغ درجتهمدرجة النبيين والصديقين والشهداء، الى ان قال: وروى ابو بصير عن ابي عبداللّه(ع) انه قال: «يا ابامحمد لقد ذكركم اللّه في كتابه ثم تلا هذه الاية، وقال: فالنبي رسول اللّه(ص) ونحن الصديقون والشهداءوانتم الصالحون، فتسموا بالصلاح كما سماكم اللّه تعالى» وهذا ما فهمه هؤلاء المفسرون من الاية، وهو ما يفهمه منها كل من له ادنى ذوق في فهم اساليبالكلام واقل انس بالتفسير، وليست الاية من المجملات ولا المتشابهات ليكون فيها مجال للتاويل.
اما قوله: ان (مع) متضمنة (من) ففيه:
1 لم يقل احد من المفسرين الذين نرجع الى كتبهم في كتابة هذا الرد بهذا التضمين في تفسير هذهالاية، كما انه لا داعي له كما سنرى قريبا.
2 لم نجد في كتب اللغة التي هي في متناولنا كالقاموس والمصباح والمخصص ولا في فقه اللغة(الصاحبي) لابن فارس والمغني لابن هشام نصا على مرادفة (من) ل(مع) ففي القاموس: («مع) اسم وقديسكن وينون، او حرف خفض، او كلمة تضم الشيء الى الشيء وتكون بمعنى (عند)»
وفيالمغني: («مع) اسم بدليل التنوين في قولك: (معا)، ودخول الجار في حكاية سيبويه، ذهبت من (معه)الى ان قال:
ولها حينئذ ثلاثة معان: احدها موضع الاجتماع، الثاني: زمانه، الثالث: مرادفة(عند)». وفي المصباح (مع) ظرف على المختار بمعنى (لدن) لدخول التنوين نحو خرجنا معا،ودخول (من) عليه نحو جئت من معه اي من عنده.
3 ان مورد الاية ليس من موارد التضمين، واليك ما ذكره علماء العربية من معناه، فقد قالوا: انهاجراء احكام لفظ على آخر يدل على معناه، وقيل: هو اشراب لفظ معنى لفظ آخر ليعطي حكمه ويدلعلى الثاني بذكر شيء من متعلقاته، او حذف شيء من متعلقات الاول، كما قال صاحب الكشاف:«انهم يضمنون الفعل معنى فعل آخر فيجرونه مجراه». وقال ابن جني في الخصائص: «اعلم ان الفعل اذاكان بمعنى فعل آخر وكان احدهما يتعدى بحرف والاخر بآخر، فان العرب قد تتوسع فتوقع احدالحرفين موقع صاحبه ايذانا بان هذا الفعل في معنى ذلك الاخر، فلذلك جيء معه بالحرف المعتاد معما هو في معناه، وذلك كقوله تعالى: (الرفث الى نسائكم) وانت لا تقول:
رفثت الى المراة، وانما تقول:رفثت بها او معها، لكنه لما كان الرفث هنا بمعنى الافضاء وكنت تعدي افضيت بالى، كقولك:
افضيتالى المراة جئت بالى مع الرفث ايذانا واشعارا بانه بمعناه هذا الى كلام طويل»، نحيل صاحب التوضيحعلى مراجعته في كتاب طراز المجالس للخفاجي.
4 لا نسلم ان حمل (مع) على المصاحبة مفسد للمعنى اولا: لما اوردناه من كلمات المفسرين في معنىالاية، وثانيا: لجواز ان يراد مع معنى المصاحبة التبعيض، فان من كان من المطيعين للّه والرسول وكانمع المنعم عليهم بسبب الطاعة صح ان يكون معهم ومعنى جملتهم باللازم، ولا يكون من باب التضمينولا من مرادفة (من) ل(مع) وان نسب هذا القول لمجهول وكانه ناظر بزعمه التضمين او الترادف، الى ماجاء في مجمع البيان في تفسير الاية: (يا ايها الذين آمنوا اتقوا اللّه وكونوا مع الصادقين)[التوبة/119] من جمعه بين هذه القراءة وقراءة من قرا (من الصادقين) بان (مع) للمصاحبة و(من)للتبعيض، فاذا كان المطيعون من جملتهم فهم معهم، على ان هذا التخريج المبني على تلك القراءة في هذهالاية لا يثبت مطلوب صاحب التوضيح، غاية ما في الباب انه يثبت كونه من اصحاب تلكالدرجات، اي من بعضهم في الثواب والقرب لا انه مستجمع لتلك الدرجات كلها النبوة والشهادةوالصدق والصلاح، ويكون من قبيل قولهم: خادم القوم منهم، واذا صح ان يكون جامع صفة منصفات اصحاب تلك الدرجات كالشهادة والصدق والصلاح مندرجا فيهم، فلا يصح ذلك في النبوةلثبوت انقطاعها بالنص والاجماع، وفي هذا كفاية ومقنع للمنصف.
واما استدلاله بالاحاديث الحديث الاول: فمن ذلك حديث (مثلي ومثل الانبياء من قبلي كمثل رجل بنى دارا)...
قال: فلا يدل على انقطاع النبوة بعده، لان هذا المثال انما ذكره رسول اللّه(ص) في مقابلة الانبياء الذينجاؤوا قبله، ولكن يدل الحديث على ان عيسى(ع) توفي ولا يرجع الى هذا العالم ابدا، لانه لا حاجة الىاخراج لبنة من الدار اي عيسى(ع) وارساله مرة اخرى، والا نضطر للاعتقاد بان الدار ناقصة والذييكملها ويجعلها احسن هو عيسى(ع).
وثانيا: ان المراد من هذا المثل ان نبوة الانبياء من حيث الشريعة ومن حيث انهم كانوا يرسلون الىاقوام مخصوصة لم تكن بالغة الى نهايتها، فتمت مراتب النبوة ببعثة نبينا(ص) ولم تبق مرتبة يمكن للبشرالحصول عليها الا ونالها محمد(ص) فالذي ياتي بعده هو يكون من اتباعه.
ثالثا: نعم نعتقد بانه لا ياتي بعده نبي مستقل كالانبياء السابقين، بل اذا اتى يكون تحت حكم شريعتهومن امته، فنبوته ليست غير نبوة محمد(ص) بل هي عينها كما قال المسيح الموعود:
(وليست نبوتي الا نبوته، وليس في جبتي الا انواره واشعته، ولولاه لما كنت شيئا يذكر)الخ..
والجواب:
1 ان هذا الحديث الذي استنتج منه نبوة صاحبه بهذا التمحل الغريب ولم يذكره بتمامه، نرى لزاما عليناايراده بحرفه، فقد اخرج البخاري في صحيحه مسندا الى جابر بن عبداللّه قال:
قال النبي(ص): «مثليومثل الانبياء كرجل بنى دارا فاكملها واحسنها، الا موضع لبنة، فجعل الناس يدخلونها ويعجبونويقولون: لولا موضع اللبنة». ثم خرج رواية اخرى مسندة الى ابي هريرة.. ان رسول اللّه(ص)قال: «ان مثلي ومثل الانبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فاحسنه واجمله الا موضع لبنة من زاوية،فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة، قال: فانا اللبنة وانا خاتمالنبيين».
فانت ترى من مجموع الروايتين على اختلاف سنديهما ما هو صريح باكمال الدار وتحسينها وتجميلهاوسد فراغ اللبنة به(ص) بقوله: فانا اللبنة، وبما هو ابين واصرح من قوله(ص):
وانا خاتم النبيين، وهذاهو المقصود من هذا المثال، وان النبيين اختتموا بنبوته لا انه زينتهم، وهذا ما يفهمه كل عارف باساليبالكلام.
2 انه عدل عن ظاهر الحديث الدال على انقطاع النبوة الى تفسيره بمعنى غير مفهوم من لفظه، بقوله:لان هذا المثال انما ذكره رسول اللّه(ص) في مقابلة الانبياء الذين جاؤوا قبله.
لم نجد محصلا لحمل الحديث على معنى المقابلة، لان المقابلة بمعنييها اللغويين المواجهة والمعارضة، لامورد لواحد منهما في هذا المقام كما هو بين، وكذلك الحال في حمل المقابلة على معنى التقابلالاصطلاحي ففي التعريفات للجرجاني: «المتقابلان هما اللذان لا يجتمعان في شيء واحد من جهةواحدة قيد بهذا ليدخل المتضايفان في التعريف، والمتقابلان اربعة اقسام: الضدان والمتضايفانوالمتقابلان بالعدم والملكة، والمتقابلان بالايجاب والسلب».
وشيء من ذلك غير مفهوم من الحديث وانما المفهوم منه وهو غير ما فهمه بالطبع ان اللّه عز وجلارسل الرسل الى الامم مبشرين ومنذرين على حسب استعدادهم لقبول شرائعه، مع مراعاة سنن الترقيفي عقولهم وفي مجتمعاتهم، وقبولهم تلك الشرائع حسب تدرجهم في الرقي في مختلف العصور، الى اناستكملوا رشدهم وبلغوا اشدهم واصبح في استطاعتهم ان يقبلوا تشريعا حكيما نافذا حكمه فيهم وفيمنيليهم ومن بعدهم الى قيام الساعة، فكان ذلك التشريع الاسلام وكان المخصوص بالاضطلاع باعبائهنبي الاسلام عليه افضل الصلاة والسلام، فبشريعته استكملت الشرائع وكانت موردا عذبا مستساغالكافة الانام، فبرسول اللّه(ص) اكملت الدار وهي الشريعة العامة الخالدة بخلود الذكر المبين، وسد ذلكالفراغ من تلك الدار باللبنة وهو محمد(ص) وهو خاتم المرسلين، هذا هو المفهوم من هذا المثال.
3 ان من التحكم المحض قوله: (ولكن يدل الحديث على ان عيسى(ع) توفي ولا يرجع الى هذا العالمابدا، لانه لا حاجة الى اخراج لبنة من الدار) الخ..
اما اولا: فلان عيسى(ع) لم يرد له ذكر في هذا الحديث ولا يدل عليه بدلالة من احدى الدلالات،وبذلك تشفي اللوازم التي رتبها عليه، وهي وفاته وعدم رجوعه الى العالم واخراج لبنة من الدار،وارساله مرة اخرى، والاضطرار الى الاعتقاد بان الدار ناقصة والذي يكملها ويجعلها احسن هوعيسى(ع) على ان اللازم الاخير يلزمه بان الدار ناقصة، وان الذي يكملها ويجعلها احسن هو مسيحهالموعود وما يكون جوابه فهو جوابنا.
واما ثانيا: فانا نعترف بصحة ما فسر به الحديث في الوجه الثاني، من ان المراد من هذا المثل ان نبوةالانبياء من حيث الشريعة ومن حيث انهم كانوا يرسلون الى اقوام مخصوصة لم تكن بالغة الى نهايتها،وان مراتب النبوة تمت ببعثة نبينا(ص) وان من ياتي بعده يكون من اتباعه، ولكنا لا نعترف بانه المسيحالهندي بل هو المسيح عيسى ابن مريم والمهدي، لورود الحديث الصحيح والاثر وتواتر الخبر برجوعالمسيح وخروج المهدي (ع).
واما ثالثا: فانا نعتقد كما يعتقد بانه لا ياتي بعده نبي مستقل كما ذكر في الوجه الثالث، وانه اذا اتى يكونتحت حكم شريعته، ولكن لا نسلم انه من امته وانه المسيح الهندي، بل هو المسيح عيسى ابنمريم(ع) ونبوته، هي عين نبوته، كما نعتقد بظهور المهدي على ما جاء في الجواب الثاني.
واما رابعا: فان تمام مراتب النبوة وانتهاءها اليه(ص) كما هو الواقع وكما يعترف به صاحب التوضيح،يدلان على انقطاع النبوة بعده والاستغناء عن الانبياء، سواء اكانوا مستقلين ام كانوا تابعين لشريعتهحيث كان لها حملة وعليها حفظه من امته، وهم كانبياء بني اسرائيل مضطلعون باعبائها غير مفرطينباحكامها، بدون دعوى النبوة التي لو كانت مما يقع في الاسلام بعد نبي الاسلام لكان من مصلحةالمسلمين بل من ضرورات الدين ان يرد نص ببقائها ووقوعها وان لا يسكت النبي(ص) عن بيان ذلكوهو احوج ما يكون الى البيان، اما ولم يكن شيء من ذلك ولا حدث ادعاء احد من اعلام المسلمينفي مختلف العصور هذا المنصب حاشا بعض الغلاة، فانه يضرب بدعوى كل مدع له عرض الحائط،واما اعتقاد من يعتقد منهم رجوع المسيح في آخر الزمان وظهور المهدي او رجوع المسيح عاملابشريعة محمد(ص) فلما صح عنده من حديث وخبر وفرق بين الامرين.
4 ان لفظ الانبياء في الحديث عام لكل نبي، سواء اكان مستقلا بشريعة ام كان تابعا لنبي صاحبشريعة، ويستفاد من المثل ان كل نبي لبنة من الدار او البيت وان اللبنة الاخيرة التي استكمل بها بناءالدار هو محمد(ص) فلم تحتج الى لبنة او لبنات اخرى تتم بها، ولو صح بعثة انبياء بعده ولو كانواتابعين له للزم ان لا يكون قد تم بناؤها، وان كل نبي يرسل بعده هو لبنة من لبناتها. واما قوله: فكما انالصديقين والشهداء والصالحين داخلون في هذه اللبنة كذلك انبياء الامة لكونهم تابعين لمحمد(ص)ففيه ان لفظ الانبياء خاص بالانبياء، فكيف يشمل الصديقين والشهداء والصالحين وهم غير الانبياءبالطبع، كما عرفت ذلك في الاية (ومن يطع اللّه ورسوله) [النساء/69] هذا اولا، وثانيا: لو صحشموله لهم لكانوا كلهم انبياء، فلم اختص المسيح الهندي وحده باسم النبي؟ وثالثا: لم يلح لنا وجه فيكيفية دخول انبياء الامة في اللبنة التي تم بها بناء الدار، وهي وحدة لا تقبل الانقسام الا الى الجواهرالمفردة او الالكترونات او الفوتونات، ولو كان هذا المراد من الحديث وهو ما لم تحتمله الفاظه، لكانمن اللازم ان لا يخص النبي(ص) نفسه بانه هو اللبنة، ولعبر عن ذلك بانه هو وامته اللبنة والا فظاهراللفظ لا يدل الا على اختصاصه بها وحده.
واما قوله: وان هذا الحديث يؤيد ما ذهبنا اليه في تفسير خاتم النبيين، اي انه كالخاتم لهم يختمون بهويتزينون بكونه منهم، لان الفاظ الحديث واضحة بان محمدا(ص) ملا البيت زينة وبهاء وزاده حسناوجمالا، ففيه انه لو اريد من الفاظ الحديث هذا المعنى لم يكن للتعبير بقوله: فاكملها وحسنها الا موضعلبنة محصل، لان الدار قد اكملت وحسنت، على ان التعبير ب(الا) موضع لبنة (وانا) اللبنة يدل دلالةصريحة على اكمال بناء الدار به لا على زينتها.
هذا هو المفهوم من الفاظ الحديث وهذا ما يجب حمله عليه عند كل من له مسكة في فهم اساليبالكلام.
بقي امر مهم جدا له صلته بالبحث عن الحديث لا يسعنا اغفاله، وفيه الزامات لا مفر منها للقاديانيوتابعه صاحب التوضيح.
ان قوله: ان في امة محمد(ص) انبياء تابعين له وهو من لوازم القول ببقاء النبوة منته الى لوازم لابدمنها:
1 ظهور انبياء بعد النبي(ص) معروفين باعيانهم واسمائهم وبمؤيدات نبوتهم.
2 على اصحاب هذه المقالة ان يكونوا على علم تام من امر اولئك الانبياء ووقوف على ما تركوا منآثار نبوتهم ودلائلها.
3 على فرض ارسال اولئك الانبياء المزعومين برسالات كرسالة القادياني، فان من لوازم انكارنبوتهم تكفير المنكرين لها كما هو مذهب القادياني، ويحكم به على منكري نبوته.
4 ان المسلمين كافة من سلف منهم ومن خلف على اختلاف مذاهبهم وتعدد فرقهم محكوم عليهم منالقادياني بالكفر، لانهم يعتقدون انقطاع النبوة وينكرون نبوته البتة، وان الاسلام (ماركة) مسجلة علىالمنصورية الغلاة المنقرضين القائلين ببقاء النبوة وعلى القاديانيين.
5 فالنتيجة اذا ان المسلمين هم هذا العدد الضئيل ومن عداهم وهم مئات الملايين خارج عن حظيرةالاسلام، ومثلهم في شمول هذا الحكم لهم من سلف من المسلمين في مدى ثلاثة عشر قرنا ونيف، لايستثنى من ذلك الصحابة ولا التابعون وتابعو التابعين وائمة اهل البيت وائمة المذاهب الاربعة، لانهم لميعتقد منهم احد ببقاء النبوة بعد خاتم النبيين(ص) وهل هذا من آية ظهور دين الاسلام على الدينكله؟ وهل يستفاد من ظهوره على الدين كله ضآلة تابعيه وانحصاره في القادياني واتباعه؟ 6 ان هذا الزعم العجيب مؤد الى مخالفة النهي الصريح المجمع عليه من المسلمين عن تكفير اهل القبلة،وهو ما تحاشاه ائمة المسلمين على اختلاف مللهم، ولئن بدع اهل كل ملة من خالفهم فانهم لم يجرؤواعلى الحكم بخروجهم عن ربقة الاسلام، بل قالوا باسلامهم وبعذر مخالفيهم المتبنية مخالفته علىالاجتهاد الماجور عليه المصيب والمخطىء، وللايمان والكفر حدود منصوص عليها في مظانها لا يضلبها الكلام.
وليت صاحب التوضيح وهو واتباع القاديانية يرون تكفير عامة المسلمين لم يستعظم قول من يقولبتكفير ارباب نحلتهم، ومن قال قولا قيل فيه بمثله، على ان المسافة بين القولين بعيدة جدا، وسنعرضالى هذا البحث في موضعه من هذا الكتاب فانتظره.
اما تتمة كلامه في هذا البحث فلا نهتم بنقضها، لان ردودنا شاملة لها وما هي الا رشحة من اناءالمتصوفة المتطرفة، ولكنه جرى بما اورده من كلام صاحبه في التدليل على نبوته على غير طريقتهم،فانهم اصحاب رموز واشارات وتهوس وشطحات، وقد لا تبين مقاصدهم من مطاويها، وليس المجالبمتسع للافاضة في مباحث خارجة عن موضوعنا تشذ عنه، وهو ما ينطبق على رغبات الاحمديةالذين من اقصى امانيهم اتساع دائرة الجدل وتشعبه الى شعب كثيرة.
الحديث الثاني: الذي استدل به على نبوة صاحبه، ما رواه الدارمي عن ابن عباس قال: قال رسولاللّه(ص): «انا اول من ياخذ بحلقة الجنة فيفتحها ومعي فقراء المؤمنين، وانا يد الاولين والاخرين منالانبياء النبيين ولا فخر»((125)).
وجه الاستدلال ان من النبيين بيان للاولين والاخرين ولازمه بقاء النبوة وظهور انبياءبعده(ص).
ولنا في نقضه وجوه:
1 الشك في صحة هذا الحديث المرفوع الذي لم يبين رجال سنده هذا اولا، وثانيا: ان البخاري لميخرج هذا الحديث في صحيحه ولا رواه محدثو الامامية، وذلك ما يقوي الشك في صحته.
2 على فرض صدوره فانه لا مناص من تاويله بعد قيام الدليل والاجماع على انقطاع النبوة، من انيراد من النبيين الاخرين عيسى ومن ارسل في الفترة بينه وبين محمد(ص) على القول ببعثة رسل فيها،والا فهو محمول على عيسى(ع).
3 ان مورد الحديث خاص في دار الجزاء وهي الدار الاخرة، وبيان ما للنبي(ص) والمطيعين من امتهمن المنزلة الباذخة التي لا يساهمها فيها ساهم من النبيين واممهم، وهي انه اول من ياخذ بحلقة الجنةويفتحها، وانه سيد الاولين منهم من اولي العزم وغير اولي العزم، الى زمن موسى(ع) والمتاخرين ممنبعث منهم بعده وآخرهم عيسى من اولي العزم ومن ارسل بعده في الفترة على القول به الى زمن خاتماولي العزم والنبيين كافة، فهؤلاء هم المتاخرون واولئك المتقدمون، وهو آخرهم واولهم دخولا الىالجنة وسيدهم اجمعين.
ولا معنى لحمل هذا المورد الخاص الذي ورد به الحديث في بيان حاله وحالة امته في دار الثوابوالجزاء على العموم.
4 ويمكن ان يراد من المتاخرين المسيح، بناء على القول بعودته تابعا لشريعة محمد عاملا بها في آخرالزمان، كما استفاضت بذلك الرواية وتواتر الخبر، وبخروج مهدي آل محمد كما هو مستفيض خبره منطريقي السنة والشيعة.
5 وبما علقناه على احتجاجه في الحديث الاول من اثبات انقطاع النبوة بما لا مزيد عليه توهينللاحتجاج بهذا الحديث، فراجعه وهو قريب.
الحديث الثالث: ما رواه مسلم والبخاري في صحيحيهما:
«يبعث دجالون كذابون قريب منثلاثين»، استدل بهذا الحديث على نبوة صاحبه، ووجه استدلاله انه قال: كتب صاحب اكمالالاكمال في شرح صحيح مسلم في سنة 828 ما نصه، هذا الحديث قد ظهر صدقه، فانه لو عد من تنبامن زمنه(ص) لبلغ هذا العدد، وعقب هذا الكلام بقوله: وان تعيين العدد يدل على امكان مجيء نبيصادق، والا لقال(ص) ان كل من يدعي النبوة يكون كذابا دجالا بدون ان يذكر عددا معينا.
ولنا في نقض هذا الاستدلال وجوه:
1 ان الحديث وارد مورد الخبر عما سيحدث في امته بعده من محدثات، فهو كاخباره عن افتراقها الىثلاث وسبعين فرقة، ولما كان هذا الخبر على اطلاقه يفيد احد امرين: اما هلاك تلك الفرق كلها وامانجاتها كلها، وكلا الامرين على الاطلاق غير مراد قطعا، فكان المقام مقام بيان فابان(ص) ان الناجيةفرقة واحدة والباقون في النار. ولو كان يراد من الحديث الذي نحن بصدده الخبر عن بعث دجالينكذابين قريب من الثلاثين كلهم مدع للنبوة وعن بعثة انبياء صادقين، وانه لم يرد منه مجرد الخبر عنادعاء مثل ذلك العدد من الدجالين الكذابين النبوة، لكان المقام مقام ان يبين وان يقول(ص) ويبعثانبياء صادقون، ولو كان ارسال النبيين بعده(ص) مما يمكن وقوعه، لكان من تمام الحجة ومن باب لطفهتعالى بعباده التصريح باسمائهم او باوصافهم، فحيث لم يقع ذلك والمقام يقتضي البيان، فلم يكن ارسالالنبيين مما سيقع ابدا على ان البيان كان على العكس بصريح الاية (ولكن خاتم النبيين) والحديث «لانبي بعدي» وبما سيجيء بعد.
2 أن غاية ما يدل عليه الحديث هو دعوى دجالين كذابين قريب من ثلاثين للنبوة وهو المنطوق وعلى المفهوم بناء على أن لهذا العدد مفهوما أنهم ليسوا بأقل من هذا العدد ولا بأكثر منه، ولا تفهم منه الدلالة على إمكان مجيء نبي صادق ولو كان ذلك مراد القال وسيبعث نبي صادق أو أنبياءصادقون.
3 إن بعث الدجالين الكذابين بالنبوة الكاذبة هو مجاز عن إدعائهم الكاذب ، وهو غير موضوع بعثالأنبياء الصادقين الذي هو من اللّه تعالى، ولا ملازمة بين الموضوعين، فالأخبار عن أحدهما لا يستلزم الإخبار عن الآخر، وإنما تتم الملازمة إذا صح أن الباعث للدجالين الكذابين وللمخلصين الصادقين هواللّه تعالى، وحاشى للّه أن يضل عباده ببعثة الدجال الكاذب، وما ورد في كلامه تعالى مما ظاهره مثل ذلك فمحور على ضرب من التأويل.
4 على فرض التسليم بزعم المستدل من دلالة تعيين العدد على مجيء بني صادق ففيه:
أولاً: لمَ لم يُحمل على مجيء النبي الصادق عيسى ابن مريم(ع) وقد تضافرت الروايات بمجيئه في آخرالزمان تابعا لمحمد(ص) عاملا بشريعته.
ثانيا: إن الإمكان شيء والوقوع شيء آخر، فليس كل ممكن واقعا، والدليل القاطع دل على عدمه كما مر غير مرة في مطاوي هذه المباحث، وكما سترى بعد ما يزيده تأييداً وتأكيداً.
ثالثا: إن إمكان مجيء نبي بعده (ص) لا يثبت به عموم الفرض من إرسال النبيين، ولا يتحقق بإرسال واحد بعد فرض بقاء النبوة، ولكن المستدل يرى حصوله بنبوة صاحبه، وبه لا بالمسيح الإسرائيلييتحقق مضمون الخبر المستفيض عن مجيء المسيح في آخر الزمان.
إن في استدلاله بما ورد في كتاب إكمال الإكمال بأنه لو عد من تنبأ من زمنه (ص) لبلغ هذا العدد وجوها من الرد.
الأول: لا نسلم بلوغ من تنبأ هذا العدد، إذ الظاهر من هذا التنبؤ حدوث أثر له ولو إلى حين، أي بأن يكون للمتنبئين أعوان وأتباع عاملون بما وضعوا من تعاليم، وإلا لساغ لنا عد المحورروين والمعتوهين والموسوسين ، ومن تنبأ ساعة أو ضحاها، ومن لم يكن له إلا مجرد الدعوى من المتنبئين، وفي عد أمثال هؤلاء ما يزيد على الثلاثين أضعافا ، وما كان هذا مما يُراد من الحديث قطعا ، فلا بد أن يُراد منه تنبؤ منكان لتنبؤهم شيء من الأثر ونوع من التضليل والتدجيل ، ينغمس في حماتها من لا مسكة له من علم وفهم ومن هو فاقد التمييز، وهم غير قليل من دهماء الناس وغوغائهم.
وإذا استعرضنا أحوال من كان تنبؤهم مثل ذلك الأثر فنجد منهم:
1 - مسيلمة بن حبيب الكذاب.
2 - عيهلة بن كعب الذي يقال له العنسي ويُلقب ذا الخمار، أدعيا النبوة في عهد النبي(ص).
3 - طليحة بن خويلد الأسدي تنبأ بعد وفاته (ص) وعظم أمره.
4 - سجاح بنت الحارث بن سويد ، تنبأت بعد وفاته (ص) ومالاها جماعة من رؤساء القبائل وفريقمن أخوالها بني تغلب.
5 - أبو الطيب المتنبي إن صحت دعواه النبوة وادعاها المنصورية من الغلاة والبنانية القائلون ببقاءالنبوة ، وكيف كان فإنا لا نستطيع أن نستخرج من مجموعهم عدد الثلاثين ممن أحدث تنبؤهم أثراً، ولازم ذلك أن الباب لا يزال مفتوحاً للمتنبئين على مصراعيه.
الثاني: إن فرض التسليم ببلوغ العدد يؤدي إلى أن كل من تنبأ بعد بلوغ العدد نبي صادق ، فكل من ادعاها بعد سنة 828 وهو عهد مؤلف إكمال الإكمال من النبيين الصادقين، فلتقر إذاً عيون المحرورين وكل من تحدثه نفسه بإدعاء منصب النبوة السامي، فإن المجال متسع ليس للمسيح الهندي فحسب بلله ، ولكل من يلتمس جاه الدنيا وتبع الحياة من هذا الباب.
3 الثالث: إن هذا الحديث أخرجه البخاري في صحيحه مسنداً إلى أبي هريرة يتضمن الإنباء عن أمورتحدث في الأمة كلها من أشراط الساعة، ومن بعضها بعث دجالين كذابين قريب من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول اللّه، وأخرجه مسلم في صحيحه مسندا إلى أبي هريرة من طريقين ، وفي ثانيهما بدل يبعث ينبعث مقتصرا على الإخبار عن بعث أو إنبعاث دجالين كذابين قريب من ثلاثين ، وكلاهما لم يعرض لمورد الحديث الذي أورده أبو الفداء ملك حماه في تاريخه المختصر ، حيث قال: وروى عبداللّه بن أبيبكر أن رسول اللّه (ص) قال: «أيها الناس إني قد رأيت ليلة القدر ثم انتزعت مني ، ورأيت في يدي سوارين من ذهب فكرهتهما فنفختهما فطارا ، فأولتهما هذين الكذابين صاحب اليمامة وصاحب صنعاء، ولن تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون دجالا كل منهم يزعم أنه نبي ».
ويفهم من ذكر مورد الحديث وروايته على هذه الصورة أن خروج الثلاثين دجالا كل منهم يزعم أنهنبي من يكون لدعواه النبوة من الأثر مثل ما كان لصاحبي صنعاء واليمامة وهو ما استظهرناه آنفا.
ويدل على أن عدد المتنبئين لم يستكمل نصابه حديث أخرجه مسلم في الصحيح مسندا إلى جابر بنسمرة عنه (ص) «إن بين يدي الساعة كذابين» ووجه الدلالة أنه إن كان المراد من الكذابين مطلق من يصدر منهم الكذب، فأي محصل لتخصيص ظهورهم بين يدي الساعة والكذابون اتصلظهورهم بعصر النبوة وكثر سوادهم بعده وضخم أمرهم بعد تفرق الأمة فرقا وشيعاً حتى بلغوا ثلاثا وسبعين فرقة، ومن أجل ذلك عني المحدثون بوضع علم الحديث ومتفرعاته للتعريف بمن يقبل حديثه ومن يرد حديثه، فإذن لا بد من حمل هذا الحديث المطلق على الحديث المقيد الذي نحن بصدده، وأن يُراد من الكذابين في الحديث « إن بين يدي الساعة كذابين » من لهم صفة زعم النبوة، وذلك دليل على عدم استكمال العدد، وأن منهم من يقارن ظهوره وخروجه حلول أجل الساعة، وكان في التعبير بآ(بين) يدي الساعة إيماء الى ذلك.
الحديث الرابع: «لو كان بعدي نبي لكان عمر» قال: إنه لا يدل قطعا على أنه لا نبي بعده ، وكذلك لا يدل قوله (ص) لعلي (ع) «إلا أنه لا نبي بعدي » زاعماً أن (بعد) في الحديثين بمعنى ( مع ) والمعنى لو كان معي نبي لكان عمر، وإلا أنه لا نبي معي.
وفي نقض هذا الاستدلال وجوه:
1 - لم نفهم محصلا لقوله: انه لا يدل قطعا على انه لا نبي بعده، لان احتمال استعمال (بعد) بمعنى (مع) لايدفع على الأقل إحتمال إستعمالها بمعناها، وهو ضد قبل الذي هو أكثر دوراناً في الكلام إن لم نقل أنهحقيقة فيه ، بل هو المنصوص عليه في كلمات الأئمة، ففي القاموس: (وبعد ضد قبل ) ولم يذكر غيره، وفيالمصباح للفيومي: (وبعد) ظرف مبهم لا يُفهم معناه إلا بالإضافة لغيره ، وهو لزمان تراخ عن السابق وجاء زيد بعد عمرو متراخيا زمانه عن زمان مجيء عمرو ، وتأتي بمعنى ( مع ) كقوله تعالى: (عُتل بعد ذلك زنيم) [القلم/13] أي مع ذلك ، وفي مختار الصحاح : وبعد ضد قبل ، وفي النهاية لابن الأثير: وبعد من ظروف المكان التي بابها الإضافة ، فإذا قطعت عنها وحذف المضاف إليه بُنيت على الضم ( كقبل ) ومثله قوله تعالى: (للّه الأمر من قبل ومن بعد) [الروم/4] أي من قبل الأشياء ومن بعدها ،وفي فقه اللغة للثعالبي في فصل مجمل وقوع حروف المعنى مواقع البعض : ( بعد ) بمعنى ( مع ) يُقال : فلانكريم وهو بعد أديب أي مع هذا، ويتناول قوله عز وجل :
(عُتل بعد ذلك زنيم) أي مع ذلك ، وفيالمخصص لابن سيده:
( قبل ) أول ( بعد ) آخر، وفي مجمع البحرين للطريحي: ( وبعد ) خلاف قبل ، قال اللّه تعالى : (وللّه الامر من قبل ومن بعد) أي قبل الفتح وبعده، وقد يكون بمعنى ( مع ) مثل قوله تعالى:
( عُتلبعد ذلك زنيم ) أي مع ذلك، قوله : (والأرض بعد ذلك دحاها) [النازعات/30] أي مع ذلك، وقيل: ( بعد ) على أصلها لما روي عن ابن عباس قال : خلق اللّه الأرض قبل السماء فقدر فيها أقواتها ولم يدحها ، ثم خلق السماء ثم دحا الأرض بعدها، وفي فقه اللغة (الصاحبي) لابن فارس: (بعد) يعدل على أن يعقب شيء شيئا، تقول: جاء زيد بعد عمرو. ويقولون: أنها تكون بمعنى (مع) يُقال: هو كريم وهوبعد هذا فقيه، أي مع هذا فقيه ويتأولون قول اللّه جل ثناؤه: (والأرض بعد ذلك دحاها) [النازعات/30] على هذا . وفي الأساس للزمخشري: (أما بعد) فقد كان كذا وأتيته بعيدات بين إذا أتيته بعد، ولم يذكر إستعمالها بمعنى (مع).
فأنت ترى من مجموع هذه الأقوال أن (بعد) حقيقة هي ضد قبل ، وأنها أُستعملت بمعنى (مع) في مواضعمحصورة عند من تأول ذلك.
1 - في آية (عُتل بعد ذلك زنيم) .
2 – وآية : (والأرض بعد ذلك دحاها).
3 - وقولهم فلان كريم وهو بعد أديب.
أما الآية الأولى: فإن صاحب الكشاف قد ذهب إلى استعمال (بعد) بمعناها الحقيقي ، حيث قال: (بعدذلك) بعد ما عد له من المثالب والنقائص ، وأيد ذلك صاحب الانتصاف بقوله:
وإنما أخذ كون هذين (عتل وزنيم) أشد معايبه من قوله: بعد ذلك، فانه يعطي تراخي المرتبة فيما بين المذكور أولاً والمذكور بعده في الشر والخير، ونظيره في الخير قوله تعالى: والملائكة بعد ذلك ظهير، ومن ثماستعملت ثم لتراضي المراتب وإن أعطت عكس الترتيب الوجودي ، وقال الفخر الرازي: «قوله: بعد ذلك معناه أنه بعد ما عد له من المثالب والنقائص فهو عُتل زنيم ، وهذا يدل على أن هذين الوضعين وهو كونه عُتلاً زنيماً أشد معايبةً، لأنه إذا كان جافيا غليظ الطبع قسا قلبه واجترأ على كل معصية، إلى أن قال: وقوله ههنا (بعد ذلك) نظير ثم في قوله: (ثم كان من الذين آمنوا) [البلد/17]»
وأما الآية الثانية: ففي لسان العرب: « قال أبو حاتم: وقالوا: (قبل وبعد) من الأضداد. وقال في قوله عزوجل: (والأرض بعد ذلك دحاها) أي قبل ذلك، قال الأزهري: والذي قاله أبو حاتم عمن قاله خطأ (قبل وبعد) كل واحد منهما نقيض صاحبه، فلا يكون أحدهما بمعنى الآخر وهو كلام فاسد. وأما قولاللّه عز وجل:
(والأرض بعد ذلك دحاها) فإن السائل يسأل عنه فيقول: كيف قال بعد ذلك والأرض أنشأ خلقها قبل السماء ، والدليل على ذلك قوله تعالى: (قل ائنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض فييومين) فلما فرغ من ذكر الأرض وما خلق فيها قال: (ثم استوى إلى السماء) وثم لا يكون إلا بعد الأول الذي ذكر قبله، ولم يختلف المفسرون أن خلق الأرض سبق خلق السماء.
والجواب فيما سأل عنه السائل أن الدحو غير الخلق، وإنما هو البسط، والخلق هو الإنشاء الأول، فاللّه عز وجل خلق الأرض أولا غير مدحوة ، ثم خلق السماء ، ثم دحا الأرض أي بسطها، قال:
والآيات فيها متفقة ولا تناقض بحمد اللّه فيها عند من يفهمها، وإنما أتى الملحد الطاعن فيما شاكلها من الآيات من جهة غباوته وغلط فهمه وقلة علمهبكلام العرب» وفيما أورده الطريحي عن ابن عباس ما يؤيد استعمال (بعد) في هذه الآية فيمعناها الحقيقي .
بقي الكلام في تأويل (بعد) في قولهم فلان كريم وهو بعد أديب بمعنى (مع) وأنت خبير بأن ذلك ليس ممايحتج به ، أولا : إن زعم أنه منحصر في هذا الاستعمال، ثانيا: لجواز أن يكون مستعملاً في معناه الحقيقي ويُراد منه أنه موصوف بالكرم، وبعد وصفه بهذه الصفة هو موصوف بالأدب ، على أن تجويز إستعمال هذا الحرف (بعد) بمعنى (مع) في هذه المواضع إن سلمنا أنه لا مناص منه، فليس معنى هذا أنه يصلح لمثل هذا الاستعمال في كل مورد، وإذا جاز للمستدل أن يؤول (بعد) بمعنى (مع) في الحديثين، فهلا جاز أن يُقال في قولنا: جاء زيد بعد عمرو أن (بعد) بمعنى (مع) ويكون المعنى مجيء زيد مع عمرو، وهذا خلف من القول.
ثم إن إستعمال (بعد) بمعنى (مع) في مواضع محصورة مثل استعمال (مع) بمعنى (بعد) في بعض المواردالمحدودة، وإن لم يكن ذلك من المتفق عليه، ومستند الجواز.
1 - قراءة من قرأ (الآية 24 من سورة الأنبياء) (هذا ذكر من معي).
(2) حكاية سيبويه. ذهبت منمعه. اي ذكر من بعدي، وذهبت من عنده.
قال ابن هشام في المغني في مبحث (مع): «والثالث (من معانيها) مرادفة عند وعليه القراءة وحكايةسيبويه السابقتان»
أما الآية فقد جاء في الكشاف في تفسيرها: «وقُرىء (من معي) و (من قبلي) على من الإضافية فيهذه القراءة وإدخال الجار على (مع) غريب ، والعذر فيه أنه إسم هو ظرف نحو قبل وبعد وعند ولدن وما أشبه ذلك ، فدخل عليه (من) كما يدخل على أخواته، وقرىء ذكر معي وذكر قبلي، كأنه قيل بلعندهم ما هو أصل الشر والفساد كله، وهو الجهل وفقد العلم وعدم التمييز بين الحقوالباطل»
وفي مجمع البيان: «(هذا ذكر من معي وذكر من قبلي) أي وقل لهم يا محمد هذا القرآن ذكر من معي بمايلزمهم من الأحكام، وذكر من قبلي من الأمم ممن نجا بالإيمان أو هلك بالكفر عن قتادة، وقيل: هذا ذكر من معي بالحق في إخلاص الإلهية والتوحيد في القرآن، وعلى هذا ذكر من قبلي في التوراة والإنجيل عن الجبائي. قال: لأن القرآن ذكر أتاه اللّه ومن معه، والتوراة والإنجيل ذكر تلك الأمم، وقال أبوعبداللّه (ع) يعني بذكر من معي من معه وما هو كائن. وبذكر من قبلي ما قد كان ، وقيل: إن معناه فيالقرآن خبر من معي على ديني ممن يتبعني إلى يوم القيامة بما لهم من الثواب على الطاعة والعقاب علىالمعصية وذكر ما أنزل اللّه من الكتب قبلي، فانظروا هل في واحد من الكتب أن اللّه أمر باتخاذ آله سواه، فبطل بهذا البيان جواز اتخاذ معبود سواه من حيث الامر به» إلى اقوال أخرى كلها تؤيداستعمال (مع) بمعناها وهو المصاحبة، فاستعمال كل من هذين الحرفين بمعنى الآخر في مواضع قليلة شاذة لا يسوغ للمستدل تجاوز حدود الرخصة في صرف المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي بدون اضطرار ولا اقتضاء، وليس بمثل هذه الأدلة الواهنة يثبت مطلوبه.
2- إن حمل (بعد) على معنى (مع) في الحديث مؤد إلى جمع عمر مزايا النبوة ، وإنما منع أن يكون نبيا أنالنبي (ص) لا نبي بعده، ولكن هذا لا ينفي أن يكون نبيا بعده وهو يجمع مزايا النبوة، بل من المفروضعليه أن يدعيها، وكذلك الكلام في الحديث الثاني «إلا أنه لا نبي بعدي» ومؤدى الحديثين على هذا الحمل أشبه بالنص على نبوتهما، فهما لم يدعياها ولا ادعاها لهما أحد من المسلمين، ثم إن منصب النبوة أعلى من منصب الخلافة، وجمع عمر لمزايا النبوة كان يفرض عليه أن يكون أحق بالخلافة وأن لايدعها لمن هو دونه في المزايا التي يساهم فيها الأنبياء.
3- آية حُكمه في العدول عن (مع) إلى (بعد) أن أُريد من (بعد) معنى المصاحبة في الحديثين، وما القرينةالحالية أو المقالية على هذا التجوز إذا كان مما يجوز وقوع مفهومه ، بل كان من الحكمة استعمال (مع) (لابعد) منعا للتضليل والافتتان.
4- تبين مما تقدم انحصار استعمال (بعد) بمعنى (مع) في موارد خاصة عند القائل بهذا الانحصار، وإذاكانت في هذين الحديثين أُستعملت بمعنى (مع) فلماذا لم يعرض له الأئمة ولم يذكروا الحديثين من شواهد هذا الاستعمال ؟ ولماذا لم يفهم منهما هذا المعنى أصحاب النبي (ص) وهم حاضرو الخطاب وأبصر بمواقعه وهم أهل اللسن واللسان ؟ ولو كان ذلك مراداً من الحديثين وأنه مما يفهم منهما لنُقل عنهم مؤداه.
ثم إن حديث المنزلة وهو الحديث الثاني أُول على إستحقاق علي للنبوة ، لأنه لم يعلق على شرط تعليق الحديث الأول وهو صريح بجمع علي مزايا ما جمع هارون ، فإذا لم يكن علي نبياً في عهد الرسول (ص) كما كان هارون (لأنه لا نبي معه) فهو على هذا الزعم نبي بعده ومفروض عليه إظهار النبوة، وذلك لم يكن ولا قال به مسلم ولا ادعاه له مدع، دع الغلاة الذين لا وزن لمقالاتهم ومزاعمهم وهمالذين عرجوا بعلي إلى مقام الالوهية.
الحديث الخامس: وهو ما رُوي من أنه (ص) قال لعمر (رض):
« لو لم أُبعث لبُعثت يا عمر » .قال صاحب التوضيح لا يدل هذا الحديث على أن باب النبوة مسدود بالكلية بعد رسول اللّه(ص) أقول: إذا لم يدل هذا الحديث على تقدير صحته على انسداد باب النبوة ودل بزعمه على جواز أو إمكانبقائها، فإن هناك أدلة لا تنقض وأحاديث لا ترد وإجماعا لا يدفع تدل على الانسداد، وماذا يجديه نفعا وتدليلا على زعمه مجرد ألفاظ الجواز والفرض والإمكان إذا كان الواقع يدحض ذلك كله ، هذا ولانرى فائدة في إطالة الكلام في هذا الحديث المشكوك في صدوره.
الحديث السادس: «أنا العاقب الذي ليس بعده نبي » قال: فتفسير العاقب ليس من رسولاللّه (ص) إلى أن قال :
ويمكننا أن نقول في تأويل هذا الحديث: أن المراد من (بعد) بعد زمن نبوته، وبما أن زمن رسالته ممتد إلى يوم القيامة، فلا يمكن وجود نبي مستقل صاحب شرع جديد، ولكن يجوز وجود نبي بعده في زمنه إذا كان تحت حكم شريعته ومن أمته مجدداً لدينه.
وفي التعليق على هذا الكلام وجوه:
1- نرى لزاماً علينا ذكر نص الحديث كما أورده البخاري في صحيحه بحذف الإسناد، قال : قال رسولاللّه(ص) « لي خمسة أسماء أنا محمد. وأحمد، وأنا الماحي الذي يمحو اللّه بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشرالناس على قدمي (أي على أثري) وأنا العاقب (لأنه جاء عقب الانبياء) ».
2- إن تفسير العاقب (بالذي ليس بعده نبي) ليس من ألفاظ الحديث كما يقول صاحب التوضيح ، ولكنصدوره ممن يوثق بفهمه لمعاني الكلام وأساليبه يدل على أنه هو المفهوم من لفظ (العاقب) وهو ما فهمته صاحب التوضيح ولكن مقيدا بقيد عدم وجود نبي مستقل، بعده معلقا على هذا القيد جواز وجود نبي بعده غير مستقل إذا كان عاملا بحكم شريعته، ولكن هذا القيد لا يُفهم من لفظ العاقب المطلق، فلايكون وهو غير مفهوم من اللفظ حجة حتى ولا على مجيء المسيح الذي دلنا عليه الدليل الخاص.
3- إن هذا المعنى من لفظ العاقب هو ما نص عليه أئمة اللغة، ففي مختار الصحاح: «عاقبة كل شيءآخره، والعاقب: من يخلف السيد، وفي الحديث: أنا السيد والعاقب ، يعني آخر الانبياء(ع)»
وفي المصباح: « ومنه، وعقبت زيدا عقبا من باب قتل وعقوبا جئت بعده، ومنه سمي رسول اللّه(ص)العاقب لأنه عقب من كان قبله من الأنبياء أي جاء بعدهم ».
وفي النهاية: «وفي أسماء النبي(ص) العاقب هو آخر الأنبياء، والعاقب والعقوب الذي يخلف من كان قبله في الخير»
4- إن امتداد زمن رسالته(ص) إلى يوم القيامة معناه ومفهومه الصريح الاستغناء بها عن كل رسالة وعن كل رسول ، سواء أكان مستقلاً بشريعة أم كان مقتفيا آثار تلك الرسالة العامة، ولو كان الاقتفاء رسالة والمقتفي رسولا لكان كل مقتف لها من علماء الأمة رسولاً ولا قائل به، والتعليق بالشرط وهو إذاكان تحت حكم شريعته مجددا لدينه لا يستلزم أن يكون الحاكم بها المجدد للدين رسولا، وإلا للزم أنيكون كل متصف بذلك الوصف نبيا كما عرفت، واللازم بين البطلان والتجديد المفهوم من الحديثالمرفوع المروي عنه(ص) « إن اللّه يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يقرر لها دينها » وهو الذي حملته كل فرقة من فرق المسلمين التي لم تبتعد عن حظيرة الإسلام وعن أصوله وفروعه الحقة على أعلام منها كان لهم فضل الذائد عن حياضه والحافظ لشرائعه أن التجديد المفهوم منالحديث هم أولئك العلماء الأعلام، ولم يدع أحد منهم النبوة، فكان كما قالوا: عمر بن عبد العزيز على رأس المائة الأولى ، وكما قال أحمد بن حنبل وأرجو أن يكون الشافعي على رأس المائة الاخرى، وفي معجم الأدباء لياقوت الحموي في ترجمة الإمام الشافعي قال: «الشيخ أبو الوليد حسان ابن محمد الفقيهيقول: كنا في مجلس القاضي أبي العباس بن سريج سنة ثلاث وثلاثمائة، فقام إليه شيخ من أهل العلمفقال له: أبشر أيها القاضي فإن اللّه يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها، وإنه تعالى بعثعلى رأس المائة الأولى عمر بن عبد العزيز وتوفي سنة ثلاث ومائة، وبعث على رأس المائتين أباعبداللّه محمد بن إدريس الشافعي وتوفي سنة أربع ومائتين، وبعثك على رأس الثلاثمائة ثم أنشايقول :
إثنان قد مضيا فبُورك فيهما عمر الخليقة ثم حلف السؤدد الشافعي الألمعي محمد إرث النبوة وابن عم محمد أبشر أبا العباس إنك ثالث من بعدهم سقيا لنوبة أحمدقال: فصاح القاضي وبكى وقال: إن هذا الرجل قد نعى إلي نفسي. قال: فماتالقاضي أبو العباس في تلك السنة ».
وأما الإمامية فمع اعتقادهم بعدم خلو الارض من إمام ظاهر أو مستور مهيمن على الشريعة حافظ لحدودها ورسومها عددا رجالا منهم مجددين للدين على رأس كل مائة سنة، ولكن كلا من الفريقين السنة والإمامية لم يقر واحد منهما الرسالة والنبوة إلى مجدديهم وهل كانوا أخف في ميزانها من غلاماحمد القادياني؟ ومن الطريف استدلاله على جواز وجود نبي غير مستقل بالنبوة بعده(ص) بالآية 30 الأحقاف (قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أُنزل من بعد موسى) وجه الإستدلال أن الجن المستمعين للقرآن لم يذكروا الأنبياء الذين بُعثوا بين موسى وبين رسول اللّه(ص) والصحف التي أُوتوها لأنهم كانوا تابعين لشريعةموسى (ع) وزمن شريعته كان ممتدا إلى بعثة رسول اللّه (ص) .
وفيه:
1- لم نجد في هذه الآية بعد إمعان النظر وإمعان الفكر ما يدل على زعم المستدل وآية ملازمة بين عدم ذكر الجن المستمعين للقرآن للأنبياء الذين بُعثوا بين موسى ورسول اللّه (ص) والصحف التي أُوتوها بين دعواه جواز وجود نبي بعده(ص).
2- كأنه يرى أمرا لزاماً وفرضا واجباً على الجن أن يحيطوا علماً بكل رسول أُرسل بعد موسى وكلكتاب أُنزل بعده ، وأن يُبينوا التفصيل ذلك لقومهم، أو يرى أن موقفهم موقف القاص المؤرخ، وأن مثلذلك لم يكن مفروضا على الإنس من أمة محمد المؤمنين بدين محمد (ص) وكتاب محمد، بل فرضعليهم الإيمان الإجمالي بما أُرسل اللّه تعالى من رسل وأنزل من كتب.
3- إن موقف الجن من قومهم بعد استماعهم للقرآن كان موقف إنذار وتذكير، وأما تخصيصهم لموسى وكتابه بالذكر فهو جار مجرى هذه الآيات. (قل فأتوا بكتاب من عند اللّه هو أهدى منهما اتبعه )[القصص/49]. ( ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة ) [هود/17]. (قل من أنزل الكتاب الذيجاء به موسى ‘لى قوله وهذا كتاب أنزلناه مبارك مُصدق الذي بين يديه) [الأنعام/92]. والآيةالتي نحن بصددها: (إنا سمعنا كتابا أُنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم) [الأحقاف/30].
وفي معارج الوصول لابن تيمية : «وقال ورقة ابن نوفل: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرجان منمشكاة واحدة، وكذلك قال النجاشي: فالقرآن والتوراة هما كتابان جاءا من عند اللّه لم يأت من عندهكتاب أهدى منهما، كل منهما أصل مستقل ، والذي فيهما دين واحد، وكل منهما يتضمن إثبات صفات اللّه تعالى والأمر بعبادته وحده لا شريك له، ففيه التوحيد قولاً وعملاً كما في سورتي «الكافرون» و « الإخلاص ». (قل يا ايها الكافرون) و (قل هو اللّه احد) ».
وأما الزبور فإن داود لم يأت بغير شريعة التوراة، وإنما في الزبور ثناء على اللّه ودعاء وأمر ونهي بدينه وطاعته وعبادته مطلقا، وأما المسيح فإنه قال: ( ولأُحل لكم بعض الذي حُرم عليكم) [آلعمران/50] فأحل لهم بعض المحرمات وهو في الأكثر متبع لشريعة التوراة ، ولهذا لم يكن بد لمن إتبع المسيح من أن يقرأ التوراة ويتبع ما فيها إذ كان الإنجيل تبعاً لها.
وأما القرآن فإنه مستقل بنفسه لم يحوج أصحابه إلى كتاب آخر، بل اشتمل على جميع ما في الكتب، منالمحاسن وعلى زيادات كثيرة لا توجد في الكتب فلهذا كان مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه، يقرر ما فيها من الحق، ويُبطل ما صُرف منها، وينسخ ما نسخه اللّه، فيقر الدين الحق وهو جمهور ما فيها، ويُبطل الدين المبدل الذي لم يكن فيها والقليل الذي نُسخ فيها، فإن المنسوخ قليل جدا بالنسبةإلى المُحكم المقرر، والأنبياء كلهم دينهم واحد، وتصديق بعضهم مستلزم تصديق سائرهم، وطاعة بعضهم تستلزم طاعة سائرهم، وكذلك التكذيب والمعصية لا يجوز أن يكذب نبي نبيا، بل إن عرفه صدقه ، وإلا فهو يصدق بكل ما أنزل اللّه مطلقا، وهو يأمر بطاعة من أمر اللّه بطاعته، إلى كلام طويل لايخرج عن هذا المضمون، وقد وضح بيان السر في تخصيص كتابي موسى ومحمد عليهما بالذكر دون سواهما، ولكن ذلك لا ينفي أن يكون قد عمل مؤمنو الجن بشريعة عيسى مما نُسخ فيها من شريعةموسى، وكيف كان فإنه لا يُفهم من الآية ما يؤيد زعم القادياني.
الباب الرابع: في التعليق على ملخص في ختم النبوة
أطال صاحب التوضيح الكلام في هذا الموضوع إطالة مملة، وهو يتفرع عن إستمرار الوحي وبقاء النبوة، وقد أبطلناهما وأفسدنا ما تمسك به من الحجج الواهية ، ولم نجد مندوحة عن ترك التعليق على هذا البحث الذي عرض فيه إلى أدلة أخرى يزعم أنها تثبت دعواه، ولئن كان فيه شيء من التكرار فالذنب ذنبه، ولأن غرضنا إستقصاء الأهم فالأهم من حججه ونقضها حتى لا يبقى في قوس تمويهاته منزع، والحق ضالتنا وهو ما ننشد واللّه من وراء القصد.
أبتدأ هذا البحث بتفسير آية خاتم النبيين على رأي صاحبه الحضي، فقال: لا يخفى أن الاية (ما كانمحمد ابا احد من رجالكم) [الأحزاب/40] نزلت في السنة الخامسة من الهجرة حين تزوج بزينب، وفي السنة العاشرة حيث توفي ابنه ابراهيم، قال: لو عاش ابراهيم لكان صديقا نبيا فظهر منقوله(ص) أنه لم يُفهم من خاتم النبيين إنقطاع النبوة بالكلية، بل فُهم عكس ذلك بأن نوعا من النبوة باق بعده، ولأجل هذا قال في حق إبنه: «لو عاش لكان نبيا».
ولنا في رد هذا الكلام وجوه:
1- الشك في ورود الحديث بهذا اللفظ ، ففي رواية أنه(ص) قال في حق ابراهيم: «إن له ظئرا تتمرضاعه» ، وفي رواية:
إن له ظئرين يكملان رضاعه في الجنة وقال: لو عاش لوضعتالجزية عن كل قبطي. وفي لفظ لا عتقت القبط. وفي لفظ مارق له خال. قال بعضهم: معناه لو عاشفرآه أخواله القبط لأسلموا فرحا به وتكرمة له فوضعت الجزية عنهم ، لأنها لا توضع على مسلم ، ومعنى الثاني: إذا أسلموا وهم أحرار لم يجر عليم الرق، لأن الحر المسلم لا يجري عليه الرق.
فلم يعرض على هذه الروايات لذكر (لو عاش لكان صديقا نبيا) وإنما جاء ذلك في حديثين: الأول رواه ابن ماجة عن ابن عباس أن النبي (ص) قال: إن له مرضعة في الجنة، ولو عاش إبراهيم لكانصديقا نبيا ولا عتقت أخواله القبط وما استرق قبطي، الثاني: في كنوز الدقائق للمناوي: لو عاش إبراهيم لكان صديقاً نبيا، رواه أحمد وابن ماجة وابن عساكر، هذا ما جاء في ينابيع المودة.
وأما البخاري فقد أخرج في صحيحه ما هذا نصه: حدثنا ابن نمير، حدثنا محمد بن بشر، حدثنا اسماعيل قلت: لابن أبي أوفى: رأيت إبراهيم ابن النبي(ص) قال: مات صغيرا ولو قضى أن يكون بعد محمد(ص) نبي عاش ابنه ولكن لا نبي بعده.
فظاهر هذا الحديث أن هذا القول لابن أبي أوفى وفيه كما ترى نفي لوجود نبي بعده (ص).
وأما النووي فقد قال كما في السيرة الحلبية: وأما ما روي عن بعض المتقدمين (لو عاش إبراهيم لكاننبيا) فباطل وجسارة على الكلام في المغيبات، ومجازفة وهجوم على بعض الزلات . فأنت ترى من كلام النووي أن هذا القول لبعض المتقدمين وأنه ليس وارداً عن النبي (ص).
2- على فرض التسليم بوروده عنه(ص) فإن له وجوهاً من التأويل، قال الحافظ ابن حجر تعليقا علىقول النووي كما في السيرة الحلبية: وهو عجيب مع وروده عن ثلاثة من الصحابة، وكأنه لم يظهر له وجه تأويله، وهو أن القضية الشرطية لا تستلزم الوقوع، أي وكان اللائق به أن يكون نبياً وإن لم يكنذلك.
وفي حاشية السندي على صحيح البخاري في (باب من سمي بأسماء الأنبياء) تعليقاً على حديث ابن أبي أوفى ما هذا لفظه: ولو قضي أن يكون بعد محمد (ص) نبي عاش الخ، يُحتمل أنه بيان لسبب موته، ومدارهعلى أن إبراهيم قد علق نبوته بعيشه، وهذا مبني على أنه علم ذلك من جهته (ص) كما جاء عنه ذلك ببعض الطرق الضعيفة ، وكذا جاء مثله عن الصحابة، ومعنى الحديث على هذا أنه لو قضي بالنبوة لأحدبعده (ص) لأمكن حياة ابراهيم ، لكن لما لم يقض لأحد تلك وقد قدر لإبراهيم أن يكون نبيا على تقديرحياته لزم أن لا يعيش، ويحتمل أنه بيان لفضل لإبراهيم، وحاصله لو قدر نبي بعده(ص) لكان إبراهيم أحق بذلك، فتعين أن يعيش حينئذ إلى أن يُبعث نبيا، لكن ما قدر نبي بعده، فلذلك ما لزم أن يعيش، وعلى المعنيين فليس مبنى الحديث على أن ولد النبي يلزم أن يكون نبيا حتى يقال أنه غير لازم.
3- إن الحضي يعترف في بدء كلامه في تفسير آية خاتم النبيين بعموم النبيين الذين افتتحت نبواتهم بنبوته، ويجعل الحديث المستفاد منه إمكان مجيء نبي بعده(ص) مخصصا لذلك العموم، وقد عرفت أنالحديث قضية شرطية وهي لا تستلزم الوقوع واذا لم تستلزم الوقوع ، فلا تصلح إذن للتخصيصالمزعوم.
4- إن هذا الحديث على فرض صحته هوكالحديثين السابقين (لو كان بعدي نبي لكان عمر) وأنت مني بمنزلة هارون من موسى ، وهما اللذان استدل بهما على جواز وجود نبي بعده(ص) وقد بينا هناك فساد إستدلاله بما لا مزيد عليه ، فلا نرى بعد ذلك مجالا للإسهاب في هذا الباب.
5 - إن دلالة الحديث على استحالة النبوة بعده بتعليق نبوة ولده الطفل على عيشه أولى من دلالة علىفرض إمكانها وبقائها فضلا عن وقوعها، وأما قياسه على الحديث لو عاش زيد لكان نابغة لأنه يفيد التسليم بوجود النوابغ فإنه قياس مع الفارق ، فإن النبوغ ممكن وواقع والنبوة غير ممكنة ولا واقعة،وإلا لظهر نبي صحيح النبوة قبل القادياني.
وأما استدلاله على بقاء النبوة بقول عائشة والمغيرة بعد تصريح المغيرة بأنه سيكون نبي بعده وهو المسيح، فهو على عكس دعواه أول، ولا نطيل الكلام في نقض استبعاده ظهور المسيح بعد قيام الدليلعليه بما استفاض من رواية الفريقين السنة والإمامية، ولا يجديه نفعا إعترافه بانسداد باب نبوة التشريع وفتحه لغيرها، وهو ما حاول أن يقيد به المطلق بلا دليل، فإن نفي وجود النبوة بعده (ص) مطلق وعليه الإجماع، وبه وردت النصوص والروايات المستفيضة، ولا عبرة بأقاويل من خالف ذلك من الغلاة وأشباههم ممن ذهب إلى الخلاف عن عمد أو شبهة.
الخاتم وأقوال المفسرين واللغويين في معناه، رأينا أن نُبسط أقوال المفسرين واللغويين في معنى الخاتم فيهذا البحث، ليتبين ما فهموه منه وما فهمه أتباع القادياني، وليتبع الشاك فهم من هو أولى منهما بفهم معاني الألفاظ مفرداتها ومركباتها.
1- قال ابو إسحاق : معنى ختم وضع في اللغة واحد، وهو التغطية على الشيء والإشتياق في أن لا يدخله شيء.
2- قال ابن سيده: ختم الشيء بختمه بلغ آخره، وخاتمة السورة آخرها، وختام كل مشروب آخره، وفي التنزيل (ختامه مسك) أي آخره، وختام الوادي أقصاه، وختام القوم وخاتمهم آخرهم عناللجاني، ومحمد(ص) خاتم الأنبياء، وفي التهذيب (ولكن رسول اللّه وخاتم النبيين) [الأحزاب/40]وقد قرئ وخاتم وقال العجاج: (مبارك للأنبياء خاتم) إنما حمله على القراءة المشهورة فكسر، واصلالختم التغطية، كذا في لسان العرب و(ختم اللّه على قلوبهم) طبع اللّه على قلوبهم عن غريب القرآن للسجستاني، وعنه خاتم النبيين آخر النبيين.
ولم يقرأ خاتم بفتح التاء غير عاصم، وقرأ الباقون بكسرها على أنها إسم فاعل من ختم، قالوا فيالحجة: من كسر التاء من خاتم فإنهم ختمهم فهو خاتمهم، ومن فتح التاء فمعناه آخر النبيين لا نبي بعد ، قال الحسن: خاتم الذي ختم به، قال المبرد: خاتم فعل ماض على فاعل وهو في معنى ختم النبيين ونصب النبيين على هذا الوجه بأنه مفعول به ، وفي صرف عبداللّه ولكن نبياً وختم النبيين.
3- وفي الكشاف: «وخاتم بفتح التاء بمعنى الطابع، وبكسرها بمعنى الطابع وفاعل الختم، وتقويه قراءة ابن مسعود (ولكن نبيا ختم النبيين) » .
فإذا قلت: فكيف كان آخر الأنبياء وعيسى ينزل في آخر الزمان؟ قلت: معنى كونه آخر الأنبياء أنه لاينبأ أحد بعده، وعيسى ممن نُبىء قبله، ومتى نزل ينزل عاملا على شريعة محمد (ص) مصليا إلى قبلتيهكأنه بعض أمته.
4- وفي مفاتيح الغيب للرازي: (ولكن رسول اللّه وخاتم النبيين)، وذلك لأن النبي الذي يكون بعده نبي إن ترك شيئا من النصيحة والبيان يستدركه من يأتي بعده، وأما من لا نبي بعده يكون أشفق على أمته وأهدى لهم وأجدى، إذ هو كوالد لولده الذي ليس له غيره من أحد، وقوله تعالى: (وكان اللّه بكل شيءعليما) يعني علمه بكل شيء دخل فيه أن لا نبي بعده، فعلم أن من الحكمة إكمال شرع محمد (ص) بتزوجه بزوجة دعيه تكميلا للشرع ، وذلك من حيث أن قول النبي (ص) يفيد شرعا، لكن إذا إمتنع هو عنه يبقى في بعض النفوس نفرة » إلخ.
5- وفي أنوار التنزيل للبيضاوي: «(ولكن رسول اللّه) وكل رسول ابو أمته لا مطلقا، بل من حيث أنه شفيق ناصح لهم، واجب التوقير والطاعة عليهم، وزيد منهم ليس بينه وبينه ولادة»، إلى أن قال: « ولكن رسول اللّه من عرفتم أنه لم يعش له ولد ذكر، (وخاتم النبيين) وآخرهم الذي ختمهم أو خُتموا به على قراءة عاصم بالفتح، ولو كان له ابن بالغ لاق بمنصبه أن يكون نبيا كما قال عليه الصلاة والسلامفي ابراهيم حين توفي:
لو عاش لكان نبيا، ولا يُقدح فيه نزول عيسى بعده لأنه إذا نزل كان على دينه مع أن المراد أنه آخر من نبىء »
6- وفي مجمع البيان (وخاتم النبيين) أي وآخر النبيين ختمت النبوة به، فشريعته باقية إلى يوم الدين ،وهذا فضيلة له صلوات اللّه عليه وآله اختص بها من بين سائر المرسلين، فإن قيل: إن اليهود يدعون فيموسى مثل ذلك، فالجواب: أن بعض اليهود يدعون أن شريعته لا تنسخ، وهم مع ذلك يجوزون أنيكون بعده أنبياء، ونحن إذا أثبتنا نبوة نبينا(ص) بالمعجزات القاهرة وجب نسخ شريعته بذلك، ثم أورد الحديث عن جابر بن عبداللّه عنه (ص) قال: «إنما مثلي في الأنبياء » الخ وقد سبقالبحث عنه في الباب الثالث (ص 109).
وجاء في مجمع البيان «(وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابنمريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا) عند تفسير قوله: (ومنك) يا محمد وإنما قدمه لفضله وشرفه (ومننوح) إلى قوله: (وعيسى ابن مريم) [الأحزاب/7] خص هؤلاء بالذكر لأنهم أصحاب الشرائع (وأخذنا منهم ميثاقا غليظا) أي عهداً شديداً على الوفاء بما حملوا من أعباء الرسالة وتبليغ الشرائع،وقيل: على أن يعلنوا أن محمدا رسول اللّه(ص) ويعلن محمد(ص) أنه لا نبي بعده» .
فأنت ترى من مجموع ما نقلناه عن أئمة التفسير واللغة وهو غيض من فيض ومن قراءة القراء إلا عاصما خاتما بلفظ إسم الفاعل وقراءة بعضهم خاتم بلفظ الماضي وزان فاعل أن المراد خاتمتهم وآخرهم ، وأوضح من ذلك في الدلالة قراءة ابن مسعود ولكن نبيا وختم النبيين ، على أن قراءة عاصم بفتح التاء تفيد معنى خاتم النبيين أي آخرهم وأنه لا نبي بعده، فليس معنى الخاتم مختصا بمعنى الزينة أو بمعنىالأفضل كما قصره عليهما صاحب التوضيح وأتباع القادياني.
ثم إن إرادة أحد المعنيين الأفضلية أو الزينة من لفظ الخاتم لا يتسق مع ذكره تعالى نبيه(ص) موصوفا بأوصاف (ما كان أبا أحد من رجالكم ولكن رسول اللّه وخاتم النبيين) بعد حادثة تطليق ربيبه زيد زوجه زينب وزواج النبي لها، وهي من الأهمية بمكان عظيم من حيث قيامه بنفسه في العمل بتشريع زواج الأولياء بأزواج الادعياء المطلقات الذي كانت تأباه نفوس العرب في جاهليتهم وفي جدة إسلامهم، يتنازعهم عاملان: عادة قديمة موروثة وتشريع اسلامي جديد يجتث أصولها غير آبه بهجرفريق منهم غير مستكمل الإيمان وباستنكار من يبطن النفاق ويظهر الاسلام، فمساق هذه الأوصاف فيالآية وحكمة مثل هذا التشريع الذي يراد دوامه واستمراره وخلوده في الأمة يستلزمان أنه لا يُراد منلفظ الخاتم واحد من ذينك المعنيين، بل يراد منه معنى نهاية النبوات بنبوته، كما يراد نسخ الشرائع بشريعته وإستمرارها إلى أن تقوم الساعة، وليس المقام مقام أن يُراد أنه أفضلهم أو أنه زينتهم كما يزينالخاتم الإصبع.
وإذا ضممنا إلى ذلك ما كان يفهمه المسلمون، سواء أكان ذلك في عهده(ص) أم في صدر الاسلام وهم في طراوته أم في العصور المتعاقبة، من أن المراد بالخاتم خاتمتهم وآخرهم ونهايتهم، زادت الحجة وضوحا وشبهة القاديانيين بطلانا وفسادا.
هذا العباس بن مرداس السلمي يخاطب النبي(ص) بقوله:
يا خاتم النباء إنك مرسل بالحق كل هدى السبيل هداكا والنباء جمع نبيء مهموزا. سمع النبي(ص) منه هذا البيت وقد أقره على مضمون معناه من تخصيصه لهبعموم هدى السبيل الذي هو هداه.
فلو كان بعده نبي له اختصاص ببعض هدى السبيل لما أقر عباساً على قوله، ولكان المقام مقام بيان أنبعده أنبياء مرسلين ترك لهم بعض الهدى.
وهذا الفرزدق ينشد علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب(ع) قصيدة سائرة في بيت اللّه الحرام بمحضر من الألوف من حجاجه، منها هذا البيت:
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله بجده أنبياء اللّه قد خُتموا
فلا ينكر على الفرزدق منكر من الحجيج وفيهم الموالي والقالي، بل ومن أحفظه بقصيدته هذه، فلو لم يكن من المسلمات ومن البداءة انتهاء النبوات واختتامها بنبوة محمد(ص) عند المسلمين، لانبرى منتلك الجموع ولو واحد من أعدائه إلى تكذيب الفرزدق وقال: إن باب النبوات ما زال مفتوحا وأنه لميُسد بنبوة محمد(ص).
ولو حاولنا استقصاء كل ما قيل من منثور ومنظوم وفي خلال الخطب من على المنابر الإسلامية فيمختلف العصور ومختلف الأمصار، وخاصة ما جاء في نهج البلاغة من وصف محمد (ص) بصفة خاتمالنبيين وأن المراد به اختتام النبوات بنبوته، لاحتجنا إلى اخراج كتاب ضخم.
وليس لصاحب التوضيح ومن شايعه أن يعترض بشيوع استعمال الخاتم في منظوم الكلام ومنثوره، فيمايستبعد أن يكون مراداً منه النهاية، كقولهم خاتمة العلماء، وخاتم الأولياء، وافتتح الشعر بملك واختتم بملك، وقول المتنبي: (إن الكرام باسخاهم يدا ختموا) وقول السيد ابراهيم الطباطبائي: ختمت به العلماء بعدكما ختمت بطه جده الرسل وقول القائل:
الشافعي إمام كل قبيلة أربت مناقبه على الآلاف ختم النبوة والولاية ربنا بمحمدين هما لعبد مناف فيقول وحيث يستبعد أن يُراد من الخاتم وما يشتق منه معنى النهاية، فلا مناص من حمله على معنىالفضيلة أو الزينة، وكذلك يُحمل في الآية وفيما ورد من خبر وأثر، لأنا نقول: قد تبين مما نقلناه منكلمات أئمة اللغة والتفسير في صدر هذا البحث الفرق أولا بين خاتم بفتح التاء المستعمل للزينة و آ(للطابع المخصوص) وللفضيلة وأنه يستعمل أيضاً بما يؤدي إلى النهاية، وبين خاتم بكسر التاء لمعنى النهاية، وهو الذي قرأ به القراء إلا عاصماً، وبما يزيد قراءتهم وضوحا في إرادة هذا المعنى في من قراءة عبداللّه بن مسعود.
ثانيا: إن حمل خاتم على معنى الزينة أو الفضيلة في هذه الشواهد وفيما لا يحصى أمثالها تحكم في فهم اللغة وافتات في الاستعمال، ولا نبعد عن الصواب إن قلنا: إن النهاية مفهومة من الخاتم مكسور التاء ومفتوحها بالمطابقة والزينة والفضيلة بالالتزام، وإن قلنا بأنه مشترك بين هذه المعاني حقيقة فيها كلها،ففي الآية وما هو في معناها مما ورد من خبر وأثر مضافا إلى الإجماع قاض باستعماله في معنىالنهاية.
ثالثا: إن استعمال الخاتم بمعنى النهاية فيما عدا ما يتعلق بالنبوة وانتهائها بنبوة محمد (ص) هو محمول علىهذا المعنى بضرب من التجوز والادعاء، ولازمه أن من وصف بهذا الوصف جامع لمزايا الفضيلة، وهوما يفهمه كل من أوتي ذوقا في فهم أساليب الكلام.
ونرى فيما سبق ردا على هذا الزعم وقطعا لمادة الجدل غير المجدي ، اللهم إلا التطويل والترداد الذي هومن بضاعة القاديانيين ، فلا نتعب أنفسنا والقارىء بتتبع كل أقاويلهم في هذا المعنى بالنقض على غير طائل، وما كان كل ما أطال به صاحب التوضيح الخطب من الاستشهاد بكلمات لا تدل تصريحا ولاتلويحا على مطلوبه بجواز مجيء نبي بعده (ص)، مما يستحق أن نطبع على غراره في التطويل وفيما ذكرناه غنية عن الإسهاب.
فصل رأينا مما يقطع شبهة القاديانيين ان نعقد هذا الفصل في الامام بما يتسع له المجال ويتضح به الحالولا يبعث على السمة والملال من نقل أقوال لفريق من علماء المسلمين الإعلام في تعليل اختتام النبواتبنبوة سيد الانبياء والمرسلين(ص) وفلسفة الشريعة الاسلامية.
1- عقد الفيلسوف الاسلامي القاضي ابن رشد في كتابه (نهج الأدلة) فصلا نافعا جداً، ننقل منه موضع الحاجة في موضوعنا، قال: « ولو ذهبنا لنبين فضل شريعة على شريعة، وفضل الشريعة المشروعة لنا معشر المسلمين على سائر الشرائع المشروعة لليهود والنصارى، وفضل التعليم الموضوع لنا في معرفة اللّه ومعرفة المعاد ومعرفة ما بينهما، لاستدعى ذلك مجلدات كثيرة مع اعترافنا بالقصور عن استيفاءذلك، ولهذا قيل في هذه الشريعة: إنها خاتمة الشرائع، وقال (ع): «لو أدركني موسى ما وسعه إلا اتباعي». وصدق رسول اللّه(ص) ولعموم التعليم الذي في الكتاب العزيز وعموم الشرائع التي فيها، أعني كونها مستعدة للجميع كانت هذه الشريعة عامة لجميع الناس، ولذلك قال تعالى: (قل يا أيهاالناس إني رسول اللّه إليكم جميعا). وقال(ع): «بعثت إلى الأحمر والاسود».
2- قال ابن حزم في فصله: فكان كلامه(ص) وعهوده وما بلغ من كلام اللّه تعالى، حجة نافذةمعصومة من كل آفة إلى من بحضرته وإلى كل من يأتي بعد موته (ص) إلى يوم القيامة من إنس وجن.وقال (في م 4، ص 180) بعد كلام في ادعاء من ادعى مجالسة الخضر وكلمه مرارا وغيره: هذا معسماعهم قول اللّه تعالى: (ولكن رسول اللّه وخاتم النبيين). وقول رسول اللّه(ص): «لا نبي بعدي». فكيفيستجيز مسلم أن يُثبت بعده نبيا في الأرض، حاشا ما استثناه رسول اللّه(ص) في الآثار المسندة الثابتة في نزول المسيح ابن مريم (ع) في آخر الزمان.
3- قال سعد الدين التفتازاني في شرحه العقائد النسفية: وقد يستدل أرباب البصائر على نبوته(ص)بوجهين: أحدهما ما تواتر من أحواله قبل النبوة وبعد تمامها، وثانيهما أنه ادعى ذلك الأمر العظيم بين أظهر قوم لا كتاب لهم ولا حكمة معهم، وبين لهم الكتاب والحكمة، وعلمهم الأحكام والشرائع، وأتم مكارم الأخلاق، وأكمل كثيرا من الناس في الفضائل العلمية والعملية، ونور العالم بالإيمان والعملالصالح، وأظهر اللّه تعالى دينه على الدين كله كما وعده، ولا معنى للنبوة والرسالة سوى ذلك، وإذا ثبتتنبوته وقد دل كلامه وكلام اللّه تعالى المنزل عليه أنه خاتم النبيين وأنه مبعوث إلى كافة الناس بل إلىالجنس والإنس، ثبت أنه آخر الأنبياء وأن نبوته لا يختص بها العرب، فإن قيل : قد ورد في الحديث نزول عيسى بعده، قلنا: نعم لكنه يتابع محمدا (ع) لأن شريعته قد نسخت، فلا يكون إليه وحي ونصبالحكام بل يكون خليفة رسول اللّه (ص) ثم الأصح أنه يصلي بالناس ويؤمهم ويقتدي به المهدي لأنه أفضل فإمامته أولى.
4- قال المحقق الدواني في شرح العضدية: وأما كونه (ص) خاتم النبيين ولا نبي بعده، فلقوله تعالى:(ولكن رسول اللّه وخاتم النبيين). ولقوله (ص) لعلي (رض): « أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي » وقال أهل البصائر: لما كان فائدة الشرع دعوة الخلق إلى الحق وإرشادهم إلى مصالح المعاش والمعاد، وإعلامهم الأمور التي تعجز عنها عقولهم ، وتقرير الحجج القاطعة، وإزالة الشبه الباطلة،وقد تكفلت هذه الشريعة الغراء جميع هذه الأمور على الوجه الأتم الأكمل بحيث لا يتصور عليه مزيدكما يفصح عنه قوله تعالى:
(اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)فلم يبق بعده حاجة للخلق إلى بعث نبي بعده، فلذلك ختم به النبوة. وأما نزول المسيح (ع) ومتابعته لشريعته، فهو مما يؤكد كونه خاتم الأنبياء.
5- قال الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده المصري في رسالة التوحيد : لم يدع الإسلام بعد ما قررنا أصلا من أصول الفضائل إلا أتى عليه، ولا أما من أمهات الأعمال الصالحات إلا أحياها، ولا قاعدة منقواعد النظام إلا قررها، فاستجمع للإنسان عند بلوغ رشده كما ذكرنا حرية الفكر واستقلال العقل ، ومابه صلاح السجايا واستقامة الطبع، وما فيه إنهاض العزائم إلى العمل وسوقها في سبل السعي، ومن يتلو القرآن حق تلاوته يجد فيه من ذلك كنزا لا ينفد وذخيرة لا تفنى، هو بعد الرشد وصاية، وبعد اكتمالالعقل ولاية! كلا (قد تبين الرشد من الغي)، ولم يبق إلا إتباع الهدى ، والانتفاع بما ساقته أيدي الرحمة لبلوغ الغاية من السعادتين، لهذا ختمت النبوات بنبوة محمد(ص) وانتهت الرسالات برسالة، كما صرحبذلك الكتاب وأيدته السنة الصحيحة، وبرهنت عليه خيبة مدعيها من بعده، واطمئنان العالم بما وصل إليه من العلم إلى أن لا سبيل بعد لقبول دعوة يزعم القائم بها أنه يحدث عن اللّه بشرع، أو يصدع عن وحيه بأمر، هكذا يصدق نبأ الغيب (33 4) (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول اللّه وخاتم النبيين وكان اللّه بكل شيء عليما).
6- من فصل طويل في مجلة المنار الاسلامي المجلد السابع:
القرآن بشر البشر بأن محمدا خاتم النبيين ،فلا حاجة بعده إلى تعليم سماوي ولا وحي جديد ، لأن تعليمه هو التعليم العالي الذي يرتقي به العقل ويستقل، فلا يقبل الشيء إلا ببرهانه، ولذلك استدل على العقائد وبين منافع الآداب والأحكام، وطالب بالدليل والبرهان، وجعله شرطا للاعراف بالصدق (قل هاتوا برهانكم ان كنتمصادقين).
القرآن جعل آية محمد الكبرى علمية أدبية، ولم يحتج على نبوته بالآيات الكونية لأنه دين العقل والآيات الكونية، لا تعقل، ولأنه دين العلم وهي لا تعلم، ولأنه جعل ركن ارتقاء البشر الهداية إلىسننه تعالى في الخلق، وكونها لا تتبدل ولا تتحول وهي على غير السنن الكونية.
7- من كتاب حياة محمد للدكتور حسين هيكل المصري:
«بلغت هذه الحياة الإنسانية من السمو ومنالقوة ما لم تبلغه حياة غيرها، وبلغت هذا السمو في نواحي الحياة جميعا، وما بالك بحياة إنسانية اتصلت بحياة الكون من أزله إلى أبده، واتصلت بخالق الكون بفضل منه ومغفرة، ولولا هذا الاتصال ولولا صدق محمد في تبليغ رسالة ربه لرأينا الحياة على كر الدهور تنفي مما قال شيئا، لكن ألفا وثلاثمائة وخمسين سنة انقضت وما يزال بلاغ محمد عن ربه آية الحق والهدى، وبحسبنا على ذلك مثلا واحدا نضربه: ذلك ما أوحى اللّه إلى محمد أنه خاتم الأنبياء والمرسلين. انقضت أربعة عشر قرنا لم يقل أحد خلالها أنه نبي أو أنه رسول رب العالمين فصدقه الناس، قام في العالم أثناء هذه القرون رجال تسنموا ذروة العظمة في غير ناحية من نواحي الحياة، فلم يوهب أحدهم هبة النبوة والرسالة، ومن قبل محمدكانت النبوات تتواتر والرسل يتتابعون، فينذر كل قومه أنهم ضلوا ويردهم إلى الدين الحق ولا يقول أحدهم: أنه أرسل للناس كافة أو أنه خاتم الأنبياء والمرسلين، أما محمد فيقولها فتصدق القرون كلامه(ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) [يوسف/111] »
فصل فريق من فلاسفة الفرنج يقول باختتام النبوة بنبوة محمد(ص) رأينا بعدما أوردناه من الدلالة وهي غيض من فيض على اختتام النبوات بنبوة محمد (ص) ومن أقوال فريق من المسلمين في بيان علله وأسبابه، أن نعززه بأقوال فريق من فلاسفة الفرنج أو أهم بحثهم العلمي المجرد ودرسهم حياةالرسول الأعظم وشريعته الجامعة ، لكل ما يصلح الجماعة البشرية وينتظم أمورها من حيث المبدأ والمعاد إلى تلك النتيجة، ولأقوالهم قيمتها لأنها صادرة عن محض الإخلاص لوجه العلم الحق، بعيدةعن كل مؤثر سوى الحقيقة التي هي ضالة كل حكيم مخلص، وللّه في محمد وشريعة محمد وكتاب محمد أسرار يرد مواردها الصافية القريب البعيد والمسلم وغير المسلم، وهي من متناول عقول العالمين. فمن ذلك قول (الأستاذ دافيد دي سانتيلانا): «إن محمدا قد ذكر المجتمع العربي بأشكاله الابتدائية، وشيد بنيانا اجتماعيا على الأسس التي كانت توافق أعمق غرائز ذلك المجتمع، فالذين يؤمنون باللّه الواحد وبنبوة محمد ويتمسكون بالتعاليم القليلة التي جاء بها محمد(ص) يصبح لهم حق الانتساب الىأمة محمد، ومحمد هو الشهيد بين العرب أمام اللّه، وقال:
ولا يمكن للّه أن يبعث أو يختار رسولا ومبشراً أو وكيلاً آخر بعد أن أرسل محمدا مبشرا للناس ونذيراً بكلمته النهائية».
ومن ذلك قول (أرنست رينان): «أما الأمة العربية التي أكرمها اللّه ورفع شأنها باصطفاء عبده الأكرممن بين أشرف أشرافها ليكون خاتم النبيين، فقد جعلت لغتها آلة تحمل شريعته التي ستدوم ما دامتالأفلاك، إذ لا نبي بعده ولا دين بعد هذا الدين ».
ومنه قول (لورا فكشيا فاليبري) الإيطالي في مقدمة كتابه المترجم إلى الفرنسية: « أنه مما لا شك فيه أنوصف محمد بتلك الأكاذيب التي كانوا يشيعونها في القرون الوسطى عنه وعن ديانته قد خفت كثيراً فيهذا العصر، وصاروا ينشدون الحقيقة التاريخية عن محمد وعن الإسلام الذي قلب وجه العالم ، وأنجماعة من المستشرقين يؤيدون رسالة محمد(ص) ويقولون: بأنه خاتم الرسل ».
ومنه قول (الدكتور ماركس): « محمد هو أول رسول سجلت جميع أقواله وقيدت عقب انتقاله إلى الدارالآخرة مباشرة، ومن هنا يتبين الإنسان المركز الممتاز الذي يتمتع به محمد ، وما تتمتع به أحاديثه منالصحة والدقة والصدق والحقيقة الثابتة هي أنه قد بُعث رسولا ليجدد للعالم رسالة هي صفوةالرسالات السابقة، رسالته هي الدستور الثابت للعالم، فكل ما جاء به محمد تستسيغه الأفهامالحديثة ».
فأنت ترى من هذه الأقوال وهي نموذج من أقوال مئات من فلاسفة الفرنج، ما يدل على أن العقل إذاخلص من الشوائب أصاب الواقع ولم يُخطىء الحقيقة، ولذلك كانت نتيجة ما أوصلهم إليه البحثالخالص هي النتيجة عينها التي قررها أئمة المسلمين من طريقي العقل والنقل ، ولا عبرة بشذوذ من شذ عن ذلك لشبهة أو لهوى في النفس.
وإليك وجوها أخرى في إبطال دعوى القادياني :
1 – أ ن القادياني لا يخالف ما أجمع عليه المسلمون من أن الشريعة التي جاء بها محمد بن عبداللّه (ص)جاءت مستكملة مستغنية عن كل تشريع، وافية بكل ما يحتاج إليه العالم الإنساني روحاً وجسداً،مبدءا ومعادا، منفردا ومجتمعاً، محددا الواجبات واجبات الفرد بالنسبة الى خالقه ، وإلى نفسه والى أسرته وإلى مجتمعه، وإلى من يدين بدينه ومن يدين بغير دينه، بل وبالنسبة إلى الحيوان الذي يستخدمهفي مرافق حياته، ففيه العبادات التي تسمو بروحه وتقوم بتهذيب نفسه وتصله بخالقه، وفيه المعاملاتالتي تنتظم جماعاته، وفيه العظات والعبر التي تقيه من مصارع السوء ، وفيه الإرشاد إلى إتباع وازعيالعقل والشرع لتعديل ملكاته واجتنابه طرفي الإفراط والتفريط، وهو بعد كافل لسعادة الانسان من كل نواحيها مبين لها أكمل بيان.
2 - أن هذه الشريعة السمحة الغراء تستمد مادتها التي لا ينضب معينها الصافي الفياض من القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومن السنة الجامعة التي لا تفترق عنه وهي المفصلة لما أجمل، ومن العمل بمضمونها بما تلقي عن الرسول الأعظم تلقيا مؤدى إلى الأمة بمنتهى الامانةوالإخلاص من رجال مخلصين صانوا الكتاب والسنة، بما استنبطوا لهما من علوم من كل زيغ وتحريف في مبنى أو معنى ، ولم يخل منهم والحمد للّه عصر من الأعصار ومصر من الأمصار، لم تأخذهم فيحفظهما والذود عن حياضهما لومة لائم، وهم بالمرصاد لكل من ناصبها العداء.
3 - أن حكمة اللّه اقتضت وقد نسخت بالشريعة الإسلامية الشرائع كافة صيانتها من الزيادة والنقصان،وبلغت بها الذروة في حكمة تشريعها التي لاءمت كل الأمزجة والطباع وجميع الأعصار وسوية البشرمن حيث إختلافهم في الرقي والانحطاط، كما أنها لم تقف بالمسلم موقف الجامد وللحياة شؤون لآفاق ومتجددات لا مناص له من التكليف بكيفياتها، شرط أن لا تشذ عن قواعد دينه الخالد (دين اللّه الحق) فقد فتحت له بما فيها من المرونة بما جمعته من الأصول والقواعد التي لا يشذ عنها فرع منالفروع المتجددة طرقا للاستنباط معبدة وصوى للاجتهاد واضحة، بحيث لا يفارقان تلك الأصول والقواعد، ولا يحيدان عنها قيد أنملة، بل جعلت لكل مجتهد نصيبه إن أخطا فله أجر واحد وإن اصاب فأجران، ورفعت العسر والحرج عن المكلف، وما من حادث متجدد إلا وله حكمة.
إن الاستنباط والاجتهاد لا يتناولان إلا ما هو ظني وأما القطعي فليس من متناولهما، والترخيص فيهما من الشارع الأعظم منحصر فيما انسد به العلم وبمن استجمع شرائطهما والإختلاف فيهما يؤديان إليه منالحكم ، شرط أن لا يتجاوز المجتهد والمستنبط الإختلاف فيما يُفهم من الألفاظ الواردة عن الشارع منطوقا أو مفهوما بإحدى الدلالات من المرخص به منه، وهو مما امتحنت به العقول، بل هو من تمام لطفه تعالى، لأن به صيانة الأحكام وحماية دين الإسلام من أن يدخل فيه ما ليس منه.
5 - إن اللّه عز وجل أرجع في محكم كتابه وفي سنة نبيه الجاهلين إلى أولئك المستنبطين في فهم أسرارالشريعة وفي أخذ أحكامها منهم، ولم يدع الأمة فوضى تتحكم فيها بمحض الآراء، وهم ليسوا أنبياء موحى إليهم.
6 - إن الأمة الإسلامية كما جاء في الحديث المستفيض من افتراقها إلى ثلاث وسبعين فرقة لمتفارق بهذا الافتراق سنة اللّه في خلقه، وكانت فيه كما نص عليه الحديث كأمة موسى التي افترقت إلى إحدى وسبعين فرقة، وأمة عيسى التي افترقت إلى اثنتين وسبعين فرقة، ولو كان من سنته تعالى الاكراه والالجاء في التكليف ولم يدعه إلى اختيار المكلفين ، لما كان ذلك الافتراق في أمتي موسى وعيسى (ع)ولا في أمة محمد(ص) خاتم رسله.
على أن معنى عدم الإلجاء في التكليف ليس هو ترك حبل المكلف على الغارب وتخليته وشأنه يتخبط في شكوكه وأوهامه، بل معناه ترك الاختيار له بعد أن هداه اللّه النجدين ونصب له الدلائل على دينه الحق وأمده بلطفه، ولم يكتب البقاء لجل الفرق المتفرعة عن الاسلام، وقد ابتعدت إبتعاداً كليا عنروحه وتعاليمه الحقة، ومنها من لم يصدق عليه اسم الإسلام، وما بقي منها فمحاط بإطار من الأسرارمحجوب عن الأنظار، ولكنه تعالى كتب البقاء والدوام لفرقتي السنة والشيعة الإمامية اللتين مهما اختلفتا في بعض أمور اجتهادية سواء أكانت في العقائد أم في الأحكام، فإنهما من حيث روح الإسلام وجوهره وحده، ولا غرو فإن من سنته تعالى بقاء الأنسب والأصح في كل شيء (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) [الرعد/17].
وهاتان الفرقتان اللتان يتألف من مجموعهما الكيان الإسلامي متفقتان على انقطاع الوحي والنبوة بعدخاتم النبيين والمرسلين.
والنتيجة لهذه المقدمات أن الإسلام غير محتاج لنبي جديد يجيء بشيء غير معلوم، ويكشف عن سر مكتوم، ومن طاقته رفع الاختلاف في الآراء والاعتقادات والاجتهاد، أو يستطيع أن يوحد المتفرق منالفرق الإسلامية الباقية، أو ياتي بما لم تستطعه الأوائل، فيجمع أرباب الأديان كلها في دين واحد، وإذا لميتفق مثل ذلك لأولياء العزم من الرسل ولا لمن خلفوهم من الأنبياء العاملين بشرائعهم بين الفترة والفترة والحافظين لتلك الشرائع من التحريف والتبديل وهي مظنة لذلك، وقد تناول الكتب المنزلة بها النقل من لغة إلى لغة والنقل غير مأمون الخطا، وأما الدين الإسلامي وله مرجعان، الكتاب المحفوظ والمعصوم من التحريف والزيادة والنقصان، فكان في مأمن منها وأمده اللّه بحفظة أمناء على تنزيله وتأويله والسنة والحديث ، وقد أُحيطا بما أُحيط به الكتاب من حيث ضبط ألفاظهما وحفظ معانيهما والتثبت من حيث صدورهما، فالدين الاسلامي وله هذان المرجعان الموصوفان بما ذكرنا محفوظ بما لميحفظ به غيره من الكتب المنزلة السابقة التي تعاورها النقل إلى مختلف اللغات، فكان من حكمته تعالى ولطفه بعباده صيانة لدينه وشريعته في البشر، أن يردهم إليه بواسطة أنبياء تابعين لا مشرعين استغنى عنهم المسلمون بكتابهم المعصوم وحديثهم المحفوظ والقائمين على رعايتهما من ائمتهم وذوي الاجتهاد والاستنباط منهم.
وبعد، فقد تبين من تلك الوجوه ومن النتيجة اللازمة لها عدم الحاجة في الإسلام إلى نبي سواء أكانمستقلاً أم كان تابعاً، ومن زعم الحاجة إلى نبي تابع أو ادعى أنه هو ذلك النبي فقد ادعى أنه بلغ رتبة النبوة، ولازم ذلك أنه ادرك من الفضل ما لم يدركه أصحاب النبي ولا أهل بيته ثقله الأصغر، ولا مننجم من أئمة المسلمين في مختلف الأعصار والأمصار، وكان وهو الأخير خيرا ممن قال فيهم النبي (ص)«خير القرون قرني» الحديث فهو في زعمه هذا في إحدى الحالين، إما مستقل مشرع وهو مانفاه عن نفسه، وإما متابع عامل بشرع النبي (ص) فهو كواحد من علماء المسلمين، فأي محصل لدعوى النبوة ودعوى مجيئه بمعجزتها لو لم يكن وراء الأكمة ما وراءها، أما كتابه الذي زعم أنه أُوحي به إليهفقد قرأنا بعض فصوله فلم نره مما يرضى بإنشاء مثله الشادي، وأما خوارقه فلم تكن إلا مجرد دعاوى إدعاها هو وأتباعه لا يؤيدها برهان ولا هي مما يروج في عصر الخوارق العلمية ومعجزات الصناعة ،فلو كان نبيا حقا لكان من مؤيدات نبوته أن يأتي بما لم يؤت بمثله ذوو الابتكار والاختراع من عصره.وأما معجزات النبي (ص) فهي تتلخص بالقرآن الموحى به إليه، المعجز ببلاغته التي تحدت بلغاء العصور إلى قيام الساعة، وبما حواه من أصول علوم، ومن حلول لمعاضل أخلاقية وإجتماعية ونظم إنسانية، وأنباء عن أمم داثرة، وأخبار عن غائبات، وبالسيرة النبوية الفاضلة التي هي بنفسها معجزة، فكتابمحمد وسيرة محمد وأمة محمد وهي خير الأمم والوسط من الأمم والشاهدة على الأمم، كل ذلك معجزات محمد، وكلها ناطقة بلسان الحال والمقال أن دين محمد خاتمة الأديان، وأنه خاتم النبيين لا نبيبعده، اللهم إلا المسيح ابن مريم لا المسيح الهندي، وهو الحاكم بشرعه كما تواترت بذلك الروايات.
إنكار نزول المسيح(ع) وحصره معنى التوفي بالموت أما إنكار نزول المسيح فيلزمه منه أحد أمرين: إما انكار ما جاء في نزوله من حديث وخبر ولا سبيلله إلى ذلك وهو يبني نبوة صاحبه عليه ويمنحه لقبه، وإما إنكار أن يُراد منه عيسى ابن مريم الاسرائيلي المعين شخصه والمبينة هويته في الحديث، بل يُراد منه غلام أحمد القادياني الهندي، ولكنالحديث الذي ينص على عيسى ابن مريم نصا صريحا لا يدع محلا لتأويله وحمله على المسيح الهنديالمزعوم.
ثم إن إنكار ورود الحديث أو إنكار حمله على عيسى ابن مريم بعد الإعتراف بوروده لا تثبُت بهمادعواه:
أولا: لدلالات وعلامات نصت عليها الأحاديث لذلك المسيح المبعوث في آخر الزمان لم يحقق المسيحالهندي منها شيئا، اللهم إلا دعاوى إنزال كتاب وعلم بالغيب وأمور خارقة يعوزها البرهان، إلى أمور أخرى لا تخرج عن مجرى العادة يشاركه فيها، بل يزيد عليه فيها عدد لا يحصى من علماء أمة محمد (ص) العاملين.
ثانيا: إن عمدة القادياني في إثبات نبوته ونفي أن يُراد في الحديث من المسيح عيسى ابن مريم هي وفاةالمسيح المقطوع بها بزعمه، ولكن ذلك على تقدير تسليمه لا تثبت منه نبوته وأنه هو المسيح الموعود به، لأنه لم تجتمع فيه صفاته ولا علاماته ودلالالته، ولكن إنكاره ورود الحديث وما ورد في معناه وادعاء نبوته مستندا إلى ما أشير إليه من أدلة تولينا نقضها، أسهل من تأييد دعواه بوفاة المسيح المقطوع بها بزعمه لتنحصر المسيحية به، لأن ذلك يؤدي إلى نسبة التعجز للقدرة الإلهية، فإنه منالجائز على قدرته تعالى إحياء المسيح بعد وفاته لآداء رسالته التي هي العمل برسالة خاتم رسله في آخر الزمان، والدلائل على وقوع مثل ذلك منه تعالى كثيرة، والقادر على الإنشاء قادر على إعادة الأشياء بعد الفناء، هذا إذا سلمنا أنه لا يُراد من الوفاة والتوفي وما يشتق منه إلا معنى الموت.
وأما حصره معنى التوفي في الموت، فحسبنا نقضا له أن ننقل جملة من نصوص أئمة اللغة والتفسير ، وإليك منها ما يتسع له المجال.
1 - التوفي تفعل من الوفاء وهو التمام، ومنه درهم واف، وأوفيت الكيل والوزن.
2 - قال الراغب الأصفهاني بعد ذكر ما شاء ذكره من مادة الوفاء:
وتوفية الشيء بذله وافيا، واستيفاؤه تناوله وافيا، (وإنما توفون أجوركم) [آل عمران/185]، (ثم توفى كل نفس) [البقرة/281]، (إنما يوفى الصابرون أجورهم) [الزمر/10]، (ليوفيهم أعمالهم) [الأحقاف/19]، (يوف إليكم) [البقرة/272]، (فوفاه حسابه) [النور/39]. وقد عرف الموت والنوم بالتوفي ، قال اللّه تعالى:
(اللّه يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها) [الزمر/42] (يتوفاكم بالليل) [الأنعام/60](يتوفاكم ملك الموت) [السجدة/11] (تتوفاهم الملائكة) [النحل/28] (توفته رسلنا)[الأنعام/61] أو (نتوفينك) [يونس/46] (توفنا مع الأبرار) [آل عمران/193] (وتوفنا مسلمين) [الأعراف/126] (توفني مسلما) [يوسف/12] (إني متوفيك ورافعك إلي) [آلعمران/55] وقد قيل: توفي رفعه واختصاص لا توفي موت. قال ابن عباس:
توفي موت لأنه أماته ثم أحياه.
3 - وفي الأساس للزمخشري في مجاز التوفي توفي فلان، وتوفاه اللّه، وأدركته الوفاة، فالوفاة بمعنى التمام هو المعنى الحقيقي، وبمعنى الموت مجاز.
4- وفي مجمع البيان للطبرسي: «(فلما توفيتني) [المائدة/117] أي قبضتني إليك وأمتني عنالجبائي، وقيل معناه وفاة الرفع إلى السماء عن الحسن. وفيه في (سورة الأنعام آية 60) (وهو الذييتوفاكم بالليل) أي يقبض أرواحكم من التصرف عن ابن عباس وغيره واختاره علي بن عيسى،وقيل معناه: يقبضكم بالنوم كما يقبضكم بالموت، فيكون كقوله تعالى: (اللّه يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها) عن الزجاج والجبائي (الزمر آية 42) (اللّه يتوفى الانفس حين موتها) أي يقبضها إليه وقت موتها وإنقضاء آجالها، والمعنى حين تموت أبدانها وأجسادها على حذف مضاف،والتي لم تمت في منامها أي ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها والتي تتوفى عند النوم هي النفس التييكون بها العقل والتمييز، وهي التي تفارق النائم فلا يعقل»
فأنت ترى من هذه النصوص أن الوفاة والتوفي وما إليهما مأخوذة من مادة الوفاء وهو التمام حقيقة والاستيفاء وإطلاقها على الموت مجاز وأن التوفي في الآية (فلما توفيتني) مختلف فيه بين أن يكون وفاة موت أو وفاة رفع.
وأما تحدي صاحب التوضيح بأن التوفي إذا كان من باب التفعل، فليس معناه سوى الموت، فلم تلح لنا العلة باستئثار هذا المشتق من مادة الوفاء دون غيره من المشتقات بهذه المزية، وهل نص على ذلك أحد من الائمة ؟ وقد عرفت أن لفظ التوفي في الآية (فلما توفيتني) يحتمل معنى الموت وغيره، ومما هو نص في غير معنى الوفاة ما ورد في سورة آل عمران (آية 185) (وإنما توفون أجوركم). وفي سورة البقرة (آية 281)(توفى كل نفس). فهذا جواب التحدي باستعمال هذا الحرف في غير معنى الموت. وأما استعمال بقية مشتقات الوفاة في غير الموت فنعد فيه ولا نعدد مما ورد في الذكر الحكيم 1 (ووفيت كل نفس) 2(وإبراهيم الذي وفى) 3 (فوفاه حسابه) 4 (نوف إليهم أعمالهم) 5 (فيوفيهم أجورهم) 6 (ليوفينهم ربكأعمالهم) 7 (إنما يوفى الصابرون) 8 (يوفى إليكم وأنتم لا تظلمون). وفي هذا كفاية.
فصل رأينا قبل سد هذا الباب عقد هذا الفصل لبيان ما يحتاج إلى البيان ولتفصيل بعض ما أجملناه فيتضاعيف بحثنا في نقض مزاعم القادياني بعض التفصيل بقدر ما يتسع له المجال، وينحصر ذلك فيأمرين:
الأول : في حياة المسيح وبقائه حياً إلى أن يؤدي راسلته التي هي عين رسالة محمد(ص) وفيهوجهان:
الوجه الأول: أن إطالة العمر وامتداد الحياة مما جوزه العقل والعلم وحسبك دليلا على اإمكانه وعدم استحالته، أن الأطباء والحكماء لم يزالوا قديما وحديثا يولون شطره جانبا من اهتمامهم، علهم أن يظفروا بأسبابه فيقربوها وبموانعه فيُلاشوها، وقد عبر عنه بحجر الفلاسفة، ويرى كثير ان الكيمياء وحجرالفلاسفة رمز عن إطالة الحياة في عرفهم، وإليك ما جاء في أمالي الشريف المرتضى في هذا البحث بعد إيراده ما جاء في كتاب المعمرين.
أما من اأطل تطاول الأعمار من حيث الإحالة وأخرجه من باب الإمكان فقوله ظاهر الفساد، لأنه لوعلم ما العمر في الحقيقة وما المقتضى لدوامه إذا دام وانقطاعه إذا انقطع، علم من جواز امتداده ما علمنا،والعمر هو استمرار ركون من يجوز أن يكون حيا وغير حي حيا، وإن شئت أن تقول: هو استمرار الحي الذي لكونه على هذه الصفات ابتداء حيا، وإنما شرطنا الاستمرار لأنه يتعذر أن يُوصف من كانحاله واحدة حياً بأن له عمرا، بل لا بد من أن يُراعوا في ذلك ضربا من الامتداد والاستمرار وإن قل،وشرطنا أن يكون ممن يجوز أن يكون غير حي، أو يكون لكونه حيا ابتداء لئلا يلزم عليه القديم تعالى،لأنه تعالى جلت عظمته ممن لا يوصف بالعمر وإن استمر كونه حيا، وقد علمنا أن المختص بفعل الحياة هو القديم تعالى، وفيما تحتاج إليه الحياة من البينة والمعاني، وما يختص به عز وجل، ولا يدخل إلا تحتمقدروه كالرطوبة وما يجري مجراها، فمتى فعل القديم تعالى الحياة وما يحتاج إليه من البينة، وهي مما يجوز عليه البقاء وكذلك ما تحتاج إليه، فليست تشفى إلا بضد يطرأ عليها أو بضد ينفي ما يحتاج إليه،والأقوى أنه لا ضد لها في الحقيقة، وإنما ادعى قوم بأنه لا يحتاج إليه ولو كان للحياة على الحقيقة لم تحل بما قصدناه في هذا الباب، فمهما لم يفعل القديم تعالى ضدها أو ضد ما تحتاج إليه ولا نقض منا ناقضبينة، أي استمر كون الحي حيا، ولو كانت الحياة لا تبقى على مذهب من رأى ذلك لكان ما قصدناه صحيحا، لأنه تعالى قادر على أن يفعلها حالا فحالا ويوالي بين فعلها وفعل ما تحتاج إليه فيستمر كونالحي حيا، فأما ما يعرض من الهرم بامتداد الزمان وعلو السن وتناقض بنية الانسان فليس مما لا بُد منه، وإنما أجرى اللّه تعالى العادة بأن يفعل ذلك عند تطاول الزمان، ولا إيجاب هناك ولا تأثير للزمان على وجه من الوجوه وهو تعالى قادر على أن يفعل ما أجرى العادة بفعله، إذ أثبتت هذه الجملة ثبت أن تطاول العمر ممكن غير مستحيل ، وإنما أتى من أحال ذلك من حيث اعتقد أن إستمرار كون الحيحياً موجب على طبيعة وقوة لهما مبلغ من المادة متى انتهت إليه انقطعتا واستحال أن تدوما، ولو أضافوا ذلك إلى فاعل مختار متصرف لخرج عندهم من باب الإحالة.
هذا إلى كلام يطول بنقله الكلام. وفي كنز الفوائد لتلميذ المرتضى أبي الفتح محمد بن علي الكراجكي بحث طويل في ذكر المعمرين وإمكان إطالة العمر ووقوعه، وذكر المعمرين من الأنبياء ومنهم من نصعليه الذكر الحكيم، ونقصر من ذلك البحث كله على هذه الجملة «والعمر هو اتصال كون الحي المحدود حيا، فهذا الإتصال إنما يكون بدوام الحياة والحياة فعل اللّه تعالى فليس يستحيل منه إدامتها، وكلما جاز أن يفعله اللّه تعالى من طول العمر فإنه يجوز أن يفعله مثله في دوام الصحة والقوة وعدم الضعف والهرم ».
وحكماء هذا العصر بعد تسليمهم بإمكان إطالة العمر يبحثون في أسباب وقوعه وموانعه، فهل بعد ذلك من المستحيل أو المستبعد على من بيده أسباب الموت والحياة أن يُلهم عبدا من عباده لمصلحة تخفى علينا معرفة أسباب إطالتها ؟ الوجه الثاني: أن إطالة الحياة خارجة عن العادة مما وقع، وحسبنا على ذلك دليلا ما ورد في القرآنالكريم من إطالة حياة نوح عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، ومن بقاء الخضر حيا كما استفاض بذلك الخبر، ومن تعمير إبليس إلى يوم البعث والنشور، ، وقول آخرين من السنة والشيعة بحياة المسيح. أما حكمة بقاء المسيح حياً واستمرار حياة المهدي فإنا نكل أمرها إلى اللّه تعالى، وهي مما خفي علينا من أنباء الغيب،على أن ما نراه مخالف للعادة حسب مبلغنا من العلم وهو القليل في جنب ما هو مجهول لنا منالمعلومات غير المتناهية، والتي هي من متناول العقول التي يمكن أن تصل إليها إذا اتجهت شطرها همات أنظارها وعزائم قواها أن يُرينا العلم والعلماء (وفوق كل ذي علم عليم) ما كان مخالفا للعادة جاريا مجرى العادة.
أما استدلال صاحب التوضيح على موت المسيح وإنكار المهدي بفتوى شيخ جامع الازهر، فليستهذه الفتوى مما تغير إعتقاد من يعتقد عكسها ولهذا الإعتقاد دليله، وما كانت الأمور الإعتقادية التيتختلف فيها أنظار المعتقدين وأولتهم مما يزيل إعتقاد من يعتقد غير اعتقادهم المبني على دليله هذا أولا،وثانيا هب أن المسلمين جميعهم عملوا بهذه الفتوى، فهل يفيد ذلك التسليم بنبوة المسيح الهندي ؟ وهلا استفتوا شيخ جامع الأزهر إذا كان لفتواه وزن عندهم بزعم بقاء الوحي وبقاء النبوة ونبوةمسيحهم ؟ الثاني: أن القول بوفاة المسيح، سواء أكانت إلى وقت ما وردت إليه، الحياة ورفعه اللّه إليه أم كانتمستمرة إلى اليوم الموعود لرجوعه إلى الدار الدنيا وآدائه رسالة محمد (ص) لسر غيبي وحكمة خفيت علينا، هو من الممكن في قدرته تعالى، بل ومن الواقع الذي أخبرنا به نص الكتاب المبين الذي لا يقبل التأويل ولا يخرج عن سنن اللغة وأساليبها، ويصرف إلى رموز حمله عليها افتئات ومحض تحكم،كاحيائه تعالى الطير لابراهيم خليل اللّه (ع) لإرادته كيف يحيي الموتى، وإحياء قتيل بني اسرائيل، وإماتة الذي مر على قرية وإحيائه وإحياء حماره ومبعثه إلى مائة ألف أو يزيدون، وإحيائه الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، وخلق الطير من الطين معجزة للمسيح(ع) فإذا كان ذلك وهو مما أخبر به الصادق الذي لا يكذب ولا يُكذّب، واذا اعطى اللّه مسيحه هاتيك المعجزات تأييدا لنبوته ورسالته وكانت ولادته معجزة له وتكليمه وهو في المهد معجزة، فهل من المستبعد على قدرته تعالى أن يُحييه ليتم به أمره وينجز وعده عاملا بشريعة خاتم أنبيائه ورسله صلوات اللّه عليه وعليهم أجمعين.
فصل أطال صاحب التوضيح الكلام في الاستدلال على نبوة صاحبه بما لا طائل تحته ولا يحصل منهعلى محصل، فلندع ذلك إلى المهم من نقض ما تمسك به من دليل، وهو أجدر من تلك المحاولات بالنظر والبحث.
الدليل الاول:
استدل على صدق دعوى أحمد غلام النبوة، بأنه ما كان أفاكاً أثيماً بل كان صادقا أميناً.
وثانياً: أرشدونا إلى الطريق التي يُعرف بها الصادق من الكاذب وما كنا لها جاهلين. ثالثاً: إن دعوى مبتنية على الوحي الذي أوحى إليه، وان هذا الوحي إما أن يكون من اللّه أو من الشياطين وأنالشياطين لا تتنزل إلا على كل أفاك أثيم ، والنتيجة من هاتين المقدمتين أن دعواه الوحي صحيحة لأنهلم يكن أفاكاً أثيماً.
والجواب: أما عن الأول ، فإن كون غلام أحمد غير أفاك أثيم وأنه صادق أمين، إن دل على صدقه فلا يدل على نبوته، والصدق شيء والنبوة شيء آخر، وليس كل صادق نبياً، ولقائل أن يقول:
إن الدليل هو نفس الدعوى لابتنائها على صدقه في ادعائه النبوة، وقضيته تنحل إلى أنه نبي لأنه صادق أمين،وأنه صادق أمين غير أفاك أثيم لأنه نبي، ووجه آخر وهو أن للصدق حدودا وللكذب حدودا، وخبر مطلق المخبر محتمل للصدق والكذب بما هو ممكن الوقوع، وأما إخباره بالمستحيل أو بما هو كالمستحيل عند إقامة الدليل القاطع على عدم وقوعه كالقطع باختتام النبوات بنبوة خاتم الأنبياء وإنقطاع الوحي،فالصادق والكاذب سيان في عدم الاعتداد بخبرهما المخالف للواقع.
وأما عن الثاني، إذا كان عارفا بالطرق التي يعرف بها الصادق من الكاذب، فأي معنى لطلبه الارشاد إليها، وهو يعلم أن الصدق هو الإخبار بما يمكن وقوعه والكذب بما لا يمكن وقوعه لا يتيسر له إنكار أن يُخبر الصادق بما لا يقع لشبهة أو لخطأ في الحدس أو الحس إذا صح نفي الكذب عنه عن عمد وقصد وتصميم، فلا ينتفي عنه الخطأ والاشتباه إن أحسن به الظن.
وأما عن الثالث، فإن التسليم بنتيجة شكله يتوقف على التسليم بصغراه، وهو دعواه الوحي الذي أبطلناه كما أبطلنا بقاءه واستمراره في باب التعليق على الوحي، وبكبراه التي بناها على مانعة الخلو من أن الوحي إما أن يكون من اللّه أو من الشياطين، فإن هذا الوحي وهو وحي النبوة مما أبطلناه، وأماالوحي بمعنى الالهام والهداية لمن جاهدوا في سبيله تعالى لا بمعنى وحي النبوة، فهو أجدر بان تصدقعليه مانعة الخلو وأحرى ان يكون جائزا، فنتيجة قياسه التي ادعى أنها صحيحة غيرصحيحة.
الدليل الثاني:
استدل على نبوته بصدقه في الاخبار عن المغيبات وأنها من طريق الوحي، كاخبار النبي(ص) وصدقه في اخباره، وأنه قد تحدى الناس بآية من كتابه (تذكرة الشهادتين) وملخصها أنه لم يعرف في مدةحياته بالكذب وأنه لازم التقوى منذ نعومة أظفاره.
والجواب: أما عن صدقه في الاخبار عن المغيبات وأنها من طريق الوحي، فعلى فرض التسليم بهذاالادعاء فإنا لا نسلم أنه من طريق الوحي أي وحي النبوة وأنه من أدلة نبوته، فإنا نقرأ ونسمع عنفريق من الناس تنبأوا عن وقوع أمور بصحة حدسهم ولطف حسهم فوقعت كما تنبأوا، ونبوتهم هذه لمتكن عن وحي نبوة ولا كان من صحت نبوتهم ممن ادعى النبوة قط، وإنما كان يكون ذلك منمقاييس استنتجها كل واحد منهم مما في دائرة اختصاصه، كأخبار رجال الحرب بوقوع حرب بيندولة وأخرى، وأخبار رجال السياسة بنهوض أمة وسقوط امة، وتكهن علماء الاختراع بإمكان وقوع إختراعات يعدها الجاهلون ضروبا من المستحيلات، وكلها لا تخرج عن الأسباب الطبيعية والسننالكونية.
وقد أخبر الصحابة رضوان اللّه عليهم بأمور وقعت كما أخبروا، وقد يكون أخبارهم متلقى عن وحيصاحب الوحي، ولعلي أمير المؤمنين(ع) من ذلك الشيء الكثير، وللصوفية أنباء عن المغيبات، وإيراداً لشواهد على وقوع ذلك مما يطول به الكلام، وما من أحد من هؤلاء المنبئين بالغيب ممن إدعى وحيا أو نبوة.
ثم إن دعوى علم الغيب في عصر كاد يكون السلطان فيه للمادة على الروح، والعلم والمعرفة علىالفلسفة العقلية، وساور النفوس الشك في كل ما وراء المادة، واضطر المتألهون والمصدقون بالنبوات إلىتأويل معجزاتها التي نصت على وقوعها الكتب السماوية بما ينطبق على العلم ويقربها إلى الأذهان وحملها على رموز وكنايات، ومنهم المسيح الهندي الذي يفسر كثيرا من آي القرآن المجيد بغير مافسرها به المفسرون لهذه الغاية.
إن هذه الدعوى ليست مما تثبت به النبوة وتحوم حولها شكوك كثيرة، الشك في صحتها، الشك فيصدق كل ما أخبر به، الشك في أن التسليم بها هل هو ناشىء عن مجرد الوثوق بالمخبر أو عن مشاهدة ومعاينة، الشك في أن كل ما أخبر به وقع كما أخبر عن استقراء ، أم عن قياس ما لم يعلم على بعض ماعلم، ومما يمكن حصول مثله عن حدس وتجربة من المتنبىء وغير المتنبىء.
ووجه آخر وهو أن التسليم بنبوة الانبياء يتفاوت على نسبة ما بين من يسلم بها من علم وجهل وذكاءوفطنة وغباوة وبلاوة وما إلى ذلك، وبكل يفسر الأمور الحادثة والوقائع المتجددة على ما يؤديه إليه فهمه، وهم بعد أصناف على نسبة التفاوت ما بينهم في الافهام، فمنهم من يقنعه الخطاب، ومنهم من يقنعه الجدل، ومنهم من لا يقنع إلا بالبرهان والقياس المنطقي، ومنهم من تقنعه الظواهر، ومنهم من ينفذ ذهنه إلى ما وراءها، وكمثل هذا التفاوت بين الأفراد التفاوت بين الأمم والجماعات، وكما أن للإنسانتطورات في حياته الجسيمة تلازمها تطورات في حياته العقلية والأدبية حتى يبلغ رشده، فللأمم مثلذلك التطور في الحياة العقلية والأدبية، والشرائع الإلهية كانت تتنزل على الأنبياء المؤيدة نبواتهمبالمعجزات مراعية تطوراتهم في سلم الحياة الروحية، كانت أمة موسى(ع) منصرفة إلى الحياة المادية الصرف وفي عصر رواج الشعوذات والسحر، فكانت شريعته أكثر مادية في تعاليمها منها روحية،وكانت معجزته إبطال سحرهم وتخيلاته وإذعانهم إلى نبوته، وكانت أمة عيسى في عصر الفلسفة الروحية ورواج فلسفة سقراط وأفلاطون ومثله وجالينوس وبقراط وطبهما، فكانت معجزته من نوع ما في ذلك العصر من روحية ومن طب ظهر ما عالج به المرضى وما جاء به من معجز لا يصل إليهالطب على ما يحسنونه منه وعجزوا عن مثله فاذعنوا لشريعته، وكانت الأمة العربية على بعدها عنالحضارات وتفرقها في الجزيرة أوزاعا وأشياعا وشعوبا وقبائل وعكوفها على عبادة الأصنام في عصر رواج الفصاحة والبلاغة والغاية بالخطابة والشعر، وهي على حال ليس فيه شيء من النظام وفي حياةتتنازعها المادة والروح مملوءة بالخيالات والأوهام، فكانت رسالة محمد(ص) وسطا بين رسالاتالنبيين للمادة منها جانب وللروح جانب، وفيها النظام الكامل، وفيها ما يكفل صلاح الأمم البالغة رشدها إلى قيام الساعة، والأمم كافة على ما بينها من التفاوت في الرقي العلمي والفكري، وكانتمعجزته الخالدة القرآن المجيد الذي عجز بلغاء العرب في عصره ومختلف العصور عن أن يأتوا بمثلسورة من سوره وأقصرها، بل وعن آية واحدة من أيها، كما أعجز بلغاء كل الأمم إلى أن تقوم الساعة عن الإتيان بمثله وبمثل آية من آياته.
إن إعجاز القرآن كما هو في بلاغته التي لا يُدرك أمدها، فهو معجز فيما قص من أخبار أمم دارسة جهلها التاريخ والمؤرخون وفي حكم وضرب أمثال لم يرو مثلها لحكماء اليونان وغيرهم من حكماء الأممالأخرى ، وهو معجز في تشخيصه أدواء النفوس في الأمم والأفراد ووصف أدويتها، ومعجز في نظمه وشرائعه التي بذت كل ما سنه متشرعو الأمم، ومعجز في أخباره عن كثير من الغائبات ووقوعها، وفيماحواه من أصول العلوم وفي ملاءمته لكل الطبائع والأمزجة، وتأليفه بين العقل والشرع، ومعجز فيمناجاته النفوس ونفوذه من الأذان إلى مسامع القلوب وشعورها كلما تكررت تلاوته تجددت حلاوته وطلاوته، معجز بكل ما في آي اللّه في اصلاح فطر البشر من إعجاز.
إن القرآن لا الإخبار عن المغيبات التي هي مظنة للشكوك هو معجزة محمد الخالدة ، وكما كان دليلنبوته وشاهد صدقه العدل وقت تنزيله فهو معجزته اليوم حيال معجزات اليوم، فهلا أتى المسيح الهندي إن كان كما يزعم نبيا موحى إليه بمعجزة من نوع ما هو ملائم لروح عصره مستوحاة من علومه وفنونه وإختراعاته ، بحيث يعجز أبناؤه عن الإتيان بمثلها، أو من نظمه بحيث يجيء بتعاليم تنتظم أمورالجماعات انتظاما ما يقضي على أكثر ما في أنظمته من مفاسد، وبحيث تنزع ما في النفوس من مبادىء ضارة أو من دساتير حكوماته، فتصلحها إصلاحا تذعن له الأمم وتدين كلها به.
إن ما في سيرة محمد وكتابه وسنته علاج لكل ما في الجماعات البشرية من أدواء إن طُبقت مبادؤها كلها على النوع الانساني، وهي زعيمة سعادته وخلاصه من كل ما يتعثر به من سمومها ونقائصها،وفيها الغناء عن نبي جديد وكتاب جديد، وعن معجزة الإخبار عن المغيبات التي تحط في هذا العصر عصر النور والعلم والحقائق من منزلة مدعي العلم بها، كما أنها لا تقع من نفوس الباحثين العارفينموقع الدليل على نبوته أو ما يصلح أن يكون دليلا عليها.
ووجه آخر في مسألة الإخبار عن المغيبات ذكره ابن خلدون في مقدمته ولا نتحمل عهدته، قال: ثمنجد في النوع الإنساني أشخاصا يخبرون بالكائنات قبل وقوعها بطبيعة فيهم يتميز بها صنفهم عن سائرالناس، ولا يرجعون في ذلك إلى صناعة، ولا يستدلون عليه بأثر من النجوم ولا من غيرها، إنما تجدمداركهم في ذلك بمقتضى فطرتهم التي فطروا عليها، وذلك مثل العرافين والناظرين في الأجسامالشفافة كالمرايا وطساس الماء، إلى أن قال: وهذه كلها موجودة في عالم الإنسان، لا يسع أحداً جحدها ولا إنكارها، وكذلك المجانين يلقى على ألسنتهم كلمات من الغيب فيخبرون بها، وكذلك النائم والميتلأول موته أو نومه يتكلم بالغيب، وكذلك أهل الرياضيات من المتصوفة لهم مدارك في الغيب علىسبيل الكرامة معروفة.
ووجه آخر وهو أنه إذا صح ما يعزو أصحاب المسيح الهندي إليه من معجزة الإخبار عن الُمُغيبات وجله مما وقع بزعمهم في الهند، فكيف انحصر العلم به فيهم، وإن وقوع مثل ذلك لمن الحوادث التي لايعقل أن يختص بعلمها فريق دون آخر، والعصر عصر إنكار للمعجزات وللعلم بالمغيبات وهو مظهرمن مظاهرها فكان على نبي الهند وقد قدم بين يدي دعواه النبوة معجزة الإخبار عن المغيبات، أن يمهدلهم أسباب الإطلاع عليها ليؤمنوا برسالته إن كانوا مما يرونها سببا للإعتراف بها وأن النبوة لاتستخلف عنها، ولو حصل ذلك لانتشر في الشرق والغرب، خبره ووسائل الانتشار لا تحصى وترصد الحوادث والأخبار حتى للتوافه دع جلائلها ملء الشرق والغرب فكيف تذاع في الخافقين كهانة متكهن قد تقع أو لا تقع، وتطوي أخبار المسيح الهندي عن المغيبات عن سكان الهند وهم مئاتالملايين ، بل وعن من يبلغ خبرهم مبلغ التواتر من الهنديين، وعن سواهم ممن يتتبعون سير الحوادث دقيقها وجليلها وغرائب الأنباء وتنحصر في القاديانيين.
ووجه آخر وهو ما نختم به هذا البحث، وهو أن الذين يصدقون بالمغيبات والكشف عن المخبئات وينقلون حديثها إلى الناس، جلهم أو كلهم ينقل ما قد يصدق إتفاقا من طريق التخمين والحدس لا منطريق العلم بالغيوب المحجوب، إلا عمن اصطفاهم اللّه لرسالته لمصلحة أداء الرسالة ويطوي خبر ما لميصدق وكثير من الناس ولوع بالغرائب والتحدث بالغرائب، وإذا كان للناقل تأثر بعقدة بالمنقول عنه أووثوق به، كان الإخبار عما يزعم من العلم بالمغيبات إدعى لترويجه بين الناس لحملهم على إتباع نحلته وتصديق دعواه. ويروي البخاري عن عائشة (رض) سأل أناس النبي (ص) عن الكهان، فقال: «إنهمليسوا بشيء». فقالوا: يا رسول اللّه فإنهم يحدثون بالشيء يكون حقا، قال: فقال النبي(ص) «تلكالكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرقرها في أذن وليه كقرقرة الدجاجة فيخلطون فيه أكثر من مائةكذبة»
وجواب تحديه الناس بأنه لم يعرف في مدة حياته بالكذب وأنه لازم التقوى منذ نعومة أظفاره، إنا لانرى موجبا لهذا التحدي، فإن في الأمة ممن جمع هاتين الصفتين من يضيق بعدهم وحصرهم نطاقالبيان، فهل وازن فيهما خيار الصحابة والعلية من التابعين وتابعيهم وأئمة أهل البيت، بل وهل جمع اليهما ما أوتوه من علم واسع وجرأة في نصرة الحق ومناهضة الظالمين مناهضة لم يرهبوا بها سلطانهم ولاتخوفوا صولتهم.
هل كان أصدق لهجة من أبي ذر الغفاري واتقى منه للّه، ومن عمرو بن الحمق، وحجر بن عدي وأصحابه، ومن سعيد بن جبير، ومن أويس القرني، ومن عمرو بن عبيد، والأوزاعي ومن أشباههم ونظرائهم، ومن لم تخل الأمة من أمثالهم قديماً وحديثاً، فإن كان ما اجتمع بهم من الصدق والتقوىوالعلم والجرأة مما يبلغون به درجات النبوة، فهلا ادعوها وكانوا أنبياء، بل وكان عليهم لزاما أنيدعوها إن لم تكن أُختتمت بنبوة خاتم الأنبياء والمرسلين وكانوا أحق بها وأهلها إن كان بابها لم ينسد وكانت مما يجوز وقوعه، وهل كانت مذخورة لنبي الهند وحده؟ وهل كان أعظم أثراً في خدمة الإسلاموأحوط عليه منهم ؟ على أن الصدق والتقوى كما اجتمعا في كثير من أمة محمد (ص) وكانا وما زالا وكل ما تصان به شريعته الخالدة متوفرة في الصادقين والمتقين من رجالها، ولم تكن حجرا على مسيح الهند ومن يطبع على غراره، فقد اجتمعا في كثير ممن يدين بغير دين محمد(ص) بل وبمن مرق عن دين محمد وهم الخوارج الذين ورد فيهم الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما من طرق تعتصر منها على طريق مسند إلى أبي سعيد الخدري عنه(ص) أنه قال: «يخرج في هذه الأمة ولم يقل منها آقوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حلوقهم أو حناجرهم ، يمرقون من الدينمروق السهم من الرمية، فينظر الرامي إلى سهمه إلى نصله إلى رصافة، فيتمارى في الفوقة هل علق بهامن الدم شيء»
وبعد فأنت ترى أن الصدق والتقوى ليس مما يتعذر وجودهما أو مما لا يقع إلا من نبي أو مدعي النبوة،ليكونا معجزة على نبوة نبي الهند، أو ليتخذ منهما دليلا على صدق ما أخبر به عن المغيبات التي هي آية نبوته المزعومة.
الدليل الثالث:
وهو أن أتباعه ليسوا من الغاوين، وأنهم على جانب عظيم من التقوى ومن الصالحين، وأنه بعث روحها في مئات من الألوف الذين بايعوه يغبط عليها، وأن من أتباعه ألوفا من الشبان خريجي أعظم كليات وجامعات الهند وأوروبا وأميركا يؤدون الصلوات الخمس، وأن فيهم المرشدين والمبشرين في الإسلام،وأن جماعة كبيرة من أهالي أوربا وأميركا وإفريقية وغيرها من الأقطار اعتنقوا بواسطتهمالإسلام.
ولنا على هذا الدليل وجوه من النقض:
1 - أن دعوى أن أتباعه ليسوا من الغاوين وأنهم على جانب عظيم من التقوى إلخ، فإنها دعوى خطيرةجداً، فإذا لم يتم لموسى وعيسى ومحمد(ص) وهم أولو العزم من الرسل اتصاف أتباعهم جميعهم بما وُصف به أتباعه، وكان فيهم المؤمن حقا والمتزلزل إيمانه والمنافق، فكيف تم ذلك لمسيح الهند علىأكمله ؟ وبلغ هو وأتباعه درجة الإنسان الكامل المنشود، وإذا كان مثل ذلك من أدلة النبوة فأحرى بها أن تكون من أدلة نبوات أولئك الأنبياء الكرام.
2- أن بعث روح دعوته في مئات من الألوف ليس من المعجز الذي لا يقع مثله ليصلح دليلا علىنبوته، فإنا نرى الملايين من الناس بل ومن أرقاهم بل وبعض الأمم بكاملها قد اعتنقت عقيدة اجتماعية أو سياسية حتى أصبحت لها دينا تدين به وشريعة تبشر بها، فلو كانت كثرة الأتباع لمن يضع مبدءاجديدا أو فكرة جديدة أو دينا جديداً دليلاً على نبوة مبتدعها ومخترعها، لكان أولئك الذين دانت لفكرتهم ونحلتهم مئات الملايين أجدر بإدعاء النبوة.
ثم إن عدد أتباعه مهما بلغوا من الكثرة، فهل يحسبون شيئا مذكورا في جنب من لا ينتحل نحلته ومن لايدين بنبوته من الفرق الاسلامية ؟ وأما قوله: غن من أتباعه ألوفاً من الشبان خريجي الكليات والجامعات يؤدون الصلوات الخمس، وإن فيهم المرشدين والمبشرين في الإسلام، واعتناق جماعة كبيرة من أوروبا وأميركا وأفريقية الإسلام بواسطتهم، فإن فيمن لم ينتحل نحلتهم ولا يدين بنبوة المسيح الهندي من خريجي الكليات والجامعاتمن فرق المسلمين من يؤدي فروضه الدينية ويقوم بقسط وافر من التبشير بالإسلام والذود عنحياض الإسلام وهم يبلغون مئات الألوف، ومنهم الجم الغفير من وطنه الهند ومن إيران والأفغان وبخارى، وأما ما لأبناء الطريقة السنوسية من أثر بعيد وعمل مجيد في نشر الاسلام والتبشير بالرسالة المحمدية ونشر المدارس وإقامة المآوي في جميع البلاد الإفريقية الشمالية وتغلغلهم جنوبا في القارةالإفريقية بحيث تمكنوا من إدخال الملايين من الزنوج في دين الإسلام، فذلك ما لم يتسع له المقام وتجده مبسوطا في تعليق أمير البيان على حاضر العالم الاسلامي.
فهل ادعى زعيم ديني من السنوسيين النبوة واتخذ ما جاء به من عمل عظيم معجزة لها؟
3 - إن كثرة من بعث فيهم دعوته، وهي لا تخرج كما يدعي وكما هو ظاهر الحال عن روح الاسلام وعقائده المتصلة إتصالاً وثيقاً بالفطرة الإنسانية وتعاليمه الملائمة لكل مزاج، والذي اعترف الغريب الباحث المدقق في الأديان بأنه دين العقل والعلم، ما كانت ولن تكون تلك الكثرة المزعومة مستندة إلى وحي ونبوة غير وحي محمد ونبوة محمد(ص) وكتابه الخالد المبشر بنفسه لنفسه.
ثم إن مثل هذه الكثرة في الأتباع، بل وقد تزيد عليها الكثرة التي يدعيها أتباع الباب والبهاء الذين ارتقوا بعدها إلى الملايين ومنهم المنورون وخريجوا الكليات والجامعات، لو كانت هذه الكثرة مما يتخذ دليلا وبرهانا ومعجزة على النبوة، لكانت تكون معجزة على صحة دعوى البابيين والبهائيين، على أنالتفاوت عظيم بين دعوى القادياني التي لم تخرج عن روح الإسلام وتعاليمه الحقة لولا دعوى الوحيوالنبوة، وبين دعوى البابية والبهائية التي هي في الواقع ونفس الأمر دعوة الى دين جديد، ذي كتابجديد وأن من أتباعها ألوفاً ضحوا بأنفسهم في سبيلها، والدعوة القاديانية كما يصرح القاديانيون هيدعوة إلى الإصلاح الاسلامي لم ينفردوا به وقام بمثله العشرات بل المئات من أئمة المسلمين بدون دعوى وحي ونبوة.
الدليل الرابع:
قول القاديانية: أن لديهم أدلة عديدة تجل عن الحصر بعدم بقاء النبي 23 سنة، وبعدم فلاحه وانتشاردعوته إذا كان كاذبا، وأطالوا الكلام في هذا المضمون.
وجوابه من طريقين:
الأول: بالنقض، فإنه لو صح على إطلاقه لما بقي كثير من النحل المتفرعة عن الدين الاسلامي بل وغيرها إلى يومنا هذا، وقد قامت على أسس دعوى الإلهية أو النبوة وبين عقائدها وتعاليمها وبينعقائد الأديان السماوية الصحيحة وتعاليمها بون عظيم، ومنها من طوت القرن والقرنين، ومن طوت مئات السنين، ومنها من طوت ألوف السنين.
والثاني: بالحل وهو من وجوه:
1 - أن الظاهر من تحديد عدم بقاء مدعي النبوة بثلاث وعشرين سنة من كانت دعواه النبوة العامة، وهي متحققة في دعوى محمد(ص) العامة الناسخة لكل دعوى نبوة، عامة ويدل على الخصوصية قولهتعالى: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين) [الحاقة/46]والمفهوم من هذه الآية الكريمة أنه لم يؤخذ منه باليمين ولم يقطع منه الوتين، لأنه لم يتقول عليه تعالىبعض الأقاويل، ومثل هذا العقاب لازم في حكمته تعالى وفي لطفه بعباده لمن يدعي مثل هذه النبوة،وهو كاذب لما فيها من التضليل والاستغواء وعموم الفساد، لأن في مثل إبقاء مثل هذه النبوة الكاذبة فيالأرض تبديلا لأديان الرسل ونسخ شرائعهم وحل نواميسهم، وليست الحال في دعوى النبوةالخاصة الكاذبة.
2 - يقول ابن القيم الجوزية في كتابه (التبيان في أقسام القرآن): ولا ينتقض هذا بمن ادعى النبوة منالكذابين، فإن حاله كانت ضد حال الرسول من كل وجه، بل حالهم من أظهر الأدلة على صدق الرسول، ومن حكمة اللّه سبحانه أن أخرج مثل هؤلاء إلى الوجود ليعلم حال الكاذبين وحال الصادقين، وكان ظهورهم من ابين الادلة على صدق الرسل والفرق بين هؤلاء وبينهم، فبضدها تتبينالأشياء، (والضد يظهر حسنه الضد)، فمعرفة أدلة الباطل وشبهه من أنواع أدلة الحق وبراهينه.
3 - على فرض نزول العقاب منه تعالى على كل من يدعي النبوة سواء أكانت عامة أم خاصة، فإن ذلك إنما يكون فيمن يزعم أنه جاء بدين جديد غير دين محمد ناسخ الأديان، لا فيمن يكون تابعا لهغير مبدل شيئا من اصوله وفروعه، وإنما كل ما في الأمر ادعاؤه عن شبهة بقاء الوحي واستمرار النبوة، وأنه ممن يوحى إليه، وأنه نبي متابع لنبوة محمد عامل بشرعه، وفتحه باب التأويل فيما يمكن أن تكون فيه رخصة أو لا تكون ولا بعد مثله خروجا على الشريعة كما هو الظاهر من حال القادياني، فإنه مع وجود المعارض له لا يكون ممن يستحق ذلك العقاب، وهو الأخذ منه باليمين، ثم القطع منه بالوتين وعدم بقائه وبقاء دعوته مدة ثلاث وعشرين سنة.
الدليل الخامس:
مما استدل القاديانيون على نبوة صاحبهم دعوته منكري نبوته إلى (المباهلة) وإمتناعهم عن إجابته،وأن في الإمتناع عن الإجابة الدلالة على صدق دعواه وإلا لباهلوه.
ولا يخفى ما في هذا الدليل من التمويه والنف.. وقد نقضاه فيما سبق، فلا نعيد فيه الكلام ولا هو ممايستحق الإطالة.
الدليل السادس:
إدعاء أتباع المسيح الهندي أن آية كسوف القمر في أول ليلة من رمضان وكسوف الشمس في النصفمنه وهي التي ورد فيها الحديث وأنها من علامات ظهور المهدي، قد تحققت لصاحبهم سنة1311.
وفيه إن دل هذا الحديث على شيء فقد دل على عدم نبوة المسيح الهندي وأنه هو المسيح الموعود، فقد أبطل دعواه بنفسه، لأن المسيح الموعود بصريح الحديث هو من تحقق له تلك الآية كسوف القمر في أول ليلة من رمضان وكسوف الشمس في النصف منه، وإذ لم تتحقق للمسيح الهندي فلم يكن هوالمسيح الموعود.
أما عدم تحقق هذه الظاهرة الفلكية العجيبة، وأن مثل ذلك كما قال الصبان في كتابه (إسعاف الراغبين)لم يوجد منذ خلق اللّه السماوات والأرض، فيكفي فيه أنه لم يدعها أحد سوى أتباع مسيح الهند، وهلمن المعقول أن تقع مثل هذه الظاهرة الخارقة والمخالفة لناموس الكون ونظام الأفلاك، وأن وقوعها معجزة من معجزات نبي الهند، ويختص برؤيتها هو وتابعوه وتخفى على مئات الملايين من الهنود، إن كان الكسوفان جزئيين وعلى ألفي ألف من البشر إن كانا كليين؟ وكيف غابت هذه الظاهرة عن عيون علماء الهيئة ؟ وكيف لم تحط بها علما قبل وقوعها آلات مراصدهم ؟ وهل الذين ينبئون عن الحوادث الفلكية العادية والمنطبقة على نواميس قبل وقوعها، وخاصة حوادث الكسوف والخسوف بأشهر وسنين وبمئات السنين بل وبألوفها، وفي حوادث الكسوفين اللذين يحدثان في افق دون أفق آخر يشدون الرحال إلى بلد ذلك الافق لرصدهما، فكيف كانوا غافلين عن مراقبة ذلك الحادث الفلكي الخارق؟وكيف غاب عن أبصارهم مرآه وعن معارفهم حدوثه؟ وكيف عميت عنه عيون العالمين؟
إننا كنا في العام المزعوم وقوع تلك الحادثة الخارقة فيه في ميعة الشباب وفي عهد دراسة العلم وفي نفوسنا نزوع إلى الوقوف على الحركة العلمية في ذلك الزمن، وكنا نطالع مجلة المقتطف التي كانت تعنىعناية خاصة بذكر كل حدث فلكي أو جوي ميثولوجي، وكان مثل هذا الحادث لو وقع او كان مما يمكن وقوعه من الحوادث التي لم تكن لتعرض عن تسجيلها وتدوينها وهي تعتني بتسجيل الحوادثالعادية الفلكية والجوية ولم تسجله، لأنه لم يقع ولم نره ولم نسمع به إلا يوم ظهر غلام أحمد القادياني، أوظهرت دعوته ودعواه المسيحية مؤيدة بشهادته وشهادة تابعيه، وكفى وللّه حكمة باهرة في إستدلالهمعلى دعواهم بهذا الدليل المحقق عدم وقوع مضمونه، ومنه يتبين قدر الوثوق بما نسبوا لصاحبهم منخوارق وإنباء عن مغيبات، وفي هذا الجواب تقوية للجواب عن دليلهم الرابع.
ثم إن التسليم بهذا الحديث وفرض حدوث مضمونه كما يراه القاديانيون وإن لم يره غيرهم ممن لاينتحل نحلتهم معجزة على نبوة صاحبهم المزعوم أنه المسيح ، يلزم إن صحت مسيحيته أن يتحققمضمون الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه مسندا إلى أبي هريرة عنه(ص) قال: قال رسولاللّه(ص): «والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا، فيكسر الصليب، ويقتلالخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنياوما فيها»
إن هذا الحديث أصح سندا من الحديث الأول، وهل تحقق مضمون الحديث الثاني الذي أخرجهالبخاري أيضاً سندا إلى أبي هريرة ؟ قال: قال رسول اللّه(ص): «كيف أنتم اذا نزل ابن مريم فيكموإمامكم منكم»
فإن كان احمد غلام القادياني هو ابن مريم، فأين الإمام؟ ولعله من أعقبه من خلفائه.
وإن كان الاستدلال على دعوى القادياني ملزما لاثباتها سواء أتحقق مضمون الدليل أم لم يتحقق ووقعام لم يقع، فلم سكت عن هذين الدليلين ؟ وهما أمكن وقوعا من الدليل الأول.
الدليل السابع:
إدعاء الوحي بكتاب جديد إلى غلام أحمد القادياني في اللغة العربية مع جهله بهذه اللغة، وتلك معجزة دالة على نبوته.
وفيه:
1 - إن صحت هذه الدعوى فقد أوتي من المعجز أعظم ما أوتي الرسول الاعظم(ص) فإن الكتاب الذي أُنزل عليه(ص) أُنزل بلسانه ولسان أمته المرسل إليهم، ولكن المسيح الهندي أنزل عليه كتابه بزعمه بغير لسانه ولسان أمته.
2 - إن في هذه الدعوى مجالا متسعا للإرتياب في صحتها، والقادياني نشأ في محيط هندي إسلامي،ومسلمو الهند كما نعلم ويعلم كل مطلع على أحوالهم أنهم ذوو عناية عظيمة بتعلم اللغة العربية لغة الذكر الحكيم، وهي لغتهم الدينية وتدرس في مدارسهم الخاصة الدينية المحضة وغير الدينية، ولعلهم المسلمين عناية بتعلم لغة دينهم، فكان تعلمها من الميسور له جدا، بل ويجوز أن يكون قد تلقاها عن أستاذ خاص أو تلقى مبادئها وأتم دراستها على نفسه كشأن كثير من أذكياء المستشرقين، ومنهم من درسهاكلها على نفسه واستطاع أن يكتب ويؤلف فيها، وأخفى ذلك عن قومه توصلا للفرض الذي ظهر به،وهو ادعاء المسيحية مقرونة بمعجزة كتابه في لغة غير لغة أمته.
هذا من حيث تجويز تعلمه اللغة، وأما من حيث محتويات ذلك الكتاب المدعى إعجازه، فلم نجد فيما وقفنا عليه من بعض فصوله أو آياته(؟) ما يقرن بمنشآت الشادي معنى ومبنى، ومن شرط المعجزالمتحدي به التفوق على أبلغ كلام من نوعه، فلم يكن إذن هذا الكتاب مما يعجز تحديه المبتدىء فضلاً عن المنتهي، كما ان دعوى الايحاء به إليه مع جهله اللغة العربية لا يدل على مراده لتجويز تعلمه لها عنأستاذ أو درسه لها على نفسه، فقد بطلت إذن هذه الدعوى.
إن محمدا(ص) عربي من صميم العرب، تحدى بالقرآن المنزل عليه من لدن حكيم عليم بلغاء عصره والعصر حافل برجال البلاغة، والتفاوت بينهم سواء في منظومهم أو منشورهم لا يبلغ درجة بعد المسافة في تساويهم في فضيلة السبق والمجاراة.
البلاغة في النظم والنثر هي جل ما برع العرب فيه في جزيرتهم، وبلغ ذروته في صدر الرسالة. وأما ماعبر عنه من معان فلا تكاد تخرج عن أوصاف بيئتهم، وهي بيئة الرسول الأعظم وما أوتوه من بسائطالعيش فيها ومفاخرات قبلية وغزوات بين القبائل غير منقطعة، وما إلى ذلك مما كانوا يصورونه فيشعرهم الذي لم يكن يخلو من حكمة عالية، ومثل سام كلاهما مستمد من وحي الفطرة والذكاء العربيالرائع. وأما ما وراء ذلك من علوم فلم يكونوا فيها لا في العير ولا في النفير، اللهم الا معارف بسيطةلها أشد مساس بحياتهم. ظهر محمد(ص) في مثل هذا المحيط وفي مثل هذه الأمة المتفرقة مؤيداً بمعجزةالقرآن، وفيه من المعارف وأصول العلوم والتشريع والحكم العالية وكل ما لم يبلغه العلم ولم تصل إليههمة العلماء والحكماء، وما زال ولن يزال مادة لا ينضب معينها لمعارف لا تتناهى، وهو منزل بلسانالعرب ولكن بأسلوب بهرهم وأعجزهم، وإن كان من جنس ما يعرفون من الكلام.
إن القرآن هو الآية العظمى والمعجزة التي تحدى بها العرب بل والبشر كافة بل والإنس والجن إلى قيام الساعة، هذا هو أثر معجز النبي العظيم القرآن الكريم، فليدلنا القاديانيون على أثر لكتاب مسيحهم ،سواء أكان في بلاغة أسلوبه، أم كان في علم انطوى عليه لم يعرفه العلماء، أم كان في تفسير أي من آياتالكون التي لا تتناهى، أم في حل معضلة اجتماعية، أم في مزية واحدة لم يحوها القرآن.
3 - اقتضت حكمته تعالى إرسال الرسل إلى البشر لهدايتهم إلى الصراط المستقيم، فلم يكلهم إلى عقولهم لتقدم لهم الحجة، وهل يتم غرض الإرسال ودفع الحجة إلا بأن يكون الرسول إليهم بلسانهم وذلك هوالمصرح به في (الاية 4: ابراهيم) (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) بطريق الحصر،فرسالة المسيح الهندي إن كانت خاصة لأمته الهندية، فكان من مقتضى ذلك أن يكون كتابه موحى به إليه باللغة الهندية ليتم به البيان لأمته، وأن يكون بأسلوب أرقى من أسلوب بلغائهم بلسانهم، أو أنيكون محتويا من المعارف والعلوم وحل مشاكلهم الإجتماعية وسواها ما لم يصلوا إليه، وما يكون دليلاً على إعجازه دليل نبوة المسيح الهندي، وإن كانت رسالته عامة كرسالة محمد(ص) وكتابه المزعوم الموحي به إليه معجزته كالقرآن معجزة محمد(ص) وأنه أوحي به إليه باللسان العربي كما أوحي إلىمحمد(ص) بهذا اللسان فكان كتابه لو كان كما يزعم وحياً منه تعالى جاريا على عرق القرآن وأساليبه، ومشتملا على مثل خصائصه وما فيه من معارف وآيات بينات، لتتم له الحجة على العرب خاصة كماتمت حجة محمد(ص) عليهم وعلى الأمم كافة على اختلاف أجناسها ولغاتها، وشيء من ذلك لم يكن ،فلم يكن كتابه معجزا، وإذا ابطل إعجازه أبطلت دعوى النبوة المترتبة عليه.
4 - رأينا من المفيد بعد هذا التعليق إيراد هذه الكلمة لابن مسكويه في كتابه (الفوز الأصغر) نختم بها هذا البحث، قال: إنما يبعث اللّه عز وجل إلى كل قوم بنبي يأتيهم من جنس ما يدعون، مع الفضل فيه والبراعة والتبريز بالمعجز الذي لا يطيقونه ولا في منتهم مثله، ليكون أبهر لحجتهم وأوكد لدلالتهم وأجدر أن لا يقول الناس جئتنا بما لا نعرف منه شيئا، ولو عرفنا منه شيئا لأتينا بمثله، فهذا المعنى الذي ذهب إليه المتكلمون وإن كان صحيحا، فإنما هو الهام بما ذكرناه. وقال في الفرق بين النبي والمتنبي: وأماالمتنبي فهو بالضد منه (النبي) لأنه يلتمس الأمور التي زهد فيها ذلك، وليس يخلو من ظهور ذلك عليه وافتضاحه به، لأنه إياه يطلب وحوله يدندن، فإن كان ما يلتمسه مالا وكرامة أو رغبة في منكح أومطعم أو غير ذلك، أوشك أن يظهر عليه ولم يلبث أن يعرف به ويتهتك فيه، وإلى ذلك يؤول أمره، وإن مبادىء أمور بما أشكلت على الأغبياء لا سيما إن إنضاف إلى ذلك سمت وإخبات، وتزهد وإقلال، وفضل سماحة يتكلفها لقومه يستميلهم بها، ومخاريق من شعبذة ونارنجيات يستغل بها عقول أهل الغفلة، إلى أن يسأل عن شيء من الحقائق أو يبتدىء بالكلام فيما تتطلعه النفوس وتنتظر الوقوف عليهمن جهة الأنبياء صلوات اللّه عليهم من أمر المبدأ والمعاد، فإنه حينئذ يضطر إلى أحد أمرين: إما أن يعيد ألفاظا محفوظة مسطورة في كتب الأنبياء(ع) المنزلة وأخبارهم المتداولة، فلا يكون له فيها شرح ولاتفسير، وتلك إنما هي أمثال وتشبيهات موافقة للحقائق مطابقة لها، فإن اختلطت ألفاظها وضروب الإشارات فيها، وإما أن يتكلف الكلام فيها من نفسه، فهو لا محالة يضطرب ولا يوافق بعضه بعضا للتناقض والمحالات التي تلزم من جهل تلك المعاني اللطيفة التي إذا كانت من غير اللّه وجد فيها إختلاف كثير.
هذا ولهم أدلة أخرى لا نطيل بنقضها الكلام، وهي مع تهافتها ووهنها لا تخرج عن مضمون أدلتهم التي أوردناها، وكلها متماثلة متشابهة لا ترجع إلى محصل.
فصل وقد رأينا من المفيد ومما يزيل الشبهة عن نفوس فريق لم يؤتوا نصيبا من العلم وحظا من معرفةمذهبهم الحق، فوقعوا في أحابيل القاديانيين وأثرت فيهم دعاياتهم، أن نعقد هذا الفصل، نذكر فيه ماوقفنا عليه من كلمات فريق من أكابر العلماء لهم مكانتهم العلمية والدينية والإجتماعية في العالمالاسلامي حول القادياني ونحلته الجديدة وكتابه غعجاز المسيح وقصيدته المعجزة بزعمه.
1 - في المجلد الرابع من المنار الاسلامي للفيلسوف الاسلامي المرحوم السيد محمد رشيد رضا في بابالأسئلة الدينية الصفحة (465) قال:
«وأما كتاب إعجاز المسيح فقد تصفحته بعد الابتداء بكتابة هذا الجواب، فاذا هو قد سلك فيه مسلكالباطني والمتصوفة في التأويل، وليس فيه وهو (200) صفحة ورقة واحدة في حقيقة التفسير، وليسخلطه وهذيانه فيه بأكبر من الخلط والهذيان في التفسير المنسوب إلى الشيخ محي الدين بن عربي أحد أئمة الصوفية، ولو لم يدع هذا الرجل أنه هو المسيح ويحرف كلمات الفاتحة فيجعلها دليلا على دعواهويجعل تفسيره معجزة يتحدى بها، لتلقى هذا التفسير بالقبول أكثر المسلمين ومنهم السائل المحترم ،ولأقاموا النكير على مثلي إذا هو انتقد عليه كما ينكرون علي الإنتقاد على من دونه في العلم والتأليف،وقد كان هذا الرجل شيخ طريق يفوق أكثر المشايخ بالعلم والفصاحة والصلاح، فغره كثرة اتباعه وتفننه في أسجاعه على ما في ألفاظها من الغلط، وفي معانيها من الشطط، وقام عنده أن المسلمين بالمهدي والمسيح قد انتشر على وجه غير صحيح، وأنه يجب أن يصلحه بذاته، ويؤيد دعواه بما يعتقد متبعوه من آياته.
وأما تحديه بالكتاب فهو إذا لم يعارض شبهة على المعجزة بالمعنى المعروف عند المتكلمين لا بالمعنىالذي حققناه في الجزء العاشر من المنار، وقال: إنه كتبه في سبعين يوما، ونقول إن كثيرا من أهل العلم يستطيعون أن يكتبوا خيرا منه في سبعة ايام، ولو على طريق الشقاشق والأوهام، ولكن أين الحكم الذي يرضاه تلامذته والمغترون به؟» 2 في المجلد عينه الصفحة (545) تحت عنوان المناظر وكتاب (إعجاز المسيح):
«هذا الكتاب مسجع من أوله إلى آخره، وفي سجعه التكليف والضعف، وفي كلامه ركاكة العجمة، وفيمفرداته وتراكيبه الغلط والخطأ، ومع هذا تقول جريدة المناظر الغراء إنه تقليد للقرآن في نسقه وعبارته، وهذا خطأ ما كنا ننتظر أن يصدر من صاحب تلك الجريدة البارع، وأين عبارة القرآن العالية ونسقهالبديع من تلك الركاكة والعسلطة في كتاب إعجاز المسيح».
3 في المجلد الخامس الصفحة (789) تحت عنوان (إعجاز أحمدي) او سخافة جديدة لمسيحالهند:
«كل يوم تبدي صروف الليالي خلقا من أبي سعيد غريبا وأبو سعيد هذا الزمان هو غلام أحمد القادياني المفتون بنفسه المغلوب على عقله وحسه، فهو كل يوم يأتينا بخلق غريب وخلق من إفكه عجيب، ففي الشهر الماضي أرسل إلينا قصيدة من المخزيات، ولكنه نظمها في سلك ما يدعيه من المعجزات، وجعل لها مقدمة هذيانية ولكنها باللغة الأوردية، وأرسل لنا معها منشورا باللغة الانكليزية يقول فيه: إنه أُوتي من البلاغة في العربية ما لم يؤته أحد من العالمين، وأنهيتحدى بقصيدته هذه جميع المطلعين ومن يعارضها في الهند من شعراء العربية يعطى عشرة آلافروبية، ولم يذكر لنا الحاكم الناقد الذي تعرض عليه القصائد ليميز بين سحر البيان وبين اللغو والهذيان،وقد أخرنا الكتابة في هذه السخافة الجديدة لأننا كنا عازمين على قراءتها كلها وإظهار ما فيها منالأغلاط اللغوية والنحوية والصرفية والعروضية، والتنبيه على ما فيها من السرقات الشعرية التيسلخها من كلام فحول الرجال ومسخها، ولا غرو أن يظهر المسخ على يد المسيخ الدجال، ثم بدا لنا أن هذه الانتقادات ليست بضرورية عند العارفين باللغة العربية، فإن عرض القصيدة عليهم يكفي لمعرفة دركها في السخافة.
وأما المخدوعون به من الأعجميين في الهند فلا يفهمون إنتقادنا إذا هو وصل إليهم، لذلك نذكر هنا أبياتا من القصيدة ونترك للقراء الضحك منها ومن غرور المستدل بها على دعوى المسيحية، قال:
أيا أرض مد قد دفاك مدمر وأرداك ضليل وأغراك موغر دعوت كذوبا مفسدا صيدي الذي كحوت غدير أخذه لا يعزر وجاءك صحبي ناصحين كاخوة يقولون لا تبغوا هوى وتصروا فظل أسارى كم أسارى تعصب تريدون من يعوي كذئب وينخر فجاؤوا بذئب بعد جهد إذا بهم ونعني ثناء اللّه منه ونظهر فلما أتاهم سرهم من تصلف وقال افرحوا أني كمي مظفر وقالوا استروا أمري واني أوردهم أخاف عليهم أن يفروا ويدبروا وأرض اللئام غذا دنا من أرضهم على النار مشاهم وقد كان يبطرو منها في هجو منكر عليه:
فلما اعتدى وأحس قومي أنه يصر على تكذيبه لا يقصر دعوه ليبتهلن لموت مزور مضل فلم يسكت ولم يتحسر وكذب إعجاز المسيح وآيه وغلطه كذبا وكان يزور ثم قال هذه الأبيات التي كتب بازائها في الهامش أنها وحي من اللّه تعالى:
فقد سرني في هذه الصور صورة ليدفع ربي كل من كان يحشر فالفت هذا النظم اعني قصيدة ليخزي ربي كلمن كان يهذر وهذا على إصراره في سؤاله فكيف بهذا السؤل اغضي وانهر وليس علينا في الجواب جريمة فنهدي له كالأكل ما كان يبذر فإن أك كذابا فيأتي بمثلها وإن اك من ربي فينعش ويثبر وهذا قضاء اللّه بيني وبينهم ليظهر آيته وما كان يخبر قطعنا بها دابر القوم كلهم وغادرهم ربي كغصن تجذر ارى أرض مد قد أريد تبارها وغادرهم ربي كغصن تجذر أيا محسني بالحمق والجهل والرغا رويدك لا تبطل صنيعك واحذر اتشتم بعد العون والمن والندى اتنسى ندى مد وما كنت تنصر ترى كيف أغبرت السماء بآيها إذا القوم آذوني وعابوا وغبروا فلا تتخير سبل غبي وشقوة ولا تبخلن بعد النوال وفكر» 4 في هذا المجلد الصفحة (790) تحت عنوان سخافة أخرى لمسيخ الهند الدجال:
«قلنا: أنه أرسل إلينا في الشهر الماضي قصيدته الاعجازية، ونقول أيضا: أنه أرسل إلينا في هذا الشهر رسالة باللغة الانكليزية كتبها باسم ملك الانكليز لا باسم اللّه، وجعلها خدمة للدولة الانكليزية فيزعمه ووهمه، ولكن لم يكتب في الحقيقة ما هو أضر منها على السياسة الانكليزية، وهذا شأن الصديقالأحمق يريد ان ينفع فيضر.
من سياسة هذا المسيخ الدجال أنه نسخ حكم الجهاد في الإسلام لكيلا تعارضه الدولة الانكليزية فيدعوته، ظنا منها أنه يؤلف عصبية دينية للخروج عليها في الهند، كما يفعل أمثاله الدجالون الذين يدعيكل خارج منهم أنه المهدي المنتظر، وقد كتب في هذا المعنى كثيرا، وإنما كانت كتابته في هذه الرسالة وأمثالها ضارة ومناقضة للسياسة الانكليزية، لأنه يقول فيها: إن جميع علماء المسلمين يقولون بوجوبالجهاد الديني وإنهم جهلاء مخطئون في هذه الدعوى، فإذا انتشرت هذه الرسالة وقرأها الناس فربماتتحرك نفوسهم إلى الأمر الذي تصرح الرسالة بأن العلماء مجمعون عليه، ولا تلتفت إلى تخطئةخارجي مثل غلام احمد القادياني لهم.
وأما الرأي الأفين الذي أشار به على الحكومة الانكليزية، وهو جمع مؤتمر من العلماء للنظر في مسألةالجهاد واستقراء أدلتها في الكتاب والسنة ليظهر لهم أنه غير واجب فيقرروه، فهو رأي لا ترضى به سياسة حكيمة كالسياسة الانكليزية ولا هي محتاجة إليه، أما عدم رضاها به فلأنه إذا قرر العلماء خلاف ما يقول غلام أحمد الدجال فيخشى من وقوع فتنة عظيمة، وأما عدم حاجتها إليه فلأن أهل الهند راضون من حكومتهم ولا يخطر في بالهم الخروج عليها وحسبها هذا منهم، ولو كان هذا الدجاليتجنب هذه الأوحال لكان أسلم له على كل حال».
5 المجلد نفسه الصفحة (317) تحت عنوان (مسيح الهند والمنار):
«سبق لنا رد على القائم في الهند المدعي أنه المسيح الموعود به وعلى كتابه الذي سماه إعجاز المسيح، وإنكان قوله كالريح، وسجعه دون سجع شق وسطيح، وقد ترجمت رد المنار عليه الجرائد الهندية واذاعته في تلك الممالك القصية، فاستشاط الرجل غضبا وملا النواحي سبابا وصخبا، والمؤمن ليس بسباب ولا بذيء ولا صخاب، فهل يكون المرسلون والمسحاء من أهل السفه والبذاء؟ وهل ينزل الوحي علىأهل الالهام، وتقام الحجة على الأنام بالسخرية والاستهزاء والقول الهراء، والانتصار للنفس ومكابرةالحس، والتنفج والتبجح، والتجرم والتذقح كما فعل هذا المدعي في الكتاب الذي لفقه في الرد على المنار،فكان مجلبة الخزي والعار، وقد سماه (الهدى والتبصرة لمن يرى) وما عهدت الهداية بشتم الورى؟ بعد أن أهدى إلينا كتابه وأرسل شتمه وسبابه، كتب إلينا أحد كبار علماء الهند من لاهور كتابا يشكوفيه من انتشار البدع في الهند، وقال فيه: الآفة التي لا تذكر والعاهة التي لا تسطر هي فتنة المسيحالدجال الهندي الشهير بميرزا غلام أحمد القادياني، فهي لا تنقطع كسير السواقي وهو في زعمه الباطلمجدد مهدي ملهم محدث مسيح مرسل إمام عند شرذمة قليلين ما لهم من دنيا ولا دين، والحق أنه رجل ختال ختار بطال شطار، يدعي الوحي والنبوة، ويحرف آيات القرآن بتأويلات فاسدة، ويتنطع في أحاديث النبي بخزعبلات كاسدة.
ثم ذكر هذا العالم مجادلته لعلماء الهند، وإفحامهم إياه وانصرافه لدعوة العلماء في غير الهند ومنهم الفقير صاحب المنار، وانتقل من هنا إلى ذكر ردنا على كتابه (إعجازالمسيح) وذكر أن الجرائد الهندية نقلته عن المنار، وكان له شأن في تلك الديار، أثار من ذلك المدعي أشجانه، وأطلق بالسب لسانه، ثم رغب إلينا في الرد عليه وقال: فإن لتحريركم وقعا في النفوس أشدمن حرب البسوس.
نعم إن من وظيفة المنار الرد على أمثال هذا المدعي، ولو لم يرغب إلينا فيه ذلك العالم الألمعي، ولكنالرد إنما يكون على الشبهات التي تساق مساق البينات، وليس لهذا المدعي شبهة يستند اليها ولا تكاة يتوكأ عليها، إلا ذلك المؤلف الذي هو حجة عليه، بل سهام منه تصوب، إليه فقد إدعى أنه معجز للبشر لا تأتي بمثله القوى والقدر، فما هو وجه الاعجاز فيه، الذي جعله عمدة تحديه إن قال: إن العمدةهي قصر المدة، فإني ألفته في سبعين، ولايقدر على مثل ذلك أحد من العالمين، نقول: أولاً:
إننا لانصدقك في هذا التجديد على أنه طويل، فهل لك من بينة ودليل؟ وثانياً: إن كثيرا من العلماء ألفوا كتباً طويلة في مدة قليلة، ولم يدعوا أن ذلك من المعجزات، لأنه ليس من خوارق العادات. فالفيناري ألفشرحه على الاساغوجي في يوم من أقصر الأيام، ولم يتحد به أحدا من الأنام. وثالثاً : أننا نطلب منه محكمين من أهل الإنصاف يرضى بهم كل منا ومنه للحكم في مواضع الخلاف، وعند ذلك نظهر له أغاليط كتابه في اللفظ والفحوى، والعاقبة كما قال اللّه تعالى للتقوى. ليعلم الناس أن تحدي النبوة والرسالة لا يكون بالخطأ والجهالة، وأن إدعاء إقامة الدين وتأييد الشريعة لا يكون بتقويض أركانهما الرفيعة وتشويه محاسنهما السنية الشيعية، وإن إصلاح نفوس المسلمين لا يكون بشتم العلماء والمرشدين، وسنعجل قبل تعيين المحكمين بإظهار بعض ما خالف فيه شريعة خاتم النبيين، وموعدناالجزء الآتي.
أما الآن فإننا نذكر بعض عباراته في الرد علينا وما وجه من الطعن إلينا، ليعلم القراء مبلغ آدابه وعسلطته في خطابه، قال بعدما زعم أنه أثرنا بكتابه (إعجاز المسيح) على علماء الحرمين والشام والروم ما نصه:
ثم لما بلغ كتابي صاحب المنار، وبلغه معه بعض المكاتيب للاستفسار، ما اجتنى ثمرة من ثمار ذلك الكلام، وما انتفع بمعرفة من معارفه العظام، ومال إلى التكلم والايذاء بالأقلام، كما هو عادة الحاسدين والمستكبرين من الأنام، وطفق يؤذي ويزري غير أن في الازراء والالتطام، ولا لا وإلى الكرم والإكرام،كما هو سيرة الكرام، وعمد أن يؤلمني في أعين الأعوام كالأنعام، فسقط من المنار الرفيع وألقى وجوده فيالآلام، ووطئني كالحصى، واستوقد نار الفتن وحضى، وقال ما قال وما أمعن كأولي النهى، وأخلد إلىالارض وما استشرف كأولي التقى، وخر بعدما علا، وإن الخرور شيء عظيم، فما بال الذي من المنار هوى، واشترى الضلالة وما اهتدى، أم له في البراعة يد طولى، سيهزم فلا يرى، نبأ من اللّه يعلم السر وأخفى.
ثم قال:
وكنت رجوت أن أجد عندك نصرتي، فقمت لتندد بهواني وذلتي، وتوقعت أن يصلني منك تكبير التصديق والتقديس، فاسمعتني أصوات النواقيس، وظننت أن أرضك أحسن المراكز، فجرحتني كاللاكزوالواكز، وذكرتني بالنوش والنهش والسبعية، نبذا من أيام الخصائل الفرعونية، ولست في هذا القولكالمتندم، فان الفضل للمتقدم، وكنت أتوقع أن يتسري بموآخاتك همي، ويرفض بجندك كتيبة غمي،فالأسف كل الأسف أن الفراسة أخطات (أي فلم يصدق عليه حديث اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور اللّه، لأنه ينظر بظلمة غروره) والروية ما تحققت، ووجدت بالمعنى المنعكس رياك (وهنا إشارة قبيحة تليق بقائلها ولا تليق بنزاهة من يصطفيهم اللّه تعالى لهداية خلقه) فهذه نموذج بعض مزاياك،(أنت النموذج وكم أنت مذكرا) وعلمت أن تلك الأرض أرض لايفارقها اللظى، وتفور منهاإلى هذا الوقت نار الكبر والعلى، فعفى (كذا) اللّه عن موسى، لم تركها وما عفى، (وههنا أساء الأدب مع سيدنا موسى الكليم ونسب إليه الخطا والذنب والتقصير، على أن تعفية مصر وهلاكها بيد اللّه لا بيده).
ثم قال بعد مكابرة في ردنا على كتابه ونسبته للغلط والتكلف ما نصه: وحسبتك حبيبا يريحني كنسيم الصباح، فرأيتك كعدو شاكي السلاح، وخلت أنك تهدر بصوت مبشر كالحمام، فأريت وجهك المنكركالحمام، وأعجبني حدتك وشدتك من غير التحقيق (كذا) فأخذني ما يأخذ الوحيد الحائر عند فقد الطريق، لكنني أسررت الأمر وقلت في نفسي لعله تصحيف في التحرير، وما عمد إلى التوهين والتحقير،وكيف قصد شرا لا يزول سواده بالمعاذير، وكيف يمكن الجهر بالسوء من مثل هذا النحرير (يذم ويمدح)، ولما تحققت أنه منك تقلدت أسلحتي للجهاد، وقلت مكانك يا بن الفساد، وعلمت أنك ماتكلمت بهذه الكلمات، إلا حسدا من عند نفسك لا لإظهار الواقعات (إنني لا ادعي المسيحية ولا شيءآخر يحسد عليه) فابتدرت قصدك، لئلا يصدق الناس حسدك، فان علماء ديارنا هذه يستقرون حيلة للازراء، فيستفزهم ويجرؤهم علي كلما قلت للازدراء، ولولا خوف فسادهم لسكت، وما تفوهت وماتجلدت، ولكن الآن أخاف على الناس، وأخشى وسوسة الخناس، وإن بعض الشهادات أبلغ منالضرب بالمرهفات، فأخاف أن يتجدد الاشتعال من كلمات المنار وسقط ميمه ويبقى على صورة النار.
ثم ادعى أنه كان غلب علماء الهند وسرق سجعات من كلام الحريري، وقال: فالآن أحيي اللئام بعدالممات، وشد المنار عضدهم بالخزعبلات ، فأرى انهم يتصلفون ويستأنفون القتال، ويبغون النضال،ويخدعون الجهال، ورجعوا إلى شرهم وزادوا ضدا، بما جاء المنار شيئاً إدا، وجاز عن القصد جدا، (كذابالزاي والحريري استعملها بالراء من الجور) فأكبر كلمة ضرب من العمين الخ..
ثم ذكر أنه كثيرا ما كان يغضي عن المعترضين والمزدرين، وقال: ولكن رأيت أن صاحب المنار، عظم فيعين هذه الأشرار (كذا)، وأكبر شهادته بعض زاملة النار، وكانوا يذكرونها بالعشي والأسحار، فبلغنيما يتخافتون، وعثرت على ما يسرون ويأتمرون، وأخبرت أنهم يضحكون علي وفي كل يوم يزيدون.إلى أن قال في صاحب المنار: بل أصر على الازراء في الجريدة، فأكل الحاسدون حصيدة لسانهكالعصيدة، وتلقفوا قوله وخددوا الخصومة بعدما قطعوها كما هو من شيم القرائح البليدة، وحسبوا كلمةه كالأسلحة الحديدة، وأشاعوها في الأخبار (الجرائد) والجوائب الهندية، وكتبوا كلما يشق سماعها علىالهمم البريئة المبرئة، وآذوا قلبي كما هي عادة الرذل والسفهاء وسيرة الارذال من الأعداء. ثم قال: وماتظني أن يكتب المنار من معارف كمعارف كتابي، ويرى بريقا كبريق ما في قرابي، ثم مع ذلك تناجينينفسي في بعض الأوقات، أن من الممكن أن يكون مدير المنار بريئا من هذه الالزمات، ويمكن أنه ماعمد إلى الاحتقار والنطح كالعجماوات، بل أراد ان يعصم كلام اللّه من صغار المضاهات، وانما الاعمالبالنيات (وههنا حاشية في الأصل ذكر فيها أنه يظن أن سبب غيظي منه حكمه بمنع الجهاد) فان كانهذا هو الحق فلا شك أنه ادخر لنفسه بهذه المقالات، كثيرا من الدرجات، وأي ذنب على من سبنيلحماية الفرقان، لا للاحتقار وكسر الشان. إلى أن قال:
ولكنني معتذر كمثل اعتذاره، فان الفتن قدانتشرت من أقواله واخباره» الخ..
6 المجلد عينه الصفحة (398) تحت عنوان (مسيح الهند):
«ملأ هذا الرجل المدعي المهدية والمسيحية الدنيا صراخا ونشر الكتب والرسائل الناطقة بدعواه فيالهند، ثم في سائر الاقطار الإسلامية، ولكن لم يفهم احد حقيقة مراده والأصول التي يدعو إليها، كتبهورسائله كلها سجع كسجع الكهان بل هو أقل واضعف، فإن صبر الانسان على قراءته ليفهم مرادهيرجع الى ذهنه بعد القراءة، فلا يجد فيه الا اطراء هذا المدعي او الدعي نفسه والاغراق في الثناء عليهاوذم الذين لا يؤمنون به ولا يجيبون دعوته، وربما يجد في الكتاب الطويل كلمات في دينه الجديد، لايعقل احد لها فائدة الا تزلفه للانكليز ليتركوه وشانه يتمتع بلقبه الذي زعم ان اللّه منحه اياه (المسيح)كنسخه حكم الجهاد وتحريمه على المسلمين، وكمدحه الانكليز والدعاء لهم لانهم يحمونه.
ليخبرنا هذا الدجال اين المسلمون المشتغلون بالجهاد؟ فيجعل ركن دعوته واس اصلاحه ارجاعهمعنه، الم ير ان معظم بلادهم ذهبت من ايديهم لاهمالهم امر المدافعة عنها؟ الم ير ان الاجانب الذينيعيبونهم بانهم امة حربية قد سبقوهم في الفنون الحربية حتى سادوا عليهم؟ فهل نزل عليه الوحي مناوروبا بان الحرب عار على المسلمين وفضيلة للمسيحيين؟ فصدق الوحي الاوروبي وقام يدعو اليهقومه ليهديهم ويلم شعثهم ويراب صدعهم.
يزعم ان الاخبار الواردة في نزول المسيح كلها تصدق عليه، الاخبار ناطقة بنزول عيسى ابن مريمفاين عيسى(ع) من غلام احمد القادياني عليه الملام؟ الاخبار ناطقة بان المسيح ينزل من السماء بينملكين، فاين الهند من السماء؟ واين الملائكة من اتباعه البلداء؟ الاخبار تصف المسيح بما لا ينطبق عليهمهما تنطح في التاويل وزخرف الاباطيل، يقول: ان ظاهر القرآن يدل على ان المسيح قد توفي وانهماكتشفوا قبره، نقول: اذا سلمنا لك انه مات لانه هو ظاهر القرآن، فهل يدل موته على انك انت المرادبالاخبار الواردة في نزوله؟ كلا، فاما ان تاول الاحاديث تاويلا مقبولا واما ان تقول: انها غير صحيحةمتنا وان صحت سندا، لان القرآن متواتر قطعي وهو كلام اللّه تعالى، فكل قول خالفه فهو باطل اذا كانلا يتفق معه بالتاويل.
يدعي هذا الدجال انه جاء بخوارق العادات لانه الف كتابا عظيما في عينه وحقيرا في اعين الناس لما فيهمن الهذيان والوسواس، فاذا كان التاليف السخيف دليل المهدية والمسيحية، فهل يكون التاليف الذييستحسنه جميع العقلاء دليلا على الالوهية؟ ايظن هذا الغافل ان القرآن كان معجزة للنبي(ص) لانهكتاب مؤلف؟ كلا انه معجزة لانه اشتمل على اعلى العلوم الالهية والاجتماعية التي اهتدى بها الناسوصلحت عقائدهم واخلاقهم، وقد ظهر مع ذلك بلسان امي لم يتعلم شيئا، فهذا هو الوجه الاعلى فياعجازه. ومن وجوهها انه وصل من البلاغة الى حد عجزت عن بلوغه البلغاء، مع ان الجائي به لم يكنمعروفا بالبلاغة، ومن بلغ الاربعين ولم يعرف له امتياز بالشيء فلا يعقل ان ينتقل مرة واحدة الى درجةيفوق بها جميع الناس بذلك الشيء الا بامداد من بيده خرق العادات، والمؤيد من شاء بالاياتالبينات. واما زعمه ان الفادحة تدل على مسيحيته، وان لفظ الرحمن الرحيم يدل على محمد خاتمالانبياء وعلى مسيحه احمد القادياني، فهذا اقبح تلاعب بالقرآن، ويمكن ان يستدل صاحبه بكل كلامعلى كل شيء، لانه لا يتقيد بلغة ولا عقل ولا فهم، فعسى ان يرجع هذا القادياني الى رشده، ونرىالجزر قلل من طغيانه ومده.
هذا ما حملنا انفسنا مشقة نقله من بعض مجلدات المنار الاسلامي دحضا لدعاوى القادياني الطويلةالعريضة، وما كان صاحب المنار الضليع بالمباحث الاسلامية والمشهود له بالتخصص فيها من المخالفوالموالف والقريب والغريب ممن لا يلقون الكلام على عواهنه، وهو قد عاصره ووقف على كل ما جعلهدليلا على مسيحيته المزعومة ولم يفرط بشيء منها، بل تتبعها تتبع الباحث المنصف ولم يطو عن قرائهحتى ما رماه به من المطاعن، ولعل فيها مقنعا للمخدوعين بزخارف اتباعه ممن اضلتهم او كادواينحرفون عن جادة الحق ويزيغون عن محجة الصواب.
فانت ترى العجب العجاب مما نقلناه، وترى انه مبتدع بنسخه حكما اسلاميا، الا وهو الجهاد في سبيلحماية بيضة الاسلام لا متبع شريعة الاسلام كما يزعم.
وبعد فاننا ننقل عن المجلد السادس من المنار الصفحة 607 قصيدة للمرحوم مصطفى صادق الرافعيتحت عنوان (مسيح الهند):
عثرت في سيرها الايام ام هو الدهر هكذا والانام اهله بين ذي هدى وضلال ولياليه ذو سنا وظلام وارانا بمدة العمر نشقى وعدو المسومات اللجام ليس كل الذين تبصر ناسا ان بعضا من الطيور الحمام ولكل الورى رؤوس فان لم يكن العقل كانت الاوهام ايه (يا هند) عن مسيحك ما زا لت وزالت ببيتك الاصنام كان في جسمك الوباء فقد د ب الى العقل بعد ذاك السقام ضلة للفتى ومن تبعوه اشرق الصبح والقبور نيام مسحته الجنان ام مسخته وتولاه جلجل أم عزا واتته الاقوام تترى ولا غر و على الجرح للذباب ازدحام واذا كان في الرؤوس ضلال وقفت عند قصدها الاقدام نسخ السيف ذلة ورياء وجدير بنا سخيه الحسام ايهذا المسيح ان الليالي في نبيها من الزمان سهام وارى الدهر كالوغى وقديما كان بين الانام هذا الخصام فارفع الارض فوق قرنيك وامر يملا الارض بعد ذاك السلام او فعد للسماء ان الشياطى ن عليهم باب السماء حرام وتحد الورى بسخفك او سجعك ان الكرى له احلام وقد راينا ان نضم الى هذا الفصل هذه المناظرة، ليتبين للقارىء مبلغ حجج القاديانيين على اعتقادهمنبيهم او مهديهم الجديد، وهي كما تراها اوهى من بين العنكبوت.
مناظرة اتباع المسيح المهدي
مناظرة اتباع المسيح المهدي غلام احمد قادياني الهندي مع العلامة السيد محسن الامين الحسيني العامليبدمشق، طبعت على نفقة مكتبة الرشاد بالمسكية، وتطلب من المكتبة المذكورة 1343 ه مطبعة الترقيبدمشق 1924م.
بسم اللّه الرحمن الرحيم (المهدي المسيح القادياني) قد كان ظهر في بلدة قاديان من بلاد الهند رجليسمى غلام احمد قادياني ادعى انه المسيح، ثم مات، وبهذه الايام جاء الى دمشق نحو من اثني عشررجلا من الهنود بينهم رجل يسمى بشير الدين ابن غلام احمد المذكور يدعي انه خليفة ابيه الذي هوالمهدي والمسيح معا، فزرناهم في فندق سنترال يوم الجمعة سابع المحرم سنة 1343 واجتمعنا بثلاثةمنهم هم المشار اليهم، بينهم احدهم خليفة المهدي والمسيح، والاخر يقولون انه كان مجوسيا واسلم،وهما يلبسان عمامتين كبيرتين بيضاوين، والثالث مكفوف يرى باحدى عينيه قليلا يسمى روشن عليحافظ يلبس عمامة زرقاء، وهو معلم مدرسة الارشاد عندهم ويحفظ القرآن او اكثره عن ظهر القلب،وكان الخليفة يساله عن الاية التي تغيب عن حفظه فيجيبه، فاجتمعنا اولا بالذي قالوا انه كان مجوسياواسلم، وفي اثناء ذلك خرج وقال:
قد دعيت وهذا يقوم مقامي واشار الى الاعمى، واخيرا اجتمعنابالخليفة وهم يتكلمون بالعربية الفصحى بكل هدوء وسكون على نسق واحد لا يتغير، ولكنهم يطيلونالمقدمات، واذا ظهرت عليهم الغلبة انتقلوا الى مطلب آخر، فلما حضرنا.
قال احدهم: ماذا سمعتم عنا؟ قلت: سمعنا انكم تدعون الى شيء جديد، فجئنا لننظر ان كان حقا اتبعناكم عليه.
فقال: لسنا ندعو الى شيء جديد انما ندعو الى دين الاسلام والعمل بالكتاب والسنة، والايمان بانميرزا احمد قادياني هو المسيح والمهدي الموعود به في آخر الزمان، والمشار اليه بقوله(ص) «ان اللّهيبعث لهذه الامة في راس كل مائة سنة من يجدد لها دينها»((162)) فالمجدد مرة يكون نبياكمحمد(ص) ومرة يكون عالما، ومرة يكون مهديا ومسيحا كاحمد قادياني، فلما كثر الاختلال في الدينالاسلامي وترك العمل بكثير من احكامه وتفرقت كلمة المسلمين بعثه اللّه لاصلاح ذلك، وهو يوحىاليه كما يوحى الى الانبياء، اما خليفته الحالي فكنا سمعنا ممن معهم في الفندق انهم يقولون يوحى اليهايضا، فلما سالناهم انكروا ذلك وقالوا: لا يوحى اليه وانما الوحي الى احمد قادياني الذي هو المهديوالمسيح، وان تفسير القرآن والحديث هو كما يفسره مهديهم ومسيحهم لا كما يفسره الناس، وان عيسىقد مات ولم يرفع الى السماء، والا لصحت حجة النصارى بان عيسى افضل من محمد، لان عيسى رفعولم يمت ومحمد مات ولم يرفع (فقلنا) له: الفضيلة لا تنحصر في هذا، مع ان مجرد طول العمر ليسفضيلة وان محمدا(ص) عرج به الى السماء، فانكر الخليفة ان يكون اسري به الى السماء وقال: ان القرآنلا يدل الا على الاسراء به من المسجد الحرام الى المسجد الاقصى.
فقلنا له: قد ثبت ذلك بالسنة، (وقال) الخليفة: ان احياء الموتى في الدنيا لم يقع اصلا لنبي ولا لغيره،واحتج لذلك ببعض الايات كقوله تعالى: (قال رب ارجعوني الى قوله كلا) [المؤمنون/99]وغيرها وان مثل (اومن كان ميتا فاحييناه) [الانعام/122] وغيره يراد فيه من الموت الجهالة ومنالاحياء الهداية.
فقلنا له: يجب حمل اللفظ على حقيقته، ولا يجوز العدول الى المجاز بدون قرينة، فلم يقدر على اثباتالقرينة.
قال: وكذلك ما ورد في القرآن في حق عيسى من احياء الموتى وابراء الاكمه والابرص يراد به ذلك،والا كان عبادة لعيسى كما قال تعالى: (ما نعبدهم الا ليقربونا) [الزمر/3] قال: ذلك خليفة المهدي،فبينا له الفرق بانا لا نقول ان عيسى هو احيى الموتى بل اللّه احياها كرامة له، واين هذا من السجودللاصنام لتقربهم الى اللّه.
واحتج الخليفة لذلك بقول عمر عند موت النبي(ص) ان محمدا لم يمت وانه رفع الى السماء وسينزلويقتل المنافقين، وقول ابي بكر: من كان يعبد محمدا فان محمدا قد مات، ومن كان يعبد اللّه فان اللّه حيلا يموت، فبين ان ادعاء رفعه الى السماء عبادة له، والا فما كان عمر يعبد محمدا، ولذلك قال له ابو بكرما قال (فانظر واعجب) فبينا له خطاه في ذلك، وان المراد من كان يعبد محمدا على سبيل الفرضوالتقدير (وقال):
ان قوله تعالى: (او كالذي مر على قرية) [البقرة/259] الاية لا يراد بالاحياء فيهاالاحياء الحقيقي، وانكر ان يكون عزير مات ثم احيي، وقال: ان كل احياء في القرآن يراد به الهداية بعدالضلال.
فاعترضه بعض الحاضرين بقول ابراهيم (رب أرني كيف تحيي الموتى) [البقرة/260] فقال وكذلك هنا المراد الهداية (فقلت) له: وهل كان ابراهيم مبعوثا لهداية الطيور، فلم يحر جوابا (وقال) الخليفة: أن محمدا لم يكن خاتم الانبياء بمعنى آخرهم بل بمعنى زينتهم من الختم بمعنى الطبع، واحتجلذلك بحديث نقله عن بعض الكتب، ان عائشة قالت:
قولوا: خاتم النبيين ولا تقولوا لا نبي بعده، وفرقبين خاتم بفتح التاء وخاتم بكسرها، فاعترضنا عليه بقوله(ص) لعلي: «اما ترضى ان تكون مني بمنزلةهارون من موسى الا انه لا نبي بعدي»((163)) فقال: معناه لا نبي في حياتي كما كان هارون نبيا فيحياة موسى، وهذا حتى لا يتوهم الشيعة ان عليا نبي بعد محمد.
فقلنا لا يصح استعمال بعدي بمعنى في حياتي في لغة العرب، فلم يكن عنده جواب مرضي.
وسالناهم عن دليلهم على ما يدعونه من ان احمد قادياني هو المهدي المسيح، فاستدلوا باشياء (منها)انه كان من اول عمره صادقا لم يكذب، فحينما ادعى ما ادعى وجب تصديقه، كما ان محمدا(ص) لما بعثقال لقريش: «ارايتكم ان اخبرتكم ان العدو مصبحكم وممسيكم ما كنتم تصدقونني؟ قالوا بلى قالفاني نذير لكم بين يدي عذاب شديد»((164)).
فقلنا له: (اولا) من اين لنا العلم بان مهديكم كان صادقا في اول عمره؟ قال: نحن نخبركم بذلك الايكفي هذا لكم ونحن عدد كثير؟ فضحك الحاضرون (وقلنا): لا يجوز في قانون القضاء ان يكونالخصم شاهدا (وثانيا) هذا على فرض صحته لا يفيد الا الظن، وكم قد راينا من يكون في اول امرهصالحا فيفسد في آخره او بالعكس (ومما استدلوا به) انه قد ظهرت المعجزة على يده، فانه كان لا يعرفالعربية فدعا اللّه تعالى فعلمه اياها في ليلة واحدة، فصار يتكلم بالعربية الفصحى، فكان حال هذهالحجة حال ما تقدم.
وقال احدهم: بما تستدلون على نبوة محمد(ص)؟ فقلت له: بالمعجزات، فقال: وهل رايتموها؟ قلت: نعم، قال: ما هي؟ قلت: القرآن، قال: والمهدي قدجاء بكلام معجز من انشائه (فيكون اقدر من النبي(ص) لان القرآن المعجز من كلام اللّه تعالى لا منكلامه).
قلت: اسمعنا شيئا منه لننظر هل هو معجز، فتلا علينا من حفظه ما يلي (من الفتن العظمى والافاتالكبرى، صول القسوس بقسي الهمز واللمز كالعسوس، وكل ما صنعوا لجرح ديننا من النبال والقياسبنوه على المكائد كالصائد لا على العقل والقياس، نبذوا الحق ظهريا وما كتبوا في ما دونوا الا امرا فريا،وقد اجتمعت هممهم على اعدام الاسلام، واتفقت آراؤهم لمحو آثار سيدنا خير الانام، ويدعون الناسالى اللظى والدرك ناصبين شرك الشرك، فما نالوا جهدا الا بذلوه، وما وجدوا كيدا الا استعملوه،واستحرت حربهم، وكثر طعنهم وضربهم، وجالت خيولهم وسالت سيولهم، حتى جمعوا عساكر الالحادورفعوا رايات الفساد، وصبت على المسلمين مصائب، وخربت تلك الربوع واهديت لسقياها الدموع،فحاصل الكلام ان الاسلام ملء من الالام واحاطت به دائرة الظلام، وارى الزمان عجائب في نقضاسواره، واسالت (هكذا بالتاء) الدهر سيولا لتعفية آثاره، واكمل القدر امره لاطفاء انواره، ولما كان هذامن مشيئة ربانية مبنيا على المصالح الخفية، فما تطرق الى عزم العدى خلل، ولا الى ايديهم شلل، ولا الىالسنتهم فلل، فكان من نتائجه ان الملة ضعفت، والشريعة اضمحلت، وكثر اللغو وذهب المعارف (وههنااراد الكتاب تصحيحها وذهبت بالتاء فقال لهم ليس فيها تاء) حتى انكرها العارف باخت اضوائها،وناءت انواؤها وديس الملة (وهنا ايضا ارادوا تصحيحها وديست بالتاء فابى عليهم) وطالت لاواؤها،فكان هذا جزاء قلوب مقفلة وآثام صدور مغلقة، ترى اكثر المسلمين فقدوا تقواهم، واغضبوا مولاهم،وملك فؤادهم حب الاملاك والعقار والنسوان).
وتلى علينا من الوحي الموحى الى المهدي المسيح ما يلي:
اني انا الرحمن ناصر حزبه ومن كان من حزبي فيعلو وينصركل بركة من محمد(ص) فتبارك من علم وتعلم، ياتيك من كل فجعميق ينصرك رجال نوحي اليهم من السماء، وحان ان تعان وتعرف بين الناس.
وقال: قد انزل عليه ايضا وحي بالفارسية والهندية (لسان اردو) وارونا مجموعة مطبوعة فيها اشعاراوحيت اليه بالفارسية.
وكان معنا اصحاب الجرائد وكلهم اخرجوا اقلامهم وجعلوا يكتبون الكلام المعجز والوحيالمنزل.
فقلت له: ان هذا الكلام ركيك ولا يبلغ حد الفصاحة والبلاغة فضلا عن الاعجاز.
فقال: قد قالت قريش في حق القرآن لو نشاء لقلنا مثل هذا.
قلت: نحن عرب قد اتقنا العلوم العربية ومارسنا كلام فصحاء العرب، ونرى هذا الكلام ساقطا،وهؤلاء محررو الجرائد قادرون على ان يكتبوا اعلى منه بطبقات، فنحن الان ننشىء لك ما هو احسنمنه وقريش وان قالت ذلك فانها عجزت عن المعارضة وارادت ان تعارض (في القصاص حياة)فقالت: القتل انفى للقتل فكان بينهما تفاوت كثير.
فقال: ومن ذكر هذا.
قلت: ذكره علماء المسلمين ومنهم صاحب المطول.
ومن ادلتهم على انه المهدي المسيح قوله تعالى: (ولو تقول علينا بعض الاقاويل) [الحاقة/44] الايةدلت على ان من يتقول على اللّه يهلكه اللّه ولا يتم له مراده، وهذا لم يحصل له ذلك.
فقلت لهم: المذاهب الباطلة في الدنيا كثيرة وكلها تقول على اللّه، وقد دامت ولم يهلك اصحابها.
قالوا: هذا خاص بمدعي النبوة.
فقلت: لا تخصيص بل يعم كل متقول. (ومما استدلوا به) ما قالوا انه رواه ابن ماجه (لا مهدي الاعيسى) فيدل على ان عيسى والمهدي واحد وهو احمد القادياني.
فقلت لهم: ان صحت الرواية دلت على عدم وجود المهدي، لا على اتحاده مع عيسى، ولا انه احمدالقادياني.
وقلنا لهم: ان المهدي اذا ظهر يملا الارض قسطا وعدلا وانتم تقولون انه ظهر مهديكم على راس مائةسنة لاصلاح الاسلام، ونحن نرى انه من يوم ظهوره للان قد تاخر الاسلام ولم يتقدم، وكثر تركالعمل باحكامه ولم يقل.
قالوا: قد اهتدينا نحن بالمهدي وصلحت حالنا.
قلنا: فهل المهدي المسيح مبعوث اليكم خاصة، او انتم عبارة عن المسلمين، او عن العالم كله؟ وسالهم بعض الحاضرين ان من يتبعكم ما يجب ان يصنع، فتلوا علينا (صورة البيعة التي ياخذونها علىمن يتبعهم).
وهي الاقرار بالشهادتين والتوبة من كل ما سلف منه، وان يفدي نفسه وماله في سبيل الاسلام، وانيصدق بكل ما جاء به المسيح المهدي، ومعهم كتب من تاليف المسيح المهدي الذي قالوا انه الف ثمانينكتابا عرب منها احد عشر والباقي اردو (لسان الهند).
وقلنا لهم: ان عيسى ابن مريم اسمه عيسى وامه مريم وليس له اب، وهذا اسمه احمد وابوه فلان وامهفلانة من اهل قاديان.
قالوا: ان عيسى ابن مريم قد مات وهذا على قدم عيسى، كانهم يعنون انه قائم مقام عيسى وبمنزلته، اوان روح عيسى حلت فيه.
ومما قاله الخليفة احتجاجا على ان محمد(ص) خاتم النبيين وليس آخرهم قوله تعالى: (ما كان محمد ابااحد من رجالكم ولكن رسول اللّه وخاتم النبيين) [الاحزاب/40] وقال في مقام آخر (ان شانئكهو الابتر) والابتر الذي ليس له عقب، فهذه دلت على ان رسول اللّه(ص) ليس بابتر اي ان له اولادا،وتلك دلت على انه ليس باب لاحد ولكن خاتم النبيين، فيكون المراد انه ليس باب لاحد بالولادةولكنه خاتم النبيين الذين ياتون بعده فهو بمنزلة الاب لهم.
فقلنا له: هذه الاية نزلت في واقعة خاصة بالنسبة الى زيد بن حارثة الذي كانوا يقولون انه ابنمحمد.
فقال: انتم لا تفهمون كلامي ثم تردون علي.
فقلنا له: قد فهمنا كلامك، ولكن انت حينما ترى انه لا جواب لك تراوغ.
والذي ظهر لنا انهم يضارعون البابية في تسويلاتهم، فالبابية يقولون بظهور المهدي وبظهور صاحبالزمان نظير قول هؤلاء بظهور المهدي المسيح، والبابية يتشبثون ببعض الاخبار والايات التي يؤولونهاوهؤلاء كذلك، سوى ان البابية يجاهرون بتغيير الشرع السابق محتجين بحديث ان المهدي اذا ظهر جاءبشرع جديد، وهؤلاء يقولون نحن على دين الاسلام وعلى الكتاب والسنة سوى انه يجب اخذ التفسيرمن المهدي، فيغيرون الشرع بهذه الحيلة مستترين بقولهم: اولا انا لم نات بدين جديد وانما نتبع شريعةالاسلام، والبابية يهولون على الناس بانه اتبعهم خلق كثير وملايين من امريكا، وهؤلاء قالوا:
أنه اتبعنا مليونان في امريكا وغيرها وكل ذلك تهويل، نسأله تعالى العصمة من تسويلات الشيطان ومن إتباعالاهواء المضلة وهو ولي التوفيق.
وهذا آخر ما أردنا اثباته في هذه العجالة مما جرى بيننا وبينهم، والحمد للّه وصلى اللّه على محمد وآلهوصحبه وسلم.
فصل الاحمدية والقاديانية نذكر في هذا الفصل ردا لابي الفضل محمد منظور آلي معتمد الجمعيةالاحمدية في بلدة لاهور على كلمة رد بها صاحبها على مقال كتب في محاسن الجمعية الاحمدية تحتعنوان (الاسلام في المانيا) نشر في الجزء الثالث من المجلد العشرين من مجلة العرفان، يفرق فيه بينالاحمدية والقاديانية.
قال بعد مقدمة وجيزة: «وها انا اصرح في هذا المقام، ان الجماعة الاحمدية التي مركزها بلدة (لاهور)عاصمة النبجاب، هي غير الجماعة الاحمدية التي مركزها (القاديان) وكلتا الجماعتين متخالفان فيالاعمال المذهبية والسياسية، مراد الجماعة الاحمدية اللاهورية التعمير، ومقصد الجماعة القاديانيةالتخريب، وليس لهذه الجماعية (القاديانية) ارسالية في المانيا ولم يبنوا فيها مسجدا.
وبعد ذلك انصح لكم يا اخي المسلم، وعليكم بالاجتناب عن سوء الالقاب في عامة اخواننا المسلمين(ولا تنابزوا بالالقاب بئس الاسم الفسوق بعد الايمان) [الحجرات/11].
«ونحن نسلم ان جميع الفرق الناشئة في الاسلام كل واحدة منها غصن من غصون شجرة الاسلام، منقطع غصنا منها فقد قطع الاسلام، وانت تعلم ان حكم التكفير والالحاد بناء على اختلاف الراي ظلمعظيم، وايقاع الاختلاف والنفاق في عامة المسلمين اثم مبين وبهتان عظيم، وكذا صريح ما قيل:
انالمجدد حضرة الميرزا غلام احمد القادياني ياخذ جائزة من الحكومة كلا وحاشا تعالى شانه عن مثلهذه الهفوات» الى ان قال: «وايضا كذب صريح ما قيل ان المجدد الاعظم قد نسخ حكم الجهاد، لانالمجدد قد قال غير مرة واكد على ذلك ان القرآن كله واجب العمل لكل مسلم ومسلمة، ولا شيء منالقرآن بمنسوخ، كتاب احكمت آياته كلها، والنسخ يبنى على وجود الاختلاف في القرآن وهو ليسبموجود، قال اللّه تعالى (ولو كان من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) [النساء/82] فالقولبالنسخ باطل ببداهة».
«وحقيقة الحال ان بعض العلماء الذين ليس عندهم علم من الكتاب قالوا: ان كل من لا يتدين بديانةالاسلام فقتله واجب شرعا وان كان غير محارب، وذا صلح وامن عام، ففي جواب هذا القول قالحضرة المجدد: ان هذا القول غلط ليس بسديد ولا يسمى هذا جهادا، بل هذا القول يؤيد اعراضالنصارى على الاسلام، بان الاسلام كان سببه اي سبب اشاعته في الاقطار الصمصام المسلول وهذا كماترى ليس له اصل صحيح في ديانة الاسلام».
«واما غير المسلم الذي يحارب المسلمين وينهب اموالهم ويسعى في الارض فسادا، فمقابلته واجبة علىكل مسلم، وهذا يسمى جهادا في عرف الشرع».
وايضا كذب صريح ما يقال: ان الجماعة الاحمدية قائلون باستمرار وحي النبوة، نعم انا قائلونبالمبشرات كما تدل عليه الاحاديث (لم يبق من النبوة الا المبشرات)((165)).
«وايضا باطل ما يقال في حقنا انا اهل التاويل لاول كل واجب وفرض على ما يقتضيه راينا، وهذا كلهباطل وفرية بلا مرية» الى كلام آخر لا غرض لنا بنقله.
الخاتمة نختم هذا الرد بما جاء في «كتاب وجهة الاسلام» ومنه نتبين اهدافهم لطائفة من علماء الفرنجة الباحثينص 135 في من دينهم الجديد، الفصل المخصص للبحث عن اسلام الهند، وبموضوع المراة المسلمة ونبيهمالجديد.
«ولم يجعل مسلمو الهند دفاعهم هذا الذي يتعدى الى الهجوم قاصرا على تبرير معاملة المراة في الاسلام،فان منظمي فرقة الاحمدية قاموا منذ اكثر من ربع قرن بترقية هذه الوسيلة ترقية مستمرة بلغت اقصىالروعة، فاخذوا وسائل الغرب وحاكوه في نشر دعايتهم، ولفتت حركتهم الدينية نظر الكثيرين،وكسبت انصارا في كل انحاء العالم بفضل قوتها الذاتية، وتسمى فرقتهم تبعا لاسم مؤسسها (مرزا غلاماحمد) من مدينة قاديان في البنجاب، اعلن المرزا رسالته الى العالم في 1889 وهو في الخمسين من العمر،وبعد ذلك بعامين ظهر بدعوى انه نبي ومجدد مهدي ومسيح، اعلن ان المسيح(ع) لم يمت على الصليب،ولم يرفع حيا الى السماء كما يقول القرآن، ولكنه شفي بعد الصلب وفر ومات اخيرا في كشمير، حيثاكتشف المرزا قبره، واعتقد المرزا ان موت المسيح(ع) موت طبيعي كما يزعم، يؤيده في دعواه انه هوالمسيح، وادعى انه المهدي المنتظر الذي ترقبه المسلمون جميعا، ولكي يعزز هذه المزاعم العريضة اذاعثلاثة كسد مشابه وباتباعه في جدل مع اهل السنة ومع جمعية الار باسماج الهندوك المصلحين ومعالمسيحيين جدل لا يزال قائما الى يومنا هذا، وادى بالمسلمين النبيين الى اخراجه من الحلة والى قتلاتباعه لما بلغ بهم الطيش ان يتجرؤوا على الاقتراب من ملك الافغان النبي المسلم.
ولما كان أن المرزا يزعم أنه المهدي فقد جاء يدعو « الجهاد تراق فيه الدماء كما يعتقد أهل السنة بللجهاد سلمي، ومع عدم تخفيفه من معاداة المسيحيين رأى أنه لا بد من البقاء على الولاء للحكومةالقائمة في الهند » وجعل يؤكد رأيه هذا مما أزعج بعض أهل السنة الذي يخالفونه في ذلك،معتبرين الولاء للحكومة البريطانية مدعاة للريبة، وسرعان ما أعلن المرزا الارباسماج أنه كرشنا (مجدد) وأن المسيح والمهدي والكرشنا شيء واحد».
«أما عن أهل السنة فالظاهر أن المرزا أثار تشددهم وتقديسهم للأولياء، وكان المرزا في الوقت عينه شديد الخصام للعقليين الذين بدأوا يعدلون آراءهم عن مبلغ سمو الوحي المحمدي على المألوف، والذيناشتد ميلهم إلى التوفيق بين القوانين والعادات الإجتماعية الإسلامية وبين الأفكار الحديثة ». إلى أن قال:« وإذا درس غير الأحمدي ما نشره المرزا من دعاوى وحجج لا بد أن يروعه ما في طبيعتها من سذاجة وقلة نضج ، حتى أمكن لكثير من خصومه أن يرموه بتهم شنيعة، ولكن نستطيع القول: أن نجاح المرزا لايبلغ هذا المبلغ العظيم دون أن تكون له قدرة على اجتذاب الناس ، ودون أن يكون مخلصا لما زعم من وحي.
وفي سنة 1908 هلك غلام أحمد وصار حكيم نور الدين أول تلاميذه الخليفة الأول للمسيح،وسرعان ما بدأ انقسام قبل موت نور الدين، وذلك فيما يظهر لتدخل بعض أتباع المرزا في لاهوربرئاسة (خواجا كمال الدين) وفي مسألة سياسية، ثم افتضح الاقتسام عندما انتخب مرزا بشير الدينخليفة ثانية في 1914، ومن ذلك العهد نشأت فرقتان مركز إحداهما مدينة قاديان والأخرى لاهور بينهما فروق عظيمة في العقيدة ، فتعتقد فرقة لاهور أن غلام أحمد لا يزيد كثيرا عن مجدد الاسلام، وتنفرمما تقوله الفرقة الأخرى فرقة قاديان من تكفير أهل السنة، وتؤثر تقريب الشقة بينها (فرقة لاهور) وبينهم أن نشاط حركة الأحمدية وصبغتها التبشرية الحماسية أكثر طرافة عند العالم الخارجي من عقائد الفرقتين وعلاقاتهما بأهل السنة، تظهر هذه الحركة في مظهر من العداوة والتعصب لم نعهدهما في مسلميالهند، فالاستهزاء والازدراء سلاحان من الأسلحة تستخدم في الدعاية.
كتب الأحمدية كتبا كثيرة لم تنقطع ، ومنذ سنة 1892 ظهرت مجلات وطنية كثيرة تنشر في (قاديان) وظهرت أيضا صحيفة بالانجليزية هي (مجلة الأديان) وتقوم هذه الصحف بدعاية قوية ضد المسيحية وضد حركة الإصلاح الهندوكية للارباسماج وضد ديانة السيخ، هناك مدارس منظمة تنظميا حسنا، وهناك إدارتان إحداهما لتنظيم جماعة الأحمدية والأخرى لتوجيه حركة التبشير، وتقوم فرقة لاهور بحركة من هذا القبيل ولكن بنسبة أقل، لكل من الفريقين مبشرون خارج الهند وأتباع ممن ارتدوا عنالمسيحية مشتتون في بلاد كثيرة، واحسب أن مجموع ما للقاديانيين نصف مليون من الأتباع وأن لفرقة لاهور أقل من ذلك كثيرا، ومن العسير أن نتكهن بمستقبل الأحمدية ، ولكن يصعب أن نصدق أن عقيدة جامدة كهذه ستقدر على البقاء طويلا قادرة على اجتذاب أنصار في عصرنا هذا أو على حفظ العقيدة الحالية لأنصارها من التفسير، وإذا عرفنا أن زعماء أهل السنة يشعرون بحالة ملحة لتجديد عقائدهم،ويتأهبون للتنازل عن كثير مما يعدونه على الدوام كلمة اللّه الموحاة التي لا تتغير والتي وراءها إيمان ثلاثة عشر قرنا تؤيدها بذكرياتها المقدسة، إذا عرفنا هذا وجب أن نتساءل هل في وسع هذا الوحي المعقد الذي يرتكن إليه القاديانيون، والذي جاء في آخر الزمن، والذي يتطلب إيمانا قويا جدا، أن يقوى على الثبات في هذه الأيام التي لم يبق فيها من الإيمان إلا النصف، والتي نجد فيها المتعلمين أما ممنيأخذون بالشك وأما ممن يحكمون بالعقل في المسائل الدينية؟».
«أحست فرقة لاهور أنها غير قادرة على قبول مزاعم غلام أحمد كاملة، ويظهر من المحتمل أن الفرع الأكبر لفرقة قاديان سيرى من الضروري يوما قريبا ان ينقح عقائده».
إلى هنا نختم الكلام ونرى فيه مقنعا لمن يطلب الحق ولمن لم يكن له أهداف وراءه، فذلك لا يقنعه شيءولا يرده عن محاولاته برهان، واللّه نسأل أن ينفع به الشاذين عن الصراط المستقيم ومن استهواهمزخرف القول، وهو وحده الدافع لنا إلى ما بذلنا من جهود ومراجعات في هذا الرد، وبيده تعالى أزمةالامور.
ــــــــــــــــــــــــ
( * ) سليمان بن محمد بن علي ابن ابراهيم بن حمود زين الدين العاملي النباطي ( 1873م – 1961م )