الشبهة(1):قولهم: ( ليس في الإسلام نظام سياسي ) !
( يزعم الفكر العلماني أنه ليس في الإسلام نظام سياسي محدد ينبغي الالتزام به، وغاية ما هناك وجود بعض المبادئ العامة في مجال السياسة، ولست أعرف بالضبط متى ظهرت هذه المقولة، ولا أول من أشاعها على وجه التحديد، وإن كانت جذورها تمتد إلى كتاب (الإسلام وأصول الحكم) لعلي عبد الرازق؛ وذلك أنه قال عن نظام الحكم زمن النبي صلى الله عليه وسلم : إنه كان موضع غموض وإبهام وخفاء ولبس ) ذكر الأدلة على مجيء الإسلام بنظام سياسي : لقد جاء الإسلام بنظام سياسي، وطلب من المسلمين الالتزام به دون ما سواه من الأنظمة السياسية، وعلى ذلك أدلة متعددة نوجزها فيما يلي: أولاً : النصوص الشرعية ودلالتها على مجيء الإسلام بنظام سياسي محدد: جاءت النصوص الشرعية من الكتاب والسنة ببيان نظام الحكم (النظام السياسي) الذي ينبغي إتباعه والالتزام به؛ فبينت غايته وطبيعته وشكله، وأصل السلطة فيه، ومصدر الإلزام به، وصفات القائمين عليه، وواجباتهم وحقوقهم، ومكانة الأمة فيه، إلى غير ذلك من الأمور التي جاءت بها النصوص الشرعية أو دلت عليها، كما أعطته مصطلحاته الخاصة به التي تميزه عن غيره بحيث لا يشبه في ذلك نظاماً بشرياً سبقه، ولا يشبهه نظام بشري جاء بعده، فهو في ذلك متميز عن السابق واللاحق. والنظام السياسي في الإسلام أو نظام الحكم هو الخلافة، والقائم عليه هو الخليفة، وقد يسمى الإمام، والأمير، وأمير المؤمنين، ومن النصوص التي جاءت في ذلك قوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } [البقرة:30] قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: "وقد استدل القرطبي وغيره بهذه الآية على وجوب نصب الخليفة ليفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه فهو يقطع تنازعهم وينتصر لمظلومهم من ظالمهم، ويقيم الحدود ويزجر عن تعاطي الفواحش إلى غير ذلك من الأمور المهمة التي لا تمكن إقامتها إلا بالإمام ،وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب". ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: { يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى} [ص:26] . فقوله تعالى {احْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ( بعد قوله ) إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً } ( دليل على أن المراد بالخليفة هو الحاكم الذي يحكم بين الناس، وقد قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: "هذه وصية من الله عز وجل لولاة الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق المنـزل من عنده تبارك وتعالى، ولا يعدلوا عنه فيضلوا عن سبيل الله"، وهذا يعني أيضاً أن المراد بالخليفة هو ولي الأمر أو الحاكم الذي يحكم بين الناس. وقد ذكر ابن كثير أيضاً –في تفسير هذه الآية- أن الوليد بن عبدالملك أمير المؤمنين، سأل أبا زرعة أحد العلماء في زمانه قائلاً له: أيحاسب الخليفة؟ فرد عليه أبو زرعة وقال له: إن الله قد جمع لداود النبوة والخلافة ثم توعده في كتابه وتلا عليه قوله: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} الآية. وفي قوله: " إن الله جمع لداود النبوة والخلافة" تأييد لما ذكرناه من المراد بلفظ الخليفة في الآيات السابقة. أما الأحاديث فجاءت منها طائفة كثيرة منها : 1- قوله صلى الله عليه وسلم : " كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون. قالوا: فما تأمرنا؟ قال: فوا ببيعة الأول، أعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم". ففي هذا الحديث أن سياسة أمر الناس كانت في بني إسرائيل مناطة بالأنبياء، وأما في شريعتنا فإن سياسة أمر الناس –بعد الرسول صلى الله عليه وسلم - مناطة بالخليفة، إذ لا نبي بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا يعني أن النظام السياسي هو النظام الذي يكون على الخليفة، وهو الخلافة، والخليفة هو الذي يسوس أمر الناس على مقتضى الشرع، لأنه قائم في مقام الأنبياء والأنبياء يسوسون الدنيا بالدين. هذا وقد كثر في السنة استعمال لفظ (خليفة) للقائم على رأس الدولة الإسلامية. 2-قوله صلى الله عليه وسلم : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين..." الحديث. 3-قوله صلى الله عليه وسلم : " إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما ". 4-قوله صلى الله عليه وسلم : " لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة، أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش ". 5-قوله صلى الله عليه وسلم : " يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا يعده". 6-قوله صلى الله عليه وسلم :" ما بعث الله نبي ولا استخلف خليفة إلا كانت له بطانتان..." الحديث. وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي وردت في هذا المعنى، وقد ورد أيضاً لفظ (إمام) ليدل على ما دل عليه لفظ (خليفة) فمن ذلك: 1-قوله صلى الله عليه وسلم : "ومن بايع إماماً، فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر". 2-وفي الحديث حذيفة: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني وفيه "فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم: دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها... قلت: يا رسول الله فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم..." الحديث. 3-قوله صلى الله عليه وسلم : " إنما الإمام جُنَّة يقاتل من ورائه، ويتقى به، فإن أمر بتقوى الله وعدل كان له بذلك أجر، وإن أمر بغيره كان عليه منه". 4-قوله صلى الله عليه وسلم : "ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته..." الحديث. إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في هذا الباب. وبما تقدم يعلم أيضاً أن لفظ (خليفة) ليس مما استحدثه المسلمون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يزعم بعض الكاتبين. وإذا كانت تلك النصوص السابقة قد تناولت اسم القائم على ذلك النظام، فإن نصوصاً أخرى قد حددت اسم النظام وشكله، منها: 1-قوله صلى الله عليه وسلم : "خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يؤتي الله الملك أو ملكه من يشاء". 2-قوله صلى الله عليه وسلم : " تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله تبارك وتعالى إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عضوضاً..." الحديث، وغير ذلك من الأحاديث الواردة في هذا الشأن. فهذه النصوص التي أوردناها –وهي قليل من كثير- تتحدث عن النظام السياسي في الإسلام، وتجعل له خصائصه المميزة، وتحدد له مفرداته ومصطلحاته الخاصة به؛ ليصبح لفظ (الخلافة) علماً على النظام السياسي في الإسلام، وإذا كان ذلك التحديد الذي ذكرناه إنما هو تحديد على مستوى (النظرية) فهيا بنا لننظر تحديد النظام السياسي على مستوى الواقع الفعلي. ثانياً: الواقع الفعلي في عصر الرسالة، ودلالته على مجيء الإسلام بنظام سياسي بيِّن مفصل: فنقول : من الحقائق التي لا يستطيع أحد أن ينكرها أنه على إثر ظهور الدعوة الإسلامية تكوّن مجتمع جديد له ذاتية مستقلة تميزه عن غيره، يعترف بقانون واحد، وتسير حياته وفقاً لنظام واحد، ويهدف إلى غايات مشتركة، وبين أفراده وشائج قوية من الجنس واللغة والدين، والشعور العام بالتضامن، ومثل هذا المجتمع الذي تتوفر فيه تلك العناصر، هو الذي يوصف بأنه سياسي، أو هو الذي يقال عنه إنه دولة فإنه لا يوجد أي تعريف لها غير أن تجتمع هذه الصفات كلها التي ذكرنا في مجتمع ما. وحينئذ نتوجه بالسؤال التالي: هل أقام الإسلام دولة؟ فسيقولون: نعم –وخاصة أن الذين نناقشهم هنا ممن يقولون بأن الإسلام دين ودولة، أو أن الإسلام لا يفصل بين الدين والدولة-. فنقول ترتيباً على ذلك: وهل كان لهذه الدولة حاكم يحكمها ويسوس الناس؛ فيسير أمور الدولة الداخلية والخارجية، ويقيم الحق بين الناس، وينشر بينهم الأمن، ويقسم بينهم الأموال التي أفاءها الله عليهم، ويعاقب الخارجين عن الشرع؛ فيقيم الحدود ويجاهد الأعداء، ويراسل حكام الدول الأخرى، ويعقد معهم الصلح أو الهدنة، ويسير الجيوش ويعين لها قيادتها، ويرسل الأمراء من قبله إلى البلاد أو النواحي الخاضعة لدولته، وغير ذلك من الأمور التي يباشرها حكام الدولة؟ فسيقولون –ولابد- نعم. فنقول: -إكمالاً لما سبق- ومن أول حاكم لهذه الدولة التي أقامها؟ فسيقولون: هو محمد بن عبدالله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي أرسله الله بالهدى ودين الحق ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، فنقول: ومن الذي خلفه في حكمها؟ فسيقولون: أصحابه أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم، وهم الخلفاء الراشدون الذين قال عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم : "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين..." الحديث، وهم أيضاً من المبشرين بالجنة. وحينئذ نتقدم بهذا السؤال: هل بقيت هذه المبادئ –التي تزعمون أن الإسلام جاء بها ولم يأت بنظام سياسي محدد ولم يتعرض لتفصيلاته- على إجمالها أو إطلاقها -بغير بيان ولا تفصيل؟! أم أنها وجدت السبيل إلى التنفيذ في أرض الواقع فترجمت تلك المبادئ المجملة غير المفصلة عندكم إلى خطوات تفصيلية تنفيذية في واقع حي مشاهد؟! ولابد من أن يقولوا: نعم؛ لأنه لا بديل لتلك الإجابة إلا القول بأن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده تركوا هذه المبادئ التي جاء بها الإسلام ولم يلتزموا بها، وأتوا بالتفصيلات الخاصة بنظام حكمهم بعيداً أو مخالفاً لتلك المبادئ، وهذا ما لا يجرؤ –بحمد الله- أحد ممن ينتسب إلى الإسلام ولم يجهر بعلمانيته أو كفره على التصريح به. فإذا كان الجواب: نعم، وهو كذلك، فحينئذ نكمل السؤال السابق بالسؤال التالي: إذا كانت تلك المبادئ العامة، قد ترجمت إلى واقع حي مشاهد بما فيه من التفصيل والتحديد فما مدى حجة هذه الترجمة وإلزامها؟! أوليس عمل الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين المهديين من بعده بهذه المبادئ يُمثل النظام السياسي الإسلامي الذي أقامه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده، أليست هذه السنة العملية ملزمة لنا شرعاً معاشر المسلمين الذين رضوا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً مبلغاً عن الله دينه؟. ألم يبعث الله رسوله ليبين للناس ما نُزل إليهم من ربهم { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ }[النحل:44]، وإذا كانت تلك المبادئ منـزلة من عند الله، ألا يكون من واجب الرسول صلى الله عليه وسلم بيان هذه المبادئ بنص الآية السابقة ؟، وهل يمكن أن يكون هناك بيان أتم وأكمل وأوضح للمبادئ العامة من بيان الرسول صلى الله عليه وسلم ؟! ثم نقول بعد ذلك: ألا يكفي هذا الوجه من الكلام في الرد على أولئك الذين زعموا كذباً وضلالاً وجهلاً وبهتاناً أن الإسلام لم يأت بنظام سياسي محدد ولم يتعرض لتفصيلاته. ثالثاً : تصانيف العلماء في أحكام النظام السياسي ودلالتها على مجيء الإسلام بنظام سياسي واضح: لقد صنف أهل العلم من المسلمين تصانيف كثيرة في النظام السياسي الإسلامي، يبدؤونها بتعريف (الخلافة) ثم ينطلقون من ذلك إلى الحديث عن أمور كثيرة جداً متعلقة بها مثل: الحديث عن شروط من يتولى الخلافة، وكيفية توليته، وواجباته تجاه الأمة، وحقوقه على الأمة، وعن مدة بقائه في منصبه، وعن موجبات عزله، وعن كيفية عزله، وصفات من يوليه، وصفات من يعزله، وكذلك تحدثوا عن مقاصد الخلافة والغاية منها، وعن العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وعن حدود الطاعة إلى غير ذلك من الأمور الكثيرة المتعلقة بنظام الخلافة ، التي تزخر بها مصنفات أهل العلم ؛ وهي كثيرة مطبوعة بين أيدينا بحمد الله. وهنا نسأل ونقول: هل الذين عرفوا (الخلافة) من أهل العلم، عرَّفوا شيئاً غير محدد لا وجود له ؟ وهل يمكن وضع تعريف لشيء هو في نفسه غير محدد؟! أم أن التعريف يوضع أصلاً لتمييز المعرَّف عن غيره وتحديده، بحيث لا يدخل تحته شيء هو ليس منه، ولا يخرج عنه شيء هو منه؟ ونقول أيضاً: هل يمكن أن يكون هذا الكلام الكثير في تلك التفريعات والتفصيلات التي ذكرنا طرفاً منها حديثاً عن شيء غير محدد أو لا وجود له؟! ثم نقول: وهل يمكن أن يقوم في فهم رجل عاقل أن يكتب كاتبٌ بمثل تلك الدقة والتفاصيل التي ذُكرت عن شيء هو عنده وفي فهمه غير محدد أو غير موجود؟! والأسئلة ليست في حاجة إلى الجواب، فهي تجيب عن نفسها، والذي يتحصل لنا من الكلام في هذه الجزئية: أن كل العلماء الذين كتبوا عن الخلافة في الإسلام إنما كانوا يكتبون عن أمر محدد عندهم له وجود متميز، وله أحكام مفصلة تخصه، ومن هنا فإن القول بأن الإسلام لم يأت بنظام سياسي وإنما أتى فقط بمبادئ عامة في السياسة، هو قول محدث لم يقل به أحد من أهل العلم المتقدمين ) . ( يا للعجب! نظام سياسي متكامل يُكلف المسلمون بإقامته ويحاسبون عليه ويأثمون إن هم قصروا فيه، ثم لا تقدم لهم الشريعة التي نزلت تبياناً لكل شيء أية أحكام تفصيلية تتعلق به ؟! ألا ترون في مثل هذا التكليف أنه تكليف بما هو فوق الطاقة البشرية، ألم يقل الله تبارك وتعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا } [البقرة:286] ؟! أيكون في وسع المسلم –مهما أوتي من علم- أن يقيم نظاماً سياسياً إسلامياً بكل تفاصيله انطلاقاً من القول بأن الإسلام قد أتى بالشورى والعدالة والحرية والمساواة ومسئولية الحاكم وكفى! وماذا تغني عنه مثل هذه الكلمات، وفي أي شيء تنفعه، وكيف يضمن المسلم أن التفصيلات التي وضعها تحت مبدأ (العدالة) مثلاً تفصيلات صحيحة مقبولة شرعًا ، إذا لم يكن عنده من شيئ إلا أن الإسلام قد جاء بمبدأ العدالة ؟ أو أن الإسلام قد أقر مبدأ العدالة أو نحو هذه الكلمات التي لا تسمن في هذا المجال ولا تغني ؟ وما المرجع الذي يرجع إليه المسلمون إذا اختلفوا في الأحكام التفصيلية التي تتدرج تحت مبدأ العدالة مثلاً، إذا لم تكن الشريعة قد أتت بالأدلة الدالة على هذه الأحكام؟! ومن الذي يحكم في هذه الحالة، بأن هذه التفصيلات صحيحة مقبولة شرعاً، وتلك باطلة مرفوضة شرعاً؟ وكيف يحكم؟ وعلى أي دليل يستند؟! إن مثل هذا القول ليس له من نتيجة سوى نشر الفوضى الفكرية بين المسلمين، وجعل النظام السياسي محكوماً بالمصالح العاجلة والعقول والإفهام القاصرة دون الاحتكام إلى الإسلام وشريعته؛ إذ هل يستطيع المرء أن يقوم بأداء الفريضة على وجه صحيح من غير خلل، إذا كانت تلك الفريضة غير محددة، وإنما جاءت على سبيل المبدأ فقط؟! وإذا كان من حجتكم على أن الإسلام ترك تحديد النظام السياسي فلم يأت بنظام محدد: أن الأنظمة السياسية دائماً تتطور، فهل كل التفاصيل المتعلقة بالنظام السياسي في الإسلام كبيرها وصغيرها متغيرة متبدلة متطورة، بحيث لا يكون فيها شيء ثابت على مر الأزمان حتى يمكن أن يُدَّعى أنه لا توجد –في التفاصيل- نصوص ملزمة على مر الأزمان ؟ ولو فرض أن التفاصيل كما ادعيتم لم تأت بها نصوص شرعية - وهو فرض غير صحيح- فهل فعلاً تركت الشريعة للمسلمين حرية الاختيار لتفاصيل النظام السياسي، ولم تضع على هذا الاختيار من قيود سوى: أن توائم تلك التفاصيل العصور المختلفة والظروف المختلفة، وأن الشريعة أحالت في التفاصيل على الخبرة والتجارب البشرية؟! أقول: ولو فرض أن كل ما ذكرتموه في هذا المجال صحيح لوجب عليكم أن تغلقوا ملف (النظام السياسي في الإسلام) وأن تنفضوا أيديكم من الكتابة عنه، لأنه حسب دعواكم: أن الإسلام لم يتعرض للتفاصيل وإنما جاء بمبادئ عامة، وأن هذه المبادئ لا ينفرد بها المسلمون بل تقر بها جميع الأمم، وأن التفاصيل متروكة للمسلمين يضعونها حسب ما يرون فيه المصلحة، معتمدين في ذلك على الخبرة والتجارب البشرية، فإن كان ذلك صحيحاً فما معنى الحديث عن (النظام السياسي الإسلامي) وما علاقة الإسلام بذلك النظام القائم على ذلك التصور المتقدم؟! إنني أرى أنه لا مفر أمام هؤلاء من أحد أمرين : أ-إما الإصرار على تلك المزاعم –التي أبطلناها- وحينئذ فلابد لهؤلاء من أن يكفوا عن الحديث في (النظام السياسي في الإسلام) لأنه لا وجود له حقيقة في ظل تلك المزاعم، ولن يكون له وجود. ب-وإما الإقرار حقاً بأنه يوجد نظام سياسي إسلامي محدد، له قواعده وتفصيلاته التي وردت في نصوص الكتاب والسنة، وحينئذ فلابد لهم من أن يكفوا عن ترديد المزاعم الباطلة من مثل قولهم: إن الإسلام لم يأت بنظام سياسي محدد وإنما أتى فقط ببعض المبادئ السياسية ). ( ثم لا يمتنع بعد ذلك أن تُترك بعض الطرق التنفيذية أو الكيفيات لتحقيق حكم شرعي دلت عليه أدلة الشرع؛ أن تُترك مطلقة من غير تقييد للمسلمين بطريق عملي معين يجب على المسلمين –في كل عصر ومصر- سلوكه دون ما سواه؛ وذلك أن الطرق التنفيذية هي وسائل لتحقيق الغايات، والوسائل لا تراد لذاتها، وإنما تراد لما يترتب عليها، فربما لو أُلزم المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها وعلى مدى الزمن بطريق علمي واحد أو بوسيلة واحدة لتعسر عليهم ذلك ووجدوا فيه من الحرج والمشقة الشيء الكثير ، والله تبارك وتعالى يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر، فهذا الوجه جائز حدوثه، ولا محذور فيه شرعاً، كما أنه لا مناقضة فيه لما أسلفنا من القول بأن النظام السياسي في الإسلام نظام محدد وليس مجرد مبادئ. ولا يمتنع أيضاً أن تأتي النصوص الشرعية ببيان بعض الطرق التنفيذية أو الكيفيات أو الوسائل لتنفيذ أو تحقيق حكم شرعي دلت عليه أدلة الشرع، ويكون ذلك البيان على سبيل الإرشاد والتوجيه وليس على سبيل إلزام المسلمين به دون ما سواه من الوسائل الأخرى التي تحقق المقصود نفسه بدون مخالفات شرعية. ولا يمتنع أيضاً أن تأتي النصوص الشرعية ببيان الكيفية أو الوسيلة التي ينبغي اتباعها في تحقيق حكم شرعي دلت عليه أدلة الشرع، ويكون ذلك البيان على سبيل الإلزام؛ بحيث يجب على المسلمين سلوك ذاك الطريق واتباع تلك الوسيلة، ويحرم عليهم مخالفتها واتباع غيرها ) . مناقشة القول بعدم وجود نظام سياسي للإسلام : ( 1-إن هذا القول يصب في اتجاه الكارهين للنظام السياسي الإسلامي، وتفصيل ذلك أنه متى قيل بأن الإسلام لم يأت بنظام سياسي، وأنه لم يعتن ببيان أحكام تفصيلات النظام السياسي أو جزئياته، وأن كل ما جاء فيه في هذا الصدد لم يزد عن كونه تقريراً لبعض المبادئ السياسية، فإنه يمكن –لاسيما مع المخادعة- تمرير النظم السياسية العلمانية تحت زعم تحقيق تلك المبادئ والمحافظة عليها، أو على الأقل عدم مخالفتها، لاسيما أن المبادئ المجردة تختلف وجهات النظر في تفصيلاتها اختلافاً حاداً، يصل إلى حد التناقض، وذلك أنه في تلك الحالة ليس هناك مرجع أعلى يمكن الرجوع إليه لمعرفة حقيقة تلك المبادئ وتفاصيلها. فهذه شعارات الحرية، والعدالة، والمساواة، وأمثال تلك الشعارات ترفعها الدول جميعها: من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ويُنص عليها في دساتيرها وقوانينها، ومع ذلك فبينها من الخلاف في الفهم والتطبيق ما بين المشرق والمغرب من البعد وعدم اللقاء. وإننا لنرى الآن تحت شعار "مبدأ الشورى" المحاولات العديدة لإدخال النظام البرلماني الغربي وإضافته إلى الإسلام، بأصوله العقدية وتفصيلاته التطبيقية كلها: من مثل القول بأن "السيادة للشعب" وأن "الأمة مصدر السلطات"، وذلك على أنه تطبيق مفصل للشورى التي جاء بها القرآن – زعموا- على سبيل المبدأ !! وتحت شعار "مبدأ الحرية" يجري التشكيك في فريضة الجهاد، وفي قتل المرتد، وفي محاربة المرتدين؛ لأن هذه الأمور –بزعمهم- تخالف مبدأ الحرية. وتحت شعار "مبدأ المساواة" يصار إلى القول بأن الكفار والمشركين من اليهود والنصارى وغيرهم ساكني دولة المسلمين، لهم الحق في المشاركة في الحياة السياسية من حيث تولي الوظائف العامة التي يكون لهم فيها قيادة واستطالة على المسلمين، ويؤخذ برأيهم –كالمسلمين تماماً- في اختيار الحكام في الدولة الإسلامية. وتحت شعار المبدأ نفسه يتم إخراج المرأة من بيتها لتكون عضواً بمجلس الشورى، أو لتتولى منصباً وزارياً، بل ويجعلون لها الحق أيضاً في أن تتولى رئاسة الدولة في بلاد المسلمين. وهكذا تحت مظلة المبادئ التي يدَّعون، يُهدم النظام السياسي، بل يُهدم الإسلام كله، وذلك قرة عين العلمانيين، لا أقر الله عيونهم ). ( 2- القول بمجيء المبادئ دون التفصيلات هو في نفسه قول متناقض وغير مستقر. وذلك أن هذا القول لابد أن ينتهي إلى أحد قولين: أ- إما القول بأن الإسلام لا تعلق له بالسياسية أصلاً كما يقوله العلمانيون المجاهرون. ب- وإما القول بأن الإسلام أتى بنظام سياسي محدد له قواعده الكلية وله أحكامه المفصلة. وبيان ذلك يتضح من خلال كلامنا التالي: إن المبادئ التي يذكرها هؤلاء "العدالة، الحرية، المساواة، الإخاء" إلى غير ذلك، تقر بها جميع الأمم، وتدعيها كل الدول، فما من دولة على وجه الأرض إلا وهي تدَّعي الالتزام بتلك المبادئ –وإن كانت كل دولة تقدم مفهومها الخاص بها لتلك المبادئ كما ذكرنا ذلك من قبل- ففي أي شيء يفترق الإسلام في هذا المجال في تصوركم عن تلك الأمم، إن كان كل ما جاء به فيه تقرّ به وتدعيه أيضاً دول الكفر ؟ وما مرادكم بأن الإسلام أتى بمبادئ عامة ولم يتعرض للتفاصيل والجزئيات؟ هل تريدون بذلك: أن الإسلام أتى بهذه المبادئ مجملة، وأرشد إليها وطلب العلم بها، ثم لم يجعل للمسلمين طريقاً إلى معرفة ما يتعلق بها من تفصيلات إلا ما تهديه إليه عقولهم، أو ما يقلدون فيه غيرهم من أمم الكفر؟ إذا كنتم تقصدون ذلك فانزعوا عن هذه المبادئ وما تعلق بها من تفصيلات الصفة "الإسلامية" لأنه إذا كانت المبادئ مشتركة بين جميع الأمم، وكلهم يقر بها، وكانت تفصيلات تلك المبادئ هي من ثمرات العقول أو تقليد الكفار، فلا معنى لأن تعلق عليها لافتة "الإسلام" إذ لا تصدق نسبة هذا النظام –مبادئ وتفصيلات- إلى الإسلام، إلا كما تصدق نسبته بالدرجة نفسها إلى غير الإسلام، بل نسبته إلى غير الإسلام أكثر؛ لأن الإسلام وإن اشتراك مع الأنظمة غير الإسلامية في المبادئ فإن الأخيرة زادت عليه-زعموا- ببيان التفصيلات، وحينئذ تكون النسبة إلى غير الإسلام أصدق وأدق !! بل مضمون هذا الكلام –بلا أدنى ارتياب- هو أن الإسلام لا تعلق له بالسياسة أصلاً. ومن هنا يتبين أن صفة "الإسلامية" التي يريدون سحبها على تلك الأنظمة المستقدمة والمجلوبة من بلاد الكفر، بزعم محافظتها على تلك المبادئ أمر باطل وغير صحيح. وإن كنتم تريدون بذلك القول أن الإسلام وإن لم يتعرض للتفاصيل والجزئيات، لكن حكم هذه التفاصيل والجزئيات التي لم ينص عليها صراحة، يمكن أن يستنبط من هذه المبادئ العامة بطرق الاستنباط المعروفة والمدونة في كتب أصول الفقه، فإننا نقول لكم: إن كان هذا مرادكم فقد أحسنتم من هذا الوجه، ولكنكم أسأتم من أوجه أُخر: أما الإحسان: فمن حيث ذكركم أن التفاصيل والجزئيات حكمها موجود في أدلة الشريعة، ويمكن استخراجها واستنباطها بطرق الاستنباط المعروفة في كتب أصول الفقه، وبالتالي تكون النصوص الشرعية وافية بجميع الأحكام التي يحتاج إليها المسلمون في نظامهم السياسي –أو غيره- سواء ذكرت تلك الأحكام بطريق النص عليها مباشرة، أو ذكرت بطريق الاستنباط من المنصوص عليه. وأما الخطأ والإساءة فمن حيث: 1- إطلاق العبارات والألفاظ من غير ضبط لها أو تدقيق فيها، مما يجعلها موافقة لفكر من يحارب الله ورسوله والمؤمنين. 2- القول بأن الشريعة الإسلامية لم تتعرض لأحكام التفاصيل والجزئيات المتعلقة بالنظام السياسي، وهذا محض الخطأ، وسوف نورد –إن شاء الله- كثيراً من الإحكام المتعلقة بالتفاصيل والجزئيات التي جاءت عن طريق النص الواضح عليها. 3- وحتى لو سلمنا –جدلاً- بعدم وجود النص الصريح على أحكام تتعلق بالتفاصيل والجزئيات، فما دمتم قد أقررتم بأن تلك التفاصيل والجزئيات يجري استفادة أحكامها والحصول عليها باستنباطها من تلك المبادئ العامة، فلا يجوز إذاً إطلاق القول بعدم التعرض للتفاصيل والجزئيات؛ إذ كيف يكون ذلك وأنتم تقرون بأن أحكام هذه التفاصيل والجزئيات قد أخذت من المبادئ العامة؟! وإذا أقررتم بأن في الإسلام مبادئ عامة تتعلق بالنظام السياسي، وأن أحكام التفاصيل والجزئيات لهذا النظام –وإن لم يأت النص عليها صريحاً- إلا أنه يجري أخذها واستفادتها من تلك المبادئ العامة بطرق الاستنباط المتعارف عليها، كان معنى هذا أن الإسلام أتى بنظام سياسي محدد له قواعده الكلية وله أحكامه المفصلة حسب ما جاءت به الأدلة الشرعية. وإذا وصلنا إلى هذه النقطة، فالآن لا مفر لكم من أحد أمرين: أ- إما القول بأن الإسلام لا تعلق له أصلاً بالسياسة والحكم، وهذه علمانية وردة سافرة معلنة عن نفسها بغير مواربة من قائلها. ب- وإما القول بأن الإسلام أتى بنظام سياسي محدد، له قواعده الكلية وله أحكامه المفصلة التي جاءت بها الشريعة. ولا يوجد بعد هذا خيار ثالث، وحينئذ تصبح هذه المرحلة المذبذبة -لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء- التي زعموا فيها أن الإسلام لم يأت بنظام سياسي وإنما أتى فقط ببعض المبادئ العامة، مثل الشورى والعدالة والحرية والمساواة، من غير تعرض للأحكام التفصيلية ؛ تصبح مجرد لغو من القول لا قيمة له؛ لأنه لابد أن ينتهي إلى أحد الأمرين السابق ذكرهما. 3- القول بالمبادئ دون التفصيلات رمي للشريعة بالقصور.
إن القول بوجود مبادئ عامة ولكن بدون أحكام تفصيلية يعني عدم إحاطة الشريعة بالإحكام التفصيلية المتعلقة بأمر مهم من أمور المسلمين، وهذا رمي للشريعة بالقصور وعدم الكمال، وهذا يعني أيضاً أن علاقة الإسلام بالحكم والسياسة –إن كان له علاقة- هي علاقة هامشية لا قيمة لها؛ إذ غيره من الأنظمة الوضعية أكثر شمولاً منه وأوفى بياناً؛ إذ لم يقتصر على المبادئ، كما اقتصر الإسلام –كما زعموا- وإنما أتى بالتفصيلات والجزئيات المطلوبة، وهذا القول يعني أيضاً أن عموم رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم من ناحية شمولها لكل ما يحتاج إليه المرسل إليهم في أصول دينهم وفروعه، عموم ناقص، إذ يخرج منه ما يخص النظام السياسي، ومن المعلوم الذي لا خلاف عليه أن رسالة الرسول عامة ويشمل عمومها أمرين: أ- عموم من ناحية المرسل إليهم، فهو مرسل لكل أحد من الجن والإنس على اختلاف طبقاتهم وألوانهم وأجناسهم وألسنتهم منذ أن أرسله الله تبارك وتعالى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهذا العموم يشمل في طياته عمومين: عموم الزمان، وعموم المكان، فهو صلى الله عليه وسلم مرسل لكل أحد في كل زمان ومكان. ب- عموم من ناحية المرسل به، فإن رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم شاملة لكل ما يحتاج إليه المرسل إليهم في أصول دينهم وفروعه في كل زمان ومكان. فليس هناك شيء يحتاج إليه المسلمون في أمور دينهم، إلا وقد أرسل به الرسول صلى الله عليه وسلم وبينه لهم أوضح بيان وأكمله وأتمه، وليس تنـزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله دليل على سبيل الهدى فيها، وليس هناك فعل للمكلف إلا وله في الشريعة حكم يخصه. وعلى ذلك فإن القول بمجيء المبادئ دون التفصيلات أو الأحكام المفصلة يناقض عموم الرسالة ويناقض كمالها. 4- القول بمجيء المبادئ دون التفصيلات هو قول هادم للمبدأ نفسه: وذلك أن القول بمجيء المبادئ مجردة دون أن يصحبها نصوص أو أدلة تبين المبدأ، يجعل المبدأ قابلاً للتحوير والتبديل، ويجعله عرضه لأهواء الناس، واختلاف رغباتهم، في الوقت الذي لا يكون فيه ميزان توزن به أقوال الناس في فهمهم للمبدأ، ومن ثمَّ يتغير مضمون المبدأ ويتلون على حسب رغبة المتكلمين به أو فهمهم له، وهذا يؤدي في حقيقة الأمر إلى هدم المبدأ نفسه؛ إذ يصبح المبدأ في هذا الحالة مجرد كلمة خالية حقيقةً من مضمون ثابت يمكن الرجوع إليه، بل ربما انقلب المبدأ الذي ظاهره الخير والرحمة والعدل، إلى أداة ظلم وتجبر وطغيان –وهذا حادث فعلاً- إذ في ظل غياب التفصيلات المبينة للمبدأ، يمكن لمن بيده السلطة أن يضع من عنده تفصيلات لذلك المبدأ الجميل في ظاهره، بينما تكون هذه التفصيلات في حقيقتها ظالمة جائرة، بل ومناقضة لحقيقة المبدأ، فيظهر المعارض غير القابل لتلك التفصيلات الجائرة الظالمة –في هذه الحالة- وكأنه معارض أو مناوئ للمبدأ الجميل الذي أقر به الناس وقبلوه، ومن ثمَّ يتعرض للظلم، ويتهم بأنه خارج على النظام مخالف للجماعة، ويتعرض لأنواع الأذى والعقوبات. ومن أراد أن يعرف اختلاف الناس في فهمهم للمبادئ المجردة، فلينظر إلى دول العالم التي تقر كلها بمبادئ: العدالة، الحرية، المساواة، ولينظر إلى الاختلاف الحاصل بينها في فهم المبادئ وما ينتج عنه من تطبيقات تصل درجة التباين فيها إلى حد التناقض المطلق ). ادعاؤهم أن الواقع يُصدق قولهم ! ( تعتمد هذه الشبهة على ما يدّعونه من شهادة الواقع بعدم وجود هذا النظام؛ إذ يرى أصحابه أن الشريعة لم تحدد مثلاً مدة ولاية الحاكم، ولا كيفية عزله، ولا نوع الحكومة، ولا كيفية الفصل بين السلطات، ولا الطريقة التي تتبع في تطبيق الشورى، ولا الأمور التي يجب أو يجوز أن تكون محلاً للشورى، ولا الطريقة التي يتولى بها الحاكم السلطة، إلى غير ذلك من الأمور التي يذكرونها في هذا الصدد، وانطلاقاً من كل ما تقدم يرى أصحاب هذه الشبهة أنه لا يوجد في الإسلام نظام سياسي محدد واجب الإتباع. وهذه الشبهة مردود عليها من عدة أوجه: أولاً: أن يقال: إن بعض ما ذُكر أن النصوص لم تبينه أو لم تحدده، إنما هو خطأ من قائله وتقوّل بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، وإن النصوص الشرعية قد بينت كل ذلك –كما سنفصله في موضعه إن شاء الله-. وقد يكون السبب في ما زعمه هؤلاء: أنهم لا يفهمون كيفية دلالة النصوص الشرعية على الأحكام التفصيلية أو الفرعية المستفادة منها. لقد بينت النصوص الشرعية من الكتاب والسنة الصحيحة جميع الأحكام التفصيلية المحتاج إليها في النظام السياسي الإسلامي، ولكن كثيراً من الناس –خاصة من لم يتمرس في دراسة العلوم الشرعية- لا يعلمون ولا يدرون كيفية دلالة النصوص الشرعية على الأحكام المستفادة منها، ولو درس هؤلاء –دراسة صحيحة- ما كتبه علماء أصول الفقه في كيفية دلالة الأدلة الشرعية على ما تتضمنه من أحكام، لهداهم ذلك بمشيئة الله إلى الحق إن صدقوا في طلبه. (1-من الأمور أو المسائل التي تعتني بها الأنظمة السياسية، والتي تنص عليها نصاً صريحاً واضحاً نظراً لما لها من أهمية خاصة مسألة "تحديد صاحب السيادة" أي صاحب الكلمة العليا في أمر المجتمع والدولة، بحيث لا تكون هناك كلمة لأحد أعلى من كلمته، أو حتى مساوية لها في كل ما يخص أمر الدولة والمجتمع، ومن الأمر البين الذي لا يحتاج إلى كبير عناء في التدليل أن النصوص الشرعية قد تكلمت بتفصيل شديد عن صاحب السيادة –وإن لم تستعمل المصطلح نفسه- في مواضع عدة، وفي مناسبات مختلفة، فقد بينت النصوص الشرعية أن "السيد هو الله تبارك وتعالى" وأن الكلمة العليا إنما هي لله العلي الكبير المتضمنة للشرع المنـزل من عند الله تبارك وتعالى سواء ما جاء في كتاب الله تعالى، أو ما جاء في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وكون الكلمة العليا في أمر المجتمع والدولة هي لله الواحد القهار، ليست مجرد حكم فقهي، بل هي جزء من عقيدة المسلم، ومن النصوص الواردة في ذلك قوله تعالى: { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } [الشورى:10] وحكمه تعالى إنما يعرف من كلامه الذي أوحاه إلى عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم سواء كان الموحى به قرآنا أو سنة، ومنها قوله تعالى: { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40] وقوله تعالى{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57] وقوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } [يوسف:67] وقوله تعالى: { وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف: 26] وقوله تعالى: { وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[القصص:70] وقوله تعالى: { لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88] وقوله تعالى: {أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62] وقوله تعالى: { وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ }[الرعد:41] وقوله تعالى: { وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا } [التوبة:40] . ومن النصوص التي جاءت في حق السنة قوله تعالى: { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 ،4] وقوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } [النساء:80]. 2-ومن الأمور المتعلقة بالنظام السياسي وجاء الحكم فيها مفصلاً مسألة اعتقاد أو ديانة ولي أمر المسلمين، فقد بينت النصوص أن الحاكم أو ولي الأمر في النظام السياسي في الإسلام لابد أن يكون من المسلمين قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ....} الآية [النساء:59] فالمخاطبون في الآية هم "المؤمنون" وأولو الأمر المطلوب طاعتهم مقيدون بلفظ "منكم" يعني من المؤمنين. 3-ومن الأحكام الجزئية المفصلة التي دلت عليها أدلة الشريعة، الشروط التي ينبغي توافرها فيمن يتولى أمر المسلمين، ومن تلك الشروط: أ- البلوغ والعقل. ب- العدالة: وهو أمر اشترطه الله بتارك وتعالى في الشهود فقال: { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } [الطلاق:2]. ج- الرجولة: ومن ذلك أن يكون الإمام رجلاً لقوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } [النساء:34] فإذا كان الله تبارك وتعالى لم يجعل للمرأة القوامة على زوجها وهو فرد واحد، فكيف يمكن أن يُجعل لها القوامة على الأمة كلها؟! ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة". د- القرشية: ومن تلك الشروط أن يكون قرشي النسب لقوله صلى الله عليه وسلم : "الأئمة من قريش". ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان". 4- ومن تلك الأحكام التفصيلية: واحدية الأمة وواحدية القيادة العليا، فالأمة مهما تعددت أجناسها، واختلف لغاتها، وتناءت ديارها، وتتابعت أجيالها، هي أمة واحدة يربط بين جميع أفرادها رابط العبودية الحقة لله رب العالمين، قال تعالى: { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92]. 5-ومن الأحكام التفصيلية: منع طلب المرء الإمارة لنفسه، وقد دلَّ على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "إنا والله لا نولي على هذا العمل أحداً سأله، ولا أحداً حرص عليه". 6-ومن الأحكام التفصيلية التي جاءت بها النصوص: أحكام طاعة أولي الأمر، فقد أوجبت النصوص الشرعية المتكاثرة على الرعية طاعة ولاة أمورهم، وحرَّمت الخروج عليهم أو معصيتهم، ولكن طاعة أولي الأمر ليست طاعة مطلقة، وإنما هي طاعة مقيدة، مقيدة بإتباع أولي الأمر للكتاب والسنة. 7-ومن الأحكام التفصيلية: بيان المرجع الذي يُرجع إليه، ويكون حكماً لحل النـزاع الذي قد ينشب –في بعض الأحيان- بين فرد أو طائفة من الأمة وبين أولي الأمر، وبيان أن هذا المرجع إنما هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس هو رأي الأغلبية وما تهواه، كما أنه ليس رأي الحاكم وما يهواه، قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59]، والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول هو الرد إليه في حياته، وإلى سنته بعد مماته بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم. 8-ومن الأحكام التفصيلية: وجوب نصب الإمام الذي يشمل بعنايته ورعايته أمة المسلمين، ويقيم لهم دينهم؛ فيحرسه من الزيادة فيه أو النقصان منه، ويسوس دنياهم بدينهم، محققاً المصالح المشروعة، التي بها فلاحهم في الدنيا ونجاتهم في الآخرة، وقد دلَّ على وجوب نصب الإمام أدلة كثيرة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: "من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية" والمراد بالبيعة هنا بيعة الإمام الذي يكون على الناس. 9-ومن الأحكام التفصيلية: بيان النصوص الشرعية لمدة ولاية الخليفة، فقد دلت النصوص الشرعية على أن ولاية الخليفة غير مقيدة بمدة زمنية، وأن بقاء الخليفة في منصبه مرهون بدوام صلاحيته لهذا المنصب الرفيع، وقدرته على القيام بأعبائه اعتماداً على كتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمتى كان الخليفة على النحو الذي وصفنا؛ فإنه لا يخرج عن الولاية ولا تنـزع منه، ولا يملك المسلمون أن يخرجوه عنها –لو أرادوا ذلك- بغير سبب اعتمده الشرع مخرجاً عن الولاية، ولو فعلوا ذلك لكانوا بفعلهم هذا من العاصين الخارجين على الإمام الذي ثبتت بيعته، ووجبت طاعته، ومما يدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم فيما أخذ من البيعة على المسلمين"... وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان"، وقوله صلى الله عليه وسلم : "ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا"، وقوله صلى الله عليه وسلم : "من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له"، فترك السمع والطاعة ومنازعة ولاة الأمور لا تجوز إلا ببرهان دلّ عليه الشرع. 10-ومن الأحكام التفصيلية: بيان مكانة أهل الذمة في النظام السياسي الإسلامي. 11-ومن الأحكام التفصيلية التي جاءت بها النصوص أيضاً، بيان حقوق الخليفة على الرعية إذا قام بواجبه، وهذه الحقوق تتمثل في: أ-السمع والطاعة. ب-النصرة.
والأدلة على ذلك كثيرة منها : قول الله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ...} الآية [النساء:9]. وقوله صلى الله عليه وسلم: "اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبدٌ حبشي كأن رأسه زبيبة". وقوله صلى الله عليه وسلم: "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يُؤمر بمعصية، فإذا أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة". وجملة القول في ذلك أن جميع الأحكام التفصيلية المحتاج إليها في النظام السياسي الإسلامي، قد دلت عليها النصوص الشرعية من الكتاب والسنة بأنواع الدلالات المختلفة –علم ذلك من علم وجهل ذلك من جهله- فما من حكم من أحكام هذا النظام الذي طُولب به المسلمون إلا وفي كتاب الله أو سنة الرسول صلى الله عليه وسلم بيان له وإرشاد إليه ودلالة عليه، ولا توجد مسألة من مسائل هذا النظام ولا غيره مما كُلف به المسلمون، خالية من الحكم الشرعي الذي يتناولها ). ( وإن بعض ما زعمتم أن النصوص لم تبين أو لم تفصل أحكامه، إنما هو من قبيل الطرق العملية أو الإجراءات التنفيذية، وقد بينا قبلُ أن مثل هذه الأمور لا يلزم مجيء النص أو الدلالة عليها بعينها ). ( المرجع : رسالة " تحطيم الصنم العلماني " للأستاذ محمد شاكر الشريف ) .
الشبهة(2): احتجاجهم بحديث " أنتم أعلم بأمور دنياكم " .
( تعتمد هذه الشبهة على الاستدلال الخاطئ بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أنتم أعلم بأمور دنياكم" إذ قد قرر الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن المسلمين هم أعلم بأمور دنياهم، وبالتالي فإن الشريعة لا تتدخل في تحديد الأمور الدنيوية التي هم بها عالمون، ولما كان النظام السياسي –عند هؤلاء أمراً دنيوياً وليس أمراً دينياً- فإنه يمتنع أن تتدخل الشريعة في تحديده أو المجيء بتفصيل أحكامه !! ولكي نبين ما في هذه الشبهة من التلبيس والضلال نقول: أما الحديث فصحيح قد أخرجه الإمام مسلم في صحيحه ولفظه عن طلحة رضي الله عنه قال: مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رءوس النخل فقال: "ما يصنع هؤلاء؟" فقالوا: يلقحونه، يجعلون الذكر في الأنثى فيلقح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أظن يغني ذلك شيئاً" قال: فأُخبروا بذلك فتركوه، فأُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: "إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظناً، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به، فإني لن أكذب على الله عز وجل". وفي رواية عن رافع بن خديج قال: قدم نبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وهم يأبِرون النخل، يقولون يُلقِّحون النخل، فقال: "ما تصنعون" ؟ قالوا: كنا نصنعه، قال: "لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً" فتركوه فنفضت أو فنقصت، قال: فذكروا ذلك له، فقال: "إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر". وفي رواية عن أنس وعائشة رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون، فقال: "لو لم تفعلوا لصلُح" قال: فخرج شيصاً، فمر بهم فقال: "ما لنخلكم؟" قالوا: قلت كذا وكذا، قال: "أنتم أعلم بأمر دنياكم". فالعلمانيون ومن تبعهم أو تابعهم –وإن كان لكل منهم باعث مختلف عن الآخر- يريدون التوصل من خلال الفهم المحرف لهذا الحديث، إلى أن كل ما جاء في النصوص الشرعية متعلقاً بأمر من أمور الدنيا على جهة الأمر أو النهي أو غير ذلك، فإن تلك النصوص تصبح كأن لم تكن، وتدار أو يتم التعامل مع تلك الأمور الدنيوية من قبل الرأي البشري القائم على المصلحة أو التجربة على أساس أنها مسألة دنيوية، لا دخل للشرع فيها. وهم بعد تقريرهم لتلك القاعدة الفاسدة، إذا أعياهم تأويل أو تحريف أي نص يتعلق بمسألة لهم فيها رأي مناقض للشرع، إذا أعياهم ذلك، قالوا: هذه من مسائل الدنيا وأمورها، وبالتالي فنحن أحق بها، ولا دخل للشريعة فيها! ومن تلك المسائل التي تعاملوا معها بتلك القاعدة الفاسدة : النظام السياسي فإنهم يقولون: هو من مسائل الدنيا التي نحن أعلم بها، وأحق بإبداء الرأي فيها. والرد على هذه الشبهة من أربعة وجوه : الوجه الأول : أن يقال: إن ما ذكرتموه لم يقله أحد من أهل العلم، بل هو مخالف لأقوالهم وما كان هذا سبيله فهو مردود على صاحبه، مرفوض غير مقبول، فقد بوب النووي على ذلك الحديث بقوله: "باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً، دون ما ذكره صلى الله عليه وسلم من معايش الدنيا على سبيل الرأي". وقال أيضاً في شرح هذه الأحاديث: "قال العلماء: قوله صلى الله عليه وسلم "من رأي" أي في أمر الدنيا ومعايشها لا على سبيل التشريع، فأما ما قاله باجتهاده ورآه شرعاً يجب العمل به، وليس إبار النخل من هذا النوع، بل من النوع المذكور قبله... قال العلماء: ولم يكن هذا القول خبراً، وإنما كان ظناً كما بينه في هذه الروايات، قالوا: ورأيه صلى الله عليه وسلم في أمور المعايش وظنه كغيره، فلا يمتنع وقوع مثل هذا، ولا نقص في ذلك، وسببه تعلق هممهم بالآخرة ومعارفها والله أعلم ". فمما تقدم نقله عن أهل العلم يتبين أن مجال هذا الحديث إنما هو في "أمر الدنيا ومعايشها" ولم يذكر العلماء تلك العبارة مطلقة، بل قيدوها بما يبطل كل محاولات التأويل الباطل لهذا الحديث، فقد قيد العلماء "أمر الدنيا ومعايشها" بأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قاله "على سبيل الرأي" أي أنه قاله "لا على سبيل التشريع" وهذا التقييد يعني أمرين: الأول : أن الأمور التي يقال فيها : "أنتم أعلم بأمور دنياكم" هي تلك الأمور التي لم تتناولها الأدلة الشرعية تناولاً عاماً أو تناولاً خاصاً، أو الأمور التي تناولتها السنة لا على سبيل التشريع وإنما على سبيل الرأي فقط. الثاني : أن الأصل في كل ما تناولته النصوص الشرعية –ولو كان متعلقاً بأمر الدنيا أو المعاش أو غيره- أن يكون على سبيل التشريع إلا أن يدل الدليل أو القرينة على خلاف ذلك ويؤيد هذا الكلام أيضاً أمران: أ- تصرف الصحابة في القصة المذكورة حيث امتنعوا من تأبير النخل –رغم خبرتهم السابقة عن أهمية ذلك التلقيح علاوة على أنه أمر أمور المعايش الدنيوية- وذلك لما لم يظهر لهم دليل أو قرينة تبين لهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ما قال على غير سبيل التشريع، وهذا يعني أنهم رضي الله عنهم يتعاملون مع أقواله صلى الله عليه وسلم -ولو كانت في أمور المعايش- على أنها على سبيل التشريع حتى يأتي من الدليل الشرعي ما يبين أنها على غير سبيل التشريع. ب- طريقة صياغة العلماء للعبارات السابقة، فإنها واضحة كل الوضوح في أن الأصل في كل ما جاء في النصوص الشرعية إنما يتم التعامل معه على أنه جاء على سبيل التشريع، ولذلك احتاج هؤلاء العلماء أن يقيدوا الأمور التي لا يجب على المسلمين امتثالها من معايش الدنيا، بأنها التي جاءت "على سبيل الرأي" أو "لا على سبيل التشريع" وهذا يعني أن النصوص التي جاءت في معايش الدنيا أو غيرها ولم تظهر قرينة أو دليل يبين أنها جاءت على سبيل الرأي أو لا على سبيل التشريع فإنه يتم التعامل معها على أنها نصوص تشريعية يجب امتثالها. الوجه الثاني : أن يقال إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يذكر الكلام في عدم تأبير النخل مطلقاً من كل قيد، حتى يقال: إن ما تناولته النصوص الشرعية مطلقاً من القيود وهو من أمور الدنيا فإن الشرع يترك –في هذه الحالة- ويرجع في تلك الأمور الدنيوية إلى أهل الدنيا. فالرسول صلى الله عليه وسلم-كما هو بُيِّن في الحديث- لم يأمرهم أمراً مطلقاً، أو لم ينههم نهياً مطلقاً -أي بعبارة أخرى لم يكن ما صدر منه على سبيل التشريع- وألفاظ الحديث ورواياته المتعددة تدل على ذلك، وإن كان من سمع هذا الموضوع من الصحابة رضي الله عنهم قد غلبوا جانب التشريع. فقد جاء في ألفاظ الحديث ورواياته: "ما أظن يغني ذلك شيئاً" وجاء "لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً"، مما يبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم يتحدث عن ظن أو خبرة دنيوية لا علاقة لها بالتشريع، ولذلك لما غلَّب بعض الصحابة رضي الله عنهم جانب التشريع في ذلك، بين لهم الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لم يرد ذلك وأن كلامه السابق لا يدل عليه، ولذلك قال لهم معقباً على تصرفهم إزاء مقالته السابقة: "فإني إنما ظننت ظناً، فلا تؤاخذوني بالظن" وقال: "إذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر"، وقال: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" فالروايات كلها في مبتداها ومنتهاها متضافرة على أن ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة كان من قبيل الرأي المتعلق بأمور المعاش القائم على الخبرة البشرية التي قد يتاح منها لبعض الناس ما لا يتاح لغيرهم، ولم يكن كلاماً على سبيل التشريع، وإذا تبين ذلك، فقد بطل قولهم في أن النصوص الشرعية المتعلقة بأمور الدنيا، لا يعول عليها، ولا يرجع إليها، وإنما يرجع في مثل هذه الأمور إلى أهل الدنيا والمعرفة بها. الوجه الثالث : أن يقال إن "أمر الدنيا" الذي عناه الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه، هو تأبير النخل فلا يقاس عليه إلا ما جرى مجراه وكان على شاكلته، وهو الخبرة العملية المتعلقة بشأن من الشئون المباحة التي لم يتعلق بها الخطاب الشرعي لا أمراً ولا نهياً، وليس المراد بذلك كل أمر متعلق بالدنيا، لأنه قد جاءت نصوص شرعية كثيرة في أمور الدنيا، وقد تعلق بها الخطاب الشرعي أمراً ونهياً، فكانت بذلك موكولة إلى الشرع يبين حلالها وحرامها وما يصح منها وما لا يصح إلى غير ذلك من تفاصيلها المطلوبة، ولم تكن موكولة إلى المسلمين –أو إلى غيرهم- يجتهدون فيها أو يعملون فيها بمقتضى عقولهم أو مصالحهم أو أهوائهم، والنظام السياسي وتفاصيله قد تعلق به الخطاب الشرعي أمراً ونهياً وتخييراً، فكان بذلك من النوع الموكول إلى الشرع يبين أحكامه وتفاصيله، ولم يكن من النوع الأول الذي وُكل إلى الخبرة البشرية حيث لم يتعلق به الخطاب الشرعي. وبذلك تسقط دعاوى العلمانيين ومن تابعهم في تحريف هذا الحديث للوصول إلى إخراج النظام السياسي من الدخول تحت ولاية الشرع. وأما الأدلة على تعلق الخطاب الشرعي أمراً ونهياً وتخييراً بأمور الدنيا، فأشهر من أن تذكر، وأكثر من أن تحصر في هذا الكتاب، لذلك نشير إلى جمل من ذلك فقط، فعلى سبيل المثال: - عيادة المريض، هو أمر اجتماعي يمس علاقات التواصل والألفة بين الناس، ومع ذلك فقد تعلق به الخطاب الشرعي أمراً وتحريضاً: منه قوله صلى الله عليه وسلم: "عودوا المريض"، ومنه قول البراء بن عازب : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع.. الحديث وفيه "وأمرنا أن نتبع الجنائز ونعود المريض ونُفشي السلام". - وعلى سبيل المثال: الطب والدواء، فهو أمر من المصالح والمنافع التي يحتاجها الناس، وهو أيضاً أمر للخبرة فيه دخل كبير، ومع ذلك فقد تعلق به الخطاب الشرعي، وانظر في ذلك كتاب "الطب" أو كتاب "المرضى" في صحيح البخاري وغيره من كتب السنة، وعلى سبيل المثال فقد جاء قوله صلى الله عليه وسلم: "الشفاء في ثلاث: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار وأنهى أمتي عن الكي" ففي هذا الحديث يبين الرسول صلى الله عليه وسلم بعض الأدوية النافعة في العلاج، ثم ينهي عن بعضها، وهذه الأمور هي من الأمور الدنيوية، ولكن مع ذلك قد تعلق بها الخطاب الشرعي . حتى إنه عندما أشار الرسول صلى الله عليه وسلم باستعمال العسل شفاءً من داء استطلاق البطن، وأخذ المريض الدواء، فازداد بطنه استطلاقاً، ورجع الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث كما قال في حديث تأبير النخل :"أنتم أعلم بأمر دنياكم"، وإنما قال لمخبره: اسقه عسلاً، فسقاه فازداد استطلاقاً، فرجع إليه وقال: لقد ازداد بطنه استطلاقاً، فقال صلى الله عليه وسلم -مصراً على مقالته الأولى- اسقه عسلاً، فسقاه فجاءه الرجل المخبر- وكان أخاً للمريض- وأخبره بعدم الشفاء، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم- مؤكداً على مقالته الأولى ومحتجاً لها- "صدق الله وكذب بطن أخيك، اسقه عسلاً، فسقاه فبرأ" والحديث أخرجه البخاري في كتاب الطب ومسلم وغيرهما . يقول ابن تيمية رحمه الله: "التشريع يتضمن الإيجاب والتحريم والإباحة، ويدخل في ذلك ما دل عليه من المنافع في الطب، فإنه يتضمن إباحة ذلك الدواء والانتفاع به، فهو شرع لإباحته، وقد يكون شرعاً لاستحبابه ؛ فإن الناس قد تنازعوا في التداوي.. والتحقيق أن منه ما هو محرم ومنه ما هو مكروه ومنه ما هو مباح، ومنه ما هو مستحب وقد يكون منه ما هو واجب". وعلى سبيل المثال أيضاً: اللباس والزينة، ما يلبس المرء ومالا يلبس وتفاصيل كثيرة متعلقة بذلك هي من الأمور الدنيوية، ومع ذلك فقد تعلق بها الخطاب الشرعي، بحيث يبين ما يجوز لبسه وما لا يجوز، ويبين كيفيات اللباس المباحة والممنوعة إلى غير ذلك من التفاصيل، ومن أراد التفاصيل فليطلع في كتب السنة على أحاديث كثيرة مجموعة تحت اسم "كتاب اللباس والزينة". وعلى سبيل المثال أيضاً: كراء الأرض الزراعية بتفاصيلها المختلفة سواء كانت الأرض مشجرة أو غير مشجرة، وسواء كان الإيجار بمال، أو بغلة جزء معين من الأرض وغير ذلك من التفاصيل قد تناولها أيضاً الخطاب الشرعي، ولينظر الناظر في تفاصيل ذلك في كتاب المساقاة والمزارعة وكراء الأرض في كتب السنة وكل هذا من الأمور الدنيوية. وعلى سبيل المثال أيضاً مسائل البيع والشراء، والربح والدين، والرهن، وما يتعلق بذلك من التفاصيل الكثيرة التي لا يتسع المقام للحديث عنها تعلق بها الخطاب الشرعي مع أنها من أمور الدنيا. فكل ما ذكرناه، وما لم نذكره من هذه الأمور، هو من الأمور الدنيوية، ومع ذلك فقد تعلق بها الخطاب الشرعي أمراً أو نهياً وتفصيلاً وبياناً، ولو صدق كلامهم في فهم الحديث "أنتم أعلم بأمر دنياكم" لانطبق كلامهم ذاك على ما تقدم ذكره من الأمثلة، ولأدى هذا إلى إخراج كثير من الأمور من الخضوع للأحكام الشرعية، ولأدى ذلك أيضاً إلى هدم الدين وتبديل أحكام الشريعة ؛وهو أمر باطل باتفاق أهل العلم، وما استلزم الباطل فهو باطل فيكون فهمهم للحديث باطلاً. ومن كل ما تقدم يتبين أن قوله صلى الله عليه وسلم: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" لا يتعارض مع النصوص الشرعية التي جاءت متعلقة بأمور الدنيا، وبالتالي فإنه لا يمكن أن يستفاد من ذلك الحديث أن المسائل المتعلقة بالنظام السياسي هي من الأمور المتروكة للبشر، وذلك لأن النظام السياسي جاءت في شأنه نصوص شرعية من الكتاب والسنة عامة وخاصة تبين وتفصل الأحكام المتعلقة به. الوجه الرابع : أن يقال ما هو الضابط الذي تعتمدون عليه في التفريق بين "أمر الدنيا" الموكول للبشر وبين "أمر الدين" الموكول إلى الشريعة؟ حيث إنكم لم تقدموا ضابطاً صحيحاً تفرقون به بين "أمر الدنيا" و"أمر الدين" فأنتم لستم تتبعون أو تتعلقون في قولكم: هذا من أمر الدنيا، وذاك من أمر الدين بنص شرعي، أو بكلام لأحد من أئمة العلم المعروفين لا قديماً ولا حديثاً، وإنما أنتم تتبعون في تفريقكم الباطل من قلدتموهم من أهل الغرب أو الشرق الكافر الذين فصلوا الدولة عن الدين أو الدنيا عن الدين، إذ كما هو معروف مشهور عندما تسلطت الكنيسة على الناس بالباطل، وحدث بين ممثلي الكنيسة من جانب والناس من جانب مناوشات وصراع مرير طويل، انتهى الأمر بعزل الكنيسة عن التدخل في أمور الدنيا أو الدولة، وقُصر تدخلها أو قُصِرت صلاحيتها على التوجيه الروحي والوصايا الأخلاقية، وبعد هذا الوضع النهائي للكنيسة عندهم، أصبحت "أمور الدين" -عندهم- محصورة في علاقة الفرد بربه، وما يتصل بذلك من عقيدة الإنسان في ربه، وأنواع القرب التي يتقرب بها إليه لينال رضاه من غير أن يكون لتلك العلاقة أي بعد أو أثر خارج دائرة الفرد نفسه. كما أصبحت "أمور الدنيا" تعني –عندهم- كل ما يتصل بحياة الفرد والجماعة داخل المجتمع، وما يترتب على ذلك من أنظمة وعلاقات ومعاملات وقوانين. وقد تم الفصل الكامل بين هاتين الدائرتين: دائرة "أمور الدنيا"، ودائرة "أمور الدين"، وترتب على ذلك أن الدين –عندهم- أصبح محصوراً في نطاق الإنسان الفرد وحده، أو في داخل الكنيسة حيث يؤدي هؤلاء ما يعتقدون أنه من الدين عندهم، حتى إذا خرجوا من تلك الكنائس إلى واقع الحياة لم يكن للدين أدنى سلطان على تنظيم الحياة وقيادتها إلا ما كان من بعض الوصايا أو العظات الخلقية غير الملزمة ؛ لأن ذلك خارج عن نطاقه وصلاحياته. بينما أمور الدين تشمل عند المسلمين كل ما تعلق به الخطاب الشرعي أمراً أو نهياً أو خبراً، فما تعلق به الخطاب على وجه الأمر فيكون من الدين فعل المأمور به، وما تعلق به الخطاب على وجه النهي فيكون من الدين اجتناب المنهي عنه، وما تعلق به الخطاب على جهة الخبر، فيكون من الدين تصديق ما أخبر به. ومن المعلوم البين الذي لا يحتاج إلى كبير بيان أو إيضاح أن الخطاب الشرعي قد تعلق على جهة الأمر والنهي بالأمور أو المسائل التي تتناول حياة الفرد أو الجماعة داخل المجتمع مما يطلق عليه أنه من الأمور الدنيوية وهي في الوقت نفسه مما يطلق عليه أنه من أمور الدين وذلك لتعلق الخطاب الشرعي به. إذن فتعريف هؤلاء لأمر الدنيا، وما ترتب عليه من إخراج النظام السياسي في الإسلام من أمور الدين رغم تعلق الخطاب الشرعي به وإدخاله في أمور الدنيا التي لا دخل للشرع فيها، هو أمر مأخوذ أصلاً من طبيعة العلاقة بين الدين النصراني المحرف وبين الفكر العلماني، وغنى عن البيان أن ما كان كذلك فلا يصح أن يكون حجة في دين المسلمين ).
( المرجع : رسالة "تحطيم الصنم العلماني " للأستاذ محمد شاكر الشريف ) .
الشبهة (3) : قولهم : الإسلام ديانة روحية !
والجواب عن هذه الشبهة أن يقال : لا يخفى أن في القرآن أحكاماً كثيرة ليست من العبادات ولا من الأخلاق المجردة ؛كأحكام البيع والربا والرهن والدين والإشهاد وأحكام الزواج والطلاق واللعان والظهار والحجر على الأيتام والوصايا والمواريث وأحكام القصاص والدية وقطع يد السارق وجلد الزاني وقاذف المحصنات وجزاء السعي في الأرض فساداً، بل في القرآن آيات حربية ... الخ هذا يدلنا على أن من يدعو إلى فصل الدين عن السياسة إنما يدين ديناً آخر سماه الإسلام. ولا يخلو حال الداعين إلى هذه النحلة من أحد أمرين : * إما أن ينكروا كل هذا الحشد الهائل من الأحكام، ويكذبوا بما جاء فيها من الآيات والأحاديث، وكفر هؤلاء معلوم بالضرورة من الدين. * وإما أن يقروا بوجود هذه الأحكام في الكتاب والسنة، وينكروا صلاحيتها للتطبيق وكفالتها بالمصالح في هذا العصر، وفي هذا المسلك من الزندقة والكفر ما تكاد السماوات تنفطر منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً!، فإن عيب هذه التشريعات عيب للمشرِّع جل في علاه، وكفر من يجتريء على ذلك معلوم بالضرورة من الدين. وهؤلاء بهذا المسلك يجعلون الإنسان نداً لله الذي خلقه، بل هم –بهذا- يعلون كلمة الإنسان على كلمة الله جل جلاله، ويمنحونه من السلطة والاختصاص ما يحجرون مثله على الله جل في علاه، وبهذا يصبح الإنسان "رباً" فوق الرب يحكم بما يريد، ويقضي بما يشاء!! لقد استحق إبليس لعنة الخلد ونار الأبد لأنه رد على الله حكماً واحداً من أحكامه ، فكيف بهؤلاء وهم يردون على الله كافة شرائعه وأحكامه ويتهمونها بالقصور والجمود وانعدام الصلاحية؟! ترى هل يبقى مع هذا المسلك أدنى مثقال ذرة من إيمان. يقول الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: ( والقرآن مملوء بأحكام وقواعد جليلة، في المسائل المدنية والتجارية، وأحكام الحرب والسلم، وأحكام القتال والغنائم والأسرى، وبنصوص صريحة في الحدود والقصاص. فمن زعم أنه دين عبادة فقط أنكر هذا، وأعظم على الله الفرية، وظن أن لشخص كائناً من كان، أو لهيئة كائنة من كانت، أن تنسخ ما أوجب الله من طاعته والعمل بأحكامه، وما قال هذا مسلم قط ولا يقوله، ومن قال فقد خرج عن الإسلام جملة، ورفضه كله، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم). ويقول الشيخ محمد الخضر حسين في معرض رده على هؤلاء: (وفي القرآن أحكام كثيرة ليست من التوحيد ولا من العبادات، كأحكام البيع والربا والرهن والدين والإشهاد وأحكام الزواج والطلاق واللعان والظهار والحجر على الأيتام والوصايا والمواريث وأحكام القصاص والدية وقطع يد السارق وجلد الزاني وقاذف المحصنات وجزاء السعي في الأرض فساداً... بل في القرآن آيات حربية وهذا يدلك على أن من يدعو إلى فصل الدين عن السياسة إنما تصور ديناً آخر وسماه الإسلام ) إلى أن يقول: (فصل الدولة عن الدين هدم لمعظم الدين، ولا يقدم عليه المسلمون إلا بعد أن يكونوا غير مسلمين). ويقول الشيخ مصطفى صبري شيخ الإسلام في الدولة العثمانية: (إن هذا الفصل مؤامرة بالدين للقضاء عليه، ولقد كان في كل بدعة أحدثها العصريون المتفرنجون في البلاد الإسلامية كيد للدين ومحاولة للخروج عليه، لكن كيدهم في فصله عن السياسة أدهى وأشد من كل كيد، فهو ثورة حكومية على دين الشعب –في حين أن العادة أن تكون الثورات من الشعب على الحكومة- وشق عصا الطاعة منها "أي من الحكومة" لأحكام الإسلام بل ارتداد عنه من الحكومة أولاً ومن الأمة ثانياً، وهو أقصر طريق إلى الكفر). ويذكر الشيخ بكر أبو زيد رئيس المجمع الفقهي بمكة المكرمة، يذكر من مراحل الدعوة إلى الله: (التصدي لدعوى "فصل الدين عن الدولة" أو " عن السياسة"، بإبطالها، والبيان للناس جهاراً بأن السياسة عصب الدين، ولا يمكن له القيام والانتشار وحفظ بيضته إلا بقوة تدين به، وإن هذه الدعوة الآثمة "فصل الدين عن السياسة" في حقيقتها "عزل للدين عن الحياة"، ووأد للناس وهم أحياء، وما حقيقة وصل الدين بالسياسة إلا الدعوة إلى الله، وإقامة الحسبة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعمل على مد الإسلام، وجزر الكفر والكافرين وقهر الفسقة عن المحارم والتهارش ؛ حماية لحرمات المسلمين وأوطانهم واستقرار أمنهم، ليكونوا يداً على من سواهم عوناً على من ناوأهم، وبالجملة ليعيش المسلمون في ظل حماية إسلامية لا في ظل أعدائهم من المشركين والملحدين. ولن يقوم هذا الدين ولن تتحقق غاياته في الحكم والقضاء ومجالات الحياة كافة إلا بمن يحمل راية التوحيد يصدّع الكفر والكافرين، ويقوّم عوج الفسقة والمائلين عن الصراط المستقيم، وهذا لا يتأدى إلا بسلطان "ذي شوكة" يدين بالإسلام وعالم يجهر بالبيان، فإذا اجتمع اللسان والسنان من تحتهما جيل الجهاد في "دائرة الإسلام" كانت الضمانة العظمى لنصرته ونشر الدعوة إليه، وبناء حياة الأمة على هدي الكتاب والسنة. وهذا التلاحم بين الدين والدولة هو حقيقة الوفاء بين الذين آمنوا بربهم –سبحانه وتعالى- للتجارة معه ببيع النفس والمال والولد في سبيله )يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله( الآيات ). ويقول الأستاذ عبد الحليم عويس في كتابه تطبيق الشريعة الإسلامية: (ويصل هؤلاء في حربهم لتطبيق الشريعة حد الخيانة العظمى لأمتهم وللحقيقة المجردة، وذلك حين يزعم بعضهم –هداهم الله- أن الشريعة مجموعة وصايا أخلاقية، وهم بهذا يلغون مئات الآيات القرآنية المتعلقة بالأحكام، والتي قدرها الإمام الغزالي وابن العربي بخمسمائة آية نازعه ابن دقيق العيد في هذا التقرير وقال :إن مقدار آيات الأحكام لا تنحصر في هذا العدد بل هو يختلف باختلاف القرائح والأذهان وما يفتحه الله من وجوه الاستنباط حتى من الآيات الواردة في القصص والأمثال. وليس التشريع الإسلامي كليات مجملة –كما يعتقدون- بل هناك مجالات فصل فيها التشريع تفصيلاً محدوداً كالأحكام المتعلقة بالجهاد والدفاع عن النفس والعلاقات الدولية، وهناك مجالات فصل فيها الشرع تفصيلاً كافياً وشافياً مثل القصاص والحدود والحلال والحرام من الطعام والميراث وقوانين الأسرة، وغيرها، وينحصر مجال "الكليات" في بعض النظم السياسية التي تختلف صور تطبيقها، وفي قواعد الاجتهاد، وكل من ينكر أي حكم مفصل في القرآن والسنة أو يرفضه أو يكتب ضده ويعمد إلى تحريفه ؛ مثل من يحاول جعل ميراث الأنثى مثل ميراث الذكر، أو جعل شهادة المرأة في الشئون التي نص عليها القرآن مثل شهادة الرجل يدخل في دائرة الارتداد، فهذه أمور لا يتقبل الاجتهاد. { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:85]. من أجل هذا كله كانت المعركة مستعرة وحامية الوطيس بين العلمانيين وبين الشريعة الإسلامية، فإن الشريعة هي العدو الأول لهم لأنها هي التي تهيئ للمجتمع سياجاً من القوانين يحميه من عدوان العادين، وهي التي تردع من لم يرتدع بوازع الإيمان كما قال الخليفة الثالث: إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. هذا وإن في الدعوة إلى الفصل بين الدين والدولة بالإضافة إلى ما تتضمنه من الكفر والزندقة فإنها دعوة إلى تأليه الإنسان وإعطائه الحق في أن يشرع لنفسه فيما رفض فيه ولاية الإسلام عليه من أحكام المعاملات وشئون الدولة ونحوه، وقد تمهد في محكمات الأدلة أن التشريع حق خالص لله وحده من نازعه فيه فهو مشرك بالإجماع. إن عقيدة التوحيد الإسلامية ترفض الشرك في العبودية لله، أو الشرك في الولاء له، أو الشرك في الطاعة لحكمه، فالمسلم لا يبغي غير الله رباً، ولا يتخذ غير الله ولياً ولا يبتغي غير الله حكماً، كما وضحت ذلك سورة التوحيد.. سورة الأنعام في هذه الآيات: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}[الأنعام:14] . {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً }[الأنعام:114] {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ } [الأنعام:164] . إنما يجب أن يكون المسلم كله لله، وحياته كلها لله { قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162]. إن الإسلام لا يعرف هذه الثنائية التي عرفها الفكر المسيحي والفكر الغربي الذي يشطر الإنسان، ويقسم الحياة بين الله تعالى وبين قيصر، فليس قيصر نداً لله ينازعه في ملكه، بل هو عبد لله، يخضع لحكمه، ويدين لأمره ونهيه، كما يدين كل العباد ).
( المرجع : " تحكيم الشريعة ودعاوى العلمانية " د / صلاح الصاوي) .
الشبهة(4) : قولهم : انقضت الدولة الدينية وحلت الدولة القومية !
( ولمناقشة هذه الدعوة لابد من تقرير مدخل هام نرى ضرورة تقريره ابتداء قبل الدخول في الجزئيات والتفاصيل، ويمثل هذا المدخل في الإجابة على هذه الأسئلة: هل نحن مسلمون؟ هل نرضى بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً؟ هل نعتقد بعصمة محمد صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه؟ هل نعتقد أن الكتاب والسنة هما الحجة القاطعة والحكم الأعلى؟ هل نؤمن بوجوب رد ما تنازع الناس فيه إليهما؟ إن الإجابة على هذه الأسئلة يعد مقدمة ضرورية لمناقشة هذه الدعوى وكافة الدعاوى المشابهة. إذا آمنا بحجية القرآن والسنة وبعصمة محمد صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه توجهنا في المناقشة إلى سوق الأدلة الشرعية التي تبين عوار هذه الدعاوى وبطلانها، والغرض أن هذه الأدلة مسلمة من الفريقين. أما إذا كنا نناقش قوماً لا يدينون بهذه الأصول ولا ينطلقون من هذه الثوابت، فلا وجه للدخول في تفاصيل الشريعة مع قوم لا يؤمنون ابتداء بالعقيدة، ولا معنى للمنازعة حول الفروع في حين أن الأصول لا تزال عندهم موضع نظر ومكابرة، وتكون المناقشة ابتداء حول إثبات صحة هذه الأصول. إن بعض العلمانيين في بلادنا لا يزالون يعلنون إيمانهم المجمل بالكتاب والسنة، وهم حريصون على إظهار ذلك، وقد يكون ذلك حقاً، وقد يكون من قبيل ما يسمونه بالنضج السياسي لعدم تهيؤ الأمة للمجاهرة بضده، ولكن نأخذ بظاهر أقوالهم ونكل سرائرهم إلى الذي يعلم السر وأخفى ).
( المرجع : " تحكيم الشريعة ودعاوى العلمانية " د / صلاح الصاوي ) .
الشبهة(5):ادعاؤهم أن الدولة الإسلامية تؤدي للاستبداد !
يقولون: نحن دخلنا في "الانتخابات" من باب أنها مصلحة من المصالح المرسلة! الجواب: 1- المصلحة المرسلة ليست أصلاً من أصول الدين التي يُعمل بها، وإنما هي وسيلة متى توفرت شروطها، عُمِل بها، ومتى لم تتوفر، لم يُعمَل بها. 2- تعريف المصلحة المرسلة هي: ما لم يأتِ نصٌّ فيه بعينه بتحريم ولا وجوب، مع اندراجها تحت أصل عام. وتعريف آخر يذكره الأصوليون وهو: الوصف الذي لم يثبت اعتباره ولا إلغاؤه مِنْ قِبَل الشارع. قال الشاطبي رحمه الله تعالى في كتابه (الموافقات 4/210): « فإن الإقدام على جلب المصالح صحيح، بشرط التحفظ بحسب الاستطاعة من غير حرج» ا هـ. فالمصالح المرسلة هي التي ليس هناك دليل باعتمادها أو إلغائها، ومنها: مصلحة عامة أو خاصة، أما ما نحن فيه، ففيه من المفاسد السابقة الذكر التي لا يشك عاقل أنها كافية في إخراج محل النزاع من باب المصالح المرسلة، إلى المفاسد المحرمة، والله أعلم. وقد أخذ الصحابة بالمصالح المرسلة، وهكذا التابعون وأتباعهم، فتأليف الكتب الفقهية، وكتب اللغة العربية، وكتب علوم الحديث، وجمع القرآن والاقتصار على النُّسَخِ التي اختارها عثمان وإلغاء ما عداها .. إلى غير ذلك من المصالح، وكما ذكرنا سابقاً أنها ليست من الأصول، وإنما هي مسألة اجتهادية يصيب فيها الرأي ويخطئ، والتشريعة كلها جاءت لتحقق مصالح الناس، كما ذكر ذلك ابن القيم في كتابه (مفتاح دار السعادة 2/23)، ورفع المشقّة والعسر والحرج.. الخ، كلها من لوازم المصالح للناس. ومن خلال هذا العرض السريع نستفيد أن الشريعة جاءت لتحقيق مصالح العباد. فعلى هذا فالمصلحة المرسلة لها شروط يجب أن تُراعى، فإذا توافرت شروط المصلحة عُمِل بها، فهل تقيّد المخالفون بهذه الشروط؟ وسيأتي ذكر الشروط بعد الكلام على الشبهة الخامسة عشر – إن شاء الله -.
( المرجع : رسالة : تنوير الظلمات بكشف مفاسد وشبهات الانتخابات ،لمحمد الإمام ، ص 177-178) .
الشبهة(6): تحججهم بوجود طوائف غير مسلمة .
وللإجابة عن هذه الشبهة( نقول وبالله التوفيق : أولاً : إنه لا يُقبل شرعاً ولا عرفاً ولا ديمقراطياً أن تتخلى الأغلبية عن هويتها ومقدساتها وحضارتها طلباً لمرضاة الأقلية، لاسيما إذا كانت هذه المقدسات لا مساس لها بالحقوق الأساسية المشروعة لهذه الأقليات، ماذا لو حدث العكس، وكان المسلمون هم الأقلية؟ هل كان يقبل منهم أن يطلبوا إلى الأكثرية التنازل عن هويتهم ومقدساتهم طلباً لمرضاتهم؟ ثانياً : إن الدولة القومية التي تنشدها هذه الأقليات التي تفصل فيها الدولة عن الدين، وتنفصم بها عرى الموالاة بين المسلمين تتعارض تعارضاً جذرياً مع أصل الإيمان بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، ولا سبيل إلى القبول بها إلا يوم أن نقرر أننا قد تخلينا عن ديننا وخلعنا ربقة الإسلام من أعناقنا وهيهات هيهات أن نكفر بالله ورسوله! ثالثاً : إنه فيما عدا الولايات التي يُعتبر الإسلام فيها شرطاً لانعقادها تُفتح أمامهم كافة الأبواب للمشاركة الكاملة في بناء هذا الوطن شأنهم في ذلك شأن المسلمين سواء بسواء، وغني عن الذكر أن صيانة دمائهم وأموالهم وأعراضهم حقوق مقدسة لا مماراة فيها ولا جدال، ولا نرى حرجاً أن تصدر في شئونهم وثيقة خاصة ينص فيها على مركزهم القانوي في المجتمع من حقوق وواجبات إن هم رغبوا في ذلك وتكون ملحقة بالدستور، وتتمتع بنفس القوة التي يتمتع بها، ولهم أن يشترطوا لأنفسهم ما يشاؤون من ضمانات لكفالة حقوقهم المشروعة وعدم المساس بها من أحد من الناس، ثم بعد بهذا يعيشون كما عاش أجدادهم في هذه البلاد ولمدة تزيد عن ثلاثة عشر قرناً من عمر الزمان في ظل تحكيم الشريعة ؛ آمنين على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ومعابدهم، لم تمتد إليهم يد بسوء، ولم يُكرهوا كما أكره المسلمون في الأندلس على تغيير دينهم، ولو أن المسلمين في الشرق توجهوا إلى شيء من ذلك ما بقي نصراني واحد في بلادنا إلى اليوم. ملكنا فكان العفو فينا سجية فلما ملكتم سال بالدم أبطح ولنستمع إلى شهادة كبار المؤرخين وهم يعقدون المقارنة بين نصارى الشرق وبين المسلمين في الغرب ومدى ما يتمتع به هؤلاء وأولئك من الحقوق والواجبات. يقول الوزير دوجو فارا صاحب كتاب (مائة مشروع لتقسيم تركيا) فيما ينقله عنه الأمير شكيب أرسلان: (إن الدولة المسيحية ظلت مدة ستة قرون (699-1299هـ) تهاجم الدولة العثمانية الإسلامية رغم تسامح المسلمين وحسن معاملتهم لرعاياها من المسيحيين، ويقول: إن من أعظم أسباب انحلال هذه الدولة الإسلامية هو مشربها من إعطاء الحرية المذهبية والمدرسية للأمم المسيحية التي كانت خاضعة لها، لأن هذه الأمم بواسطة هاتين الحريتين –المذهبية والمدرسة- كانت تبث دعايتها القومية للانفصال عن السلطة العثمانية). ويقول جوستاف لوبون في كتابه حضارة العرب: (وكان يمكن أن تعمي فتوح العرب الأولى أبصارهم وأن يقترفوا من المظالم ما يقترفه الفاتحون عادة، ويسيئوا معاملة المغلوبين ويكرهوهم على اعتناق دينهم الذين كانوا يرغبون في نشره في العالم... ولكن العرب اجتنبوا ذلك، فقد أدرك الخلفاء السابقون –الذين كان عندهم من العبقرية السياسية ما ندر وجوده في دعاة الديانات الجديدة- أن النظم والديانات ليست مما يُفرض قسراً ؛ فعاملوا –كما رأينا- أهل سورية ومصر وأسبانيا وكل قطر استولوا عليه بلطف عظيم تاركين لهم قوانينهم ونظمهم ومعتقداتهم، غير فارضين عليهم سوى جزية زهيدة في الغالب إذا ما قيست بما كانوا يدفعونه سابقاً في مقابل حفظ الأمن بينهم، فالحق أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب ولا ديناً سمحاً مثل دينهم). وننقل عن جوتيه في كتابه أخلاق المسلمين وعاداتهم قوله: (ولقد ثبت أن الفاتحين من العرب كانوا على غاية في فضيلة المسامحة التي لم تكن تتوقع من أناس يحملون ديناً جديداً. وما فكر العربي قط في أشد أطوار تحمسه لدينه الجديد أن يطفئ بالدماء ديناً منافساً لدينه) . ويقول ريتشارد ستيبز من أبناء القرن السادس عشر: (وعلى الرغم من أن الأتراك بوجه عام شعب من أشرس الشعوب... فقد سمحوا للمسيحيين جميعاً –للأغريق منهم واللاتين- أن يعيشوا محافظين على دينهم، وأن يصرفوا ضمائرهم كيف شاءوا بأن منحوهم كنائسهم لأداء شعائرهم المقدسة في القسطنطينية وفي أماكن أخرى كثيرة جداً، على حين أستطيع أن أؤكد بحق بدليل اثني عشر عاماً قضيتها في أسبانيا أننا لا نرغم على حفلاتهم البابوية فحسب، بل إننا في خطر على حياتنا وأحفادنا. وهذا ما جعل بطريارك أنطاكية واسمه ماركوس يقول: أدام الله دولة الترك خالدة إلى الأبد! فهم يأخذون ما فرضوه من جزية ولا شأن لهم بالأديان، سواء كان رعاياهم مسيحيين أو يهوداً أو سامرة). ويقول القس برسوم شحاتة وكيل الطائفة الأنجيلية في مصر: (في كل عهد أو حكم التزم المسلمون فيه بمبادئ الدين الإسلامي كانوا يشملون رعاياهم من غير المسلمين –والمسيحيين على وجه الخصوص- بكل أسباب الحرية والأمن والسلام .. ) . وأخيراً ننقل هذه الوثيقة وهي من القرن التاسع عشر وتتمثل في نص الفرمان (الظهير) الذي أصدره السلطان محمد بن عبدالله سلطان المغرب في 5 فبراير سنة 1864م وهذا نصها: (بسم الله الرحمن الرحيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم نأمر من يقف على كتابنا هذا من سائر خدامنا وعمالنا والقائمين بوظائف أعمالنا أن يعاملوا اليهود الذين بسائر ولاياتنا بما أوجبه الله تعالى من نصب ميزان الحق والتسوية بينهم وبين غيرهم في الأحكام حتى لا يلحق أحداً منهم مثقال ذرة من الظلم ولا يضام، ولا ينالهم مكروه ولا اهتضام، وألا يعتدوا هم ولا غيرهم على أحد منهم لا في أنفسهم ولا في أموالهم، وألا يستعملوا أهل الحرف منهم إلا عن طيب أنفسهم، وعلى شرط توفيتهم بما يستحقونه على عملهم، لأن الظلم ظلمات يوم القيامة، ونحن لا نوافق عليه، لا في حقهم ولا في حق غيرهم، ولا نرضاه لأن الناس كلهم عندنا في الحق سواء، ومن ظلم أحداً منهم أو تعدى عليه فإننا نعاقبه بحول الله، وهذا الأمر الذي قررناه وأوضحناه وبيناه كان مقرراً ومعروفاً محرراً، لكن زدنا هذا المسطور تقريراً وتأكيداً ووعيداً في حق من يريد ظلمهم وتشديداً ليزيد اليهود أمناً إلى أمنهم، ومن يريد التعدي عليهم خوفاً إلى خوفهم، صدر به أمرنا ، المعتز بالله في السادس والعشرين من شعبان المبارك عام 1280 ثمانين ومائتين وألف). أرأيت إلى هذا الإنصاف والتسامح ورعاية العهود والذمم الذي صحب الدولة الإسلامية في مختلف أطوارها، وسطرته أقلام الكتّاب النصارى أنفسهم لتسجل ذاكرة الزمان أن تاريخنا لم يعرف اضطهاداً لأقليات تخالفنا في الدين وتشاركنا في الوطن، وليثبت للمرتابين تهافت التذرع بوجود أقليات في المجتمع المسلم إلى رفض الشريعة والاعتداء الظالم على دين المسلمين ).
( المرجع : " تحكيم الشريعة ودعاوى العلمانية " د / صلاح الصاوي) .
الشبهة(7): ادعاؤهم جمود الشريعة في مواكبة التغيرات !
( وهذه الدعوة أيضاً مما ينعق به خصوم الشريعة، ويقولون إن تحكيم الشريعة يقعد بنا عن ملاحقة التطور والوفاء بمقتضياته، لأن الشريعة أساسها الدين، والدين ثابت لا يتغير، ولكن الحياة في تغير دائم وتحول مستمر فأنى للجامد الثابت أن يحكم المتحول المتغير ويفي بحاجاته؟ ولذلك يرون أن من الخير للدين أن يبقى عقيدة في الحنايا، وشعائر في دور العبادة، وأن يترك قيادة الحياة إلى نظم وضعية تستلهم من واقع الحياة المتجدد والمتطور وتفي بمقتضيات المدينة الحاضرة وهذه الشبهة تقوم على محورين: - ثبات أحكام الشريعة فلا مجال فيها للتجديد بوجه من الوجوه. - تطور أوضاع الحياة فلا مجال فيها للثبات بوجه من الوجوه. وكلا الأمرين في إطلاقه على هذا النحو وهم وخرافة ؟! فأحكام الشريعة منها ما هو ثابت ومنها ما هو متغير، وأحوال الحياة وأوضاع البشر منها ما هو ثابت ومنها ما هو متغير كذلك. فإن أرادوا التجديد في الثوابت والقطعيات التي حسم فيها الشارع الحكيم بنصوص محكمة قاطعة فقد خابوا وخسروا، وإن دون ذلك الردة عن الإسلام!! لقد حرّم الله الزنا، فإذا جاءت القوانين الوضعية تبيحه لمن بلغ سن الرشد القانونية تحت دعوى التطور والحرية الشخصية فذلك خسران وردّة، ولقد حرّم الله الخمر ، فإذا جاءت القوانين الوضعية بإباحتها مسايرة للأوروبيين، وملاحقة للمدنية، وتقديساً للحرية الشخصية، فإن ذلك خسران وردّة، ولقد حرم الله الربا والميسر، فإذا جاءت القوانين الوضعية بإباحته لاعتبارات اقتصادية أو ملاحقة للتطور والمدنية فإن ذلك خسران وردّة!! فما حرمه الله ورسوله فهو حرام إلى يوم القيامة، وما أحله الله ورسوله فهو حلال إلى يوم القيامة، وكما لا يملك الإنسان تغيير أمر الله الكوني لا يحلّ له تبديل أمر الله الشرعي، وكما أن الخلق كله لله فإن الأمر كله لله: { أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54]. وإن أرادوا تجديد الاجتهاد في الظنيات ومسائل الاجتهاد بما يحقق المصالح البشرية ولا يخرج على الأدلة الشرعية فذلك حق، على أن يتم بضوابطه وأن يمارس من أهله، حتى لا يصبح دين الله نهباً لكل عابث أو جهول، وإن قواعد الشريعة وأصول الاجتهاد فيها ما يلبي هذه الحاجة، ويحقق مصالح العباد أتم تحقيق في إطار من الحق والعدل، وهل جاءت الشريعة ابتداءً إلا لتحقيق مصالح العباد وإرشادهم إلى ما يكفل لهم الحياة الطيبة في الأرض والفوز بجنة الخلد ونعيم الأبد في الآخرة ) . ( المرجع : " تحكيم الشريعة ودعاوى العلمانية " د / صلاح الصاوي) .
الشبهة(8): ادعاؤهم قسوة العقوبات الشرعية !
( يزعم دعاة التغريب وخصوم الشريعة أن الحدود والقصاص من العقوبات البشعة التي لا تلائم مدنية هذا العصر، ولا تتفق مع ما انتهت إليه النظريات الجديدة في علم الإجرام والعقاب التي تبدلت نظرتها إلى مرتكب الجريمة من كونه مجرماً يستحق العقاب إلى كونه مريضاً يستحق الرحمة والعلاج، وهذه الشبهة قد أوسعها أهل العلم دحضاً ونقضاً وفيما كتبوه غناء بل ثراء، ولكن لا نرى بأساً من إيراد هذه اللمحات . نقول لهؤلاء الرحماء ! : أولاً : إن الذي قرر هذه العقوبات هو الله رب العالمين. أليس كذلك؟ إن جحدوا فقد كفروا وانتقل الحديث معهم إلى دائرة أخرى... إلى أصل الإيمان بالله ورسوله وكتابه واليوم الآخر، ولا وجه أن يناقش في الفرع من كفر بالأصل. وإن أقروا انتقلنا بهم إلى سؤال آخر: أتؤمنون بحكمة الله في شرعه، وعدله في حكمه أم لا؟ إن جحدوا فقد كفروا ، وإن أقروا فقد خُصِمُوا، لأن هذه العقوبات من شرعه ومن حكمه، وقد أقروا بأن شرعه حكيم وحكمه عادل، فسقط الاعتراض من الأساس! ) .
( المرجع : " تحكيم الشريعة ودعاوى العلمانية " د / صلاح الصاوي) .
الشبهة(9): قولهم : أي مذهب نُطبق ؟!
( ومن التهافت البيّن بعض ما يشنع به هؤلاء الخصوم من أن إقامة الحدود سيحوِّل أغلب المجتمع إلى معوقين ومشوهين نظراً للانتشار الهائل للجريمة والتنامي المستمر في معدلاتها، فكيف تُقطع أيدي ثلثي المجتمع ونرجم أو نجلد تسعة أعشاره ؟! وهذا القول فضلاً عما فيه من المبالغة في تصوير الواقع، وتقديم الأمة كلها على أنها عصابة من السراق والزناة والسكارى ؛ فإنه إلى التهافت والديماجوجية أقرب منه إلى المنطق العلمي النـزيه. فلقد علم هؤلاء وعلمت الدنيا كلها أن قيمة هذه العقوبات تكمن في التهديد بها وإعلانها على الملأ، وأن في مجرد النص عليها وإعلام الأمة بها والجدية في تطبيقها من الزجر والردع وإشاعة الهلع والفزع في نفوس الجناة والمجرمين ما تنحسر به هذه الجرائم وتتراجع به معدلاتها المتـزايدة، بل ما ينقطع به دابرها أو يكاد ) . ( المرجع : " تحكيم الشريعة ودعاوى العلمانية " د / صلاح الصاوي) .
الشبهة (10) : ادعاؤهم افتقاد أهل الإسلام لبرامج عملية . ( يقولون: أي شريعة تطبقون وأية إسلام تنشدون: إسلام مالك أم إسلام أبي حنيفة أم إسلام الشافعي أم إسلام أحمد بن حنبل؟ إسلام الخميني في إيران أم إسلام النميري في السودان، أم إسلام ضياء الحق في باكستان، أم إسلام السعودية؟ إنكم لم تتفقوا على الإسلام الذي تدعوننا إليه وتجادلوننا في تطبيقه!! وهم بهذا يريدون تقديم قضية الإسلام وكأنه شرائع منفصلة، ونماذج شتى متباينة تتفاوت من النقيض إلى النقيض، ويغرق معها مريد التطبيق في لجج من المتناقضات والمفارقات، ثم يحمِّلونه أوزار بعض هذه التجارب البشرية القاصرة، وكأن الإسلام هو المسئول عن هذا التشرذم وعن هذه الأخطاء، إذاً فهو لا يصلح للتطبيق. إن الإسلام الذي ننشده وينشده كل مسلم هو إسلام الكتاب والسنة وما أجمع عليه سلف الأمة، هذا هو المحكم الذي لا جدال فيه ولا مماراة، أما ما وراء ذلك من الاجتهادات الفقهية، فهو من موارد الاجتهاد التي لا يُضيّق فيها على المخالف، ولأهل العلم في كل عصر أن يرجحوا ما تقتضيه الأدلة ويحقق المصلحة، ولا حرج أن تتفاوت هذه الاجتهادات من قطر إلى آخر حسبما تقتضيه المصلحة ويرفع الحرج عن المكلفين، بل وأن يعاد النظر فيها من حين لآخر كلما طرأت ظروف وتجددت أحوال حتى تبقى دائماً في هذا الإطار. ثالثاً: إن تفاوت الاجتهادات والتفسيرات في الأمور الجزئية ظاهرة طبيعية ولا يكاد يخلو منه تشريع سماوي أو تقنين وضعي. ألا تختلف المحاكم الوضعية في تطبيق القانون أو في تفسيره فتقضي بينها محكمة النقض بحكم بات يرفع الخلاف؟ ألا يختلف علماء القانون الوضعي في شروح القوانين واللوائح الإدارية؟ بل ألا يختلف الأطباء والمهندسون وسائر الفنيين في كثير من الفروع والتفصيلات؟ فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً؟ وما لهم يجعلون من الظواهر العادية مسبة ومطعناً ماداموا يتحدثون عن الإسلام؟! رابعاً : إن هؤلاء العلمانيين القائلين بهذه الشبهة يكيلون بكيلين ويزنون بمعيارين، فعندما يتحدثون عن الإسلام يشغبون عليه باختلاف مذاهبه وتعدد تجارب تطبيقه، وعندما يتحدثون عن مذاهبهم الوضعية وعقائدهم السياسية لا يكادون يتفقون على تعريف محدد لما ينادون به من هذه النظريات، ولا يجدون في تعدد مدارسها وتباين مذاهبها مانعاً يمنع من تطبيقها، أو يثني عزمهم عن المناداة بها والدعوة إليها ؟ ولنتأمل هذه العبارة عن الماركسية وهي لأحد الماركسيين المعروفين وهو مكسيم رودستون الكاتب اليهودي الفرنسي : (الحقيقة أن هناك ماركسيات كثيرة بالعشرات والمئات، ولقد قال ماركس أشياء كثيرة، ومن اليسير أن نجد في تراثه ما نبرر به أية فكرة!! إن هذا التراث كالكتاب المقدس "أسفار التوراة والأناجيل وملحقاتها" حتى الشيطان يستطيع أن يجد فيه نصوصاً تؤيد ضلالته !!) اهـ وليست الديمقراطية بأقل حظاً من الاشتراكية في هذا التعدد، فنحن لا نكاد نجد مذهباً في هذا العصر ليبرالياً أو اشتراكياً أو شيوعياً إلا ويدعي أن ديمقراطيته هي الديمقراطية الحقة، وأن ما عداها زائف ومدخول! أما الأخطاء التي صحبت بعض تجارب التطبيق فوزرها على أصحابها، والإسلام منها براء، هذا هو الذي تقتضيه الموضوعية في التقويم، والإنصاف في الحكم، ولكن أنى لهؤلاء العلمانيين هذه الموضوعية وهذا الإنصاف وهم الذين تنغل قلوبهم حقداً على الشريعة وعداوة لأنصارها. ومرة أخرى نرى التطفيف في منطق هؤلاء العلمانيين ؛ فعندما يتحدثون عن فشل المذاهب الوضعية في بلاد المسلمين يبرئون هذه المذاهب في ذاتها ويلتمسون للفشل أسباباً أخرى، وعندما يتحدثون عن تجارب التطبيق الإسلامي يحمِّلون الإسلام في ذاته هذه الأخطاء ويجعلون الفشل مرتبطاً بطبيعة الحل الإسلامي في ذاته، وعدم صلاحيته في ذاته للتطبيق. فتجدهم يلتمسون الأعذار لفشل الديمقراطية الليبرالية في مصر بأنها لم تدم أكثر من ثلاثين عاماً 1923 – 1952م ، ويعتذرون لفشل الاشتراكية في مصر بقصر المدة وبعدم الجدية في التطبيق وأنها كانت اشتراكية بغير اشتراكيين فالمكلفون بحراستها كان يتم اختيارهم على أساس الولاء وليس على أساس الكفاية. أجل! يعتذرون بهذا عن فشل الاشتراكية والديمقراطية في الوقت الذي يحاسبون فيه باكستان على بضع سنين، والسودان على سنة أو سنتين، ولا يقولون إنها كانت تنقصها الجدية الكافية في التطبيق أو إنها كانت عملية إسلامية بغير إسلاميين! ومرة أخرى { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} [المطففين:1-5] .
( المرجع : " تحكيم الشريعة ودعاوى العلمانية " د / صلاح الصاوي) .
الشبهة(11):قولهم: تطبيق الشريعة يؤدي للكبت !!
( وهذه مناورة أخرى يهدف بها دعاة العلمانية إلى إحراج العمل الإسلامي بالتشنيع عليه بأنه يغذ السير بالناس إلى دولة مجهولة، ويدعو الناس إلى منهج لم يسبر أغواره ولم يعرف أبعاده، فهو لا يعرف تفاصيل هذا المنهج ولا يملك برامج عملية لوضعه موضع التنفيذ، مثله كمثل رجل ظل يلح على آخر حيناً من الدهر بأن يدخل في الإسلام، وتوعده إن أعرض بسوء المآل فقال له : ماذا أفعل لكي أسلم، فقال : لا أدري ! وللإجابة على هذه الشبهة نقول: أولاً : إننا لا نبتدع في الناس أمراً لا عهد لهم به من قبل، بل نردهم إلى ما درجوا عليه وعاشوا في ظله ثلاثة عشر قرناً من الزمان، ولم يتوقف إلا على يد الاستعمار الكالح الذي وطئت خيله الأزهر على يد نابليون، وقتل الأبرياء في دنشواي على يد كرومر، ومكن لليهود في فلسطين على يد بلفور، وفعل بأمتنا الأفاعيل والعجائب. وطـنـي كـم صنم مجدته لم يكن يحمل طُهْر الصنم لا تلومي الذئب في عدوانها إن يك الراعي عدو الغنم ثانياً: إن الدولة الإسلامية المنشودة هي التي تقوم على حراسة الدين وسياسة الدنيا به، وهي التي تتبنى الإسلام بشموله عقيدة وشريعة إقراراً به، وعملاً بموجبه، ودعوة إليه، وولاء وبراءً على أساسه، وإن مفتاح التغيير المنشود هو التعبير عن سيادة الشريعة وأنها وحدها الحجة القاطعة والحكم الأعلى، وأن كل قانون يتعارض معها فهو باطل يجب على المحاكم أن تمتنع عن تطبيقه تلقائياً لمخالفته لمبدأ المشروعية، ومن حق أي مواطن أن يطعن أمامها ببطلان أي قانون يُعتقد مخالفته للشريعة، وتقضي ببطلانه إذا ثبت لديها ذلك. ثالثاً : هب أن المنادين بتحكيم الشريعة لا يملكون هذه البرامج وتنقصهم الكفايات والتخصصات النظرية أو العملية فأين ذهبت الجهات المتخصصة التي تقدر على ذلك في بلادنا الإسلامية؟ والتي إذا استنفرتها الدولة نفرت وإذا دعتها لبت؟ ألسنا نعلن أننا مسلمون ديننا الرسمي هو الإسلام؟ والشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع؟ وعلى أرضنا توجد أعرق جامعات العالم وبلادنا هي التي تُصَدر العلماء والمتخصصين في علوم الشريعة وفي غيرها إلى جميع أنحاء العالم ؟ إن الدعوة إلى تطبيق الشريعة ليست برنامجاً حزبياً تطرحه فئة محدودة على أرض الوطن، إنها إرادة هذه الأمة، والدين الذي يستمسك به الكافة، فهي فوق الأطر الحزبية، والتنظيمات السياسية، والخلافات المذهبية، والدولة كل الدولة حكومة ومعارضة مسئولة أمام الله عز وجل عن أن تقيم هذا الدين، وأن تُجيِّش له الطاقات، وأن تعد له الرجال، وأن توظف كل إمكاناتها المادية والبشرية لإقامته على وجهه كما أمر الله. إن هذا العمل مسئولية أمة وليس مسئولية حزب من أحزابها، أو تيار من تياراتها الفكرية أو السياسية، ولا حرج على الدعاة إلى الله –بل يجب عليهم- إن هم رأوا تعطيلاً لشرائع الله وتحاكماً إلى غير ما أنزل الله، أن يصدعوا بالنصيحة الواجبة، وأن يجهروا بكلمة الحق في مختلف المواقع، وأن يطلبوا كل قادر ومتخصص أن يدلي بدلوه وأن يبذلوا قصارى جهدهم لتقويم هذا الخلل، وإعادة الدولة إلى الإسلام، وحسبهم أن يشاركوا في ذلك بقدر ما تؤهلهم له قدراتهم وتخصصاتهم، وألا يضنوا على ذلك بوقت ولا جهد ولا مال. رابعاً : إن الجامعات الإسلامية ومراكز البحوث والمجامع الفقهية ودور الفتوى في العالم الإسلامي رصيد هائل للدعوة إلى تطبيق الشريعة ، وهي تملك من البحوث والدراسات العلمية الجادة في مختلف المجالات والكفايات النادرة المتخصصة ما يفوق الحصر ويذهل العقل . فهل يصح مع ذلك أن يقال: إن الدعوة إلى تحكيم الشريعة دعوة عاطفية تفتقد البرامج التفصيلية والكفايات العملية؟ أليس هذا غمطاً للأمة كلها واتهاماً لجميع مؤسساتها وجامعاتها بالعقم والسلبية والقصور بل بالخيانة وإضاعة الأمانة ؟ إن ما كتب في مجال الاقتصاد الإسلامي من الدراسات والبحوث الإسلامية المتخصصة رغم حداثة العهد بالكتابة في هذا المجال يبلغ بضع مئات وفق التقرير الذي قدم إلى المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي الذي عقد في مكة المكرمة قبل ما يزيد على عشرين سنة ! ترى كم بلغ عددها الآن؟ وما عدد الدراسات المتخصصة في المجالات الأخرى التي لا يزال المتخصصون فيها يكتبون منذ أمد بعيد؟ إن الأزمة التي تواجه الدعوة إلى تطبيق الشريعة ليست أزمة برامج وتفصيلات وإنما هي أزمة إرادة سياسية قادرة على التغيير واتخاذ القرار! ولو وجدت هذه الإرادة لتحوّلت كل كفايات الأمة ومؤسساتها إلى جنود في معركة التطبيق، ولتحولت القيادة السياسية إلى غرفة عمليات تشرف على ذلك كله، تحث الخطى وتوجه المسار! خامساً : إن العلمانيين وخصوم الشريعة عندما يرددون هذه الشبهة فهم محجوجون بمنهج التغيير الذي اعتمدته كبريات الحركات الأيديولوجية العالمية التي لم تعن إلا بالعقائد والمبادئ الأساسية، ولم تعن بما وراء ذلك من التفاصيل والجزئيات. فالثورة الفرنسية تجمع الناس حول ثالوثها المعروف: الحرية والإخاء والمساواة، ومن خلاله عرف الناس أي مجتمع تنشده هذه الثورة. والشيوعية لا تعني في بداية الأمر إلا بالعقائد الاشتراكية الكبرى والمبادئ الرئيسية العامة، وكان جل اهتمامها منصباً على الجانب السلبي الذي يجب هدمه حتى يمتهد الطريق لإقامة اقتصاد اشتراكي، أما الخطوات الجزئية والبرامج التفصيلية فلا تكاد تجد في كتابات روادها الأوائل ما يغطي شيئاً من ذلك، بل إن ماركس في رسالته التي كتبها إلى صديقه (تيسلي) عام 1869م اعتبر ذلك من قبيل الرجعية، وأن من يرسم خطة للمستقبل يكون رجعياً، ومن هنا يقرر ندلوب ميلا أن ماركس كان بخيلاً جداً في تحديد المجتمع الجديد وفي امتناعه عن إعطاء أية صورة واضحة عنه. يقول مؤلفو علم الاقتصاد الحديث : (لقد ركز كل من " ماركس " و" لينين " اهتمامهما في العقائد الاقتصادية والاجتماعية، ولذلك عندما تسلم "البولشيفك" زمام السلطة سنة 1917م لم يكن أمامهم أي مخطط جاهز للنظام الاقتصادي الذي ستنشئه ديكتاتورية العمال، ولقد حاولوا لفترة قصيرة تطبيق نظرية ماركس في " القيمة المنبثقة من العمل " لكنهم تخلوا عن هذه المحاولة، وأظهر " البولشيفك " براعة سياسية أمنت لهم البقاء في الحكم، وأخذوا يطبقون التجارب على مر السنين حتى أنشأوا النظام الروسي الحالي، وربما كان باستطاعة الزعماء الروس أن يكتشفوا نفس النتائج بطريقة أقصر، وكلفة أقل لو درسوا علم الاقتصاد دراسة نظامية، ولكن عقيدتهم الماركسية كانت تنكر هذا العلم من أساسه) اهـ فإذا كان هذا هو المنهج مع كبريات الحركات العالمية التي ينتمي إليها هؤلاء الخصوم فلماذا يطالبون العمل الإسلامي وحده بأن يقدم ابتداءً برامجه التفصيلية وحلوله العملية لكل جزئية من جزئيات الحياة في المجتمع، وهو الأمر الذي اعتبره قادتهم وأئمتهم من جنس الرجعية والتخلف ؟ سادساً : إن كثيراً من مشكلاتنا المعاصرة هي نتاج لهذه المناهج الوضعية السائدة في بلادنا، وترتبط بها وجوداً وعدماً ، وقد يختفي كثير منها بحلول أيديولوجية أخرى لتنشأ مشكلات من نوع آخر وتحديات من لون جديد ، فلماذا نفترض أن كل علل مجتمعاتنا سوف تبقى في ظل تحكيم الشريعة، وأن علينا أن نستغرق في وضع الحلول التفصيلية لها من الآن؟ ألا يعد هذا من قبيل العبث وإضاعة الوقت فيما لا طائل تحته ؟! ) .
( المرجع : " تحكيم الشريعة ودعاوى العلمانية " د / صلاح الصاوي) . |