الفصل الرابع

 

ثم ذكر الخسيس الجاهل قول الله تعالى ( هذا يوم لا ينطقون . ولا يؤذن لهم فيعتذرون ) [المرسلات 35] ثم قال فى آية أخرى ( يوم تأتى كل نفس تجادل عن نفسها ) [النحل 11] . قال : وهذا تناقض عظيم .

قال أبو محمد : قد قال بعض العلماء المتقدمين : إن المنع من النطق المذكور فى الآية إنما هو فى بعض مواقف يوم القيامة ، وإن الجدال المذكور فى الآية الأخرى هى موقف آخر مما يتلو ذلك اليوم نفسه .

وهذا قول صحيح ، يبينه قول الله تعالى قبل الآية المذكورة ، إذ يقول عز وجل : ( انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون . انطلقوا إلى ظل ذى ثلاث شعب . لا ظليل ولا يغنى من اللهب . إنها ترمى بشرر كالقصر . كأنه جمالة صفر . ويل يومئذ للمكذبين . هذا يوم لا ينطقون . ولا يؤذن لهم فيعتذرون ) [29 ـ 36] فيه بعذر.

هكذا نص الآيات متتابعات ، لا فصل بينها ، فيصح أن اليوم الذى لا ينطقون فيه بعذر إنما هو يوم إدخالهم النار ، وهو أول اليوم التالى ليوم القيامة الذى هو يوم الحساب ، وهو أيضاً يوم جدال كل نفس عن نفسها ، وهذا بيان لا إشكال فيه أصلاً .

وها هنا وجه آخر ، وهو اتباع ظاهر الآيتين دون تكلف تأويل ، إلا أن يأتى بالتأويل نص آخر أو إجماع من جميع الأمة كلها ما بين الأشبونة والقندهار والشحر وأرمينية والمولتان ، فنقول وبالله نستعين :

إن هاتين الآيتين بينتان لا اختلاف بينهما أصلاً ، وإن النطق المنفى نهم فى الآية الأولى والمعذرة التى لم يؤذن لهم فيها إنما ذلك فيما عصوا فيه خالقهم تعالى ، كما قال عز وجل فى آية أخرى : ( اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ) [يس 35] فلا عذر لكافر ولا لعاص أصلاً ، ولا كلام لهم . وأما الجدال الذى ذكر الله تعالى حينئذ عن نفسها ، فإنما هو فى طلب الناس مظالمهم بعضهم من بعض ، فإن الله تعالى لا يضيع شيئاً من ذلك ، على ما صح عن النبى صلى الله عليه وسلم من أن يوم القيامة يقص الشاة الجماء من الشاة القرناء .

وبيان هذا الذى قلنا أن المعذرة إنما هى إلى الله تعالى ، ولا عذر يوم القيامة لمن كفر بالله تعالى أو بنبى من أنبيائه وخالف الإسلام ، وهذا هو الذى يكون يوم القيامة ، ولا يعذر عليه أحد ، وإنما هو مصدر جادل يجادل جدالاً ، وجادل هو فعل من فاعلين لا ينكر أحد هذا من أهل اللغة ، فالله تعالى لا يجادل ، وإنما يجادل الناس بعضهم بعضاً ، فكل أحد حينئذ يجادل من ظلمه ليقتص منه ، وهذا ما لا يعرى منه مؤمن ولا كافر ، فاستبان معنى الآيتين بظاهرهما دون تكلف تأويل ، وبطل ما ظنه هذا الجاهل ، والحمد لله رب العالمين .

* * * * *


قال أبو محمد : ليس فى حماقاتهم المبدلة التى يسمونها ( التوراة ) ذكر أجر ولا ثواب لمحسن بعد الموت ، ولا عقاب لمسىء فى الدنيا أصلاً ، ولا فى الكتب التى ينسبونها إلى أنبيائهم من هذا قليل ولا كثير .

فلو نظر هذا المجنون فيما ينسبونه إلى سليمان ـ عليه السلام ـ فى تصويبه دعاء امرأة دعت له فقالت : ولا زالت أرواح أعدائك يدور بها الفلك .

وهذا إبطال الثواب والعقاب إلا على معنى التناسخ ، ومضاد لما ذكروه عن غيره من الأنبياء أن هنالك ناراً ونعيماً .

ومثل ما ينسبونه إليه أيضاً عليه السلام من أنه قال مرة : إن العالم لا أول له . وأنه قال مرة أخرى : أنا كنت مع الله تعالى حين خلق الأرض والسماء .

فلو أن هذا الجاهل الشقى اشتغل بمثل هذا وشبهه من كذبهم وافترائهم لكان أولى به من تكلف ما لا يحسن ولا يدرى ، مما قد فضحه الله فيه عاجلاً ، ويخزيه آجلاً ، والحمد لله رب العالمين .

 

عوده