الشبهة(12) : الفتوى والتغير بسبب العصر
قال الدكتور هزاع الحوالي : تحت مبحث (مزالق المتصدين للفتوى في عصرنا) : أورد الدكتور يوسف القرضاوي مجموعةً من تلك المزالق، ذكر منها : " الجمود على الفَتاوَى القديمة دون مراعاة الأحوال المتغيرة ". ويعني بها الجمود على ما سُطِّر في كتب الفقه، أو كتب الفتاوَى القديمة، والإفتاء بها دون مراعاة لظروف الزمان والمكان والعُرف والحال، وهي أمورٌ تتطور وتتغير.. ثم استعرض مجموعةً من الأمثلة على ذلك كالإصرار على ثُبوت الهلال بالعين المجردة، وعدم قبول شهادة من يحلق ذقنه...الخ وأكد على ضرورة ملاحظة المفْتِي في فتواه الظروف الشخصية للمُسْتَفْتِي- نفسية أو اجتماعية – والظروف العامة للعصر والبيئة. وكغيره من المقررين لقاعدة تغير الأحكام بتغير الأزمان يستشهد بما ذكره ابن القيم في هذه المسألة – وستأتي في المناقشة- مشيراً إلى أن كلمات ابن القيم في تغير الأحكام بتغير الأزمنة... قد أصبحت مناراً يَهْتَدِي به السائرون ، ويُنَوِّه به المصلحون المعاصرون، وكل من حاول الإسهام في تجديد الفقه الإسلامي ، وإحياء العمل بالشريعة الإسلامية. وكذلك يستشهد بما أورده القرافي في كتابه الإحكام ، إذ يقول :«إن إجراء الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد: خلاف الإجماع وجهالة في الدين، بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد، يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة، وليس هذا تجديداً للاجتهاد من المقلدين حتى يشترط فيه أهلية الاجتهاد، بل هذه قاعدة اجتهد فيها العلماء وأجمعوا عليها، فنحن نتبعهم فيها من غير استئناف اجتهاد» (342) . استشهد الدكتور القرضاوي بالنص المتقدم- مع اختلاف بعض الكلمات عن المصدر- ولاحظ فيه أن الأحكام التي تتغير هي تلك الأحكام التي مدركها ومستندها العوائد والأعراف، لا النصوص المحكمات. ومع أن النص السابق قيد الأحكام المتغيرة بالمُسْتَنِدَةِ للعوائد والأعراف فقط، دون النصوص ، إلا أن القرضاوي لم يُخْرِج سِوَى النصوص المحكمات، والتي يُفَسِّرها بالقطعيات، (343) مما يُفْهَمُ منه إدخال النصوص ظنية الدلالة تحت المتغير عند القرضاوي. وبعد إيراده لنص القرافي المتقَدِّم، وإيرادِهِ لتلك الملاحظة عليه، استشهد بنصٍ آخر يُفْهُم منه شُمول التغيير لمجال أوسع من الأحكام، هذا النص هو قول القرافي :«فمهما تجدد من العرف اعْتَبِرْه، ومهما سقط أسْقِطْه، ولا تَجْمُد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك، لا تخبره على عُرْفِ بلدك، واسأله عن عُرْف بلده، وأجْرِهِ عليه، وأفْتِهِ به، دون عرف بلدك، والمُقَرَّرِ في كتبك، فهذا هو الحق الواضح. والجمود على المنقولات أبداً ضلالٌ في الدين، وجَهْلٌ بمقاصدِ علماء المسلمين والسلف الماضين» (444) لِيَسْتَنْتِجَ القرضاوِيُّ من هذا النص أن القانون الواجب على أهل الفقه والفتوى مراعاته على طول الأيام، هو ملاحظة تغير الأعراف والعادات بتغير الأزمان والبلدان (445) . وليست هذه الملاحظة هي المقصودة، إذ المقصود هو تغير الأحكام بناءً عليها، فهو يَخْتَتِم النُّقُولاتِ التي أوردها بقوله:«وهذا ما جعل كثيراً من أهل العلم يقرون أشياء كانوا يُنْكِرونها- أو أكثرهم- منذ سنواتٍ غير بعيدة، نزولاًعلى حُكْم الضرورة ، واستجابةً لنداءِ الواقع، وتطبيقاً لرُوح الشريعة، التي أراد الله بها اليُسْر، ولم يُرِدْ بها العُسْر (446) . وفي ذكره لأسباب المرونة في الشريعة الإسلامية يذكر من ذلك : تقرير مبدأ تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والحال والعرف. ويرى أنه مبدأ تقرر في عهده صلى الله عليه وسلم ثم في عهد الصحابة. واستدل على ذلك بموقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه من المؤلفة قلوبهم، وقسمة الأراضي المفتوحة ، وطلاق الثلاث وغيرها (447) . وفي السياق نفسه يتحدث الدكتور عبد المجيد النجار عن تغير الأحكام بتغير الزمان، نتيجة للأوضاع الواقعية التي تُرَجِّح ذلك التغير، ويَسْتدِل- أيضاً- بما ورد عن ابن القيم من قوله في طلاق الثلاث : «... فلما تغير الزمان ، وبعد العهد بالسُّنة وآثار القوم، وقامت سوق التحليل، ونفَقَت في الناس ، فالواجب أن يُرَدَّ الأمرُ إلى ما كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخليفته، من الإفتاء بما يُعَطِّل سوقَ التحليل، أو يُقَلِّلْها، ويُخَفِّفُ شَرها، وإذا عُرِضَ على من وَفَّقَهُ الله، وبَصَّرَه بالهُدَى ، وَوَفَّقَه في دِينِهِ، مسألةُ كَونِ الثلاثِ واحدةً ، ومسألةُ التحليل ، ووَازَنَ بينهما ، تَبَيَّنَ له التَّفاوُت ، وعَلِمَ أي المسألتين أَوْلى بالدِّين ، وأصلح للمسلمين » (448) والدكتور عبد المجيد النجار يحدد تَدخُّل الواقع فيما كان مظنونا من الأدلة ليختار من احتمالها ما يحقق المصلحة في ظرف واقعي معين. (449) المناقشــــــة : القول بأن الأحكام تتغير بتغير الأزمنة والأحوال والمصالح والعادات قولٌ يُرَدِّدُه أكثرُ المهتمين بالتجديد الفِقْهِيّ أو الأُصوليّ، مؤكدِين استناد هذه القاعدة للتاريخ الفقهي في عصر الصحابة والتابعين ومَن تَبِعَهُم ، بل في عصره صلى الله عليه وسلم ، كما تقدم. فأما تغير الأحكام في عصره صلى الله عليه وسلم فلا حُجَّة لهم فيه البتَّة، إذ تشريعه صلى الله عليه وسلم للأحكام تبليغٌ عن الله عز وجل مراده، ولله عز وجل نَسْخُ ما يشاء وإثباته. فكيف يجرؤ شخصٌ على ادِّعاءِ الإقتداء بالمصطفي صلى الله عليه وسلم في نسخ الأحكام وتبديلها!! أفلا يَلْزَمُ من ذلك القول بالتشريع ابتداء أُسْوةً بِِه صلى الله عليه وسلم في ذلك؟! وأما القول بأن فِقْه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في بعض القضايا يُمَثِّل مُسْتَنَداً للقول بتغير الأحكام بناءً على تغير المصالح فهو قولٌ مردودٌ بما أوردناه في مناقشة العقلانيين. وخلاصته أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يُبَدِّل حُكْماً، وليس له ذلك وإنما حرص – رضي الله عنه – على تحقيق مناط الحكم في كل قضية نُسِبَ إليه التغيير فيها ، فحيث تحقق مناط الحكم تحقق الحكم ، وحيث رأي تخلف المناط قال بتخلف الحكم، وهو المنهج الشرعي الذي تؤيده الأدلة الشرعية ، وتؤكده قواعد الشرعية وكلياتها. وأما ما ذكروه من إيراد ابن القيم – رحمه الله- لفصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد ، فصحيحٌ وواقعٌ. بَيْدَ أنَّ العلاَّمة ابن القيم رحمه الله – كما هو حال بقية السلف- لم يَعْمَد إلى تغيير حكمٍ شرعيٍ تحقق مناطه البتَّة، وأن كل اجتهاد لُوحِظَ فيه تغييرٌ لحكمٍ شرعيٍ إنما كان – في الحقيقة- اتِّباعٌ للشرع، وتحقيق لمناطات أحكامه. (450) وقد تَتَبَّع بعض الباحثين الأمثلة التي أوردها ابن القيم في الفصل المشار إليه، وصرح بأنه لم يَرِدْ مثالٌ واحدٌ فيها قُدِّمَت فيه مصلحةٌ على نص. (351) فكل حكم تغير كان إما نصاً بنص ، أو مصلحة بمصلحة راجحةٍ، أو إلحاقُ حكمٍ اجتهاديٍ بأصلٍ مَنصوصٍ عليه. (352) ثم يُقال لهم : هل المقصود من تغيير الحكام بتغير الزمان والأحوال ... أن الحادثة التي تَغَيَّر حُكْمُها هي هي عند تغير حكمها بجميع خصائصها وحيثياتها، أم أنه طرأ عليها اختلافٌ في بعض الخصائص والحيثيات؟ فإن كان الجواب بالأول فهو باطلٌ ؛ إذ ذلك نَسْخٌ للحكم، ولا نسخ بعد عصر الرسالة. وإن كان الجواب بالثاني فمقبولٌ ؛ إذ أنهما حادثتان لا حادثة واحدة، وكل حادثة لها حكمها المستَقِلُّ عن حكم الأخرى، ومثال ذلك حكم المُؤَلَّفة قلوبُهم، وهم نَفَرٌ من الناس لم يستقِرّ الإيمان في قلوبهم ، جعلت لهم الشريعة حقًا في مال الصدقة، يتألفهم به الإمام ، للثبات على الإسلام، فيُسْلِم مَن وَرائِهم ويَسْلَم المسلمون من شرهم ، وهذا المعني لا يُخْشَى إلا في حالة ضعف الإسلام، وحاجته لنصرتهم ومؤالفتهم. فالنص يوجب إعطاء المؤلفة قلوبهم لهذا المعنى. وفي حالة تطبيق النص يجد الإمام أمامه حالتين: الأولى : حالة ضعف الإسلام ، وقوم يحتاجون لهذا التأليف. الثانية : حالة قوة الإسلام ، وقوم يزعمون أنهم من المؤلفة قلوبهم. فيطبق حكم الله على الحالة الأولى فيعطيهم سهمهم ، ويطبق حكم الله على الحالة الثانية فلا يعطيهم ، لأنهم ليسوا ممن أمر الله بإعطائهم، وهذا هو تحقيق المناط (353) . وعند تحليل كلام الدكتور القرضاوي- المتقدم- نجد إشادة بما أشار إليه ابن القيم من تغير الفتوى...، ووصف ذلك بالمنار الذي يهتدي به السائرون، وينوه به المصلحون والمجددون... دون توضيح لمقصد ابن القيم من التغيير، وبيان محل التغيير وحدوده وكيفيته ، وهل يشمل الأحكام المنصوص عليها أم لا يكون إلا فيما لم يُنَصُّ عليه؟ كل ذلك لم يذْكُرْه، وإنما ذكر أهمية القول بمثل هذه القاعدة التي تفتح الطريق ، وتنير السبيل!! وعندما استشهد بكلام القرافي المنقول من كتابه « الإحكام » لاحظ تقييد القرافي بأن التغيير إنما يكون في الأحكام التي مَدْرَكُها العوائد والأعراف ، لا النصوص المُحْكَمَات . في حين يفهم من كلام القرافي إخراج كل الأحكام التي مدركها النصوص قاطعة كانت أو مظنونة. وقد تكون هذه الملاحظة تنبيهًا من القرضاوي على ضرورة إخراج النصوص المحكمات عن قاعدة التغيير والتبديل ، إلا أن إيراده لنصٍ آخر لم يرد فيه هذا القيد، بعد الملاحظة مباشرة، يُوهِم أنه يتبَنَّاه ، خاصةً بعد أن أورد القانون الواجب على أهل الفقه مراعاته، وهو ملاحظة تغير الأعراف والعادات بتغير الأزمان والبلدان لتتغير الأحكام عند ذلك، نزولاً على حكم الضرورة واستجابةً لنداءِ الواقع ، وتطبيقاً لرُوح ِالشريعة. ونحن نعرف أحكام الضرورات، أما الاستجابة لنداء الواقع، وتطبيق روح الشريعة فما إِِِخَالُ مُنْصِفاً يُخالِفُنِي في ضرورةِ تحديدِ المقصودِ بالاستجابة، وتفسير نداء الواقع، وضبط الواقع ذاته، وقِسْ على هذا القول بتطبيق روح الشريعة. أما قولُ الدكتور عبد المجيد النجار بالموازنة بين احتمالات الدليل (الظني الدلالة) ليُطَبَّق من الاحتمالات ما يحقق المصلحة في ظرفٍ واقعيٍ معينٍ.. فهو قول المحققين وأئمة السلف . والمهم أن تكون المصلحة المرعية منضبطةً بضوابط الشرع- كما تقدمت الإشارةُ إليها أكثر من مرة- فتحقق المصلحة الشرعية المنضبطة بضوابط الشرع ترجيحٌ لذلك الاحتمال على غيره من الاحتمالات. وأخيراً فإن القاعدة المشهورة «لا يُنكر تغَيُّر الأحكامِ بتَغَيُّر الزمان» ليست قاعدةٌ مُسْتَمَدَةً من أقوال السلف، فهي قاعدةٌ قرَّرَتْهَا مَجَلَّة الأحكام العدلية، (354) وقد وضعها الفقهاء للأحكام التي لا تستند مباشرةً على نص شرعي، بل مصدرها عُرْفٌ أو مصلحةٌ سَكَتََتْ عنها النصوص. يقول الشيخ مصطفي الزرقا : « مِن المُقَرَّرِ في فِقْه الشريعة أن لتغير الأوضاع والأحوال الزمنية تأثيراً كبيراً في كثير من الأحكام الشرعية الاجتهادية وعلى هذا الأساس أُسِّسَتْ القاعدةُ الفقهية القائلةُ «لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان» وقد اتفقت كلمة فقهاء المذاهب على أن الحكام التي تتبدل بتبدل الزمان واختلاف الناس هي الأحكام الاجتهادية من قياسية ومصلحية ، وهي المعنية بالقاعدة الآنفة الذكر ، أما الأحكام الأساسية التي جاءت الشريعة لتأسيسها وتوطيدها بنصوصها الأصلية فهذه لا تتبدل بتبدل الأزمان، بل هي الأصول التي جاءت بها الشريعة لإصلاح الأزمان والأجيال » . (355) وإن كنا نتفق مع الشيخ مصطفي الزرقا في كون القاعدة إنما تتناول الحكام الاجتهادية ، فإننا نختلف معه في مفهوم التبديل والتغيير، فقد أوردنا سابقاً أن التغيير في الحكم لا يمكن أن يقع على صورة واحدة لم تتغير، أما إذا تغيرت الصورة فمن الطبيعي تغير حكمها، إذ أصبح لدينا صورة جديدة تأخذ حكماً آخر. ونحن نعلم أن المصالح التي لم ينص عليها الشارع ، وكذلك الأعراف والعادات التي لم ينشئها الشارع، كل ذلك يمكن أن يتغير من المصلحة إلى المفسدة، فيأخذ حكماً غير حكمه الأول، لأن الصورة الجديدة ليست تلك الصورة الأولي فتأخذ كل صورة حكمها المناسب لها. فلماذا الإصرار على أن الحكم قد تغير ، بدلاً من القول أن هناك صورة جديدة تتطلب حكماً جديداً؟ وقد يرى البعض أن الخلاف لفظيٌّ. وهو ليس كذلك . إذ القول بثبوت أحكامٍ شرعيةٍ لكل صورةٍ جديدةٍ دليلٌ على شمول الشريعة واستيعابها لكل المستجدات. أما القول بتغير الأحكام- مع أنه عند التحقيق ليس تغييراً- فإنه يؤدي إلى تعطيل أحكام الشرع، والجرأة على تبديل وتأويل ما تقرر من أحكام ، وتَنْصِيب الواقع- بأعرافه وعاداته ومصالحه- حاكماً على شرع الله.
( المرجع : محاولات التجديد في أصول الفقه ، للدكتور هزاع الحوالي ، ص 605-613).
الشبهة(13) : قولهم : السُّنَّة منها ما هو عملي ومنها ما هو قولي
قال الدكتور هزاع الحوالي :( أشَرْنا في مَبحثٍ سابقٍ إلى أن السُّنَّة منها ما هو عملي , ومنها ما هو قولي. وتَحَدَّثْنا عن أقسام أفعال النبي صلى الله عليه وسلم لَدَى جُمهورِ الأصوليين، (356) مع توضيح ما يتعلق به منها تشريع وغيره. وقد ذهب بعض الأصوليين إلى تقسيم السُنَّة من جهة وجوب العمل بها ، إلى قسمين: الأول : ما يجب العمل بِمَدلوله مُطْلَقاً ، وهذا أغلبُ سنته صلى الله عليه وسلم . الثاني : ما يُلْتَزَم فيه بِخُطته ومبدئه صلى الله عليه وسلم في تَحَرِّي حُكم الله فيما لا شاهد قطعاً فيه، وذلك بتحري الوسائل والأسباب الحكيمة. (357) وهو قولٌ مستندٌ إلى ما أورده القُرافيُّ من التفريق بين مَنْصِبَي الإمامة والفتوى، بقوله إن للإمام أن يقضي وأن يفتي- كما تقدم – وله أن يفعل ما ليس بفُتْيا ولا قضاء كجمع الجيوش وإنشاء الحروب وحَوْز الأموال وصرفها في مصارفها ، وتولية الولاة، وقتل الطغاة؛ وهي أمورٌ كثيرةٌ تختص به، لا يشاركه فيها القاضي، ولا المفتي... وظهر حينئذٍ أن القضاء يَعْتمد الحِجاج، والفُتيا تَعْتمد الأدلة، وأن تَصَرُّف الإمام الزائد على هذين يعتمد المصلحة الراجِحة أو الخاصة في حق الأمة. (358) ثم وضَّح ذلك بم أورده في مسائلَ لاحقة إذ يقول: «إنَّ تَصَرُّفَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالفُتيا هو إخْبارُه عن الله تعالى بما يَجِدُه في الأدلة من حُكْم الله تبارك وتعالى ، كما قلناه في غيره من المفتين. وتصرفه صلى الله عليه وسلم بالتبليغ هو مُقْتَضى الرسالة. والرسالة هي أمرُ الله تعالي له بذلك التبليغ. فهو صلى الله عليه وسلم ينقل عن الحق للخلق في مقام الرسالة ما وصل إليه عن الله تعالى، فهو في هذا المقام مُبَلِّغٌ وناقِلٌ عن الله تعالى... فلا يَلْزَم من الفُتيا الرِّواية، ولا من الرواية الفُتيا، من حيث هما روايةً وفُتْيا. وأما تصرُّفُه صلى الله عليه وسلم بالحُكْم فهو مُغايرٌ للرسالة والفُتيا؛ لأنّ الفُتيا والرسالة تبليغٌ مَحْضً واتِّباعٌ صِرْفٌ، والحُكم إنشاءٌ وإلزامٌ من قِبَلِه صلى الله عليه وسلم بحسب ما يَسْنَح من الأسباب والحِجاج... فهو صلى الله عليه وسلم في هذا المقام مُنْشئ، وفي الفُتيا والرسالة متَّبع مبلِّغ وهو في الحكم أيضاً متَّبِعٌ لأمر الله تعالي له بأن يُنْشئ الأحكامَ على وِفْق الحِجاج والأسباب ، لا أنه متبع في نقل ذلك الحكم عن الله تعالى ، لأنّ ما فُوِّض إليه من الله تعالى لا يكون منقولاً عن الله تعالى... وأما تصرفه صلى الله عليه وسلم بالإمامة فهو وصفٌ زائدٌ على النُّبوة والرسالة والفثتيا والقضاء، لأنّ الإمام هو الذي فُوِّضت إليه السياسة العامة في الخلائق، وضبط معاقد المصالح ، ودرء المفاسد، وقَمْع الجُناة... وهذا ليس داخلاَّ في مفهوم الفُتيا ولا الحُكم ولا الرسالة ولا النُّبوة، بالتَّصَدي لفصل الخصومات دون السياسة العامة... وأما الرسالة فليس يدخل فيها إلاّ مجردّ التبليغ عن الله تعالي. وأما آثار هذه الحقائق في الشريعة فمختلفة : فما فعله عليه السلام بطريق الإمامة كقسمة الغنائم، وتفريق أموال بيت المال على المصالح، وإقامة الحدود، وترتيب الجيوش... فلا يجوز لأحدٍ الإقدام عليه إلاّ بإذن إمام الوقت ِالحاضر، لأنه صلى الله عليه وسلم إنما فعله بطريق الإمامة ، وما اسْتُبيِح إلا بإذنه، فكان ذلك شرعاً مقررً لقوله تعالى: { واتَّبِعوهُ لَعَلَّكُم تَهْتَدُون } (359) . وما فعله صلى الله عليه وسلم بطريق الحُكم كالتمليك بالشُّفَعة وفُسوخ الأنْكِحة والعقود... فلا يجوز لأحد أن يُقْدَم عليه إلاّ بِحُكم الحاكم في الوقت الحاضر اقتداءَّ به صلى الله عليه وسلم لأنه عليه السلام لم يقرر تلك الأمور إلاّ بالحكم، فتكون أمته بعده صلى الله عليه وسلم كذلك. وأما تصرفه عليه الصلاة والسلام بالفتيا والرسالة والتبليغ فذلك شرع يتقرر على الخلائق إلى يوم الدين، يلْزَمُنا أن نَّتَّبِع كلَّ حكم ممّا بلَّغه إلينا عن ربه بسببه، من غير اعتبار حكم حاكم ولا إذن إمام » (360) . والقُرافيُّ من خِلال استعراض كلامِه في هذا المجال يتَّضِح مقصودُه من التفريق بين ما كان حقاً للإمام أو الحاكم فلا يُقْدم عليه إلاّ بإذنه، وما كان غير ذلك ممّا يجب الالتزام به من كل فردٍ من غير اعتبار لحكم حاكمٍ أو إذن إمام. ويؤكد ذلك أيضاً ما أورده من مسائل اختلف فيها الفقهاء حول تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم أَهُوَ من باب التصرف بالأمامة فلابد فيها من إذن الحاكم، أم هو من باب التصرف بالفُتيا فيكون حقاً لكل أحد. ولم يُرِد أنّ تلك المسائل مُخْتَلَفٌ فيها من جهة شرعيتها وعدم الشرعية فيها. ويؤكد ذلك أيضا . ما أشار إليه القرافي في مسائل اجتهاد الحاكم قبل هذه المسألة وضرورة استناده للأدلة الشرعية، وجواز نقضه إذا خالف الإجماع أو القواعد أو النص أو القياس الجلي (361) . فكل ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم من السُّنَّة بِوَصْفِه رسولاً ومبلِّغا أو حاكمًا وإماماً فحُكمُه الاتِّباع والقَبول, إلا أن الاقتداء به فيه على نوعين كما تقدم: عام وخاص ، فالعام ما لم يتوقف فيه على حكم الحاكم أو إذن الإمام وهو كل ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم من جهة كونه مُبَلِّغًا، والخاص هو ما كان حكماً وقضاءً. فالاقتداء به فيه متقرر أيضًا، لكنه واجب ٌفي حق الولاة فقط باعتبار أن ذلك الفعل صدر منه صلى الله عليه وسلم بصفته إمام الأمة ، فهو الذي يقضي بينهم، ويقسم الحقوق والعطايا، ويُجَيِّش الجيوش، ويُقِيم الحدود. فالاقتداء به صلى الله عليه وسلم مُتَعَيّن في حق الولاة كلٌ بِحَسَبِ المرتبة، فأمير الغزو يُقْتَدي به فيما يتعلق بأمور الحرب وسياستها الشرعية وأحكامها. وليس لكل أحد مباشرة قسمة الغنائم- مثلاً- بنفسه... والقضاة يَقتدون به فيما كان خاصًا بالقضاء وليس لكل أحدٍ مباشرة الأمر بنفسه وإنما الأمر متعلِقٌ بالقاضي أو الحاكم (362) . فهل فُهِمَ من كلام القرفي عدم الاقتداء، أم أن المفهوم هو الاقتداء وإن كان على طائفة مخصوصة في مجال مخصوص؟ نقل بعض العقلانيين النص الوارد عن القرافي وفسَّره تفسيراً يتفق وما يريده، فقد ذهب محمد عِماره إلى أن السُّنَّة باعتبار التشريع تنقسم إلى سُنَّة العادة، وسُنَّة العبادة ، مُعَرِّفاً الأولى بأنها ما لا إلزام فيها، والثانية بما لا يتغير حكمها (363) . ثم يَزيد في توضيح الأمر بأن سُنَّة العادة تشمل كل ما خرج عن دائرة العقائد (الغيبيات) أو العبادات؛ إذ الغيبيات والعبادات- عند عِماره- لا تغيير لحكمها بالاجتهاد، وكذلك إذا هي تعلقت بالثوابت الدنيوية (364) . أما سُنَّة العادة وهي المُتعَلِّقة بفروع المتغيرات الدنيوية فهي مجرد اجتهادٍ نَبويٍّ مُؤَسَّسٌ على العلة. فهذه لا إلزام فيها كما تقدم، بل المُعَوَّل عليه هنا هو المصلحة المستجَدَََّة. يقول محمد عمارة: « وفي ضَوْء هذه الحقيقة من حقائق المنهج الإسلامي عن العلاقة – علاقة المُزاملَة بين النص وبين الاجتهاد- مَيَّز المحدِّثون والأصوليون في نُصوص السُّنة النبوية بين سُنَّة العادة- وهي التي لا إلزام فيها- وسُنَّة العبادة التي لا تغيير لحكمها- بالاجتهاد- إذا تعلَّقت بالغيبيات التي لا يَسْتقِل العقل بإدراكها، أو بالعبادات ومن ثَمَّ لا يجوز الاجتهاد في تغيير حكمها، وكذلك إذا هي تعلقت بالثوابت الدنيوية، لانتفاء دوران وتغيُّر عللها...ميزوا بينها وبين السنة التي تتعلق بالفروع من المتغيرات الدنيوية، والتي هي اجتهاد نبوي، فهذه تدور أحكامها مع عللها وجوداً وعدماً... فيجوز معها وفيها الاجتهاد الجديد تبعا لما يُسْتَجَدُّ من مصالح» (365) . ثم أورد ما نقلناه من نصٍ متقدمٍ عن القرافي، واستنتج منه ما يلي : أولاً : أن السُّنَّة تنقسم إلى قسمين: (أحدهما) : سُنَّةٌ تشريعية (أي من الشرع) وهي شاملة للوضع الإلهي في السُّنَّة الخارج عن إطار اجتهاد الرسول. وحكمها الدوام وعدم الاجتهاد فيها. (الثاني) : سُنَّةٌ غير تشريعية وهي المتعلقة باجتهادات الرسول في فروع المتغيرات الدنيوية سواء اكان في السياسة أوفى الحرب أو في المال، وكل ما يتعلق بإمامته للدولة الإسلامية، أو بقضائه في المنازعات الذي هو اجتهاد مُؤَسَّسٌ على حُجَج أطراف النزاع، وليس وحْياً معصومًا... وفيها ومعها يجوز الاجتهاد الذي يأتي بجديد الأحكام (366) . ثانيا : أن تَوَقُّف السُّنة غير التشريعية على حكم الحاكم أو إذن الإمام يعني استئناف الاجتهاد فيها من جديد بواسطة القضاء المعاصر، وإمام الوقت الحاضر لِتَبَيُّنِ مَدَى توافُرِ شروط إِعْمال أحكامها، وموافقة الحال وتحقيق المصلحة (367) . وفي مناقشة محمد عماره نبدأ ببيان ما ذكره عماره في موضع آخر من حصر السُّنَّة التشريعية في تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم للقرآن فقط فهو يقول: «فنحن مطالبون، حتى نكون متبِعين للرسول، بالتزام سنته التشريعية- أي تفسير القرآن- لأنها دِين» (368) فالسُّنة التشريعية التي كانت في النص السابق ما خرج عن اجتهاد الرسول، أصبحت هنا ما فسره النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن الكريم!! أما الأحكام الواردة في السنة ابتداءً فليست من السُّنة التشريعية- عند عِماره- سواءَ تعلَّقت بالعبادات أم المعاملات. وطالما كانت كذلك فالاقتداء بها غير مُلْزِمٌ. يقول محمد عماره: «أما سُنَّتُه غير التشريعية ومنها (469) تصرفاتُه في السياسة والحرب والسلم والمال والاجتماع والقضاء، ومثلها ما شابهها من أمور الدنيا ، فإن اقتداءنا به يتحقق بالتزامنا بالمعيار الذي يُحقِّق المصلحة للأمة، فإذا حَكَمْنا كساسةٍ بما يحقق مصلحة الأمة كُنَّا مُقْتَدين بالرسول، حتى ولو خالفت نُظُمُنا وقوانينُنا ما رُوِيَ عنه في السياسة من أحاديث لأن المصلحة بطبيعتها متغيرة ومتطورة» (370) . إذن نحن هنا أمام مساحة كبيرة نتحرك فيها بعقولنا وبما نراه من مصالح فقط، سواء اتفقت هذه المصالح مع أحكام الشريعة أم خالفتها، وسواء أكانت مصالح حقيقية كلية أم جزئية مُتَوَهَّمَة. فالمهم هو إضفاءُ الشرعية على كل النظم والقوانين – وإن صادمت النصوص- طالما كانت هذه النظم وتلك القوانين متعلقة بميدان السُّنة غير التشريعية ، وما أوسعه من ميدان عند عماره وأصحابه!! « وهكذا يصبح- بناء ًعلى فَهم الدكتور- لزامًا علينا عدم الالتفات إلى كافة النصوص الواردة في السياسة والحرب، كأحكام الجماعة، والإمامة، والبيعة، والسمع والطاعة، وأحكام المحاربين والبُغاة، وأحكام المرتدين، وأحكام اليهود والنصارى والمشركين، وعامة أحكام دار الحرب، ودار الإسلام، وأحكام السِّلْم من المعاهدات وضوابطها، وكذلك أحكام الاجتماع، وحفظ نُظُم الدولة، وحدود الله، وفيها أحكام الحدود والتعزيرات ونحوها وشروطها، وأحكام الأسرة في النكاح والطلاق والعدة والرضاع والنفقة وغير ذلك، وأحكام القضاء والشهادة واليمين ونحوها، وكذلك أحكام النظام المالي وأحكام النظام واحكام البيوع... طالما أن المقصود هو أن نعمل بما نرى نحن أنه المصلحة لا ما تراه النصوص » (371) . صحيحٌ أن هناك من السُّنة النبوية ما يتعلق به الاقتداء والإتباع وهو غالب سنته صلى الله عليه وسلم ، ومنه ما لا يتعلق به اقتداءٌ أو إتباع كما تقدم في الحديث عن بعض أفعال النبي صلى الله عليه وسلم ، وما أشار إليه بعض المحققين مما ليس هو من باب تبليغ الرسالة، بل مرده لرأيه صلى الله عليه وسلم في أمور دنيوية مُسْتندُها التجرِبة كتأبير النخل وطلبه يوم بدر النزول في مكان ظَنَّه صالحًا للحرب، وما فعله صلى الله عليه وسلم بحكم الجِبِلَّة والطبيعة، أو كان خاصًا به صلى الله عليه وسلم ... فهذا لا يَلْزَمُ مِنْه الإتباع ولا يتعلق به تشريع، وهو القليل النادر في سنته صلى الله عليه وسلم. وأما ما كان من باب تبليغ الرسالة فلا جدال في وجوب الاقتداء به فيه. وغير صحيح أن كل ما يتعلق بالمتغيرات الدنيوية هو من باب سُنَّة العادة وبالتالي تندرج تحت السُّنة غير التشريعية ، فهي دعوى تفتقر إلى الدليل، بل الدليل يصادمها، إذ أن تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بمقتضي كونه حاكمًا أو إماماً شملت ميادين كثيرة- أشار إليها محمد عماره أيضاً- كالحروب والأموال والحدود والمنازعات والطلاق والنكاح والعقود... فهل تخلو هذه الميادين عن حكم الشرع!! إن كثيراً من الميادين المتقدم ذكرها مَنْصُوصٌ على حُكْمه في القرآن والسُّنة، وإنما أدخلها القرافي تحت تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بمقتضي كونه حاكمًا أو إماماً ليؤكد على أن من يتولاها هو الحاكم أو الإمام لا عامة الخلق، لا ليثبت القرافي عدم الإلزام في أحكامها كما حاول عماره تفسير ذلك. ومحاولات عمارة متعددة في تأويل النص حسب الاتجاه، فعندما أورد قول القرافي «فلا يجوز لأحد الإقدام عليه إلا بأذن إمام الوقت الحاضر، لأنه صلى الله عليه وسلم إنما فعله بطريق الإمامة، وما استبيح إلا بإذنه» قال مُعَلِّقًا ومُؤَوِلا ً«إن ما أُخِذَ عن اجتهاد الرسول، باعتباره إمام الدولة، وليس عن الرسالة المُبَلَّغة، أو الفُتيا المتعلِّقة بها، فمردُه إلى إمام الوقت الحاضر؛ أي الدولة الإسلامية المعاصرة ، التي تَسْتأنف ما ورد فيه من السُّنة غير التشريعية، تُمْضي منها ما لا يزال مُحَقِّقًا للمقاصد، وتَستبدِل أحكاماً جديدةً لما لا تتوافر شروط إعمال حكمه... كل ذلك باجتهاد جديد» (372). فهو قد بدأ التأويل بالقول إن ما صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم باعتباره إمام الدولة ليس له علاقة بالرسالة المُبَلَّغَة، وهذا افتئاتٌ عليه صلى الله عليه وسلم؛ إذ أنه صلى الله عليه وسلم بوصفه إمامًا كان يُنَفِّذ أحكام الله تعالى الموحَى بها إليه، وما اجتهد فيه صلى الله عليه وسلم من اجتهاداتٍ أقرَّه الله تعالى عليها فهي واجبة الإتباع أيضاً، وما تصرف فيه صلى الله عليه وسلم بوصفه إماما أو حاكمًا أشرْنا إلى وجوب الاقتداء به فيه من الحكام والولاة. وتصرفه صلى الله عليه وسلم بالحكم إتباع لأمر الله له بأن ينشئ الأحكام على وفْق الحجاج والأسباب كما أشار إلى ذلك القرافي وغيره. وذكره عماره دون تعليقٍ عليه، فإذا كان صلى الله عليه وسلم متبِعاً لأمر الله فإن إتباعه في طريقته في الحكم والإمامة واجب علينا حسب التقسيمات والاختصاصات المشار إليها سابقًا. وقد أصاب عماره في رد تصرفه صلى الله عليه وسلم باعتباره إمامًا إلى إمام الوقت الحاضر، لكنه فسَّر ذلك الردَّ باستئناف ما ورد وإعادة النظر فيه، واستبدال الأحكام... كل ذلك باجتهادٍ جديدٍ. إنه لم يذْهبَ كما ذهب غيره إلى وجوب اقتداء الحكام والأئمة به صلى الله عليه وسلم في هذا المجال، بل ذهب إلى تقرير استئناف النظر وتأسيس الحكم على اجتهادٍ جديدٍ. فلم يكف تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية، وإخراج جانب كبير من جوانب الحياة عن مظلة الشريعة بادعائه أنها من السنة غير التشريعية، ولا إلزام في أحكامها- أقول لم يكف ذلك بل هو مُصِرٌّ على إعادة النظر واستنباط الأحكام بمنهجٍ واجتهادٍ جديدين عمادهما المصلحة، والمصلحة فقط، وهي مصلحة تُدْرَك بالعقل ولها المرتبة الأولى في عملية النظر والاجتهاد، حتى وإن صادمت نصاً قطعي الدلالة والثبوت، فالنصوص ليست مراده لذاتها؛ وإنما المراد المصالح التي جاءت الشريعة لتحقيقها؛ يقول عماره:«فالنصوص الدينية التي جاءت بها الرسالة لتحقيق مصالح العباد في فروع المتغيرات الدنيوية، ليست – كما تشهد بذلك بداهة الفطرة- ليست مرادهً لِذاتها، وإنما هي مُرادةٌ لعللها وغاياتها ومقاصدها، وهي تحقيق مصالح العباد، فهي- أي أحكامها المُستَنْبَطَة منها- تدور مع هذه العلة الغائية- المصلحة- وجودًا وعَدَمًا ويشهد على ذلك اتفاق أهل الاختصاص في فكرنا الإسلامي على ضرورة الاجتهاد مع الأحكام التي ارتبطت بعلةٍ تغيرت ، أو بعادةٍ تبدَّلت ، أو بِعُرْفٍ تَطَوَّر، الذي سبق تغير العلة، وتبدل العادة، وتطور العرف، فوجود النص لم يمنع من الاجتهاد الذي يُثْمِر حُكْمًا جديداً » (373) ولا يظن القارئ أن النص المُتَقدِّم الظَّنِّي الدلالة أو الثبوت!! يقول:«ثم- وهذا هام جداً في هذه القضية- إن الاجتهاد مع وجود هذا النص ، قطعي الدلالة والثبوت، المتعلق بالمتغيرات من الفروع الدنيوية ليس معناه الاجتهاد الذي يرفع وجود النص رفعاً دائمًا ومُؤَبَّدًا ، فهو اجتهادٌ لا يتجاوز النص فَيُلْغِيه، وإنما يتجاوز الحكم المستنبَطَ منه، وهذا التجاوز للحكم ليس مَوْقِفَاً دائماً وأبدِياً... فالحكم المُجْمَع عليه، المُؤَسَّسُ إجماعه على نصٍ قطعي الدلالة والثبوت إذا كان متعلقاً بعلة غائبةٍ تَبَدَّلت، أو بعادةٍ تغيرت، أو بعُرُفٍ تطور،- أي إذا لم يَعُد مُحَقِّقا للمَقْصِد منه ، وهو المصلحة- فلابد من الاجتهاد فيه ومعه اجتهاداً يُثمر حكماً جديداً يحقق المقصد- المصلحة- فإذا عادت العلة الأولى، أو العادة القديمة فكانت المصلحة مُتَحَقِّقة بالحكم القديم، عاد الاجتهاد إليه من جديد، كل ذلك والنص قائمٌ نَتْلوه، ونتعبد بتلاوته» (374) هذا هو اجتهاد عمارة إذن، وميدانه قطعي الثبوت والدلالة الذي نقل عدم جواز الاجتهاد فيه، لقطعية ثبوته، وقطعية دلالته (375) . وهما الأمران اللذان لا مجال معهما لاجتهاد إلا لمن أراد تجاوز النص وهو ما يؤدي إليه اجتهاد محمد عماره، ولا عبرة بقوله «فهو اجتهاد لا يتجاوز النص فيلغيه» إذ لا معنى لإلغاء النص سوى إلغاء حكمه المستنبط منه بدلالته القطعية، أما إلغاء النص برفعه- أي بنسخه- فليس ذلك لمحمد عماره الذي يقرر أن اجتهاده الجديد في النص قطعي الثبوت والدلالة قد يُلغِي الحكم أو يُعيدُه- حسْب المصلحة- مع بقاء النص للتعبد والتلاوة مما يؤكد أن اجتهاده لم يتجاوزه ويلغيه، فهو قائمٌ ثابتٌ. فهو يُطَمْئِنُنا على أنه لن يَنْسخ النصوص أو يغيرها، وإنما سَيُغير أحكامها فقط!! فلماذا الهلع والخوف إذن؟! إنه هلعٌ وخَوفٌ ولَبْسٌ من عَوامِ الفِكر الإسلامي – المقصود أنصار النص- ولا يستند شيئ منه إلى مَنطق أو حُجة يقول: «أما النصوص، قطعية الدلالة والثبوت، والتي تعلقت بأمور هي من الفروع الدنيوية، ومن المتغيرات فيها، والمعللة بعلة غائبة فتلك هي التي يُثير الموقشف منها اللَّبْس الذي نُعالجُه الآن... وفي اعتقادي أن هذا اللَّبْس قائمٌ في نطاق عَوام الفكر الإسلامي وحدهم لأنه- كما سنرى- ليس له منطقٌ أو حجةٌ أو أساس» (376) المنطق هو- إذن- تحكيم العقل وتقديمه على الشرع باعتماد ما يُدْركه العقل وحده من مصالح قد تكون جزئيةً أو مُتَخَيَّلَة، وردُّ النصوص القطعية، أو تأويلها بما يتناسب والواقع المعبِّر عنه بالعادة والعرف. ولابد من الإشارة إلي مستنده ودليله الذي لم يتجاوز شهادة أهل الاختصاص في الفكر الإسلامي أو بعبارةِ عمارة «أهل الاختصاص في فكرنا الإسلامي» فإن كان مقصده- كما هو المتبادَر- المختصين في فكر عماره العقلاني فهذا هو المُتَوَقَّع منهم ، فأين الدليل إذن؟ وإن كان يُشير إلي علماء الشريعة فقد نقلنا الإجماع- في مباحث سابقةٍ- على أن المصلحة لا يجوز اعتبارها عند مخالفة النص. وسيأتي زيادةُ توضيحٍ لهذا في مبحث المصلحة عند العقلانيين من هذا الباب. وتكفي الإشارة هنا إلى عدم استقلال العقل بإدراك المصالح، مما يترتب عليه – بالضرورة- عدم اعتبار المصلحة العقلية المصادمة للنص. ومن أدلة ذلك: أولاً : أن معرفة مقاصد الشرع الكلية المراعية لمصالح العباد، إنما عُرِفَت عن طريق تَتَبُّع الجُزئيات، وهي نصوص الشرع المُتَضَمِّنة للأحكام الشرعية المحققة للمصالح؛ وإذا كانت المصالح معروفةً عن طريق النص فإن إِبْعادَه والاكتفاء بالعقل في تحديد المصلحة هدم للمصلحة ذاتها- باعتبارها مقصداً شرعيا- بهدم الطريق المُوَصِّل إليها. ثانياً : أن العقل في المسائل الشرعية تابعٌ للنَّقْل، فَعَلَيْه الوُقوف عند حدود النقل؛ إذ أن تَعَدِّيْهِ لها إبْطالٌ للشرع (377) . ثالثاً : أن التشريع هو حق الله الخالص لا يشاركه فيه ملَكٌ مُقَرَّبٌ ولا نبيٌّ مُرْسَلٌ، وتشريعه عز وجل هديً ونور ومصلحة تتحقق للملتزمين به، المنفذين لأحكامه، فما حسَّنه الشرع فهو حَسَنٌ ومصلحة، وما قَبَّحَهُ فهو قبيحٌ ومَفسدة. ولو كان للعقل أن يحقق الهداية وحده، ويتَّعَرَّف على مصالح الناس وحده ، لما كان إرسال الرسل وإنزال الكتب. صحيحٌ أن العقل يعرف القُبْح والحُسْن في الأشياء ، لكن المؤَكَد أن معرفته لها معرفة ٌإجمالية لا تنفذ إلى التفصيلات المتعلقة بالزمن والمكان والأفراد والجماعات. أما شرع الله العليم الخبير فهو المتضَمِّن للمصلحة الحقيقية الشاملة التي يَقْصُرُ العقل عن الإحاطة بها والتعرف على جميع جوانبها. وقد أشار إلى ذلك ابن القيم (378) - رحمه الله- بقوله: «بل غاية العقل أن يدرك بالإجمال حُسْنَ ما أتى الشرع بتفصيله، أو قُبْحَه، فيدركه العقل جملةً ، ويأتي الشرع بتفصيله، وهذا كما أن العقل يدرك حُسْنَ العدل ، وأما كون هذا الفعل المُعَيَّن عدْلاً أو ظلماً فهذا مما يَعْجَز العقل عن إدراكه في كل فعل وعقد. وكذلك يعجز عن إدراك حُسْنِِ كل فعل وقبحه. فتأتي الشرائع بتفصيل ذلك وتَبْيِينه، وما أدركه العقل الصريح من ذلك تأتي بتقريره. وما كان حسناً في وقت قبيحاً في وقت ، ولم يَهْتَدِ العقل لوقتش حُسْنِه من وقت قبحه أتَتْ الشرائع بالأمر به في وقت حسنه، وبالنهي عنه في وقت قبحه. وكذلك الفعل يكون مشتملاً على مصلحة ومفسدة، ولا تعلم العقول مفسدته أرجح أم مصلحته؟ فيتوقف العقل في ذلك. فتأتي الشرائع ببيان ذلك، وتأمر براجح المصلحة ، وتنهى عن راجح المفسدة. وكذلك الفعل يكون مصلحةً لشخصً ، مفسدةً لغيره، والعقل لا يدرك ذلك. فتأتي الشرائع ببيانه، فتأمر به من هو مصلحةٌ له، وفي ضِمْنِه مصلحةٌ عظيمةٌ، لا يهتدي إليها العقل، فلا تُعْلَمُ إلا بالشرع: كالجهاد والقتل في الله. ويكون في الظاهر مصلحة، وفي ضِمْنِه مفسدةً عظيمةً لا يهتدِي إليها العقل، فتجئ الشرائع ببيان ما في ضمنه من المصلحة والمفسدة الراجحة » (379) . وهكذا نتأكد من كون العقل قاصراً عن إدراك المصالح في كل الظروف والأحوال. فإذا تقرَّر هذا يتقرَّرُ قَبْلُه ومَعَهُ وبَعْدَهُ أن نصوص الشريعة وأحكامها هي الطريق الحقيقي الموصِّل للمصلحة الحقيقية. لا نقول هذا تَغْيِيباً للعقل ودوره، بل تقريرًا لحكم العقل نفسه القاضي بأن مصلحة الخلق كامنةٌ في شرع الله. فكيف يبقى هذا الحكم قائماً مع القول بتجاوز النصوص من أجل مصلحة تَوَهَّمَها العقل ولم يتضمنها النص؟ ثم إننا ندرك أن العقل يتكَوَّن في أحضان البيئة، فيتأثر بأنماطها وأفكارها وسلوكياتها مما يجعل أحكامه بعيدةً عن الحياد والموضوعية، فتأتي مصالحه على هذا التصور؛ ولذا فإن العقلانيين كثيراً ما يقيسون المصالح بمقاييس الواقع والظروف وملائمة الأحوال ومسايرة العصر، ويدعون أن هذه مصالح تَعَرَّف عليها العقل وحَكَم بها، ثم يَضَعونها في مواجهة مع النص الذي يتضمن مصلحة حقيقية، ولحرصهم على تغليب جانب الواقع والظروف الراهنة ومسايرة العصر، تراهم يُعْلُون من شأن ما تَوَهَّمُوه من مصالح، مُؤَكِّدين على أنها نتاج النظرة العقلية الموضوعية ، وما دامت كذلك فهي مصلحة عامة لقبول كل العقلاء لها ، وطالما كانت عامة فَلْيَغِب النص الجزئي، ولتكن المصلحة الجديدة هي حكم الشرع ومقصده. وهذا هو الاجتهاد الجديد: إلغاء للنصوص بإلغاء أحكامها، بناء ًعلى عدم توافر الشروط المناسبة لتطبيقها، والبحث عن حكم ما من الأحكام ، والبحث عن حكم ما من الأحكام المتماشية مع العصر وأحواله، المحققة للرغبات، والمُضْفِيَة على كل المُمارسات لباسَ التشريع ، بِدعْوَي أن هذه هي المصلحة، والمصلحة مقصد شرعي عظيم!! أما قول محمد عماره عن تبدل العادة وتطور العرف وأثر ذلك في إلغاء حكم النص- حتى ما كان قطعي الثبوت والدلالة- أو تأخيره... فالرد عليه ببيان أن اختلاف العوائد لا يؤثر في الأحكام المنتظمة لها ، أي أن العوائد لا تخرج عن أحكام الشرع، فإذا تعلق حكم شرعي بعادة ما ظل مرتبطا بها على الدوام، فإذا لاحظنا اختلافا في العادة فلا نقول بأنها العادة الأولي قد تغيرت ليتغير حكمها المرتبط بها ، بل نقول بأنها عادة أخري تعود لأصل شرعي آخر يحكم به عليها ، فتظل كل العوائد محكومة بالشرع . وهو ما أشار إليه الشاطبي بقوله: «واعلم أن ما جرى ذكره هنا من اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد فليس في الحقيقة باختلافٍ في أصل الخطاب؛ لأن الشرع موضوعٌ على أنه دائمٌ أبَديٌ، لو فُرِض بقاءُ الدنيا من غير نهاية والتكليف كذلك لم يحتج في الشرع إلى مزيد . وإنما معنى الاختلاف أن العوائد إذا اختلف رجعت كل عادة إلى أصل شرعي يحكم به عليها، كما في البلوغ مثلاً، فإن الخطاب التكليفي مُرْتَفِعٌ عن الصَّبِيّ ما كان قَبْل البلوغ ، فإذا بلغ وقع عليه التكليف . فسقوط التكليف قبل البلوغ، ثم ثبوته بعده ليس باختلاف في الخطاب ، وإنما وقع الاختلاف في العوائد، أو في الشواهد » (380). أما اختلاف الأحكام باختلاف الأحوال والأزمنة فيكفي هنا ما ذكره الدكتور عابد سُفْياني (381) بقوله : «إنَّ تَغَيُّر الأحوال والأزمنة لم تُغْفِله الشريعة بل وضعت له أحكاماً تخصه... فاختلاف الأزمنة التي تأتي على المسلمين فترة القوة، وفترة الضعف جعل الله لكل زمنٍ حكماً يخصه في حال القوة، وكذلك في حالة المجاعة والحاجة، وفي حال الاكتفاء... ولا تَعْنِي مراعاة الشريعة للأزمان والأحوال والقدرات أنها تركت تحديد المصلحة وتشريع الحكم للعقل البشري، كَلاَّ فإنها لم تَتْرك ذلك له ، لا في العبادات ولا في المعاملات... وإِنَّ تَغَيُّر الفَتْوى إذا تغير تحقيق المَناط لكي تَنْتَظِم كلُّ واقعةٍ تحت حُكمِها الشرعي ، لا صِلةَ لَهُ البَتَّةَ بتغير أحكام الشريعة بزعم تغير المصالح بتغير الأزمنة، ومن هنا فإن الفقه الإسلامي يتجدد ولا يَجْمُد ، حيث يأخذ كل واقعة بخصوصها فيدخلها تحت حكمها الشرعي حسب تحقق منَاطها ، فإن جاء زمنٌ آخر تجددت تلك الواقعة على صورةٍ أخرى وتغير تحقيق مناطها ، وُضِعَت تحت حكمها الخاص بها وهكذا... ولكل واقعةٍ بحسب تحقق مناطها، حكمٌ ثابتٌ يحقق المصلحة في جميع الأزمان » (382) . وإذا كان محمد عماره يرى أن السُّنة يُؤْخَذُ منها ويُتْرَك وِفْقَ المعيار الذي تبَنَّاه. فإنَّ لمُحَمَّد إقْبال رَأياً آخر أَكْثرَ تَطَرُّفًا: فهو يُقِرُّ بأنَّ هناك أحاديث تتضمن أحكاماً تشريعية، وأحاديث ليس لها طابعٌ تشريعيٌ. ولم يقف عند القسم الثاني. أما القسم الأول: وهو ما تضمن أحكاماً تشريعية فلم يذهب مذهب «عماره» في عَدِّهِ من السُّنة التشريعية بشرط أن يكون تفسيراً للقرآن الكريم- كما تقدم- بل يرى إقْبالُ عَدَمَ الأخْذِ بالأحاديث مطلقاً في تقنين الأحكام المعاصرة. وحُجَّتُه أن الرسول صلى الله عليه وسلم في مُحَاولَته لِبناءِ شريعةٍ عالميةٍ تشمل الشعوب المختلفة، كان لابد له من جعل أُمةٍ مُعَيَّنة نواةً، فَيُعَلِّمَها ويُطَبِّقَ المبادئ التي ينادي بها على حالاتٍ واقعيةٍ، في ضَوءِ العادات المُمَيِّزة للأمة التي هو فيها، وأحكام الشريعة الناتجة عن هذا التطبيق هي أحكامٌ خاصةٌ بتلك الأمة، إذ ليست مقصودةً بذاتها، وإنما المقصود ما تهدِفُ إليه من مبادئ، فلا مَجال لفَرْضِها على الأجيال المقبلة (383) . إنه الادِّعاء ذاته الذي يَشْغُبُ بِه العقلانيون: استلهام المبادئ العامة والمقاصد الكبرى دون النصوص والأحكام الجزئية!! إنه لأمْرٌ عجيبٌ أن نَسْتنَتِْج المبادئ والمقاصد من أحكام الشريعة الجزئية ونصوصها التفصيلية، ثم نَأْبَى تطبيقَها في عَصْرِنا الحاضر بشدَعْوَى أنها لم تَعُدْ مُحَقِّقة للمصالح التي حققتها فيما مضي من الأزمان، وأن المصلحة لا تتحقق إلا من خلال ما نَسُنُّه من أحكامٍ، أو نُقَنِّنُه من قوانين!! لقد غدا الفكر البشري- عند العقلانيين- أشمل وأهدَى وأرْحَمَ وأنْفَع للبشرية من تشريع الخالق العالم الخبير!! وتطَرُّف إِقْبال ليس قاصراً على رأيه فقط ، بل يتناول جرأته على الزَّعْم بأنَّ أبا حَنِيفَة- رحمه الله- لم يَعْتمد على الأحاديث التشريعية لِمَا يراه من أنها خاصةٌ بالعرب في عصر الرسالة، وعالميةُ الإسلام تَمْنَعُ من اعتمادِ ما فيها من أحكام. وقد رُمِيَ أبو حنيفة- رحمه الله- بِمُخالفَةِ السُّنَّة ودافَعَ عنه غير قليلٍ من العلماء (384) . ولم يَقُلْ أحدٌ- قَبْلَ إِقْبال فيما نعلم- بأن عدَمَ احتجاج أبي حنيفة ببعض الأحاديث كان لرأيه بأنها خاصة بعصر النبي صلى الله عليه وسلم . ويَخْلُص محمد إقبال إلى أن «موقف أبي حنيفة على الجملة من الأحاديث التي تشتمل على أحكام تشريعية بَحْتَةٍ هو في نظري موقف جد سليم. وإذا رأى أصحاب النزعة الحرة في التفكير العصري أنه من الأسلم ألا تُتَّخذ هذه الأحاديث من غير أدني تفريق بينها أساساً للتقنين، فإنهم يكونون بذلك قد نهجوا منهج رجلٍ من أعظم رجال التشريع بين أهل السُّنة » (385) . وهكذا يتطور النظر العقلاني في سُنَّة المصطفى صلى الله عليه وسلم : فبعد أن بدأ الأمر برَدِّ خبرِ الآحاد في مجال العقائد وقبولِه في الفروع بشرط موافقته للقرآن الكريم نجد الشيخ محمد الغزالي يَنْصِبُ مِيزاناً جديداً للاهتداء إلى الصحيح من الأحاديث ، هذا الميزان هو «فِطْرة الشيخ» وهي هنا تعني ذوقه المُنْبَجِسُ من العاطفة والعقل، أو رأيه المستند إلى العقل وضغط الواقع. ومع هذا فليس ما صح بهذا الطريق، أو هذا الميزان، مقبولاً عند الشيخ في بعض القضايا الخطيرة التي لم يذكر تفصيلاً لها، والتي لابد فيها من حديثٍ متواترٍ، أو شبيهٍ بالمتواتر، إذ لا يكفي فيها حديث آحاد حتى مع جلالة راويه!! ثم نري الدكتور رفيق العجم يُضِيف شَرْطَين آخَرَين لِقَبول الحديث هما: اتفاقه مع رُوح الشريعة، واتفاقه مع مُعْطيات القرآن الكريم. وهما شرطان يقصد بهما رد الأخبار الصحيحة متواترة كانت أم آحاداً. نقول ذلك بعد استعراضنا للتحليل الذي قال به العجم، وأشرنا إليه سابقاً. ثم أتى محمد عماره لِيُقَسِّمَ السُّنة إلى تشريعية وغير تشريعية جاعلاً القسم الأكبر منها غير تشريعي لتعلقه بالدنيا وأحوالها ومجالاتها، وقَصْرِه للتشريعي على ما تعلق بالعقائد والثوابت من العبادات. ثم أعلن نظريته المُبْتَكَرة في الاجتهاد القائلة بالاجتهاد في النص قطعي الدلالة والثبوت اجتهاداً يغير حكمه أو يرفعه حيناً دون آخر ، مؤكداً على نجاح النظرية بموافقتها على بقاء النص دون إزالة أو تغيير!! وأظنه يريد منا أن نشكرَه على موافقته على إبقائه على النصوص دون نَسْخٍ لها لِنَتَمَكَّن من التعبُّد بها في صَلواتِنا، كما يقول!! ثم يأتي محمد إقبال لِيُعْلِنَ في جُرْأَةٍ ما خَشِي الآخرون إعلانه؛ إذ يقول بأن تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية غير مُجْدٍ البَتَّة، وتَرْكُها، وعدم جعلها أساساً للقوانين هو الأولى؛ لأنها بتفصيلاتها خاصة بالأمة التي عاصرت الرسول صلى الله عليه وسلم فقط. وكأنه رأى أن هذه الجُرْأة لم تُحْدٍث الاستجابةَ المرغوبة، أو حتى الهِزَّة الفكرية التي يريدها ، فتَمادَى في تضجرئه ليؤكد أن هذا ليس رأيًا له فحسب ، بل قال به الإمام أبو حنيفة- رحمه الله- وجعله أساس مذهبه!! وباطلاعٍ يسيرٍ على أصولِ مذهبِ الإمام أبي حنيفة- رحمه الله- ينكشف هذا الزيف، وتَبْطُل تلك الافتراءات. وكثيرون أولئك الذين نهجوا هذا النهج ممن يُوصَفُون بالمُفَكرين الإسلاميين وقد تَتَبَّع أقوالهم باحثٌ مُعاصِرٌ وعَقَّب عليها بما يلي: «ونكْتفي بما أوردنا من أمثلةٍ تدل على هذا المُنْعَطَفِ الخطر في طريق ديننا وعقيدتنا، من أبناء جِلْدَتنا، والناطقين بِلُغَتِنا، وهذا الفريق من الكُتَّاب المسلمين الذين رَكَّزُوا جهودهم على مُخالفة الأئمة الأعلام السابقين، وأعْطَوا أنْفُسهم حق الاجتهاد تفسيراً وتأويلاً ، وقد أعطوا أنفسهم حرية القول وفق أفهامهم فوصلوا إلى الخطأ في القول ، والشطط في الاجتهاد في مذهبهم الذي تمذهبوه. وذلك ليصلوا إلى مرتبة النُّبوغِ الذي من أعظم وأسهل شروطه ضعف الدين. وضعف الدين أضمن للنجاح في مضمار الثقافة العصرية من قوة العلم » (386) .
( المرجع : محاولات التجديد في أصول الفقه ودعواته ، للدكتور هزاع الحوالي ، ص 344-360).
الشبهة(14) : ادعاؤهم أن الشريعة مجرد مقاصد
( لقد ظن اليَسارُ الإسلاميُّ أنَّ الشريعة مَقَاصِد، وأنَّ العقل هو المُكَلَّف بإِيجادِ الطريقة التي يَراها مُلائمةً، والأحكام التي يراها كَفْيلةً بتَحقيق هذه المقاصد الكُبْرى، مُعْتَبِرًا بذلك أنَ ما وَرَد في الشريعة مِن أحكامٍ تفصيليةٍ لا يُمَثِّل إلاَّ المرحلة الأولى من تطبيق الشريعة، يَقَع تَجَاوُزُها بِتَجاوُزِ المرحلة. وهنا نَتَساءَل: هل يُمْكن للعقل وحْدَه أن يُجَدِّد هذه الأحكام والوسائل المُحَقِّقَة للمقاصد؟ الإجابة لا تحتاج في نظرنا إلى تحاليلَ مُطَوَّلة، إذْ يُمكِن الاكْتِفاءُ بإِلْقاءِ نظْرةٍ على تاريخ المَذاهب القديمة والمعاصِرة، فَكُلها تدعو إلى الحرية والعدل والتقدم، لِنَعْرِف إلى أيِّ مَدَى تَمَكَّنَت من التَّلاؤُم مع الإنسان في مَطالِبه وطُموحاته. فبِاسْم الحُرية يَقع ما يَقع: يموت الناس جُوعًا، ويُلْقَى بأَطْنان المَزْرُوعات والثِّمار في البحار والمحيطات حِفْظًا للأسْعار مِن الانْخِفاض....، وبِاسْم الدَّعوة إلى المُساواة والعدالة، تُكَمَّم الأفْوَاه ويُمْنَع الناس من حقوقِهم في التَّعبير، ويُرْمَى بهم في غَيَاهِب المناطق المُتَجَمِّدة، وباسْم التقدم يُرْمَى بِكُل سَلَفٍ مُتَمَسِّكٍ بمبادئه، ويُتَّهَم بالرَّجْعِيةِ والمَاضَوِيَّة والجُمود... كان ذلك ولا يزال، ولنا من الواقع أكثر من شاهد. * الفَهْم المَقاصِدِيُّ يَخْتَزِل الشريعة في خَمْسَة مَقاصِد: هذا الفهم « التقدمي » للإسلام يَنْفِي عن الشريعة أنْ تكون مَنْهجًا يَتَضمَّن الوسائل الكبرى وبعض التفصيلات. فَنَظْرةُ اليَسار إلى الشريعة نظرةٌ اخْتزالية تَسْطيحيةٌ للشريعة، رغم ما تَدَّعيه لِنَفْسها من عُمْقٍ وغَوْصٍ في «روح» الشريعة. ولعلنا. لا نُجَانِب الصواب إذا قلنا بأنَّ هذه النظرة تُؤْمِن بِبَعض الكِتابِ وتَكْفُر بالبعض الآخر، ما دامت أحكام الوحي- في نظرهم- قابلةً للنَّسْخ المُتواصِل وِفْقًا للتطَوِّر التاريخيِّ والاجتماعيِّ. وهنا نسأل: لماذا وَرَدت تلك الأحكام التفصيلية في القرآن؟ هل كان ذلك فقط للعصر الذي نزل فيه القرآن واستجابةً لظَرْف ٍتاريخي مُحَدَد؟ لو كان الأمر كذلك لما كانت بنا حاجَةٌ إلى نصوص الكِتاب، ولأَمْكَنَنَا أنْ نقوم بتلخيصٍ للقرآن في خمسة مَقاصدٍ نَحْفظها- إنْ لم نَقُل نتْلُوها في الصلاة!! – ثم ما حاجة الإسلاميِّ التقدُّمِيِّ اليومَ إلى سِتِّين حِزْبًا من القرآن، وآلاف الأحاديث النبوية؟.. إنَّ كل هذه النصوص ستُصْبِح في أحسَن الحالات مادةً للتَّثقيف التاريخيِّ والتَّسْليةِ الفكرية، أيْ: تُراثًا لا غَيْر. فَالْفَهْم المَقاصِدِيُّ يَنْتَهِي بِنَا إلى اعْتِبار الإسلام تُراثًا (الإسلام من حيث هو شريعة)؛ بل إنَّ حَسَن حَنَفِي يُطالِبنا بأكثرَ من ذلك، يُطالِبنا بتغْيير المُصْطَلحات التي تتضمَّن العقائد... إن هذه النظرة إلى الإسلام تَجَاوَزَت حتى نظرةَ المُعتزِلة التي يَنْتَسِب إليها اليَسار الإسلاميُّ. ذلك أنَّ المُعْتزلَة وإنْ أَعْطَوْا قِيمةً كُبرى للعقل، فإنَّهم لم يقولوا بِتَعْطيل النصوص، ولم يَقُولوا بِقُدَرة العقل المُطْلقَة على التَّصَرف في الشريعة، فَالمعتزلة يقولون بأن العقل قادرٌ على مَعْرفَة الحَسَنِ والقَبِيح، والخَيْر والشَّر. وإذا أرَدْنا القيام بِقياسٍ أوْ تَشْبيهٍ فإِنَّنا نقول بأنَّ العقل رُّبَّما يكون قادرًا على تَعْيِين المَقاصِد الكبرى للشريعة، ولكنه غير قادرٍ على التفصيل في أحكامها والوسائلِ المُوَصِّلة إِليْها، وذلك خِلافًا لما يَراه اليَسار الإسلامي، فَلَعلَّ مُعْتَزِلة العصر الحديث أكثرُ تقدُّمًا في العقلانية من المعتزلة الأوائل. * الفَهْم المَقاصِديُّ دَعْوةٌ إلى العَلْمانية: إضافةً إلى اختزالِه الشريعة في خمسة مقاصد، يُمَهِّد هذا الفَهْمُ المَقاصِدِيُّ إلى العَلْمانية؛ بل يدعو لها بطريقةٍ أو بأُخْرَى كما سبَقَ بَيانُ ذلك في فصْل الانتماء السياسيِّ للمُسلم. وليس في ذلك غَرابةٌ أو تَناقُضٌ ما دُمْنا مُطالَبِين بِضَبْط طريقنا بأنْفُسِنا، وبما نَنْقُلُه من تَجَارِب الآخَرِين، كما يقول خالد محُيْىِ الدِّين الذي يَنْتَمِي إلى حِزْب التَّجَمُّع ومعَه حَسَن حنفي وبعض «الإخوة في الوطن والثورة والحرية...» معنى ذلك بعبارةٍ أوضَحَ، أنَّ مقاصد الشريعة كَشِعاراتٍ عامةٍ يُمكن أنْ يحققها القَوْمِيُّ، والماركسِيُّ، والليبرالي، والمسلم.. سَواءً بسواء، أي ليس من الضروري أن تكون مُؤْمِناً بالله ومُسْلِماً لِكَي تُحَقِّق مَقاصد شرع الله، فَبِالإمْكان أنْ تكون غير ذلك وتُحَقِّق مقاصِدَه... ولسنا ندري بعد ذلك إنْ كان الأمر يتعلق بأسْلَمَة الماركسيِّ واللِّيبرالي والقومي أم بِتَمَرْكُسِ المُسلِم... أم بشيٍ آخَر!... وبذلك يتحوَّل الإسلام إلى شِعاراتٍ عامةٍ، وكأَنَّه لافِتَةٌ يُمْكِن أنْ نَجِدَها على كل الواجهات. وقديماً قال شاعِرُ الغَزَل: وَكُلٌّ يَدَّعِي وَصْلاً بِِلَيْلَى وَلَيْلَى لا تُقِرُّ لهم بِذاك * الفَهْم المَقَاصِدِيُّ نَفْيٌ لِمَقاصِد الشريعة: إنَّ الفَهْم المقاصدِيّ، إضافةً إلى ما سبق (اختزال الشريعة والدعوة إلى العلمانية)، يَلْزَم عنه إِلْغَاءُ الشَّريعة، وهُو يُؤَدِّي إلى ذلك مَنْطِقِيًا. ذلك أنَّ مَقاصِدَ الشريعة التي حَدَّدَها الفَهْمُ التقدُّمي للإسلام، لا نَجِد مِن الدَّعَوات والمَذاهب مَن يُنْكِرها. فَكُلُّ الأحْزاب تَدْعو إلى الحرية والعدالة والتقدم، وتقول بأنها تُحَارِب الظُّلم والاستغلال. وهذا معناه بلغة أُخْرَى، إذا أرَدْنا أنْ نُواصِل الاستِنْتاجَ، أنَّ الشريعة لم تأْتِ بِجَديد. فهذه المبادئ والشِّعارات العامة مُتَضَمَّنَةٌ في كتب الفلاسفة والحُكماء القُدامى والمُعاصِرين، فما الدَّاعِي إذَنْ إلى أن تأتِيَ عن طريق الوَحْي؟ وهل يكون مَقْصِد الشرع من ذلك مجرد تَكْرارٍ أو إِقْرارٍ لما تَوَصَّل إليه العقل، أيْ: مُجرَّد تَزْكِيةٍ ومُصادَقَةٍ على ما تَوَصَّل إليه الإنسان؟ ذلك ما يراه حنفي بِصِفةٍ ضِمْنِية وصريحة. وإذا كان ذلك كذلك فإننا نَتَوصل إلى النتيجة التالية .: إما أنْ يكون الوَحْيُ مُجَرَّد استجابَةً لِظُروفٍ تاريخيةٍ، نَزَل على العرب البَدْو قَبْل تَحَضُّرِهم، والإسلام يكون تَبَعًا لذلك صالِحًا لِلْبَدَوِيِّ وغيرَ صالحٍ لِلْحَضَرِيِّ: وهذا الاحتمال هو أحسن الاحتمالات. وإما أن يكون نُزول الوحْي عَبَثاً؛ لأنه لم يأتِ بجديد، وإنْ أتَى بجديدٍ في عصره فإنَّنا غيرُ ملْزَمِين إلاَّ بِمَقاصِدِه وهي ليست جديدة.. إذن ألا تَرى معنا أنَّ الفَهْم المَقاصِدِيَّ للشريعة- على النحو الذي رآه اليَسار- هو نَفْيٌ لمِقاصد الشريعة وقضاءٌ عليها. فهل مِن مَقاصد الشريعة أن ننْسَخ أحكامَها ونعَطِّلها ونتجاوَزَها بِاسْم الفَهْم المَقاصِدِي، أيْ: بِاسْم التقدُّم المُسْتمِر نَحْوَ الأفضل..؟!! يقول الإمام الشاطِبِي: «إنَّ عامَّة المُبْتَدِعة قائلةٌ بالتَّحْسين والتَّقْبيح العَقْلِيَّينِ، فَهُوَ عُمْدتُهم وقاعدتهم التي يَبْنُون عليها الشرع، فهو المُقَدَّم في نِحَلِهم بحيث لا يَتَّهِمون العقل، وقد يَتَّهِمون الأدِلَّة إنْ لمْ تُوافِقهم في الظاهر حتى يَرُدُّوا كثيراً من الأدلة الشرعية. وليس كل ما يَقْضِي به العقل يكون حقاً، بدليل أنَّهم يَرَوْن اليوم مَذْهَباً ويَرْجِعون عنه غداً، وهكذا... ولو كان كل ما يَقْضِي به العقل حقاً، لكان العقل وحْدَه كافِياً للناس في المَعاشِ والمَعاد، ولَكَانَ بَعْثُ الله لِلرُّسُل عَبَثاً وعِبْئاً لا مَعْنَى له، وهذا كله باطل فما أدَّى إليه مِثْلُه» (387) . ثُمَّ إنَّنا إذا نَفَيْنا عن الشريعة كَوْنَها مَنْهجاً- كما يفعل اليَسار- نَصِل إلى إقْرارِ مبدأ « الغاية تُبَرِّر الوسيلة» ، أيْ: أنَّ المُهِم هو تحقيق المَقْصِد بأيِّ الوسائل أرَدْنا... إنَّ في الإسلام غاياتٍ، ولكن هناك ضوابط وأخلاقيات ووسائل علمية كبرى تَضْمَن تحقيق هذه المقاصد بطريقةٍ تتَكامَل فيها ولا تَتَعارَض، فالْغايةُ السَّامِية لا نَتَوصَّل إليها بوسائل غيرَ شريفةٍ، وليس مِن باب المَصْلَحَة أنْ نفْعل كلَّ ما نُريد للوُصول إلى غاية. فما عند الله لا يُنالُ بِالمَعاصِي والمُحَرَّمات. وأحياناً تكون الوسائل التي نَسْتَعْمِلها تُؤَدِّي إلى خِلاف الغاية التي قَصَدْناها، فَيُصْبح عملُنا إفْساداً لِمَقاصِدنا. ونحن لم نَقُل أن َّالشريعة حدَدَّت جميع الوسائل التفصيلية، ولكننا قُلنا إنها حددت المَنْهَج في َمبادئه وقواعده، وحددَت الوسائل الكبرى كما حدَّدت بعض الجوانب التفصيلية، وتَرَكَت البَقِيَّة لِتَصَرُّف العقل بالاستقراء والاستنباط، «ذلك أن المُجتهِد ليس مُخْتَرِعاً للأحكام بحسْب عقله حتى يكون مُتَحَرِّرًا مِن مَعانٍ قَبْلِيَّة، وإنما هو باحثٌ عن حُكم شرعي يَرْتَضِيه الله – تعالى-، وهو ما يَقْتَضِي مَوْضُوعِياً أنْ يكون مُتَعَمِّقاً في الشرع، مُسْتوعِباً لِمَقاصِده ووسائله، وأقَلُّ ما يَتِمُّ بِه ذلك الأمْرانِ المُتَقَدِّمان: فَهْمُ المَقاصِد والتَّمَكُن من الاستنباط » (388) . وبين الوسائل والغايات هناك مُرُونةٌ وثَبَاتٌ، تَطَوُّرٌ ومَبْدَئِيَّة، دُون تَحَلُّلٍ وتَمَيُّعٍ وانْهِزامٍ أمام الآخَر. أمَّا أنْ نُحاوِل تَطْوِيع النصوص وإِحْناءَ رأْسِها أمام الواقع فإن ذلك لا يُعَدُّ واقِعيةً، وإنما هو تَكْرِيسٌ للواقع. يقول المفكر الإسلامي سيد قُطْب:«والدِّين لا يُواجِه الواقِع أيَّاً كان لِيُقِرَّه ويبحث له عن سَنَدٍ منه وعن حُكمٍ شرعيٍّ يُعَلِّقُه عليه، كاللاَّفِتَة المُسْتَعارَة، إنما يُواجِه الواقع لِيَزِنَه بِمَيْزانِه، فَيُقِرُّ منه ما يُقِرُ،، ويُلْغِي منه ما يُلْغِي، ويُنْشِئُ واقعاً غيره إن ْكان لا يَرْتَضِيه» (389) . ويتِِمُّ كل ذلك في حُدودِ الانْسجامِ بينَ الوحْيِ والواقع والعقل. وهذا الحديث يَجُرُّنا إلى الحديث عن المَصْلَحة ومَوقِعِها من التشريع. ج- هل تكون المصلحة أصْلاً مُستقِلاً في التشريع: ما مِنْ شكٍّ في أنَّ الأحكام الشرعية مُرَاعَى فيها مَصالح العباد كما سبق بَيانه. ولكن هل تكون المصلحة في غير ما شرع الله، وهل يُمكن أن تَسْتَقِل في التشريع ولو خالفَتْ نَصاً شرعياَ؟ إنَّ المُراد بِالمصْلحة عُموماً جَلْبُ المَنْفَعة ودَفْعُ المَفْسَدة والضَّرَر. ومن أقْسام المصالح «ما يَشْهَد الشرع على اعْتِبار كوْنِه حِكْمةً نَبْنِي عليها الحُكْم كالإِسْكار، فَقَد فُهِمَ من الشرع بِناءُ تَحْريمِ الخَمْر عليه لِمَصلحة حِفْظِ العقل، فَيَحْرُم كلُّ مَطْعُومٍ أو مَشْروبٍ مُسْكِرٍ لِنَفْس المَعْنَي» (390) ومِن الأقسام كذلك: «ما لم يَشْهَد نَصٌّ مُعَيَّنٌ من الشرع باعْتبارِه ولا بِإلْغائِه، ويُسْمَى هذا القِسْم المصلحة المُرْسَلَة أو الاستِصْلاح، وإنما كانت مُرْسلةً لأنها أُطْلِقَت، فَلَمْ يَرِد في نَصِّ الشرع اعتبارُها ولا إلْغاؤُها » (391) . وقد اسْتَهْدفَت الشريعة المُحَافَظَة على « الكُلِّيات ِالخَمْس »، وهي: الدِّين والنَّفْس والنَّسْل والعقل والمال. والمحافظة على هذه الأمور تَتِم بوسائل مُتَدَرِّجة في الأهمية والخُطورة: الضروريات – الحاجِيَّات- التَّحْسِيِنَّات. والمصلحة تشمل هذه الأقسام الثلاثة المذكورة. وقد ذهب الإمام مالك وبعض الشافعية إلى أنَّ الاحْتِجاجَ بالمصلحة المُرْسَلة التي في رُتْبَة الضَّروريات، حُجَّةٌ وإنْ لم يُعاضِدْها دَليلٌ مُعَيَّنٌ، لأنه بِمَثابَة بِناءِ الأحْكام على مَقاصد الشريعة. كما احْتَجَّ الإمام مالكٌ كذلك بالمصلحة التي في رُتْبَةِ الحاجِيَّات، وخالَف في ذلك عامَّة أهل َالعِلْم. أمَا المصلحة التي في نَوْع التَّحْسينيَّات والكماليَّات فقد اتَّفَق جُمْهور العلماء على أنَّه لا يَجُوز الاحْتجاجُ بها إلاَّ إذا عاضَدْها دليلٌ من الشرع، إذ لو احْتُجَّ بها لأَدَّى ذلك إلى تَغْيِير الشرائع، خاصةً وأنَّ الناس يَخْتَلِفون في مُيُولهِم وأغْراضهِم، فلا يَجوز الاحْتجاج بمَصالح مُتَعارِضة. * وإذا كان الإسلام قد اعْتَرَفَ بالواقع والعُرْف والمَصالح، فذلك لأنه تشريعٌ واقِعِيٌّ قابلٌ للتطبيق، ولكنه يَخْتَلف عن غيره من التشريعات في كَوْنه حددَ ضوابطَ لهذه المصالح، لأن الكثير من الناس أصبحوا يَتَمَسَّكون بمبدأِ الضرورة، ويُفْتُون لأنْفُسِهم بِإباحَة ما حَرَّم الله مُتَناسِينَ مَعْنَى الضرورة الذي يتَمَثَّل – كما يقول العلماء – في «أنْ تَطْرَأ على الإنسان حالةٌ من الخَطَر أو المَشَقَّة الشديدة بحيث يَخَاف حُدوثَ ضررٍ، أو أَذَىً بالنَّفْس، أو بالعُضْو، أو بالعِرْض، أو بالعقل، أو بالمال، وتَوابعها، ويَتَعيَّن أو يُباح عندئذٍ ارْتكابُ الحرامِ، أو تَرْكُ الواجِبِ أو تأخيره عن وقته، دَفْعاً للضَّرر عنه في غالب ظنِّه ضِمْنَ قُيودِ الشرع » (392) . فليس كلُّ مَنِ ادَّعَى وُجُودَ الضَّرورة يباح له فِعْله. ومِن هذه الضوابط نذكر بعضها إجمالاً لا تفصيلاً: - أن تكون الضرورة قائمةً (مُتَحَقَّقةَ الوُقوع) لا مُنْتَظَرَة. - أن يَتَعيَّن على المُضْطَرِّ مُخالَفَة الأوامِرِ أو النَّواهي الشرعية، أو ألا يكون لِدَفْع الضَّرَر وسيلةٌ أُخْرَى من المُباحات إلاَّ المُخالَفَة، كأَنْ يوجَد في مكانٍ لا يَجِدُ فيه إلاَّ ما يَحْرُمُ تَناوُله. - الإكْراه إلى حَدٍّ يُخْشَى معَه تَلَفُ النَّفْس أو الأعضاء... - ألا يُخالِفَ المُضْطرُّ مَبادِئ الشريعة من حِفْظ حُقُوق الآخَرين، وتحقيق العدْل، وأداء الأمانات، ودَفْع الضَّرَر، والحِفاظِ على مبْدأ التَّدَيُّن، فلا تَحِلُّ المَفاسدُ في ذاتها، كالزِّنا والقتْل والكُفْر، لأنَّ ما خالَفَ قواعد الشرع لا أثر فيه للضرورة. - أنْ يَقْتَصِر فيما يُباح تناوُله ُللضرورة، في رأْيِ جُمْهور العلماء، على الحَدِّ الأدْنَى أو القَدْر اللازِم لِدَفْع الضرر. - أنْ يَصِف المُحَرَّم- في حالة ضرورة الدواء – طبيبٌ عدْلٌ ثِقَةٌ في دينه وعلمه، وألاَّ يوجَد من غير المُحَرَّم عِلاج ٌآخَرَ يقومُ مَقَامَه... (393) . كما أنَّ مُراعاة الإسلام للعُرْف والعادات مَشْروطةٌ هي الأُخْرَى بضوابط. فالعرف في اعتبار الشرع نوعان: صحيحٌ وفاسدٌ. فالعُرف الصحيح: هو ما تَعَارَف عليه الناس دُون أنْ يُحِلَّ حراماً أو يُحَرِّمَ حلالاً، والعرف الفاسد: هو ما تَعَارَفَهُ الناس ولكنَّه يُحِل حرامًا ويُحَرِّم حلالاً. وقد اشترط العلماء في العرف شروطاً لجوازه، أهمها: ألاَّ يُعارِض نَصاً تشريعياً آمِراً بِنَقِيض المُتَعارَف عليه، أو ناهِياً عنه، أو مَمْنوعًا بنَصٍّ خاصٍّ واردٍ فيه.. وبناءً على ما تَقَدَّم، فإنَّ الشرع قصَد إلى مُراعاة مَصالح العباد، فأحَلَّ لهم الطَّيْباتِ وحَرَّم عليهم الخَبائث. ولكنه حدَّد لهذه المصالح ضوابط حتى لا يتَساهَل الناس في الإفْتاء لأنْفُسِهِم بِفِعْل ما يَحْلُو لهم بِدَعْوَى الظروف والضرورة والمصالح... والمُتأمِّل في مُجتمعِنا يُلاحِظ هذه الالْتِباساتِ والشُّبُهات الكثيرة التي يقع فيها الناس بِوَعْيٍ أو بدون وَعْي. وبعض الناس تَشْتَبِه أمامهم السُّبُل والاختيارات، فيَرْتَكبون المُحَرَّمات ويتساهلون في « الإفتاء » لغيرهم فَيَضِلُّون ويُضِلُّون. وأحيانا يكون الفساد مَغْموراً بِصلاحٍ، والصلاحُ مَغموراً بفساد. فأحْكام الإسلام في القِصاص والرَّجْم وقطْع يدِ السارِق قد تَبْدو لِلْبعض هَمَجِيَّةً لا تُناسِب مَصالح البَشَر، أو قد يَعُدُونها امْتِهاناً للكرامة الإنسانية... والتَّعاملُ بالرِّبا قَدْ يُغْرِي البعض بالقيام بِمَشاريعَ إسلاميةٍ... وقد يكون ذلك من الهَوَى أو مِن قُصورٍ في النَظَر والتأمُّل، أو مِن إِرادَةٍ مُتَحَمِّسةٍ لِنُصْرَةِ الإسلام... ولكن هؤلاء مُخْطِئون في نَظْرَتِهم لِلمصالح ِ، فما هو مَصلحةٌ بالنسبة إليهم هو في أغلب الأحيان سبيلٌ إلى فسادٍ أكبرَ منه، فالذين لا يتحَرَّجون من التَّعامُل بالرِّبا يُعَمِّقون هذه المُمَارَسة الاستغلالية ويَزيدون الأوضاع تأزُّماً، والذين يخافون من القِصاص يَجْعلون المُجْرمِين يَسْتَسْهِلون هذه الكبائر، فيكون ذلك سبيلاً مَباشِراً لامْتِهان كرامة الإنسان، ولقد بَيَّنَت التَّجارِب التاريخيةُ القديمةُ والحديثةُ فَعالِية نِظام ِالعُقُوبات ِفي الإسلام... وما يقال في نظام العقوبات يقال كذلك في مجال تنظيم المجتمع والعائلة. والحِكْمَة مِن الحُكم الشرعي قد لا تَتَجَلَّى أمامنا في كل وقت؛ لأنها قد تكون ضِمْنِية غير صريحة، فقد لا نُدرِك بِوُضوحٍ الحِكْمة من بعض الشعائر التَّعَبْدِية، ومن الطريقة التي يُطالِبنا الشرع فيها بأدائها. فلقد أنْبَأَنا الله بِبَعض الحِكَم العامَّة من العِبادات (التَّقْوَى – الانْتهاء عن الفَحْشاء والمُنْكَر..) ولكن عدد ركَعَات الصلاة، أو صيام شهر رمضان، أو بعض مَناسِك الحَجّ.. لم يُفَصّل لنا وجْهَ الحِكْمة في كل جوانبها. وفي المعاملات: سَنَّ الإسلام أحْكاماً وحَرَّم أشياءَ وأحَلَّ أُخْرَى، وسَكَتَ عن أشياءَ رحْمةً بِنا غير نِسْيانٍ. وقد نَقِف على الحِكمة بسَهولة وقد لا نقف؛ فإذا وقَفْنا انتَهَت المُشكِلة، وإذا لم نقف فإنَّ علينا أنْ نعملَ بتلك الأحكام مُعْتَقِدين في حِكْمَة المُشَرِّع. فالمسلمون الأوائل صَدَّقوا بهذه الأحكام وعمِلوا بها «تَعَبُّداً لله»، فامْتَنَعوا عن أكْلِ لحْم الخِنزير لِمُجَرَّد أنْ أنْبأَهُم القرآن بأنه (رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ)، ولم يكونوا عارفين بِمَضارِّه المادِّيةِ. واليوم وقد بدَأَ العِلْمُ يقف على بعض الأضرار الموجودة في لحم الخِنزير، لا نقول إنَّه عَرَفها كلَّها، ولا نستطيع أن نقول إننا اكتشفْنا عِلَّة التَّحْريم، ولا نتَطاوَل فنقول: إنه يُمْكن القضاءُ على بعض الجراثيم ثُم نأكلُ هذا اللحم، لأن العِلة الصريحة والمُجَسّمة لم يَقَع اكتشافها ولذلك فإن الحُكْمَ سيبْقَى قائماً ما دامت السماوات والأرض... وما يقال في هذا المثال يقال في غيره من الأحكام الشرعية، فلا نقول: إن المرأة اليوم أصبحت تعمل خارج البيت، فلا حاجة لنا إذن بالنص القرآني الذي يقول: +فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ".. إنَّ تَصَرُّفا مِثْل هذا يُؤدي مُباشَرةً إلى نَقْض كافَّة أحْكام الشرع، فَضْلاً عن كَوْنِه يَتَضَمَّن مَعْنَىً مُؤَدَّاه أنَّ الله لا يعْلَم مَصالح عباده، وهذا باطل: { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (394) . وهناك فريقٌ آخَرَ يقِفُ مَوْقِفاً آخَر مِن هذه المسألة، حين يَعْتَبِر أنَّ الأحْكام قابلةٌ للتَّغَيُّر، ويُمكن الاكْتفاءُ ببعض المبادئ التي جاء بها الإسلام. وبالنسبة لهذا الرأي «إنَّ الثابت في التشريع هو مبدأ العقوبة أو الجزاء، أما الأشْكال التَّطْبيقية لهذا المبدأ فمَوْكُولَةٌ لِكلِّ عصرٍ على حسْب أوْضاعِه وأعْرافِه وقِيَمه. وبهذا يَسْتَوْعِب القرآن مُتَغَيِّرات العصور، ويَبْقَى كما أرادَ لَه الله صالحاً لكل زمان ومكان » (395) . وهذا الرأي يُريد الدِّفاع عن الإسلام وإبْرازَه في صورةٍ تجْعلُه حسْب ظَنِّ صاحِبِه، مُتلائماً مع كل الظروف. ولكنه يُؤَدي هو الآخَر إلى اخْتزالِ الشريعة في بعض المبادئ، ونقول لِصاحِبِه: إنَّ الشريعة لم تَكْتَفِ بِسَنِّ مَبادئ العقوبات؛ بل سَنَّت كذلك الأحْكام، فلَمْ يكْتَفِ القرآن بمبدأ عُقوبة جَرِيمَة الزِّنا أو السرقة، وإنما حدَّد هذه العُقوبة، ولو كان يُمْكِن الاكْتِفاءُ بالمبادئ لَقُلْنا:إنَّ الإسلام لم يُضِف – تبْعاً لذلك – أشياءَ جديدةً وتشريعاتٍ مميزةً، ويكون بذلك قد اقْتَصر على تأْيِيد بعض العقوبات التي في عصره، فجميع القوانين أو أغلبها تُعاقِب على جريمة السَّرقة والخِيانةِ والزِّنا... وليس المُهِمُّ في المبدأ فقط، وإنما في الشكل كذلك . إن هذا الرأي بِقَطْع النَّظر عن خلفِيَّاته ,لأننا لا نُناقِش الخَلْفِيات، يؤدي كذلك إلى تأْويل أحكام الشريعة الواضحة تأويلاً يُمَزِّقُها ويُفْسِدُها. لا شك في أن الشريعة جاءت لِترْفَع الحَرَجَ والمَشَقَّة، وقد أدْرك علماء الأمة هذه المعاني فَبَيَّنُوا سَماحة الشريعة، وغيَّر بعضُهم فَتْواهُ بتَغَيُّر الزمان والمكان، يقول ابن القيِّم: «فَصْلٌ في تَغَيُّر الفَتْوَى واختلافِها بحسْب تَغيُّر الأزْمنة والأمكنة والأحوال والنِّيات والعَوائد؛هذا فَصْلٌ عظيمٌ جداً، ووَقَع بِسَبَب الجَهْلِ بِهِ غَلَطٌ عظيمٌ على الشريعة أَوْجَبَ مِن الحَرَجِ والمَشقَّة وتكْلِيف ما لا سبِيل إليه ما يُعْلَمُ أنَّ الشريعة الباهرة التي في أعلى رُتَبِ المصالح لا تأْتِي به» (396) . وقد قال الإمام مالك ردَّاً على الخليفة أبي جعفر المنصور عندما طَلب منه تأْليفَ كِتابٍ يَتَوسَّط فيه بينَ رُخَصِ ابنِ عباسٍ وشدائدِ ابنِ عمر، قال: «لا تَفْعَل يا أميرَ المؤمنين، فقَد سَبَقَت إلى الناس أقاوِيل، وسمعوا أحاديث، وأخذ كل قومٍ بما سَبَق إليهِم، فَدَعِ الناس وما اختارَ كلُّ قَوْمٍ لأنْفُسِهم» وفي روايةٍ أنه قال: «إنَّ أصْحابَ رسول الله تَفَرَّقوا في الأمْصار، وعِنْدَ كل قومٍ علمٌ، فإنْ حَمَلْتَهم على رأْيٍ واحدٍ تكون فتنة» (397) . وبذلك يَتَبَيَّن أنَّ شريعة الإسلام مُتَوافِقَةٌ مع الإنسان في ثَباتِه وتَطَوُّرِه دُون أنْ تَتَحوَّل إلى « مَرْكوبٍ سهْلِ الامْتِطاء» يَتَطَاولُ عليه كلُّ إنسانٍ ). (342) انظر :«الإحكام» ص231-232 (343) انظر : الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد ص42 (444) الفروق للقرافي ج1 ص176-177 (445) راجع فيما تقدم : الفتوى بين الانضباط والتسيب للقرضاوي ص90-103 (446) المرجع السابق ص99 (447) انظر :الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد ص82 (448) أعلام الموقعين لابن القيم 3/48 (449) انظر : في فقه التدين فهما وتنزيلاً 2/76 (450) انظر :الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية للدكتور عابد سفياني ص525 (351) انظر :مفهوم تجديد الدين لبسطامي سعيد 272 (352) المرجع السابق ص271 (353) انظر :الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية للدكتور عابد سفياني ص449 فما بعدها. (354) مجلة دونت فيها المعاملات الفقهية في عهد الدولة العثمانية ، بدئ في تأليفها عام 1285ه وتم ترتيبها عام 1293ه انظر فلسفة التشريع في الإسلام لصبحي محمصاني ص94. (355) انظر : مفهوم تجديد الدين لبسطامي سعيد ص262 (356) راجع : «ضوابط المصلحة عند جمهور الأصوليين» الضابط الثالث: عدم معارضة المصلحة للسُّنَّة في هذا البحث. (357) انظر: «ضوابط المصلحة» للطوفي ص 166. (358) « الإحكام» للقرافي ص32-41. (359) الأعراف : 158. (360) انظر :« الإحكام » للقرافي من ص86 إلى ص96. (361) انظر :«الإحكام» ص75. (362) انظر: «أفعال الرسول» للعروسي ص174-175. (363) انظر:«معالم المنهج الإسلامي» ص114 (364) المرجع السابق ص114 (365) «معالم المنهج الإسلامي» ص114-115 (366) المرجع السابق ص115 (367) المرجع السابق ص119 (368) انظر: «الإسلام وقضايا العصر» ص25 (469) يلاحظ أن ما ذكره من أمثلة بعض السنة غير التشريعية عنده لا كلها، فالمسكوت عنه أكثر من المنطوق به. (370) «الإسلام وقضايا العصر» ص25 (371) «غزو من الداخل» لجمال سلطان ص38 (372) «معالم المنهج الإسلامي» ص118 (373) «معالم المنهج الإسلامي» ص102 (374) «معلم المنهج الإسلامي» ص102 (375) انظر: «الاجتهاد في الشريعة الاسلامية» لمحمد صالح موسى ص22 وكذلك «الاجتهاد في الشريعة الإسلامية» لمحمد فوزي ص17 والاستصلاح للزرقا ص89 (376) المرجع السابق ص102 (377) انظر «الموفقات» المقدمة العاشرة ج1/87 (378) سبقت الإشارة إلى قول ابن القيم في مباحث المقاصد لدى الشاطبي. (379) «مفتاح دار السعادة» ج2ص117. (380) «الموفقات» ج2 ص286 (381) أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة. له :الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية. (382) انظر :«الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية» ص540 (383) انظر:«تجديد التفكير الديني في الإسلام»ص197 (384) انظر :« أبو حنيفة» للأستاذ محمد أبو زهرة. (385) انظر :« تجديد التفكير الديني في الإسلام» ص198-199 (386) الدكتور حمد الجمال في كتابه: «اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر في مصر» ج1 ص294/ 295. (387) الشاطبي : الاعتصام 1/184 (388) عبد المجيد النجار : العقل والسلوك في البنية الإسلامية ص115 (389) معالم في الطريق ص105 (390) إمتاع العقول بروضة الأصول : ص107-110 (391) إمتاع العقول بروضة الأصول : ص107-110 (392) د. وهبة الزُّحيلي : نظرية الضرورة الشرعية : ص67-68 انظر كذلك كتاب : ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية للبُوطي. (393) المصدر السابق: ص69-71 (394) سورة الملك : الآية 14 (395) محمد أبو القاسم حاج حمد : العالمية الإسلامية الثانية ص279 (396) ابن القيم : أعلام الموقعين 3/5 (نقلا عن كتاب العقل والسلوك للنجار). (397) الشعراني: الميزان 1/30 (نقلا عن كتاب شريعة الإسلام للقرضاوي).
|