الشبهة(6): قولهم بتغيرالأحكام الشرعية بتغير الزمان !
والجواب : قال الدكتور عابد السفياني – حفظه الله - : ( يكثر الكلام عند بعض الباحثين على أن هناك قاعدة شرعية اسمها «تغير الأحكام بتغير الزمان» ويقصدون بعض (133) الأحكام المتصلة بالمعاملات دون العبادات، والتغير أوجبه عندهم تغير المصالح والأعراف والعادات. فالأحكام الشرعية المتصلة بمعاملات الناس وعاداتهم وأعرافهم جاءت لتحقق مصالح معينة، وهذه المصالح تتغير في كثير من الأحيان بسبب تغير الزمان، وحينئذ ينبغي - كما يرى أصحاب هذا الرأي - أن تتغير تلك الأحكام ما دام قد تغيرت مصالحها، ومن هنا وضعوا تلك المقالة وسموها قاعدة. وفي هذا الفصل نحدد موضع النزاع بيننا وبينهم ونحرره وخاصة أنه شديد الالتباس، واهتم بعد ذلك بتصوير رأي المخالفين وذكر مستندهم ومناقشتهم مع تتبع كثير من التطبيقات التي هي موضع النزاع وبيان وجه الصواب في تفسيرها، وبذلك أصل إلى تحديد حجم هذه المقالة وما فيها من حق أو باطل، وسأحاول الوصول إلى المقصود دون إغراق البحث بالتفصيلات التي لا حاجة لنا بها. المطلب الأول : تحرير موضع النزاع المقصود «بالتغير» في الحكم الشرعي هو انتقاله من حالة كونه مشروعًا فيصبح ممنوعًا، أو ممنوعًا فيصبح مشروعًا باختلاف درجات المشروعية والمنع. فهذه حادثة حكمها الشرعي المنصوص عليه أو المستنبط كذا، ثم تصبح في زمن آخر تحت حكم مخالف للحكم الأول، هذا هو جملة ما يصوره البحث عند المطلقين لتلك القاعدة أو المقيدين لها. (134) وإلى هنا يبقى كثير من اللبس في تحرير موضع النزاع، أكشف عنه بإضافة أمر مهم جدًا ألا وهو النظر في تلك الحادثة التي تغير حكمها هل هي في الحالين سواء؟ هل الحادثة التي أخذت الحكم الأول ثم أخذت الحكم الثاني هي هي بالخصائص نفسها وبجميع الملامح والاعتبارات والحيثيات أم أنها تختلف في خصائصها.. من حالة إلى حالة؟. وبالجواب عن هذا السؤال ينكشف لنا اللبس الذي أحاط بهذه القضية حتى كثر فيها القول وتشعب. إن تلك الحادثة التي تغير حكمها إما أن تكون هي هي عند تغير الحكم بجميع خصائصها والحيثيات التي تكتنفها، وإما إن تختلف في بعض خصائصها وحيثياتها. فإن كانت الأولى فنحن ننازع أشد المنازعة في تغير حكمها لأن ذلك هو النسخ والتبديل المنهي عنهما كما سيأتي بيانه، وإن كانت الثانية فليست في موضع النزاع، لأنها حينئذ حادثتان متميزتان من حيث خصائصهما والاعتبارات التي تحفهما وحادثتان لهما حكمان ليس غريبًا ولا عجيبًا، ولا يقال له تغيّر ولا تبدل. فإذا خرجت الثانية عن موضع البحث رجعنا لدراسة الأولى، وهي أساس القول ومحل النزاع والدعوى التي عنون لها أصحابها بقولهم: «تغيّر بعض الأحكام بتغير الزمان» ومقصدهم حادثة وواقعة لها حكم منصوص عليه أو مستنبط تغير حكمها في وقت آخر والحادثة هي الحادثة بجميع خصائصها واعتباراتها. فإن قيل كلا لا يتغير حكمها إن لم تتغير خصائصها واعتباراتها، قتل: فإذا تغيرت خصائصها واعتباراتها أصبحت حادثتين لا حادثة واحدة وهذه لا ينازع في اختلاف حكمها أحد البتة. ونرجع مرة أخرى لمحل النزاع وننظر في أدلة القائلين بالتغير بعد تصوير مذهبهم. وإنما قدت بهذه المقدمة رجاء أن تحدد نقطة البحث ويمسك القارئ القضية من أول خيط فيها، ونضرب مثالاً يوضح المقصود، فأقول: قتل زيد خالدًا عمدًا عدوانًا فحكم هذه الحادثة أن زيدًا عليه القصاص إن لم يعفوا أولياء الدم، تكررت هذه الحادثة بين رجلين آخرين بالصورة نفسها في أي عصر من العصور، يكون حينئذ الحكم هو القصاص إن لم يعفوا أولياء الدم. فها هنا حادثتان بخصائص واحدة تحفهما اعتبارات واحدة أخذت حكمًا واحدًا، لا سبيل لتغييره أبدًا. خذ الحادثة بطرفيها القاتل والمقتول وافرض وقوعها مرة أخرى لكن بدون عمد ولا عدوان، بل خطأ، يختلف الحكم حينئذ فلا قصاص بل دية مسلمة، ولكن الحادثتين ها هنا مختلفتان فاختلف حكمهما، في الأولى قصاص إن لم يعفوا أولياء الدم، وفي الثانية لا قصاص بل دية مسلمة إلى أولياء الدم إلا أن يصدقوا، فلا عجب إذن أن يكون لحادثتين تختلف خصائصهما حكمان مختلفان، وإن كانت الصورة بادئ ذي بدء تبدو واحدة (135). وهذه ليست في محل النزاع قطعًا، لأنه لا ينازع أحد فيها على الإطلاق، فحادثتان- وإن كانتا في الصورة واحدة- لكنهما في الجوهر مختلفتان – طبيعي أن يختلف حكمهما. ونعود مرة أخرى لتحديد موضع النزاع فأقول: إن تغير حكم الحادثة إذا تغير جوهرها وأصبح لها خصائص مغايرة لطبيعتها الأولى أمر طبيعي لا ينبغي أن ينازع فيه أحد. ويبقى النزاع في تغير حكم الحادثة التي لم يتغير جوهرها ولا شيء من خصائصها وحيثياتها. نقول هذا ونؤكد عليه لأن هناك خلطًا بين هاتين القضيتين لا يمكن أن نخلص من آثار السلبية إلا أن ندخل في دراستنا لهذه المسألة من هذا المدخل وحينئذ نستطيع أن نفرق بين حكم الحادثة الواحدة ذات الخصائص والحيثيات الواحدة، وإن مرت عليها عصور متتابعة- ونجزم بأن حكمها الأول في العصر الأول ينبغي أن يكون هو حكمها نفسه في العصور الأخرى، لأن شيئًا من خصائصها وحيثياتها لم يتغير، وإذا أردنا أن نغير حكمها من المشروعية إلى المنع علمنا أنه لابد لنا من القول بالنسخ، والنسخ ليس لأحد من البشر، وإنما الذي ينسخ الأحكام هو الشارع، وقد انقطع بعد انقطاع الوحي، وبهذا نستطيع أن نفرق بين هذه الصورة – وبين الصورة الأخرى وهي انتقال الحادثة في الزمن الأول – لتصبح ذات خصائص أخرى تختلف عن خصائصها الأولى وهذه يختلف حكمها ويتغير لأن الأولى تعتبر حادثة مستقلة لها حكم خاص وذلك مثل حكم المؤلفة قلوبهم، وهو نفر من الناس لم يستقر الإيمان في قلوبهم، جعلت الشريعة لهم حقا في مال الصدقة، يتألفهم الإمام به، ليثبتوا على الإسلام فَيُسْلِم من ورائهم ويَسْلَم المسلمون من فتنتهم وشرهم، وهذا المعنى لا يخاف منه إلا عند ضعف الإسلام وحاجته لنصرتهم ومؤالفتهم، فالنص يوجب إذا إعطاء هؤلاء المؤلفة لهذا المعنى، فيأتي الإمام ليطبق هذا المعنى فيجد أمامه حالتين: الأولى : حالة ضعف الإسلام، وقوم يحتاجون لهذا التأليف. الثانية : حالة قوة الإسلام، وقوم يزعمون أنهم من المؤلفة قلوبهم. فيطلق حكم الله على الحالة الأولى فيعطيهم سهمهم، ويطبق حكم الله على الحالة الثانية فلا يعطيهم لأنهم ليسوا ممن أمر الله بإعطائهم، وهذا ما يسميه العلماء تحقيق المناط (136). فهما إذا حادثتان لكل حادثة حالة خاصة تحتاج إلى حكم خاص ثابت لها لا يتغير، وحادثتان لهما حكمان كما قلنا ليس غريباً ولا عجيباً، وكلا الحكمين من الشرع. ومن خلال هذا التحليل ينكشف لنا خطأ من أراد أن يفرق بين التغيير والنسخ (137)، حيث جعل النسخ حق الشارع، وقد انقطع بانقطاع الوحي، وعلل ذلك بأنه قد يكون النسخ إلى غير بدل، وأما التغيير فيكون إلى بدل، وفرق آخر وهو أن النسخ يمكن أن يكون في جوانب متعددة في الشريعة، وأما التغيير فمحصور في بعض الجوانب كالمعاملات ونحوها، وذلك لأن التغيير هنا يكون سببه تغير المصالح والأعراف والعادات، فإذا انقطع النسخ لا ينقطع التغيير. وبمراجعة ما تقدم ذكره يتبين أن هذا التفريق لا ينبني عليه فقه ولا يحمل شيئاً من الصحة. وندلل على ذلك بما يلي إضافة لما ذكرته آنفا ً: 1- أن التغير عند المؤلف هو التبديل والتحويل (138)، والنسخ هو التبديل، أي تبديل الحكم الأول بحكم آخر، فالمشروع يُجعل ممنوعاً والممنوع مشروعاً، أو نسخه مطلقاً إلى غير بدل، وهذا تغيير لصفته الشرعية، فبعد أن كان شرعاً صار غير ذلك، فمن جهة المعنى الأصلي لهما لا تجد كبير فرق بينهما. وقد جعل المؤلف التغيير مضمونه «عبارة عن ترك الحكم الأول إلى الحكم الثاني» (139). 2- ما سبق وقد ذكرته من أن تغير خصائص الحادثة لتغير الأزمنة إنما هو عبارة عن تجدد حادثة أخرى غير الحادثة السابقة، وحادثتان لهما حكمان ليس غريباً ولا عجيباً كما أسلفت ولا يسمى ذلك نسخاً ولا تغييراً. أما أنه لا يسمى نسخاً فظاهر ذلك أن النسخ هو رفع حكم الحادثة نفسها أما إلى بدل- والحادثة هي الحادثة- وأما إلى غير بدل. وأما أنه لا يسمى تغييراً في الحكم فظاهر أيضاً لأن حكم تلك الحادثة نفسها لم يتغير كما قلنا في مشروعية إعطاء المؤلفة قلوبهم، وإنما الذي تغير هو طبيعة الحادثة، لتصبح حادثة جديدة لها حكم جديد، ولا يقال هنا تغير في الحكم، وإنما يقال تغير في طبيعة الحادثة، لتصبح حادثة جديدة، فالمجموع حادثتان مختلفتان فيكون لهما حكمان مختلفان. ولم يبق سوى هاتين الصورتين : * إما أن تكون الحادثة هي مع اختلاف الأزمان فلا يمكن تغير حكمها إلا بالقول بالنسخ ولا سبيل إلى ذلك. * وإما أن تكون الحادثة في الزمن الجديد غير الحادثة في الزمن القديم واختلاف حكمهما حينئذ لا يقال له نسخ ولا تغيير، وهنا يتضح ما قلته أن مقابلة النسخ بالتغيير لا ينبني عليه فقه، والقول بأن النسخ قد انقطع والتغيير لم ينقطع لأن هناك فروقًا بينهما ليس صحيحًا. ومن هنا يتبين موضع النزاع وهو الصورة الأولى والتغيير فيها هو النسخ والتبديل المنهي عنهما. وأما الصورة الثانية فليست في موضع النزاع ولا ينبغي أن تقترب منه. وبهذا يتضح لنا السبيل ونحن ندرس هذه المسألة الخطيرة في الدين.. ونستطيع أن نعلم السبب في عدم التفات فقهاء السلف إلى أمثال هذه المقالة، التي أسماها بعض الباحثين «قاعدة»، ذلك أنهم من الفقه والبصيرة، بحيث لا يلتفتون إلى القول بالتغير، لأنه لا يخرج عن أحد أمرين: إما أن يكون نسخًا وتبديلاً وهذا ليس لأحد من البشر، وإما أن لا يكون تغيرًا ولا نسخًا ولا تبديلاً، وإنما هو اختلاف وقائع وتحقيق مناط، ومن هنا نبدأ مناقشة هذه المقالة، لنتعرف على صحة القول بتغير الأحكام بتغير الزمان، وننظر هل هو قاعدة شرعية، وما هو موقف فقهاء الصحابة وفقهاء السلف منها ونقدم لذلك بذكر أسباب التغير عند هؤلاء الباحثين، ثم بعد ذلك نفصل القول في تصوير حقيقة هذه المقالة، ونعتمد في ذلك على أهم الكتب التي انتصرت لها، ثم نناقش ذلك ونتبعه بمناقشة بعض الباحثين فيما نسبوه إلى الإمامين الجليلين ابن القيم والشَّاطـِبي. المطلب الثاني : أسباب التغير وتصوير مذهب المخالفين: التغير عندهم سببه تغير المصالح والأعراف (140) والعوائد (141). وقبل أن أتحدث عن صلاحية هذه الأسباب لتغير الأحكام يحسن بي أن أصور مذهب المخالفين. تصوير مذهب المخالفين: يرى بعض الباحثين المحدثين أن الصحابة عللوا الأحكام سواء بالعلل المستنبطة أو المنصوص عليها، وعملوا بالمصلحة والحكمة- وهي ما يترتب على الفعل من نفع أو ضرر، ولم يسيروا وراء الأوصاف الظاهرة وكان من نتيجة تعليلهم هذا أن غيروا بعض الأحكام تبعًا لتغير المعنى الذي لأجله شُرع الحكم وفي هذا رد على من منع تبدل الأحكام بتبدل المصالح، ووقف عند المنصوص، وإن أصبح لا يحصل المقصود منه أو لحق الناس من أجله الحرج والمشقة. والسر في ذلك – والله أعلم – أن أصحاب رسول الله نظروا إلى الشريعة في مجموعها، ملاحظين مبادئها العامة، وقواعدها الشاملة كلها في آن واحد، فلم يجمدوا، وأما هؤلاء المانعون (142) فنظروا إلى النصوص الجزئية مفككة كأن كل واحد منها جاء بشرع أبدي لا يتغير، ولكن الأمر الذي لا يغفل عنه هنا، هو أن المتتبع لمسالكهم في هذا التغير يجدهم لم يندفعوا فيه بمجرد ما يلوح أنه مصلحة، بل كانوا يجعلون الأصل هو ما دل عليه النص، وأنه الذي يجب التمسك به، كما يؤخذ ذلك من عباراتهم: «كيف نفعل شيئًا لم يفعله رسول الله»، أو «كيف نفعل ذلك مع أن النص يفيد كذا» الخ.. ولا يعدلون عن هذا الأصل إلا إذا دعت حاجة ملحة، ولا يسلمون التغير إلا بعد تقليب الأمر على وجوهه، والموازنة بين مصالحه ومفاسده حتى إذا ما بان لهم الراجح عملوا به والله أعلم » . (143) والأحكام – فيما سوى العبادات – تتغير بتغير المصالح والأزمان (144) ، ويقول في موضع آخر: «وشيء جديد لم يظهر في تعليل القرآن وهو أن من الأحكام ما يدور مع المصلحة ويتبدل بتبدلها، والسبب في ذلك – على ما يظهر والله أعلم- أن هذا النوع من الأحكام مفوض لرأي الرسول × باعتباره إمامًا للمسلمين...». (145) ثم يتحدث عن هذا التبدل فيقول أنه تبدل في التطبيق فقط، فالرسول صلى الله عليه وسلم فُوض إليه الحكم في كثير من الأشياء «وخاصة ما يتعلق بالهيئة الاجتماعية كالمعاملات والعادات وما شابههما حسبما يراه ملائمًا للمصلحة، وهو مع ذلك لم يخرج عن كونه شرعًا أصله محكم لا يتبدل، والذي يتبدل فيه إنما هو التطبيق فقط...». (146) وقال في موضع آخر تحت عنوان تبدل الأحكام بتبدل المصالح: نتيجة البحث: «عُلم مما سبق موقف المصلحة من النص، وأنها إذا تعارضت معه في أبواب المعاملات والعادات التي تتغير مصالحها أُخذ بها وليس هذا إهدارًا للنص بمجرد الرأي بل هو عمل بالنصوص الكثيرة الدالة على اعتبارها، وأما إذا كانت المصلحة المستفادة من النص لا تتغير فلا يترك النص أصلاً، وأنه لا يتصور تعارض بينهما فضلاً عن أن يترك النص بها... » (147) ثم استدل على إثبات مراده هنا بأن هذا هو مذهب الصحابة وذكر لذلك تطبيقات من فروعهم أراد بها إثبات هذه النسبة، واستدل بوقائع كثيرة وقرر مستنبطًا منها ما يلي: 1- «ولقد وجدنا أصحاب رسول الله يعارضون أمره بما يترتب عليه من ضرر يلحق المسلمين بسببه فيقرهم على ذلك صلى الله عليه وسلم . (148) 2- «أن من الأحكام ما يدور مع المصالح ويتبدل بتبدلها، ومن أنكر ذلك فقد خالف إجماع الصحابة» ويقصد إجماعهم على تغير الأحكام تبعًا لتغير المصالح (149). 3- قال عن عمر رضي الله عنه: «فقد منعهم – أي أهل الذمة من العمل – أي في الذبح للمسلمين- مع نص الكتاب على حل ذبائحهم» (150). ويقصد أن عمر أوقف العمل بنص الآية. ومع أنه يصف الصحابة بمعارضة الرسول صلى الله عليه وسلم.. إلا أنه يفسر مقصوده فيقول: «والذي نقصده هو إثبات أنهم – أي الصحابة- فعلوا شيئًا لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعًا لاقتضاء المصلحة ولا يليق بهم أ، يخالفوا فعل رسول الله إلا إذا علموا أن هذا مقصد الشريعة ففعلهم هذا عين الموافقة، ولكنا سميناه مخالفة في موطن محاجة الخصم الذي لم سلّم معنا هذا المبدأ «مبدأ التعليل وإن بعض الأحكام يتبع المصلحة لما أطلقنا لفظ المخالفة على شيء من فعلهم» (151). 5- «.. أن من تتبع أحوال الصحابة الذين هم القدوة في كل شيء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ير لواحد منهم في مجالس الاستشوار تمهيد أصل واستثارة معنى ثم بناء الواقعة عليه، ولكنهم يخوضون في وجوه الرأي من غير التفات إلى الأصول كانت أو لم تكن» . (152) وقد جاء كلامه هذا في معرض الرد على من اشترط إرجاع المصلحة إلى أصل معين ليشهد لها مبينًا أن هذا أمر مخترع لم ينقل عن أحد من الصحابة (153). 6- «.. ولكن الواقع الذي لا ينكر أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عملوا بالمصلحة في أبواب المعاملات وما يتعلق بالنظام الاجتماعي، وإن كانت في مقابلة النصوص، واشتهر ذلك عنهم في وقائع كثيرة وهم في ذلك لم يكونوا جناة على الشريعة. كيف وهم الذين أقامهم الله حرساً عليها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبعهم في ذلك التابعون وتابعوهم ثم الأئمة من ورائهم!». «فإن قيل إن ما وقع من ذلك لم يصح النص فيه عند الصحابي ولا الإمام،أو صح ولكنه رآه غير حتم، أو كان حتمًا ولكن المخالفة راجعة إلى وصف منفك، قلنا مجرد احتمالات ممكنة، وليس كل ما ورد من هذا النوع يمكن تخريجه على هذه الوجوه وتلك الدعوى لا تسلم إلا إذا صحبها استقراء وحصر لذلك، وهو لم يوجد بعد» (154). ويفهم المؤلف بعد ذلك كله أن المصلحة دليل كباقي الأدلة، فهو لا يتصور وجود مصلحة ملغية في هذا الباب «لأن المصلحة- كما يقول هو- إذا ثبت كونها دليلاً شرعيا في الجملة- كما سنثبته بالأدلة في البحث الآتي – كانت كباقي الأدلة الأخرى، في أن مجرد المعارضة لا يسوغ تسمية الدليل بالملغي..» (155). وحاصل ما في هذه النصوص أن المؤلف يقرر الآتي: أولاً : أن الصحابة عللوا الأحكام وعملوا بالمصلحة والحكمة ولم يسيروا وراء الأوصاف الظاهرة، وكانوا يخوضون في وجوه الرأي من غير التفات إلى الأصول كانت أو لم تكن، مع اضطراب في تقرير هذه القضية عنده ستأتي الإشارة إليه. ثانياً : أن الصحابة عملوا بالمصلحة في أبواب المعاملات، وما يتعلق بالنظام الاجتماعي وإن كانت في مقابلة النصوص، وهذا يدل على أن المصلحة دليل كباقي الأدلة الأخرى. ثالثاً : أن من المصالح ما يتغير بتغير الزمان؛ ولذلك فإن الصحابة بدلوا بعض الأحكام لتبدل الزمان والمصالح، وتارة يقول: أن هذا التبديل إنما هو في التطبيق، ويستدل على ذلك بوقائع متفرقة، ويرى مخالفة النص بهذه المصلحة لأنه قد ثبت حجية المصلحة كدليل شرعي بمجموع نصوص. رابعاً : يعتبر هذا المنهج- الذي فهمه من تلك التطبيقات- هو المنهج الحق وأن الأصوليين حادوا عنه، واشترطوا شروطًا لم يثبت عليها دليل. ومما تنبغي الإشارة إليه أن الاعتماد على تصوير هذا المذهب من هذا الكتاب خاصة سببه أن هذا الكتاب يعتبر عمدة في الانتصار لهذا الرأي، ومنه يغترف أولئك الباحثون الذين جاءوا من بعده، وستكون المناقشة في المطلب الثالث والرابع والخامس والسادس والسابع والثامن حسب الترتيب الآتي (156) والله المستعان. المطلب الثالث : مناقشة القول بأن الصحابة عملوا بالمصلحة والحكمة ولم يسيروا وراء الأوصاف الظاهرة، بل اتبعوا وجوه الرأي من غير التفات إلى الأصول، وأنهم منعوا العمل ببعض الأحكام، وخالفوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث غيروا بعض الأحكام لتغير المصالح واشتهر ذلك بينهم فكان إجماعاً: 1- منع عمر رضي الله عنه سهم المؤلفة قلوبهم: قال الدكتور مصطفى شلبي: «أحكام وردت مطلقة أو معللة بعلة فلما بحثوها وجدوا تلك العلل قد زالت، أو ما شرع له الحكم قد تغير، فغيروا الأحكام تبعًا لذلك.. من ذلك: حكم المؤلفة قلوبهم شرع الله إعطائهم من الزكاة وأعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من مال الله كثيراً، وقال في بعض المواضع: «إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي تأليفاً لقلبه». هؤلاء المؤلفة قلوبهم منهم من كان مسلماً ضعيف الإيمان، ومنهم من كان على دينه، أعطاهم ليقوي إيمان الأول، ويحبب الثاني في الإسلام، مضى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك، ثم حدث في زمن أبي بكر رضي الله عنه ما رواه الجصاص في تفسيره عن ابن سيرين عن عبيدة قال: جاء عيينة بن حصن والأقرع بن حابس إلى أبي بكر فقالا: يا خليفة رسول الله إن عندنا أرضًا سبخة ليس فيها كلأ ولا منفعة، فإن رأيت أن تعطيناها فأقطعها إياهما، وكتب لهما عليهما كتاباً فاشهد، وليس في القوم عمر، فانطلقا إلى عمر ليشهد لهما، فلما سمع عمر ما في الكتاب تناوله ثم تفل فيه فمحاه!، فتذمرا وقالا مقالة سيئة، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتألفكما، والإسلام يومئذ قليل، وإن الله قد أغنى الإسلام، اذهبا فاجهدا جهدكما. لا يرعى الله عليكما إن رعيتما...! فترك أبو بكر الإنكار عليه» (157) . قال الدكتور: «وهذا دليل على أن من الأحكام ما يدور مع المصالح ويتبدل بتبدلها، ومن أنكر ذلك فقد خالف إجماع الصحابة الذي كثيراً ما يحتج به، وقد اعترف بكون إجماعهم حجة كل من قال بحجية الإجماع. مناقشته: نسلم أن إجماع الصحابة حجة، ونخالف في تفسير النص المنقول عن عمر بهذا التفسير، والاستنتاج السابق من المستدل غير صحيح. والدليل على ذلك أن الآية الواردة في المؤلفة قلوبهم والتي أمرت بإعطائهم تتضمن حكمين في آن واحد وهما: الأول : أن المؤلفة قلوبهم يعطون من بيت المال. الثاني : وهو ضده أن غير المؤلفة قلوبهم لا يعطون. فعاد الأمر إلى تحديد من هم المؤلفة؟.. والمؤلفة: هم أولئك الذين يكون الإسلام بحاجة إليهم لأنهم زعماء في قومهم فإذا أسلموا أسلم من ورائهم مثل عيينة بن حصن والأقرع بن حابس، فقد كانا من زعماء تميم فإذا أسلم أمثال هؤلاء تقوَّى الإسلام بمن ورائهم. ولعلة يدخل في هذا المعنى ما أشار إليه المستدل من أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعطي الرجل وغيره أحب إليه منه حتى لا يضعف أويفتن وَيَكِلُ الآخرين إلى إيمانهم. فالأول من معنى التأليف لتقوية الإسلام.. والثاني من معنى التأليف لمنع الفتنة أو الضعف. وإذا وقفنا عند القصة المذكورة نجد أن التأليف لتقوية الإسلام غير متحقق، فالإسلام حينئذ كثير، وهذا معنى قول عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتألفكما والإسلام يومئذ قليل، أما أنتما اليوم فتريدان أن نتألفكما والإسلام كثير، فأنتما لستما من المؤلفة قلوبهم اليوم وإن كنتم منهم من قبل، وهذا من عمر هو الفقه، وهو ما يسميه الأصوليون «بتحقيق المناط»(158). فإذا أراد الفقيه أن يطبق النص على حادثة حقق مناطها سواء أكان الفقيه صحابيًا أو غير صحابي، فإذا وجد أنها تدخل في حكم النص أعطاها حكمه، وإلا منعها من الدخول تحته، وهذا ما فعله عمر رضي الله عنه. فقد حقق في شأن الرجلين، وشأن الإسلام فعلم أنهما ليسا من المؤلفة قلوبهم، فمنعهم من الدخول تحت الآية ولم يعطهم.. والنص الوارد في القرآن هو هو لم يُبَدل ولم يغير، فمن أعطى المؤلفة قلوبهم كما فعل رسول الله، أو ظنهم مؤلفة كما فعل أبو بكر فقد أعمل الآية. ومن منعهم لأنهم غير مؤلفة فقد أعمل الآية، ولا تغيير ولا تبديل. ومناط الآية ثابت إلى يوم القيامة، وهو: إعطاء المؤلفة قلوبهم ومنع غير المؤلفة، والتطبيق بحسب الواقعة والحال، فأين التبديل والتغيير للحكم؟ بل أين الإجماع على ذلك؟ فهذا المثال لا يثبت من دعوى المؤلف شيئاً، وهو مثال يكثر الباحثون من استعماله على الدعوى نفسها.. وأضرب مثالاً آخر يوضح المقصود ولا أحد يخالف فيه إن شاء الله، فأقول: لو أن إنسانًا وقف مالاً على الفقراء من طلبة العلم في مسجد معين وجعل لكل منهم قسمًا محددًا، ثم إن الناظر أعطى الفقراء ومنع غير الفقراء فهل يعتبر تغيرًا لشرط الواقف ومطلبه؟ كلا. ثم لو أن بعض هؤلاء الفقراء أصبح غنياً فارتفع عنه وصف الفقر، فلم يعطه الناظر شيئاً هل يعتبر قد غير من شرط الواقف أو مطلبه شيئاً؟ كلا. ثم إن هؤلاء الذين ارتفع وصف الفقر عنهم، لو أنه عاد لهم، ثم عاد الناظر فأعطاهم أفلا يكون ذلك عملاً بشرط الواقف وقصده؟ إن عمل عمر رضي الله عنه لا يعدو هذه الصورة، ولم يغير ولم يبدل. إذا عُلم ذلك فلا يجوز لمسلم أن يقول أن عمراً أوقف حكم الآية، ولا أنه ألغاه فالحكم هو الحكم، وعمر هو عمر الوقاف عند كتاب الله رضي الله عنه وأرضاه.. 2- استدل على دعوى تغير الأحكام بتغير الزمان فقال:« مثال آخر: أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء الخروج إلى المساجد للصلاة كما رواه أبو داود بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، ولكن ليخرجن وهن تفلات» (159) . هذا ما كان في زمن رسول الله، ثم حدث بعد ذلك أن تغيرت حالة النساء وأحدثن ما لم يكن في عصر النبوة، حتى قالت عائشة رضي الله عنها ما رواه أبو داود: «لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما أحدث النساء لمنعهن المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل» قال: «فقد رأت أن ما حدث يقتضي تغير الحكم السابق، حينما كان الصلاح عاماً والقلوب عامرة بالإيمان، ولم يوجد الدخل في بعض النفوس فلو استمر الحكم مع تغير الحال لأدي إلى مفسدة عظيمة تزيد على ما يجلبه الخروج من المصلحة من تعليم الدين وإدراك فضل الجماعة.. ثم ذكر محاورة بين عبد الله بن عمر وابن له رواها أبو داود: قال ابن عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ائذنوا للنساء إلى المساجد بالليل» فقال ابن له والله لا نأذن لهن فيتخذنه دغلاً والله لا نأذن لهن!! فسبه وغضب، وقال: «أقول قال رسول الله: ائذنوا لهن وتقول: لا تأذن لهن» (160). قال المؤلف:« ولا غرابة في موقف ابن عمر هذا فذلك موقفه غالبًا إزاء النصوص فلم يكن من أهل المعاني عكس والده رضي الله عنه، وذاك ابنه قد سلك مسلك جده من اعتبار المعاني التي شرعت لها الأحكام، فيشرح لوالده السبب مع قسمه بالله، فهل ترى أنه يقسم مرتين وهو يسمع قول رسول الله ويرى غضب والده عليه وسبه له من أجل المخالفة من غير فائدة؟ لا شيء إلا أنه دين الله والمحافظة عليه بدفع المفاسد عنه. فماذا يقول نفاة التعليل في هذا الموقف؟ لعلهم يتعلقون بأذيال ابن عمر!!! ويقولون مقالته، وقد رأوا فساد الأخلاق عم كل مكان وتهتك النساء فاق كل حد وتنطع الشبان بلغ الغاية» (161) .. مناقشته: نسلم مع المؤلف الرد على نفاة التعليل ونعمل بالقياس والمصلحة التي شهد الشرع لها، ونسلم معه السعي للمحافظة على دين الله بدفع المفاسد عنه، ونخالفه في تحديد الطريق الذي يوصل إلى ذلك، وبيانه: 1- أن درء المفاسد مطلب شرعي وذلك للمحافظة على الدين، ولكن من أين نعلم أن هذا مفسدة؟ والجواب: من الشارع لأنه كما تقدم لا يستقل العقل بدرك المصلحة والمفسدة، فإذا قلنا هذا مفسدة فلابد من شهادة الشرع لما نقول، وكذلك إذا قلنا أنه مصلحة. 2- موقف ابن عبد الله عمر يدل على أن الخروج إذا ترتب عليه مفسدة يمنع، وهذا لم يدركه بالعقل، بل شهد له الشرع. وهذه الشهادة موجودة في النص نفسه، ألا ترى إلى اشتراط رسول الله صلى الله عليه وسلم - لعدم منع النساء من الخروج- خروجهن غير متزينات حيث قال: «ولكن ليخرجن تفلات». فإذا لم يتحقق الشرط وهو الخروج تفلات لا يؤذن لهن لأنهم لم يلتزمن به. فمن منع من الخروج علم أن الخروج غير تفلات مفسدة بالنص.. فالقول إذا بأن هذا مفسدة ليس اعتمادًا على العقل وإنما هو بشهادة الشرع.. فلا يقال: « فقد رأيت أن ما حدث يقتضي تغير الحكم السابق»؛ لأن الحكم السابق هو: عدم جواز منع النساء من الخروج إلى المساجد إذا خرجن تفلات وأما إذا لم يخرجن كذلك فقد تركن العمل بالشرط الذي يجيز الخروج لهن فيمنعن، وهذا حكم ثابت لم يتغير ولن يتغير إلى يوم القيامة.. بقي تحقيق المناط هل هذه المرأة تفلة فتخرج أو غير تفلة فلا تخرج.. وهذا وإن تغير فليس هو الحكم.. وإذا تبين هذا سقطت دعوى المؤلف وغيره ممن يعتمد على هذه الآثار في القول بتغير الأحكام بتغير الزمان.. بقي أن نشير هنا إلى خطأ المؤلف في تصويره لمذهب ابن عمر رضي الله عنهما حيث قال: «فماذا يقول نفاة التعليل في هذا الموقف، لعلهم يتعلقون بأذيال ابن عمر ويقولون مقالته» وهذا الكلام لا ينبغي أن يقال في حق أحد من الصحابة، بل الواجب على كل مسلم التأدب معهم. ومع أن نفاة التعليل لا يملكون هذا فإن ابن عمر ليس ممن لا يتبع المعاني، حاصل ما في الأمر أنه شديد الحرص على المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى في مواطن صلاته في سفره ونحو ذلك. أما أنه معروف بأنه «لم يكن من أهل المعاني» فهذا ليس في النص المذكور دليلاً على ذلك.. ويدل على ذلك أن الصحابة يعملون بقاعدة سد الذرائع.. قال أستاذي الدكتور حسين حامد في كتابه نظرية المصلحة تعليقاً على محاورة ابن عمر لأبيه: «وهذا لا يفسر خلاف الصحابة حول قاعدة الذرائع، فإن أحدًا لا يقول بأن الشارع إذا نهى عن مفسدة فإنه يبيح لعباده الطرق والأسباب والذرائع الموصلة إليها، وإلا كان ذلك تناقضًا، وكان مؤديًا إلى مخالفة مقصود الشارع من دفع المفاسد ما أمكن الدفع، وسد كل طرق الشر ومسالكه، ولكنه يفسر الخلاف- والله أعلم- في تحقيق مناط هذه القاعدة، فبينما ترى عائشة وابن ابن عمر أن الزمن قد تغير، وأن الدين قد ضعف سلطانه على النفوس وأن الخروج إلى المساجد بالليل يتخذ ذريعة إلى المفاسد غالبًا، ولذلك يجب أن يمنع محافظة على قصد الشارع الذي عرف من نصوصه، يرى ابن عمر أن العصر الذي يعيش فيه لا زال عصر طهر وعفاف، وأن حصول مفسدة من خروج النساء نادر أو في حكم المعدوم، وأن في شهود النساء المساجد والجماعات مصالح محققة لا تترك لمفاسد معدومة، ولا يمكن القول بأن ابن عمر يجيز خروج النساء إلى المساجد بالليل، وإن كثر حدوث الفسق وغلب وقوع الفاحشة ممن يتذرعن بهذا الخروج إلى أغراضهن الخبيثة، فإن الشارع لا يرضي بالفاحشة ولا يفتح الطرق إلى الفسق قط.. فالخلاف في تحقيق مناط القاعدة وتطبيقها على الجزيئات (162).. فابن عمر رضي الله عنهما من اتباع المعاني والمحافظين على نصوص الشرع ومقاصده. ثم إن اتباع الصحابة رضي الله عنهم أمثال ابن عمر وغيره والتمسك بآثارهم ليس فيه ما يدعو للعجب، فهم أولى بالا تباع لأن الحق لا يخرج عنهم، وكل واحد منهم لنا فيه قدوة. وأما موقف ابن عمر مع ابنه فهو الحق في بيان أدب التربية والتعليم، فإن طالب الحق مجتهداً أو غير مجتهد إذا تبين له نص أو معنى شرعي يوجب تخصيص نص آخر أو تقييده لا يجيز له ذلك أن يقسم ويصرح بالمخالفة.. بل عليه أن يبين أن ذلك النص قد خصصه أو قيده أو نسخه نص آخر، فإنكار ابن عمر في موضعه فكيف يقال لأحد أن رسول الله أمر أو نهي أو أذن، فيقول لا آذن والله، بل الحق أن يقول أن هذا الإذن له شروط مذكورة في موضع آخر ثم يستكمل الاستدلال هذا بالنسبة لبيان وجهة ابن عمر.. أما ابنه رضي الله عنه فإنما أخذته الغيرة الشديدة على الدين كما قال ابن حجر (163) فحملته على أمر غيره أولى منه وأسلم – والله أعلم. 3- حد الخمر: قال مستدلاً على أن الأحكام تتبدل بتبدل المصالح: «حرم الشارع الخمر وبين ما فيها من مفاسد، وما يعقب اجتنابها من مصالح كما سبق بيانه، ولكن ليس كل النفوس تتمثل خوفًا من عقاب أخروي أو رغبة في ثواب كذلك بل منها من لا يزجره إلا أن يرى العذاب رأي العين، فشرع الشارع الحكيم لمن يشرب الخمر فأمر بضربه، كما رواه أبو داود بسند عن أبي هريرة رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب فقال: «اضربوه» قال أبو هريرة فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقولوا هكذا لا تعينوا عليه الشيطان». وفي بعض الروايات تقدير ذلك بأربعين، وفي بعضها: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حثا في وجهه التراب»، وفي بعضها بعد الضرب قال لهم «بكتوه» (164). وروى البيهقي بسنده إلى عكرمة عن ابن عباس: «أن الشُرَّاب كانوا يضربون على عهد رسول الله بالأيدي والنعال والعصي. قال وكانوا في خلافة أبي بكر رضي الله عنه أكثر منهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: لو فرضنا لهم هذا فتوخى نحو مما كانوا يضربون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أبو بكر رضي الله عنه يجلدهم أربعين حتى توفي، ثم كان عمر رضي الله عنه فجلدهم أربعين إلى أن قال: ثم كثروا فشار فقالوا: ثمانين» (165) . والمشاورة رواها البيهقي أيضًا بسنده إلى الزهري قال: «.. أخبرني حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة الكلبي قال: «أرسلني خالد بن الوليد إلى عمر رضي الله عنه فأتيته ومعه عثمان وعبد الرحمن بن عوف وعلي وطلحة والزبير رضي الله عنهم وهم معه متكئون في المسجد، فقلت: إن خالد بن الوليد أرسلني إليك وهو يقرأ عليك السلام ويقول: إن الناس قد انهمكوا في الخمر وتحاقروا العقوبة فيه، فقال عمر رضي الله عنه: هم هؤلاء عندك فاسألهم فقال علي: تراه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى وعلى المفتري ثمانون، فقال عمر: بلغ صاحبك ما قالوا» (166) . ثم قال المؤلف تعليقاً على هذه النصوص: «والذي نقصده هو إثبات أنهم فعلوا شيئاً لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعاً لاقتضاء المصلحة، ولا يليق أن يخالفوا فعل رسول الله إلا إذا علموا أن هذا مقصد الشريعة ففعلهم هذا عين الموافقة، ولكنا سميناها مخالفة في موطن محاجة الخصم الذي لو سلم معنا هذا المبدأ «مبدأ التعليل وأن بعض الأحكام يتبع المصلحة لما أطلقنا لفظ المخالفة على شئ من فعلهم» (167) . المناقشة: أولاً: إذا كان المؤلف يريد في كتابه «تعليل الأحكام» إثبات تعليل الأحكام فذلك مسلم، بل هو مذهب أكثر أهل السنة ما عدا نفاة القياس (168). ثانياً : أما إذا كان يريد أن يثبت أن بعض الأحكام يتبع المصلحة، وأن هذه الأحكام تتبدل بتبدل الزمان، وأن هذا إجماع الصحابة فهذا غير مسلم، وقد مر بيان أن ما استدل به سابقًا لا يدل له البتة. أما استدلاله بهذا المثال فلا يدل له على دعواه، وبيان ذلك أن هذه المسألة وإن كان سندها العمل بالمصلحة، إلا أنها ترجع إلى أصل كلي، وهذه شهادة من الشارع لها بالاعتبار، ولنتعرف الآن على الأصل الكلي وعلى المصلحة المعتبرة هنا، والأصل الكلي- كما مر بيانه- هو أن الشارع اعتبر المظنة في الأحكام أصلاً شرعياً كليًا، والدليل عليه الاستقراء، فتأخذ المظنة حكم المظنون (169) . ويبقى النظر بعد ذلك في دخول مسألة «حد الشرب» تحت هذا الأصل فقد تشاور الصحابة فعلموا أن الشرب مظنة القذف فأعطوه حكمه فقال علي- والصحابة له موافقون:«تراه إذا سكر هذى وإذا هذي افترى، وعلى المفتري ثمانون، فقال عمر بلغ صاحبك». فهي مسألة كان لها حد مقدر في الشرع، وإنما كان يطبق الحد المقدر الذي يتم به الردع والزجر، وورد في بعض الأحاديث أن الصحابة حرزوه أربعين لما سألهم أبو بكر رضي الله عنه عن ضرب النبي صلى الله عليه وسلم(170) ، ثم ضرب هو أربعين، ثم اجتمع الصحابة وتشاوروا واعتمدوا في ذلك على المصلحة الشرعية التي شهد الشرع لجنسها، فجعلوه ثمانين كحد القذف؛ لأن المظنة تأخذ حكم المظنون.. فأين اتباع مجرد المصلحة؟ وأين تغير الحكم؟ وليس في النص مخالفة لفعل رسول الله ولا لقوله، ولا يجوز تسميته مخالفة لا في موضع الحِجَاج ولا في غيره.. ومن الأسباب التي حملت المؤلف على الدخول في هذه الإطلاقات هو أنه يقارن بين طرفين: الأول القول بإثبات التعليل، والثاني القول بنفيه، وينتصر للطرف الأول دون أن يلتزم بشروطه، فإن مثبتي التعليل من أهل السنة لا يتبعون مجرد المصلحة، وإنما يشترطون أن تكون هذه المصلحة التي يجب اتباعها مصلحة لم يشهد الشارع بردها، فلابد أن تعرض عليه فينظر فيها أيقبلها أم لا؟ فهم يعللون الأحكام ويعتبرون النظير بالنظير، ويعملون بالمصالح المرسلة، وهم مجمعون بعد ذلك على رد كل مصلحة لا يقبلها الشرع. والمؤلف غفل عن هذا وانتصر لمبدأ التعليل، وأدخل معه- شعر أم لم يشعر بخطورة ذلك- قوله «وإن بعض الحكام يتبع المصلحة». والواجب أن يقيدها بالقيد الذي اتفق عليه القائلون بالتعليل، أما أن يطلقها هكذا من غير قيد ثم يرتب على ذلك أن بعض الحكام تتغير بتغير الزمان، وأن الصحابة كانوا يبدلون هذه الأحكام وأنهم مجمعون على ذلك، فذلك أمر لم يثبته بعد، ولا يمكن لأحد أن يثبته لوضوح بطلانه وفساده. 4- حد السارق: «يروي لنا مالك في الموطأ بسنده عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب «أن غُلمة لحاطب سرقوا ناقة لرجل من مزينة، فانتحروها فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب، فأمر عمر كثير بن الصلت أن يقطع أيديهم، ثم قال عمر أراك تجيعهم، ثم قال: والله لأغرمنك غرماً يشق عليك، ثم قال للمزني: كم ثمن ناقتك؟ فقال المزني: قد كنت والله أمنعها من أربعمائة درهم، فقال عمر: أعطه ثمانمائة درهم» (171) . «وقد روى ابن وهب هذا الأثر في موطئه مُفسَرا وفيه: فأمر كثير بن الصلت أن يقطع أيديهم ثم أرسل وراءه من يأتيه بهم فجاء بهم فقال لعبد الرحمن: «أما لولا أني أظنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى لو وجدوا ما حرم الله لأكلوه لقطعتهم، ولكن والله إذْ تركتهم لأغرمنك غرامة توجعك» (172). قال صاحب كتاب «تعليل الأحكام»: «فانظر إليه وقد ثبت على هؤلاء ما يوجب القطع، وبعد الأمر ينهى عن التنفيذ لما ظهر له ما يدفع الحد عنهم، وهو أنهم جاعوا فأخذوا مال الغير، وذلك لفهمه أن القطع عقاب للجاني من غير حاجة ولو كانت الأحكام كلها ومنها الحدود يتبع فيها النص المجرد لما ساغ له رضي الله عنه وهو من أعلم خلق الله بشرع الله أن يخالف قوله تعالى: ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) ومن أجل هذا المعنى نهى عن القطع عام المجاعة مع أن النص عام شامل لجميع الأوقات» (173) . المناقشة: اشترط الشارع لوجوب القطع شروطاً وهي: 1- أن يكون المسروق نصاباً. 2- أن يكون من حرز. 3- أن لا يكون فيه شبهة ملك. 4- أن لا يكون آخذه محتاجاً إليه لسد رمقه. فإذا تحققت هذه الشروط وجب الحد، وإذا تخلف أحدها لم يجب (174) . وعلى كل شرط من هذه الشروط دليل شرعي، فأما شرط النصاب والحرز فظاهر، وأما شرط انعدام شبهة الملك والحاجة إليه لسد رمقه فلأن من أخذ مالاً له فيه شبهة ملك لا يعتبر سارقاً لمال غيره، وكذلك من أخذ ما يحتاج إليه لسد رمقه إنما أخذ مالاً له فيه حق، كما سرق غلمان حاطب بن أبي بلتعة وقد كان عمر يظن أنه يجيعهم فلذلك امتنع عمر عن قطعهم لوجود هذه الشبهة (175). فإذًا الحد الذي أوقفه عمر رضي الله عنه إنما أوقفه لعدم تحقق شروطه التي اشترطها الشارع، بل إن عمر لا يستطيع أن ينفذ الحد الذي لم تحقق شروط تنفيذها لأن في ذلك مخالفة للشارع. فالعموم في آية السرقة لا يصلح وحده لتطبيق الحد بل هناك شروط وردت في السنة لابد من اعتبارها، ومن اعتبرها- كما هو صنيع عمر – لا يقال له أنه خالف الآية. وأيضًا فإن عدم القطع ليس سببه تعلق عمر بمطلق مصلحة أو دفع مطلق مفسدة أو اتباعًا لحكم العقل، بل سببه مراعاة نصوص أخرى وردت في السنة. وأما قول صاحب تعليل الأحكام: « لو كانت الأحكام كلها ومنها الحدود يتبع فيها النص المجرد لما ساغ له رضي الله عنه، وهو من أعلم خلق الله بشرع الله أن يخالف قوله تعالى:{ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ومن أجل هذا المعنى نهى عن القطع عام المجاعة مع أن النص عام شامل لجميع الأوقات» (176) . فيلاحظ عليه أمران : الأول : إن كان مقصوده بالنص المجرد النص بدون النظر إلى معناه، فليس ما نحن فيه من هذا القبيل، ذلك لأن النصوص التي وردت في حد السرقة منها ما هو عام كالآية ومنها ما هو مخصص لهذا العموم. فإذا كانت الآية توجب قطع كل سارق سواء سرق من حرز أو من غير حرز أو سرق نصابًا أو دونه أو تحققت شبهة بسبب ملك أو مجاعة، فإن السنة خصصت هذا العموم فلا يقطع إلا من سرق نصابًا من حرز مثله بلا شبهة. فتبين بعدئذ أن النص الوارد في القرآن مخصوص لم يأت لجميع الأوقات، بل يستثني منه وقت المجاعة لورود نص آخر يمنع القطع عند تحقق الشبهة. فيصبح أن يقال أن تطبيق الحدود يتبع فيها النصوص بعد الجمع بينهما والنظر فيها، ومن فعل ذلك فقد وافق القرآن والسنة كما فعل عمر رضي الله عنه (177) . وأما عبارة المؤلف بأن الحدود لا يُتبع فيها النص المجرد وأن عمر خالف الآية فلا وجه لها. والله أعلم. الثاني : أن الحكم: وهو وجوب القطع لمن سرق نصابًا من حرز مثله بلا شبهة ثابت إلى يوم القيامة، وأما تحقيق مناطه وهو تطبيقه، فبحسب الحادثة الواقعة فإذا سرق غلمان ناقة بلا شبهة كاضطرار لسد الرمق قطعوا، وإذا سرقوا كما سرق غلمان حاطب لم يقطعوا لتلحق الشبهة، والحكم ثابت مع ذلك لا يتغير. 5- استدل على قوله بأن من الحكام ما يتبع المصلحة ويتبدل بتبدلها بأن:«أصحاب رسول الله يعارضون أمره بما يترتب عليه من ضرر يلحق المسلمين بسببه فيقرهم على ذلك صلى الله عليه وسلم، من هذا ما رواه البخاري بسنده عن يزيد بن أبي عبيد مولى سلمة بن الأكوع عن سلمة رضي الله عنه قال: خفت أزواد القوم وأملقوا (178) فأتوا النبي في نحر إبلهم فأذن لهم، فلقيهم عمر رضي الله عنه فأخبروه: فقال: يا رسول الله ما بقاؤهم بعد إبلهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ناد في الناس يأتون بفضل أزوادهم، فبسط لذلك نطع وجعلوه على النطع فقام رسول الله فدعا وبرك عليه ثم دعاهم بأوعيتهم، فاحتسى الناس حتى فرغوا ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله» (179) . فقد عارض عمر إذن رسول الله بالنحر بالمصلحة وأقره الرسول على ذلك (180) . مناقشته : إن هذا النص الذي استدل به على جواز معارضة حكم الشرع بالمصلحة مثل النصوص السابقة لا تدل على شئ من ذلك. وقد ادعى الدكتور شلبي هنا دعوى عريضة لا برهان عليها وهي قوله: «ولقد وجدنا أصحاب رسول الله يعارضون أمره...» مع أن كل مسلم يعلم أنه ليس لأحد من المسلمين أن يعارض أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الله سبحانه وتعالى يقول: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ} (181) . ويقول سبحانه { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} . (182) وقوله تعالى:{ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . (183) وقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(184) ومعلوم أن الصحابة من أتبع الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم.. فكيف يقال إنا «وجدنا أصحاب رسول الله يعارضون أمره». وهذا المعلوم عن الصحابة من المحكم الذي لا يقبل الجدل.. وأما ما نقله فإنه في الحقيقة لا يعارضون ما قررته آنفا.. وحاصل ما في هذه الرواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذنه القوم في نحر إبلهم فأذن لهم في ذلك، ومثله ما علمناه من الشارع من الإذن في عمل المباحات، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم بعد ذلك أنهم إن نحروا إبلهم لم يبق لهم شيء بعدها فلم يأذن لهم وأمر الناس أن يتصدقوا عليهم، و«توالى المشي ربما أدى إلى الهلاك» (185) . وما فعله عمر إنما هو بيان لحقيقة المسألة، فلما ذكرها للرسول صلى الله عليه وسلم بين حكمها وأمر الناس بالصدقة، فأين المعارضة؟ ثم إننا قد علمنا من السنة في مواضع كثيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه ، فيببينون له حاجتهم واستفساراتهم ثم يجيب عليها حسب الواقعة، ثم إذا تجدد له علم بحقيقة الواقعة بين حكمها بحسب ما يتجدد على جواز المشورة على الإمام بالمصلحة وإن لم تتقدم منه الاستشارة (186). ألم تر إلى منزله صلى الله عليه وسلم في بدر حيث بين له بعض أصحابه أن هذا لا يصلح منزلاً لقتال القوم، فأمر رسول الله باتخاذ منزل آخر، ولم يكن في قول الحباب بن المنذر معارضة لرسول الله. وكذلك قصة تأبير النخل فإنه أمرهم أن لا يؤبروا النخل، لظنه أن ذلك لا ينفعه فلما عُلِم أن النخل لم يثمر فاشتكى له أصحابه أجاز لهم ذلك، وأخبرهم أنه لا يعلم بحقيقة الواقعة؛ حيث قال: «أنتم أعلم بأمور دنياكم»، وهذه الحوادث مشهورة معلومة.. وكذلك ما نحن فيه لم يعلم عليه الصلاة والسلام بأنهم إذا نحروا لإبلهم لا يبقى لهم شيء، فلما علم أمر لهم بالصدقة. وفي هذه الحادثة نفسها لو أن رسول الله أمر بذبح الإبل- بعد أن بين له عمر أنه لا يبقى لهم شئ- لما عارضه أحد من الصحابة، فكيف يتصور أحد أن في هذا معارضة.. ومن المعلوم أن المفتي قد يفهم الواقعة التي استفتي فيها على غير وجهها –أما لعدم العلم بحقيقتها أصلاً أو لعدم وضوحها- ثم يفتي فيها بحسب ما فهم فإذا بين له أن الواقعة ليست كذلك، بل هي كذا وكذا نظر في حكمها بهذا الاعتبار فكان لها حكم آخر، ولا يقال أن الحكم قد تغير.. ولا يقال أن البيان لحقيقة الواقعة معارضة.. والله أعلم. ولنأتي بمثال تطبيقي نرد به على القائلين بتقديم المصلحة على النص، وهو موقف عمر من أبي بكر في حرب الردة؛ حيث تظهر فيه مقابلة المجتهد النص بالمصلحة التي يحسبها شرعية.. ولننظر أيقبل ذلك منه أو لا؟ روى البخاري بسنده عن عبدالله بن عتبة أن أبا هريرة قال: لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر وكفر من كفر من العرب، قال عمر: يا أبا بكر كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله». قال أبو بكر:«والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها، فقال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت أن قد شرح الله صدر أبي بكر لقتال فعرفت أنه الحق» (187) . وقد سأل الناس أبا بكر في رد أسامة ليستعين به وبمن معه على قتال أهل الردة فأبى.. والذين سألوه ذلك إنما أرادوا العمل بالمصلحة، إذ المصلحة في الظاهر إبقاء الجيش ليقاتل مع المسلمين أهل الردة، بل إن عمر ظن أن المصلحة في ترك قتال أهل الردة، فلما بين لهم أبو بكر أن ما يرونه إنما هو مخالف لما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تركوا ما ظنوه مصلحة- وهم مجتهدون- وعملوا بما ورد في النص. وفي هذا دليل على أن المصلحة التي تعارض النص مردودة، وحتى وإن ظن المجتهد أنها مصلحة، وآية قبولها شهادة الشرع لها، فإذا لم يقبلها، فكيف يتصور أحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل من أحد معارضة النصوص بالمصلحة، التي يدعوا لها هؤلاء الكتاب! ولذلك لم يقبل أبو بكر من أحد شيئًا من ذلك حتى مع أنهم مجتهدون بل بين ووضح، قال الإمام الشَّاطـِبي:«ولما منعت العرب الزكاة عزم أبو بكر على قتالهم، فكلمه عمر في ذلك، فلم يلتفت إلى وجه المصلحة في ترك القتال، إذ وجد النص الشرعي المقتضي لخلافه، وسألوه في رد أسامة ليستعين به وبمن معه على قتال أهل الردة، فأبى لصحة الدليل عنده بمنع رد ما أنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم (188) فهذه القصة تصلح مثالاً لمقابلة المصلحة للنص، وفي النهاية تحمل دلالة قوية على أن المصلحة المقابلة للنص لا عبرة بها، حتى وإن كانت من كبار المجتهدين. وبعد هذا لا ينبغي لأحد أن يتصور أن المصلحة يمكن أن يعارض بها النص، وأن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعارض أمره- وهو يعلم- بالمصلحة فضلاً أن يقره رسول الله على ذلك، والله أعلم. ومن المفيد هنا أن نقول إن كل ما في جيل الصحابة رضي الله عنهم ورضوا عنه، موضع للقدوة المباركة، حتى اجتهادهم الذي يعلمون أنه بعد ذلك مخالف للصواب فيرجعون عنه، هو موضع قدوة، لأن فيه معنى الرجوع إلى الحق واطِّراح مجرد التفكير البشري، والصبر عن متابعة رغبات النفس وحظوظها. وما أشد حاجتنا اليوم إلى مثل هذه الأخلاق الإيمانية والمواقف العظيمة التي لا يتحقق الصدق في الدين إلا بها. 6- استدل المؤلف أيضاً على ما سبق- من قوله: إن من الأحكام ما يدور مع المصلحة ويتبدل بتبدلها وأن الصحابة مجمعون على ذبك بما روى أبو داود بسنده إلى جنادة بن أبي أمية قال:«كنا مع بسر بن أرطأة في البحر فأتي بسارق يقال له مصدر قد سرق بختية، فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تقطع الأيدي في السفر ولولا ذلك لقطعته» (189) . وفي رواية الترمذي والدارمي «في الغزو» بدل السفر» (190) . قال صاحب تعليل الأحكام:«هكذا ورد الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مجردًا من بيان سبب هذا النهي، فماذا فهم أصحابه فيه من بعده؟ أوقفوا عند النصوص وقصروا النهي على حد السرقة، وقالوا إن الشريعة نصوص تعبدنا الشارع بها، أم فهموا أن هذا النهي معلل بعلة قصد به دفع مفسدة عن الأمة أو جلب مصلحة لها؟» (191) . قال د. شلبي: «ولو تأملت هذه التعليلات في تلك الآثار لو جدت اختلافاً حسب اختلاف الأشخاص، فعمر وزيد رضي الله عنهما عللا بخوف اللحاق، وهذا يكون في الرجل العادي من الجيش، وأبو مسعود وحذيفة لم يعللا بذلك؛ لأن مثل أمير الجيش لا يلحق بالعدو عادة، بل يطمع العدو فيهم ويظهر ضعفهم أمامه إذا أقاموا عليه الحد، وإن كان الكل يلتقي عند شئ واحد وهو لحوق الضرر بسبب ذلك الفعل... وهذا التعليل لم يخالف نصًا ولا قياسًا ولا إجماعًا، وليس فيه إلا تأخير الحد لمصلحة راجحة، أما من حاجة المسلمين إليه أومن خِيف ارتداده ولحوقه بالكفار، ومثل هذا التأخير لعارض أمر وردت به الشريعة، كما يؤخر الحد عن الحامل والمرضع وعن وقت الحر والبرد والمرض، وهو لمصلحة المحدود خاصة، فما بالك بما هو لمصلحة الإسلام عامة؟ فهذا النوع ورد الحكم فيه غير معلل فعللوه بما يترتب على الفعل من ضرر» (192) . مناقشته: أُسَلِّم للمؤلف ما ذكره من هذه الروايات، وأخالفه في النتيجة التي رتبها على ذلك.. وبيان ذلك: أن المسألة الفقهية وهي «أن الحدود لا تقام في أرض العدو، منقولة عن الصحابة، وهو مذهب الأوزاعي وإسحاق وأحمد، وقال الشافعي يؤخره حتى يأتي الإمام لأن إقامة الحد إليه (193) واستدل من قال بالتأخير بالأدلة التي سبق ذكرها وهي حجة لهم (194) ، وهو الصحيح.. وبقي أن نتعرف على سند هذه المسألة هل هو المصلحة المجردة؟ وهل يؤدي القول بأن الحدود لا تقام في أرض العدو إلى تغير الحكم الذي دل عليه النص الشرعي وهو وجوب إقامة الحدود؟ والجواب أن سند هذه المسألة هو القاعدة المعروفة بقاعدة « سد الذرائع » وهي قاعدة عمل الصحابة والسلف الصالح بها، قال الإمام الشَّاطـِبي : « أن قاعدة الذرائع إنما عمل السلف بها بناء على هذا المعنى، كعملهم في ترك الأضحية مع القدرة عليها،وكإتمام عثمان الصلاة في حجة بالناس، وتسليم الصحابة له في عذره الذي اعتذر به من سد الذريعة (195) إلى غير ذلك من أفرادها التي عملوا بها، مع أن المنصوص فيها إنما هو أمور خاصة كقوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا } (196). وقوله: { وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ} (197) وفي الحديث: «إن من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه» (198) وأشباه ذلك وهي أمور خاصة لا تتلافى مع ما حكموا به إلا في سد الذريعة» (199) . وهذه القاعدة لها في الشريعة أدلة كثيرة وقد أحصى منها الإمام ابن القيم في كتابه أعلام الموقعين تسعة وتسعين وهي تدل على أن وجوب سد الذريعة قاعدة من القواعد الشرعية قال: «وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف» (200) . والاستقراء كما عبر عنه الشَّاطـِبي هو: «استقراء مواقع المعنى حتى يحصل منه في الذهن أمر كلي عام، فيجري في الحكم مجرى العموم المستفاد من الصيغ» (201) . ومن فوائد هذه القاعدة البناء والتفريغ، ذلك أنها تتضمن معنى - وهو السد – وقد استقرأت الأدلة من الكتاب والسنة فأفادت اعتبار الشارع له، بحيث لم يعد المجتهد يحتاج إلى دليل خاص إذا أراد أن يحكم على نازلة خاصة، بل يدخلها تحت عموم المعنى... يقول الإمام الشَّاطـِبي: «ولهذه المسألة فوائد تنبي عليها أصلية وفرعية، وذلك أنه إذا تقررت عند المجتهد ثم استقرئ معنى عامًا من أدلة خاصة واطرد له ذلك المعنى لم يفتقر بعد ذلك إلى دليل خاص على خصوص نازلة تَعِنُ، بل يحكم عليها وإن كانت خاصة، بالدخول تحت عموم المعنى المستقرئ من غير اعتبار بقياس أو غيره، إذا صار ما استقرئ من عموم المعنى كالمنصوص بصيغة عامة، فكيف يحتاج مع ذلك إلى صيغة خاصة بمطلوبه » (202) . وقرر الإمام الشَّاطـِبي على هذا أن الإمام الشافعي والإمام أبا حنيفة يعتبران سد الذريعة، وما وقع الخلاف فيه من المسائل الجزئية لا يدل على عدم اعتبار هذه القاعدة عندهم، بل امتنع دخول بعض المسائل تحتها لوجود عارض يمنع من ذلك (203) ، وهذا ما قرره الدكتور حسين حامد حسان في كتابه نظرية المصلحة؛ حيث استند على أدلة كثيرة في بيان أن الشافعي وأبا حنيفة وأحمد يسدون الذريعة فقال: «والخلاصة أن قاعدة الذرائع قاعدة متفق عليها بين الأئمة» (204) .. فإذا انضاف إلى ذلك عمل السلف بها من الصحابة ومن بعدهم تقرر عند المجتهد أن هذه القاعدة تدخل تحتها مفردات كثيرة ومن هذه المفردات مسألتنا هذه وهي منع إقامة الحدود في أرض العدو، وهذا من تطبيقات سد الذرائع فهو في الأصل فعل مأذون فيه، بل يجب تطبيق الحدود إذا تحققت الشروط الشرعية، ومنع تطبيق الحدود في الغزو سدًا للذريعة الفساد، وهذا الفساد متحقق إما في لحوق المحدود بالعدو، وإما بطمع الأعداء في المسلمين إن كان المحدود أميراً فيهم (205) . فرجوع هذه المسألة إلى قاعدة سد الذرائع المعمول بها عند الصحابة والتابعين والأئمة هو السند الحقيقي لها. ولا تفتقر بعد ذلك إلى نص خاص ولا قياس ولا إجماع.. فمنع إقامة الحدود في أرض العدو ليس مستنداً إلى مصلحة مجردة، وليس مؤدياً إلى تغير الحكم الذي جاءت به النصوص وهو حكم ثابت لا يتغير، ومن شروط تطبيقه أن تنتفي الشبهة كما مر سابقًا، وأن تؤخر الحامل والمرضع ولا يكون الوقت شديد الحر أو شديد البرد، وأن يكون في أرض العدو.. وهذه المسائل والتقسيمات ثابتة ومنها ما شهد له نص خاص، ومنها ما شهدت له قاعدة سد الذرائع وهكذا.. فلا يقال إن عدم تطبيق الحدود في المجاعة تغير للحكم، وأن الصحابة بدلوا بعض الأحكام وغيروها، ولا أن عدم تطبيق الحدود في الغزو اتبع فيه التعليل الذي أدى إلى تغير الحكم وتبديله، بل هذه المسائل إنما اتبع فيها النص الخاص كما في الأول، وقاعدة الذرائع كما في الثاني، ولا وجه لقول المؤلف وهو يستدل بمثل هذه الوقائع، أن من الأحكام ما يتبع المصلحة ويتبدل بتبدلها، وأن ذلك هو فعل الصحابة فكان إجماعاً. وبعد : فقد تبين لنا من عرض هذه الأمثلة عند المؤلف أنها لا تدل له على ما ذهب إليه، وأنه لم يفرق بين تنقيح المناط، وبين تحقيق المناط الذي هو نظر المجتهد في الواقعة.. ومثال الأول قول الشارع: «كل مسكر حرام»، ومثال الثاني قولنا: هذا الشراب مسكر. فإذا نظر الفقيه في شرابٍ ما فعلم أنه مسكر ثم طبق عليه حكم الشارع، فعمله هذا يسمى «تحقيق المناط»، وهذا يمكن أن يتغير بحسب ثبات الحالة التي أمامه، فإذا استقر الشراب على حالته الأولى فكان مسكرًا أفتى الفقيه بالحرمة، وإذا تغير فزال الإسكار عنه- كأن أصبحت الخمر خلاً- فأتى بجواز استعمالها، فإن هذا لا يعد تغيراً في حكم الخمر وهو التحريم، بل هو حكم ثابت. ومثل ذلك موقف عمر من المؤلفة فإنه إنما حقق مناط المسألة، ولم يغير الحكم وهو وجوب إعطائهم، ولم يمنع العمل بالآية (206) . وكذلك مسألة تطبيق الحدود فإنه مشروط بشرط فإذا لم تتحقق فلا تطبق، وليس ذلك لوجوب إقامة الحد. ومثل ذلك منع خروج النساء إلى المساجد.. وأما مسألة حد الخمر فإنما اتبع الصحابة فيها المصلحة التي شهد لها أصل كلي، ولم يتبعوا فيها مجرد المصلحة، ولم يغيروا بها شيئاً، وكما أن هذه المسألة سندها المصلحة التي شهد لها الشارع، فإن سد الذريعة هي سند الصحابة في منع حد السكر ونحوه في الغزو. وهكذا فقي مسألة قصر عثمان رضي الله عنه الصلاة في الحج وترك الأضحية فإنها من باب سد الذريعة، والمؤلف لم يشر إلى هذا، وكأن الصحابة يتصرفون في الأدلة بغير ضابط شرعي (207).. المطلب الرابع : بيان موقف الصحابة رضوان الله عليهم من النصوص: إذا تقرر ذلك يحسن بي أن ألم بموقف الصحابة من النص، وهو معلوم عند العلماء المعتبرين، فإنهم لم يكونوا يتركون النص إلى رأي أو مجرد مصلحة، بل كانوا يتشاورون ويردون المسائل إلى النصوص.. فاستدلالهم لا يخرج عن العمل بالنص أو الحمل عليه، وإذا استنبطوا منه معنى واحتجوا به فلا يلزم من ذلك أن يصرحوا بالطريق الذي استنبطوه به، لكن المقطوع به أنهم لم يكونوا يستنبطون الأحكام بمجرد الرأي، وقد سبق ذكر إجماعهم على ذم الرأي الذي لا دليل عليه(208) . فقول صاحب تعليل الأحكام «ولكنهم يخوضون في وجوه الرأي من غير التفات إلى الأصول كانت أو لم تكن»مخالف للإجماع المنقول عنهم، إذ كيف يذم الرأي من لا يلتفت إلى الأصول أو لم تكن ويتبع «وجوه الرأى» على حد قول المؤلف! وبسبب إتباعه هذا الوهم المخالف للإجماع أخذ يطلق المصلحة من ضوابطها، ويحاول الاستدلال بها دون أن يقيدها بكونها مصلحة شرعية لا تعارض مقصود الشارع، ومقصوده يعرف من النص أو الإجماع. وبسبب هذا الوهم أيضًا نجد عباراته مضطربة فبينما هو ساع في تقرير مسلكه- الذي ليس له فيه وليّ إلا الطوفي (209) - تجده يضطرب أما سيل الحقائق العلمية التي تثبت أن المصلحة المعارضة للنص مردودة وملغاة، وأن ذلك هو منهج الصحابة والأئمة (210) . ومن المواضع التي اضطرب فيها: قوله: «... إن المصالح التي عمل السلف بها في مقابلة النصوص لم تبلغ رتبة الضرورة، وأن العمل بالمصلحة في مقابلة النص ليس تركاً للنص بالرأى في الواقع، وإنما ترك للنص بالنص بل بالنصوص الكثيرة..» (211) فهو هنا يقرر أن السلف لم يقدموا المصلحة على النص، وأنهم اعتبروا المصلحة التي شهدت لها نصوص كثيرة، فالمقابلة ليست بين مصلحة مجردة ونص، بل بين مجموعة نصوص ونص، ويستوي أن يكون هذا رأيًا للمؤلف، أو نقلاً عن السلف فإنه قد أقره كما هو ظاهر كلامه، ويحاول أن يجمع بين مذهب الصحابة ومذهب التابعين، فيقول:«... وبعد: فتلك طريقة هؤلاء الفقهاء السابقين في التعليل، وهو فيها لم يخرجوا عن طريقة صحابة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: عللوا أحكام الله رغم أنف المنكرين (212) وحكموا المصلحة في التشريع، ولكن في دائرة المعتدلين، فلم يجمدوا على النصوص تعبداً بألفاظها، بل فتشوا وأخرجوا كنوزاً ثمينة من وادي معانيها، وزنوا الأمور بما يترتب عليها من صلاح أو فساد فأباحوا الأول، ومنعوا من الثاني، جعلوا عمادهم في ذلك التعليل المصلحة، ولم يسيروا وراء الأوصاف في كل شيء كما فعل الفقهاء والأصوليون المتأخرون، ومع هذا فلم يندفعوا وراء كل ما يظن أنه مصلحة، وإن صادم قاطعًا في شرع الله، أو قاعدة من قواعد الدين، بل رأيناهم في غير موطن يردون هذا المصلحة ويشددون النكير على من رام العمل بها» (213) . والذي أقوله هنا: أنه ما دام أن الصحابة والتابعين لا يجرون وراء الأوصاف في كل شيء، ولم يندفعوا وراء كل ما يظن أنه مصلحة وإن صادم قاطعًا من الشرع، أو نافى قاعدة من قواعده، إذا كان الأمر على هذا الحال فما بال المؤلف يقول عنهم مقالته السابقة؟ وحاصلها أنهم لا يتبعون الأوصاف- هكذا على الإطلاق- بل يتبعون وجوه الرأي من غير التفات إلى الأصول كانت قواطع أو قواعد أو لم تكن!!! ثم إذا تركنا هذا الأمر إلى غيره، فلماذا ينفر من اشتراط الفقهاء والأصوليين شهادة الشارع للمصلحة حتى تكون معتبرة وإلا فهي ملغاة، لماذا ينفر من هذا، وهو يحكي مذهب الصحابة والتابعين بأنهم ما كانوا يقرون مصلحة تصادم قاطعًا أو قاعدة..؟! والدليل على نفوره منم الاشتراط وقوعه في ضده أنه نقل مذاهب الأصوليين وانتصر لمذهب الطوفي... وذكر هذه المذاهب كما يلي: (أ) أن المصلحة المعتبرة هي التي لها أصل معين، ونسبه للقاضي. (ب) أن المصلحة المعتبرة هي المشابهة للمصالح المتفق عليها أو المنصوص عليها، ونسبه للإمام الشافعي وجمهور الحنفية. (ج) أن المصلحة المعتبرة هي التي لا تصادم نصًا ولا إجماعًا تحققت المشابهة أم لم تتحقق، قربت من مورد النصوص أو بعدت، ونسبه للإمام مالك. (د) المصلحة معتبرة على الإطلاق مرسلة أو غير مرسلة في المعاملات، وما شابهها حتى وإن عارضت نصًا أو إجماعًا متى ما كانت راجحة!!! قَالَ: « وهناك مذهب رابع خلاصته أن المصالح يعمل بها مطلقًا مرسلة أو غير مرسلة، ويعني بها التي عارضت نصًا أو إجماعًا متى كانت راجحة لكن في صنف من الأحكام «المعاملات وما شابهها»، أما العبادات والمقدرات فلا وزن للمصلحة فيها وهو رأي نجم الدين الطوفي الحنبلي وجماعة من العلماء لم يصرحوا به قولاً، ولكن فتواهم تؤيد ذلك عملاً » (214) . وقد حاول مناقشة الأصوليين- ما عدا رأى الطوفي فإنه مر عليه سريعًا وبنى له مسألة أخرى نصره بها -كما يظن (215) - وليس المقصود هنا مناقشته فيما نسبه إلى الأصوليين فمثل هذه البحوث لا تكفي فيها ورقيات كما صنع هو (216) ، وكذلك لا تكفي فيها ما قد أسجله هنا من ملاحظات، ذلك أن نسبة المذاهب إلى الأصوليين تحتاج إلى بحوث متخصصة في هذا الموضوع، وأكتفي هنا بالرد عليه فيما نسبه إلى فقهاء الصحابة- كما صنعت سابقًا- مع بيان اضطرابه وتفنيد خطئه في تفريقه بين مذهب الصحابة والأصوليين مع مناقشته خاصة فيما نسبه إلى الشَّاطـِبي وحاول الرد عليه انتصارًا للطوفي. أما نسبة مذاهب الأصوليين إلى كتبهم وتحرير موقفهم من المصلحة فذلك لا يحتاج مني إلى بحث- فلقد حرر تحريرًا حسناً، وأكتفي بما حرره أستاذي الدكتور حسين حامد حسان وأبني عليه (217). ومن ذلك قوله: «كل ضروب الاجتهاد المستندة إلى أصل اعتبار المصالح في الأحكام تعتبر استدلالاً بالنصوص الشرعية وليس فيها عمل بمصلحة مجردة ولا ترك لنص من نصوص الشريعة» (218) . ويقول : وقد « أبطلنا دعوى أن مالكًا يقدم رعاية المصلحة على النص أو يترك بها خبر الآحاد، وأثبتنا أن جميع الفتاوى التي نسبت إليه واتخذت دليلاً على هذه الدعوى غير مفيدة في هذا المطلوب وبينا أسباب ذلك» (219) . « أثبتنا أن المصلحة التي لا تشهد النصوص الشرعية لنوعها ولا لجنسها بالاعتبار مصلحة مردودة باتفاق... وهي المصلحة الغريبة التي حكى الغزالي والشَّاطـِبي الإجماع على عدم الأخذ بها.. وقلنا أن المصلحة التي يقول بها الطوفي لا تختلف عن هذا النوع من المصالح المردودة إلا في الطوفي يقدمها على النص والإجماع » (220) . وقد حاول محمد شلبي الانتصار له - مع أن الطوفي إنما اتبع المصالح المردودة وحاول تقديمها على النص والإجماع، وقد أثبت العلماء المعتبرون قديمًا وحديثًا مخالفته لسائر الأئمة وشذوذه عن الإجماع. ومن عجب أن ترى صاحب تعليل الأحكام يحاول أن يسند رأي الطوفي بقوله: «... وهو رأي نجم الدين الطوفي الحنبلي وجماعة من العلماء لم يصرحوا به قولاً، ولكن فتواهم تؤيد ذلك عملاً» (221) . وأنت ترى أنه لم يصرح بأسمائهم ولا بفتاويهم مع أنه كثيراً ما مجد بحثه هذا واعتبره تجديداً في علم الأصول ودعى فيه إلى مراجعة ما كتبه الأصوليون بعد أن وصففهم بما يكره وستأتي الإشارة إلى ذلك.. فأين هذه الجماعة من العلماء الذين وافقوا الطوفي أهي جماعة الصحابة التي ينسب إلى فقهائها معارضة الرسول ومخالفته، والتي ينسب إلى فقهائها تبديل بعض الأحكام بسبب اتباع المصالح!!! أم أن هذه الجماعة من الأصوليين. وقد زعم الطوفي بأن رأيه الذي قَالَ به لم يسبقه إليه أحد قبله!! أمَّا بعد الطوفي فلم بلق هذا الرأي إلا النقد والرد وبيان أن صاحبه خرق الإجماع وتولى غير سبيل المؤمنين، حتى أن بعض الباحثين في هذا العصر فندوه وبينوا أنه رأي ساقط لا عبرة به، وقد أشرت إلى ذلك من قبل (222) . ثم جاء آخرون فأعجبهم هذا الشذوذ عن الإجماع وظنوه علمًا معتبرًا فاتبعوه- وما علموا أن فائدة الإجماع هو القطع في المسألة فلا تعد تحتاج إلى بحث وخاصة وقد تقرر هذا الإجماع في قرون متطاولة- فلما تبعوه أخذوا ينتصرون له مزينين له بشبه متكاثرة، بل ذهبوا إلى أكثر مما ذهب إليه الطوفي، فإنه شهد على نفسه بنفسه أنه لم يسبق إلى هذا الرأي، ومعني هذا أنك إذا بحثت لِتَجِد من ينصره قبله فلن تجد أحدًا. ومع ذلك فقد حاول بعض الباحثين نصرته ببعض النقول والتطبيقات التي سبقت الطوفي - كما صنع صاحب رسالة تعليل الأحكام- فإنه قَالَ بتبدل الأحكام في المعاملات وما شابهها؛ لأنها بزعمه تتبع المصلحة، وأن ذلك هو إجماع الصحابة، مع أن هذا هو رأي الطوفي- الذي يزعم أنه لم يسبق له، فأين تجد عليه إجماعاً. وقد تتبعت أبرز تطبيقاته (223) وأثبت أنه إنما يتعلق بشبه لا بدليل وأن الصحابة لم يغيروا ولم يبدلوا، ولم يتبعوا مجرد المصلحة، ووجوه الرأي من غير التفات إلى الأصول، فإذا أضفت هذا مع ما قرره الباحثون من أن أحدًا من الأئمة لا يقدم رعاية المصلحة على النص وبقي الطوفي على زعمه وخروجه عن الإجماع واتباعه غير سبيل المؤمنين وسقطت محاولة الشلبي وغيره من الباحثين الذين بذلوا جهدًا جبارًا لإحياء سقطة الطوفي وجعلها (224) دينًا يتبع، يريد صاحب رسالة التعليل أن يستمسك به ويخالف عليه علماء الأصول المعتبرين ) .
( المرجع : رسالة " الثبات والشمول " للدكتور عابد السفياني ، ( ص 448-489) .
الشبهة(7) : دعوتهم لتطوير( تحريف ) أصول الفقه
من أولى المسائل في أصول الفقه التي تثير العصرانية حولها الغبار هذه القضية: هل بالإمكان حدوث تطور جديد في أصول الفقه؟ لعل (إقبال) مِنْ أوائل مَنْ أثاروا هذه المسألة، وناقش في كتابه (تجديد الفكر الديني في الإسلام) الأصول الأربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس. والرأي عنده: «إن ما ينادي به الجيل الحاضر من أحرار الفكر في الإسلام، ومن تفسير أصول المبادئ التشريعية تفسيرًا جديدًا على ضوء تجاربهم وعلى هدي ما تقلب على حياة العصر من أحوال متغايرة، هو رأي له ما يسوغه كل التسويغ ». (224) وتبنت الدعوة إلى الاجتهاد في أصول الفقه مجلة (المسلم المعاصر)، إذ كتب مؤسسها د. جمال الدين عطية في كلمة التحرير لأول عدد صدر منها واصفًا المجلة بأنها: (مجلة الاجتهاد)، وأنها «.. تنطلق من ضرورة الاجتهاد، وتتخذه طريقًا فكريًّا، ولا تكتفي بالبحث في ضرورة فتح باب الاجتهاد في فروع الفقه، بل تتعداه إلى بحوث الاجتهاد في أصول الفقه». (225) واشتملت المجلة في نفس العدد والأعداد التالية على بعض المقالات عن هذا الموضوع . (226) ويردد هذه الدعوى آخرون، منهم الدكتور أحمد كمال أبو المجد، إذ كتب يقول: «والاجتهاد الذي نحتاج إليه اليوم ويحتاج إليه المسلمون ليس اجتهادًا في الفروع وحدها، وإنما هو اجتهاد في الأصول كذلك، وكم من مسألة تواجه المسلمين اليوم، فإذا بحثوها وأعملوا الجهد طلبًا لحكم الإسلام فيها أفضى بحثهم إلى وقفة مع الأصول.. وليس ما تردده الكثرة الغالبة من المعاصرين من امتناع الاجتهاد في الأصول إلا التزامًا بما لا يلزم، وتقصيرًا في بذل الجهد بحثًا عما ينفع الناس ». (227) وحتى لا يضيع الفكر في متاهات من التعميمات، فإن الخطوة الأولى لتلمس الحقيقة في هذا الموضوع الخطير تبدأ بتحديد ما المقصود بالاجتهاد في أصول الفقه. قد يكون المقصود من ذلك عدة أمور نجملها فيما يلي : (1) استحداث قواعد جديدة في أصول الفقه لم تكن معروفة من قبل ولم يصل إليها السابقون، وهذا هو المعنى المتبادر عادة من كلمة اجتهاد بمعناها الإصلاحي؛ إذ أن الاجتهاد في الفقه عادة ينصرف إلى استنباط أحكام جديدة للحوادث الطارئة. فإذا كان هو المقصود من الاجتهاد في أصول الفقه، فأين هذه القواعد الجديدة المستحدثة؟ فبدلاً من إثارة الضجيج وضرب الطبول عن إمكان الاجتهاد أو عدم إمكانه، فمن كانت عنده قواعد جديدة فليأتِ بها وليطلع العالم عليها، وحينئذ فقط نتحقق إن كانت هي بحق قواعد علمية تقوم على الدليل والبرهان، أم أنها محض تخرصات وأهواء شخصية. وفيما أعلم لا أحد قدم قواعد جديدة. (2) وقد يكون المقصود من الاجتهاد عدم التقليد في أصول الفقه، بمعنى أنه لا تقبل الآراء فيه إلا بحجة ودليل، حتى لو أثبتها الأوائل، ويظل الباب مفتوحًا للترجيح بين الآراء المتنازع فيها والمختلف فيها. ولا ريب أن هذا معنى صحيح، وهل يخطر ببال كل ذي عقل أن الاستمساك بتقليد آراء الرجال والإذعان لها دون حجة ودليل أمر محمود؟ لا أظن أحدًا من الأوائل دعا إلى ذلك ولا يرتضيه أحد من المعاصرين. وهذه هي كتب أصول الفقه قديمها وحديثها مشحونة بسوق الآراء والأدلة عليها والترجيح بينها. (3) وقد يكون المقصود بالاجتهاد توسيع وتفصيل بعض القواعد التي بحثها علم أصول الفقه. وقد أوضح هذا المعنى أحد الذين تناولوا هذا الموضوع فقال: «.. وهناك مسائل تتعلق بالأصول تحتاج إلى مزيد إيضاح وتفصيل، من ذلك تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية.. ومن ذلك الإجماع إذا كان مبنيًّا على أمر مصلحي زمني قابل للتغير والتطور بتغير الزمان والمكان والحال.. وهذا يجر إلى قضية أخرى؛ وهي قضية الأحكام أو تغير الفتوى بتغير الأزمان، وما ينبغي أن يوضع لها من حدود وضوابط.. إلى غير ذلك من القضايا والموضوعات التي يكشف عنها طول البحث والنظر في الفقه وأصوله، وتطبيقاته في هذا العصر.. وهذا كله يفسح الميدان لدعاة الاجتهاد ولو كان في أصول الفقه ذاتها » . (228) ولما كانت القضايا المثارة تحت هذا المعنى للاجتهاد في أصول الفقه، تستحق مزيدًا من الفحص والتمعن حتى تسفر الحقيقة عن وجهها، ويتضح ما إذا كانت الدعوى للاجتهاد صادقة أم كاذبة، كان لا بد من إخضاع هذه القضايا للبحث، فإذا ظهر أن هناك اجتهادًا معاصرًا في هذه المسائل، كان الاجتهاد في أصول الفقه أمرًا واقعًا، وإن ظهر أن دعوى الاجتهاد في هذه الأمور لا تقوم على أساس، اتضح أن إمكان الاجتهاد في أصول الفقه لا يعدوا أن يكون إمكانًا نظريًّا بحتًا حتى الآن.
( المرجع : مفهوم تجديد الدين ، بسطامي محمد سعيد ، ص 239-242).
وقال الدكتور محمود الطحان رادًا على الترابي الذي يروج لهذه الدعوة :
قول الترابي : «فَيُمْكِن أنْ نَّرُد إلى الجماعة المسلِمة حقَّها الذي كان قَدْ باشَرَهُ عنها مُمَثِّلوها الفقهاء، وهو سُلْطَة الإجماع، ويُمْكِن بذلك أنْ تَتَغَيَّر أُصول الفِقْهِ والأحكام، ويُصْبِح إجماع الأمة المسلمة أو الشعب المسلم، وتصبح أوامر الحكام كذلك أصْلَيْن مِن أُصولِ الأحكام في الإسلام» . (229) ويقول أيضًا: « فإذَنْ يُمْكِن أنْ نَحْتَكِم إلى الرَّأْيِ العام المسلِم، ونَطْمَئِنَّ إلى سلامة فِطْرَةِ المسلمين، حتى ولو كانوا جُهَّالاً في أنْ يَضْبِطُوا مدَى الاختلاف ومَجال التفرُّق ». (230) ويقول أيضاً: «.. ويدور بين الناس الجدَلُ والنِّقاش حتى يَنْتَهِي في آخِر الأمْر إلى حسْم القضية، أو يَتَبَلْوَر رأْىٌ عامُّ؛ أو قرارٌ يُجْمِع عليه المسلمون، أو يُرَجِّحُه جمُهورهم وسَوادُهم الأعظم». (331) هكذا صار الإجماع- بعد تطويره وتجديده – عند الدكتور التُّرابي، جَدَلاً ونِقاشًا بين الناس – كلِّ الناس- وتَصْوِيتًا في نهاية الأمر، فما صَوَّتَ له جمهورهم وسَوادُهم الأعظم كان حُكْمًا لازمًا يَنْزِل عليه كلُّ المسلمين!. سبحان الله! متى كان عامَّة الناس يُرجَعُ إليهم في الأمور العلمية الدقيقة التي تحتاج إلى بحث؟ وهل جَدَلُ العامة ونِقاشُهم مَبْنِيٌّ على أصولٍ علميةٍ، أم هُوَ لَغَطٌ وسَفسَطةٌ، كلٌّ يتكَلَّم كما يَحْلُو له, ألَيْسَت هذه غَوْغائية؟ أليست هذه الطريقة التي اكْتَوَينا بِنارِها مِن بَعْضِ الحكَّام والدِّكْتاتورِيِّين الظالمين؟ فإنه كلما أراد شيئًا أتَوْا بِمَشْروعٍ، وطرَحُوه لِلْتَّصْويتِ عليه مِن قِبَلِ عامَّة الناس، أو الشعب، ليأخذوا عليه الموافقة، ثم يُصبح قانونًا مُلْزِمًا، حتى أنَّ بعض الحكام أراد أن يَحْمِيَ فُجُورَه وفُجُورَ أهْلِه، فأخْرَجَ قانونًا سَمَّاه قانون «العَيبْ» وطَرَحه للتصويت عليه، فَنَال مُوافَقَة السَّوادِ الأعظم، وصار القانون مُلْزِمًا للمسلمين في ذلك القُطْر. ثم إنَّ التُّرابي مِن أيْنَ تَخيَّلَ أنَّ الإجماع كان أولاً حقًا لجميع أفراد الشعب، وأنهم استعملوه في عصور الإسلام الأُوْلَى، ثم باشَر هذا الحق نيابةً عنهم- الفُقَهاءُ في عصور الجهْل والانْحِطاط، ثُم الآن يُريد أنْ يُعيد هذا الحق إلى الشعب، لأن الجهل زال، وصار الناس بفضل دعْوَتِه مُتَعَلِّمين مُتَنَوِّرين! مِن أينَ جاء بِهذا السَّرْد التاريخيِّ لِواقِع الإجماع؟ أين وَجَدَه؟ وفي أيِّ مَصْدَرٍ قرَأَهُ؟ أهذا يَجُوز، يَتَخَيَّل الأمور تَخَيُّلاً، ثم يُلْقِيها على الناس على شَكْل مُحَاضراتٍ، ويَنْشُرُها على شكل رسائلَ لدَعوةٍ تجديديةٍ للإسلام! مع أنَّ الإجماع الشرعي عند علماء أصول الفقه الإسلامي منذ نشأته في القرون الثلاثة الأولى إلى يومنا هذا له تعريفٌ واحدٌ مُؤَّداهُ: اتِّفاق علماء عصرٍ واحدٍ على حُكمٍ شرعيٍ واحدٍ (232) فقد عرَّفَه البَيْضاوِيُّ في مناهِج الوُصول بأنه: «اتفاق أهْل الحل والعَقْدِ مِن أُمَّة محمد صلى الله عليه وسلم على أمْرٍ من الأمور» (233) . وعرَّفه تاجُ الدِّين السُّبْكي في جَمْع الجوامع بأنه: «اتفاق مُجْتَهدِي الأمة بعد وفاة نبيها محمد صلى الله عليه وسلم في عصرٍ على أيِّ أمرٍ كان» (234) ، وعرَّفه الخَطيب البَغْداديُّ في "الفقيه والمتفقه" بأنه «إجماع أهل الاجتهاد في عصر، فقال: «إجماع أهل الاجتهاد في كل عصرٍ حُجَةٌ مِن حُجَجِ الشرع » (235). فأين إجماع الشعب الذي يَدَّعيه التُّرابي ؟ 2- وأما أمرُ الحاكم – أو وَلِي الأمر – فَقَدِ اهْتَمَّ به التُّرابي كثيرًا، وأوْلاهُ مِن العِناية ما يَلْفِت النَّظَر، وتَهَجَّم على الفقهاء والأصوليين القُدامَى بِحُجَة أنهم أغْفَلوا حقَّ الحاكِم في التشريع وإصدار الأحكام، ودعا بإصرارٍ إلى إعادة هذا الحق إليهم فقال: بعد أنْ سَرَدَ مُقَدِمةً طويلةً كلُّها مُغالَطاتٌ, وأشياءُ تَخَيَّلها؛مالَها مِن واقِعِ التاريخ في شيءٍ بالنِّسبة للإجماع وحق الحاكم - « فإذا حالت» (236) تلك الظروف، وقامت فِينا مَثَلاً حكوماتٌ ثَوْرِيةٌ ينبغي أن يُكَيَّفَ عِلْمُ الأصول بما يَرُدُّ إلى تلك الحكومات حقها في إنشاء الأحكام بأمر الحاكم وَقْفًا على مُوافَقَة الكِتابِ والسُّنَّة» (237) . وقد غَفَل الدكتور الترابي أو تَغَافَل عن مَوْضوع حقِّ الخليفةِ أوْ وَلِيّ الأمر المسلم في تَبَنِّي الأحكام الشرعية- سواءَ كانت من اجتهاده ,إذا كان مجتهدًا، أو من اجتهاد أحد المجتهدين المُعْتَبَرِين, إن لم يَكُنْ مجتهدا-الذي بَحَثه علماء أصول الفقه، وذكروه في مُصَنَّفَاتهم،ولم يُغْفِلوه ولم يُعَطِّلوه كما ادَّعَى لكن ينبغي التفريق بين تَبَنِّي ولي الأمر للأحكام الشرعية والأمرِ بتنفيذِها، وبين إنشاء الأحكام بأمرِ الحاكم،ِ فليس لِلحاكمِ أنْ يُنْشِىَء الأحكام، ويطْلُب التَّصْويت عليها – كما مَرَّ- وإنما له أنْ يَتَبَنِّى الأحكام الشرعية التي استُنْبِطَت باجتهادِ مجتهدٍ عالمٍ في دين الله وشريعته. ويُنْظَر في مَوْقِع حقِّ وليِّ الأمرِ في تَبَنِّي الأحكام الشرعية والأمر بتنفيذها كِتاب "غياث الأمم في الْتِياثِ الظُّلَم "ص 216 و 217 وغيره من كتب السياسة الشرعية. وقد مر بنا قبل قليل- في بحث الإجماع – قول الدكتور الترابي: «ويُصبح إجماع الأمة المسلمة أو الشعب المسلم، وتُصبِح أوامرُ الحكام كذلك أصْلَيْن من أصول الأحكام في الإسلام». (238) ويقول الترابي أيضًا: «وإلى جانب الرأْيِ العام المسلم الذي كان هو الضمان الوحيد في العُهود السابقة، فإنَّ الحكومة الإسلامية النِّظامية في العَهْدِ الحديث يمُْكن أنْ تُصبح ضَمانَةً كُبْرَى لِوِحْدة الفِكْر » . (239) ما المراد بـ «الحكومة الإسلامية النظامية» هل يَعْنِي؛أن َّالحكومات الإسلامية السابقة زمن الخلافة الإسلامية كان حكوماتٍ فَوْضَوِية ًأو استبْداديةً؟ كأنَّ الدكتور الترابي يَعْنِي هذا، فقد قال في ص 9 من رسالة "تجديد الفكر الإسلامي": «ذلك أن حكومة المسلمين وقْتَئِذ كانت حكومةً تتَوَلَّى الحُكْم إمَّا بالوِراثَةِ أو بالقوة، ولم تكن بذلك مُؤَهَّلَةً لأَنْ تَطْلُب من المسلمين حق الطاعة، ولذلك أغْفَلَهَا الفقهاء، وجَرَّدُوها من حقِّ وَضْعِ الأوامر واجبة الطاعة من المسلمين». إذا على رأي الدكتور الترابي- إن الحكومات الإسلامية من القرن الأول إلى زمن سقوط الخلافة العثمانية على يد الإنكليز عام 1924م لم تكن مُؤَهَّلَةً لأنْ تَطْلُب من المسلمين حق الطاعة، لأنها حكوماتٌ تَوَلَّت الحُكْم إمَّا بالوراثة أو بالقوة، ومن يقول بهذا إلاَّ غُلاةُ الشِّيعة والخوارج! أما قَوْلُ الترابي: «ولذلك أغفلها الفقهاء وجرَّدُوها مِن حقِّ وَضْع الأوامر واجبة الطاعة من المسلمين» فَغَيْر صحيحٍ ومُخالِفٌ للواقع التاريخيِّ للفقه الإسلامي، وحياة المسلمين العملية التطبيقية، فقد كان الفقهاء يذكرون حق الحكومة في تَبَنِّي الأحكام الشرعية، والأمر بتنفيذها ووجوب إطاعتها من قبل الرعية كما تقدم قريبًا. ولم يَكُن لِيَسْتَقِيم أمرُ الدَّوْلة الإسلامية على مَرِّ العُصُورِ ويَزْدَهِر، ولم تكن لِتَسْتَمِرّ الفتوحات الإسلامية، وتكون الدولة الإسلامية أقوى دَوْلَة ٍعلى وَجْهِ الأَرْضِ لو كانت أوامرُ تلك الدولة غيرُ واجبة الطاعة من قِبَلِ المسلمين. 3- وأما القِياسُ، فإنَّ الدكتور التُّرابي لا يُريد بِه قياس الفقهاء والأصوليين الذي له ضوابط وشروط، وإنما يريد قياسا حُرًّا فِطْرِيًا عَفَوِيًا، ليس له أيَّةُ ضوابط أو قُيود، لأنَّ هذه الضوابط والقيود- في زعْمِه – مِن وضْعِ مَناطِقَة الإغريق، ثم اقْتَبسها الفقهاء عنهم. معَ أنَّ تَعْريف القياس عند الأصوليين غيرُ مُعَقَّدٍ، فقَد عرَّفَه الخطيب البَغدادي فقال: «هو حَمْلُ فَرْعٍ على أصْلٍ في بعض أحكامه، لِمَعْنَى يَجمع بينهما» (240) . وعرَّفه البَيْضاوِيُّ بأنه: «إثْباتُ مِثلُ حُكمٍ مَعلومٍ في معلومٍ آخَر لاشْتِراكهما في علة ِالحُكم عند المُثْبِت». (241) فتحت عنوان: «نحو أصولٍ واسعةٍ لِفِقْهٍ اجتهاديِّ» قال الدكتور الترابي: «وفي هذا المجال العام يَلْزَمُ الرُّجوع إلى النُّصوص بِقواعد التفسير الأصولية، ولكنَّ ذلك لا يَشْفِي إلاَّ قليلاً، لِقِلَّة النُّصوص، ويَلْزَمُنا أنْ نُطَوِّر طرائق الفِقْه الاجتهاديِّ التي يتَّسِع فيها النظر بِناءً على النَّص المَحْدود، وإذا لجَأْنا هنا لِلقياس لِتَعْدِية النصوص وتَوْسيعِ مَدَاها، فما ينبغي أن يكون ذلك هو القياس بِمَعَايِيْرِه التقليدية، فالقياس التقليدي أغلَبُه لا يَسْتَوْعِب حاجاتِنا بما غَشَيهُ من التضْيِيق اتْفاقًا بمعايير المَنْطِق الصُّورِي التي وردَت على المُسلمين مع الغَزْوِ الثقافي الأوَّل، الذي تأثر به المسلمون تأثرًا لا يُنازعه إلاَّ تأثرنا اليوم بأنْماط الفكر الحديث» . (242) عجبًا لك يا ترابيُّ، أَتَتَّهِم المسلمين بما فيهم أئمة الفقه والأصول في العصر الأول بأنهم انْفَعَلوا بِمَعايير المنْطِق الصُّوري، وتأثروا بالغزو الثقافيِّ الأول وذلك لتَتَفَلَّت من القياس الذي وضعه أئمة أصول الفقه، وتأتيَ الحُكام المعاصرين بقياسٍ واسعٍ ليْس له ضوابط ولا قواعد، لِيَسَعَ كل الأحكام الطاغوتية الوافدة من الغرب المستعْمِر، باسم الإسلام المُتَجَدِّد؟ فَمَنْ أَوْلَى بالاتِّهام بأنه تأثر بالغزوِ الثقافيِّ الأجنبيِّ، علماء أصول الفقه القُدامَى أَمْ أنْت؟ ).
المرجع : ( مَفْهُومُ التَّجْديدِ بين السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ, وبين أدْعِياءِ التَّجْديدِ (المعاصرين)) للدكتور محمود الطحان ، ص 22-27).
الشبهة(8) : مغالطاتهم في الفهم المقاصدي للإسلام
قال الأستاذ عبدالسلام بسيوني : ( لقد ظن اليَسارُ الإسلاميُّ أنَّ الشريعة مَقَاصِد، وأنَّ العقل هو المُكَلَّف بإِيجادِ الطريقة التي يَراها مُلائمةً، والأحكام التي يراها كَفْيلةً بتَحقيق هذه المقاصد الكُبْرى، مُعْتَبِرًا بذلك أنَ ما وَرَد في الشريعة مِن أحكامٍ تفصيليةٍ لا يُمَثِّل إلاَّ المرحلة الأولى من تطبيق الشريعة، يَقَع تَجَاوُزُها بِتَجاوُزِ المرحلة. وهنا نَتَساءَل: هل يُمْكن للعقل وحْدَه أن يُجَدِّد هذه الأحكام والوسائل المُحَقِّقَة للمقاصد؟ الإجابة لا تحتاج في نظرنا إلى تحاليلَ مُطَوَّلة، إذْ يُمكِن الاكْتِفاءُ بإِلْقاءِ نظْرةٍ على تاريخ المَذاهب القديمة والمعاصِرة، فَكُلها تدعو إلى الحرية والعدل والتقدم، لِنَعْرِف إلى أيِّ مَدَى تَمَكَّنَت من التَّلاؤُم مع الإنسان في مَطالِبه وطُموحاته. فبِاسْم الحُرية يَقع ما يَقع: يموت الناس جُوعًا، ويُلْقَى بأَطْنان المَزْرُوعات والثِّمار في البحار والمحيطات حِفْظًا للأسْعار مِن الانْخِفاض....، وبِاسْم الدَّعوة إلى المُساواة والعدالة، تُكَمَّم الأفْوَاه ويُمْنَع الناس من حقوقِهم في التَّعبير، ويُرْمَى بهم في غَيَاهِب المناطق المُتَجَمِّدة، وباسْم التقدم يُرْمَى بِكُل سَلَفٍ مُتَمَسِّكٍ بمبادئه، ويُتَّهَم بالرَّجْعِيةِ والمَاضَوِيَّة والجُمود... كان ذلك ولا يزال، ولنا من الواقع أكثر من شاهد. * الفَهْم المَقاصِدِيُّ يَخْتَزِل الشريعة في خَمْسَة مَقاصِد: هذا الفهم «التقدمي» للإسلام يَنْفِي عن الشريعة أنْ تكون مَنْهجًا يَتَضمَّن الوسائل الكبرى وبعض التفصيلات. فَنَظْرةُ اليَسار إلى الشريعة نظرةٌ اخْتزالية تَسْطيحيةٌ للشريعة، رغم ما تَدَّعيه لِنَفْسها من عُمْقٍ وغَوْصٍ في « روح» الشريعة. ولعلنا. لا نُجَانِب الصواب إذا قلنا بأنَّ هذه النظرة تُؤْمِن بِبَعض الكِتابِ وتَكْفُر بالبعض الآخر، ما دامت أحكام الوحي- في نظرهم- قابلةً للنَّسْخ المُتواصِل وِفْقًا للتطَوِّر التاريخيِّ والاجتماعيِّ. وهنا نسأل: لماذا وَرَدت تلك الأحكام التفصيلية في القرآن؟ هل كان ذلك فقط للعصر الذي نزل فيه القرآن واستجابةً لظَرْف ٍتاريخي مُحَدَد؟ لو كان الأمر كذلك لما كانت بنا حاجَةٌ إلى نصوص الكِتاب، ولأَمْكَنَنَا أنْ نقوم بتلخيصٍ للقرآن في خمسة مَقاصدٍ نَحْفظها- إنْ لم نَقُل نتْلُوها في الصلاة!! – ثم ما حاجة الإسلاميِّ التقدُّمِيِّ اليومَ إلى سِتِّين حِزْبًا من القرآن، وآلاف الأحاديث النبوية؟.. إنَّ كل هذه النصوص ستُصْبِح في أحسَن الحالات مادةً للتَّثقيف التاريخيِّ والتَّسْليةِ الفكرية، أيْ: تُراثًا لا غَيْر. فَالْفَهْم المَقاصِدِيُّ يَنْتَهِي بِنَا إلى اعْتِبار الإسلام تُراثًا (الإسلام من حيث هو شريعة)؛ بل إنَّ حَسَن حَنَفِي يُطالِبنا بأكثرَ من ذلك، يُطالِبنا بتغْيير المُصْطَلحات التي تتضمَّن العقائد... إن هذه النظرة إلى الإسلام تَجَاوَزَت حتى نظرةَ المُعتزِلة التي يَنْتَسِب إليها اليَسار الإسلاميُّ. ذلك أنَّ المُعْتزلَة وإنْ أَعْطَوْا قِيمةً كُبرى للعقل، فإنَّهم لم يقولوا بِتَعْطيل النصوص، ولم يَقُولوا بِقُدَرة العقل المُطْلقَة على التَّصَرف في الشريعة، فَالمعتزلة يقولون بأن العقل قادرٌ على مَعْرفَة الحَسَنِ والقَبِيح، والخَيْر والشَّر. وإذا أرَدْنا القيام بِقياسٍ أوْ تَشْبيهٍ فإِنَّنا نقول بأنَّ العقل رُّبَّما يكون قادرًا على تَعْيِين المَقاصِد الكبرى للشريعة، ولكنه غير قادرٍ على التفصيل في أحكامها والوسائلِ المُوَصِّلة إِليْها، وذلك خِلافًا لما يَراه اليَسار الإسلامي، فَلَعلَّ مُعْتَزِلة العصر الحديث أكثرُ تقدُّمًا في العقلانية من المعتزلة الأوائل. * الفَهْم المَقاصِديُّ دَعْوةٌ إلى العَلْمانية: إضافةً إلى اختزالِه الشريعة في خمسة مقاصد، يُمَهِّد هذا الفَهْمُ المَقاصِدِيُّ إلى العَلْمانية؛ بل يدعو لها بطريقةٍ أو بأُخْرَى كما سبَقَ بَيانُ ذلك في فصْل الانتماء السياسيِّ للمُسلم. وليس في ذلك غَرابةٌ أو تَناقُضٌ ما دُمْنا مُطالَبِين بِضَبْط طريقنا بأنْفُسِنا، وبما نَنْقُلُه من تَجَارِب الآخَرِين، كما يقول خالد محُيْىِ الدِّين الذي يَنْتَمِي إلى حِزْب التَّجَمُّع ومعَه حَسَن حنفي وبعض « الإخوة في الوطن والثورة والحرية...» معنى ذلك بعبارةٍ أوضَحَ، أنَّ مقاصد الشريعة كَشِعاراتٍ عامةٍ يُمكن أنْ يحققها القَوْمِيُّ، والماركسِيُّ، والليبرالي، والمسلم.. سَواءً بسواء، أي ليس من الضروري أن تكون مُؤْمِناً بالله ومُسْلِماً لِكَي تُحَقِّق مَقاصد شرع الله، فَبِالإمْكان أنْ تكون غير ذلك وتُحَقِّق مقاصِدَه... ولسنا ندري بعد ذلك إنْ كان الأمر يتعلق بأسْلَمَة الماركسيِّ واللِّيبرالي والقومي أم بِتَمَرْكُسِ المُسلِم... أم بشيٍ آخَر!... وبذلك يتحوَّل الإسلام إلى شِعاراتٍ عامةٍ، وكأَنَّه لافِتَةٌ يُمْكِن أنْ نَجِدَها على كل الواجهات. وقديماً قال شاعِرُ الغَزَل: وَكُلٌّ يَدَّعِي وَصْلاً بليلى وَلَيْلَى لا تُقِرُّ لهم بِـذاك * الفَهْم المَقَاصِدِيُّ نَفْيٌ لِمَقاصِد الشريعة: إنَّ الفَهْم المقاصدِيّ، إضافةً إلى ما سبق (اختزال الشريعة والدعوة إلى العلمانية)، يَلْزَم عنه إِلْغَاءُ الشَّريعة، وهُو يُؤَدِّي إلى ذلك مَنْطِقِيًا. ذلك أنَّ مَقاصِدَ الشريعة التي حَدَّدَها الفَهْمُ التقدُّمي للإسلام، لا نَجِد مِن الدَّعَوات والمَذاهب مَن يُنْكِرها. فَكُلُّ الأحْزاب تَدْعو إلى الحرية والعدالة والتقدم، وتقول بأنها تُحَارِب الظُّلم والاستغلال. وهذا معناه بلغة أُخْرَى، إذا أرَدْنا أنْ نُواصِل الاستِنْتاجَ، أنَّ الشريعة لم تأْتِ بِجَديد. فهذه المبادئ والشِّعارات العامة مُتَضَمَّنَةٌ في كتب الفلاسفة والحُكماء القُدامى والمُعاصِرين، فما الدَّاعِي إذَنْ إلى أن تأتِيَ عن طريق الوَحْي؟ وهل يكون مَقْصِد الشرع من ذلك مجرد تَكْرارٍ أو إِقْرارٍ لما تَوَصَّل إليه العقل، أيْ: مُجرَّد تَزْكِيةٍ ومُصادَقَةٍ على ما تَوَصَّل إليه الإنسان؟ ذلك ما يراه حنفي بِصِفةٍ ضِمْنِية وصريحة. وإذا كان ذلك كذلك فإننا نَتَوصل إلى النتيجة التالية .: إما أنْ يكون الوَحْيُ مُجَرَّد استجابَةً لِظُروفٍ تاريخيةٍ، نَزَل على العرب البَدْو قَبْل تَحَضُّرِهم، والإسلام يكون تَبَعًا لذلك صالِحًا لِلْبَدَوِيِّ وغيرَ صالحٍ لِلْحَضَرِيِّ: وهذا الاحتمال هو أحسن الاحتمالات. وإما أن يكون نُزول الوحْي عَبَثاً؛ لأنه لم يأتِ بجديد، وإنْ أتَى بجديدٍ في عصره فإنَّنا غيرُ ملْزَمِين إلاَّ بِمَقاصِدِه وهي ليست جديدة.. إذن ألا تَرى معنا أنَّ الفَهْم المَقاصِدِيَّ للشريعة- على النحو الذي رآه اليَسار- هو نَفْيٌ لمِقاصد الشريعة وقضاءٌ عليها. فهل مِن مَقاصد الشريعة أن ننْسَخ أحكامَها ونعَطِّلها ونتجاوَزَها بِاسْم الفَهْم المَقاصِدِي، أيْ: بِاسْم التقدُّم المُسْتمِر نَحْوَ الأفضل..؟!! يقول الإمام الشاطِبِي: «إنَّ عامَّة المُبْتَدِعة قائلةٌ بالتَّحْسين والتَّقْبيح العَقْلِيَّينِ، فَهُوَ عُمْدتُهم وقاعدتهم التي يَبْنُون عليها الشرع، فهو المُقَدَّم في نِحَلِهم بحيث لا يَتَّهِمون العقل، وقد يَتَّهِمون الأدِلَّة إنْ لمْ تُوافِقهم في الظاهر حتى يَرُدُّوا كثيراً من الأدلة الشرعية. وليس كل ما يَقْضِي به العقل يكون حقاً، بدليل أنَّهم يَرَوْن اليوم مَذْهَباً ويَرْجِعون عنه غداً، وهكذا... ولو كان كل ما يَقْضِي به العقل حقاً، لكان العقل وحْدَه كافِياً للناس في المَعاشِ والمَعاد، ولَكَانَ بَعْثُ الله لِلرُّسُل عَبَثاً وعِبْئاً لا مَعْنَى له، وهذا كله باطل فما أدَّى إليه مِثْلُه » (243) . ثُمَّ إنَّنا إذا نَفَيْنا عن الشريعة كَوْنَها مَنْهجاً- كما يفعل اليَسار- نَصِل إلى إقْرارِ مبدأ «الغاية تُبَرِّر الوسيلة»، أيْ: أنَّ المُهِم هو تحقيق المَقْصِد بأيِّ الوسائل أرَدْنا... إنَّ في الإسلام غاياتٍ، ولكن هناك ضوابط وأخلاقيات ووسائل علمية كبرى تَضْمَن تحقيق هذه المقاصد بطريقةٍ تتَكامَل فيها ولا تَتَعارَض، فالْغايةُ السَّامِية لا نَتَوصَّل إليها بوسائل غيرَ شريفةٍ، وليس مِن باب المَصْلَحَة أنْ نفْعل كلَّ ما نُريد للوُصول إلى غاية. فما عند الله لا يُنالُ بِالمَعاصِي والمُحَرَّمات. وأحياناً تكون الوسائل التي نَسْتَعْمِلها تُؤَدِّي إلى خِلاف الغاية التي قَصَدْناها، فَيُصْبح عملُنا إفْساداً لِمَقاصِدنا. ونحن لم نَقُل أن َّالشريعة حدَدَّت جميع الوسائل التفصيلية، ولكننا قُلنا إنها حددت المَنْهَج في َمبادئه وقواعده، وحددَت الوسائل الكبرى كما حدَّدت بعض الجوانب التفصيلية، وتَرَكَت البَقِيَّة لِتَصَرُّف العقل بالاستقراء والاستنباط، «ذلك أن المُجتهِد ليس مُخْتَرِعاً للأحكام بحسْب عقله حتى يكون مُتَحَرِّرًا مِن مَعانٍ قَبْلِيَّة، وإنما هو باحثٌ عن حُكم شرعي يَرْتَضِيه الله – تعالى-، وهو ما يَقْتَضِي مَوْضُوعِياً أنْ يكون مُتَعَمِّقاً في الشرع، مُسْتوعِباً لِمَقاصِده ووسائله، وأقَلُّ ما يَتِمُّ بِه ذلك الأمْرانِ المُتَقَدِّمان: فَهْمُ المَقاصِد والتَّمَكُن من الاستنباط» (244) . وبين الوسائل والغايات هناك مُرُونةٌ وثَبَاتٌ، تَطَوُّرٌ ومَبْدَئِيَّة، دُون تَحَلُّلٍ وتَمَيُّعٍ وانْهِزامٍ أمام الآخَر. أمَّا أنْ نُحاوِل تَطْوِيع النصوص وإِحْناءَ رأْسِها أمام الواقع فإن ذلك لا يُعَدُّ واقِعيةً، وإنما هو تَكْرِيسٌ للواقع. يقول المفكر الإسلامي سيد قُطْب:«والدِّين لا يُواجِه الواقِع أيَّاً كان لِيُقِرَّه ويبحث له عن سَنَدٍ منه وعن حُكمٍ شرعيٍّ يُعَلِّقُه عليه، كاللاَّفِتَة المُسْتَعارَة، إنما يُواجِه الواقع لِيَزِنَه بِمَيْزانِه، فَيُقِرُّ منه ما يُقِرُ،، ويُلْغِي منه ما يُلْغِي، ويُنْشِئُ واقعاً غيره إن ْكان لا يَرْتَضِيه» (245) . ويتِِمُّ كل ذلك في حُدودِ الانْسجامِ بينَ الوحْيِ والواقع والعقل. وهذا الحديث يَجُرُّنا إلى الحديث عن المَصْلَحة ومَوقِعِها من التشريع . ج- هل تكون المصلحة أصْلاً مُستقِلاً في التشريع . ما مِنْ شكٍّ في أنَّ الأحكام الشرعية مُرَاعَى فيها مَصالح العباد كما سبق بَيانه. ولكن هل تكون المصلحة في غير ما شرع الله، وهل يُمكن أن تَسْتَقِل في التشريع ولو خالفَتْ نَصاً شرعياَ ؟ إنَّ المُراد بِالمصْلحة عُموماً جَلْبُ المَنْفَعة ودَفْعُ المَفْسَدة والضَّرَر. ومن أقْسام المصالح «ما يَشْهَد الشرع على اعْتِبار كوْنِه حِكْمةً نَبْنِي عليها الحُكْم كالإِسْكار، فَقَد فُهِمَ من الشرع بِناءُ تَحْريمِ الخَمْر عليه لِمَصلحة حِفْظِ العقل، فَيَحْرُم كلُّ مَطْعُومٍ أو مَشْروبٍ مُسْكِرٍ لِنَفْس المَعْنَي» (246) ومِن الأقسام كذلك: «ما لم يَشْهَد نَصٌّ مُعَيَّنٌ من الشرع باعْتبارِه ولا بِإلْغائِه، ويُسْمَى هذا القِسْم المصلحة المُرْسَلَة أو الاستِصْلاح، وإنما كانت مُرْسلةً لأنها أُطْلِقَت، فَلَمْ يَرِد في نَصِّ الشرع اعتبارُها ولا إلْغاؤُها » (247). وقد اسْتَهْدفَت الشريعة المُحَافَظَة على «الكُلِّيات ِالخَمْس»، وهي: الدِّين والنَّفْس والنَّسْل والعقل والمال. والمحافظة على هذه الأمور تَتِم بوسائل مُتَدَرِّجة في الأهمية والخُطورة: الضروريات – الحاجِيَّات- التَّحْسِيِنَّات. والمصلحة تشمل هذه الأقسام الثلاثة المذكورة. وقد ذهب الإمام مالك وبعض الشافعية إلى أنَّ الاحْتِجاجَ بالمصلحة المُرْسَلة التي في رُتْبَة الضَّروريات، حُجَّةٌ وإنْ لم يُعاضِدْها دَليلٌ مُعَيَّنٌ، لأنه بِمَثابَة بِناءِ الأحْكام على مَقاصد الشريعة. كما احْتَجَّ الإمام مالكٌ كذلك بالمصلحة التي في رُتْبَةِ الحاجِيَّات، وخالَف في ذلك عامَّة أهل َالعِلْم. أمَا المصلحة التي في نَوْع التَّحْسينيَّات والكماليَّات فقد اتَّفَق جُمْهور العلماء على أنَّه لا يَجُوز الاحْتجاجُ بها إلاَّ إذا عاضَدْها دليلٌ من الشرع، إذ لو احْتُجَّ بها لأَدَّى ذلك إلى تَغْيِير الشرائع، خاصةً وأنَّ الناس يَخْتَلِفون في مُيُولهِم وأغْراضهِم، فلا يَجوز الاحْتجاج بمَصالح مُتَعارِضة. * وإذا كان الإسلام قد اعْتَرَفَ بالواقع والعُرْف والمَصالح، فذلك لأنه تشريعٌ واقِعِيٌّ قابلٌ للتطبيق، ولكنه يَخْتَلف عن غيره من التشريعات في كَوْنه حددَ ضوابطَ لهذه المصالح، لأن الكثير من الناس أصبحوا يَتَمَسَّكون بمبدأِ الضرورة، ويُفْتُون لأنْفُسِهم بِإباحَة ما حَرَّم الله مُتَناسِينَ مَعْنَى الضرورة الذي يتَمَثَّل – كما يقول العلماء – في « أنْ تَطْرَأ على الإنسان حالةٌ من الخَطَر أو المَشَقَّة الشديدة بحيث يَخَاف حُدوثَ ضررٍ، أو أَذَىً بالنَّفْس، أو بالعُضْو، أو بالعِرْض، أو بالعقل، أو بالمال، وتَوابعها، ويَتَعيَّن أو يُباح عندئذٍ ارْتكابُ الحرامِ، أو تَرْكُ الواجِبِ أو تأخيره عن وقته، دَفْعاً للضَّرر عنه في غالب ظنِّه ضِمْنَ قُيودِ الشرع » (248) . فليس كلُّ مَنِ ادَّعَى وُجُودَ الضَّرورة يباح له فِعْله. ومِن هذه الضوابط نذكر بعضها إجمالاً لا تفصيلاً: - أن تكون الضرورة قائمةً (مُتَحَقَّقةَ الوُقوع) لا مُنْتَظَرَة. - أن يَتَعيَّن على المُضْطَرِّ مُخالَفَة الأوامِرِ أو النَّواهي الشرعية، أو ألا يكون لِدَفْع الضَّرَر وسيلةٌ أُخْرَى من المُباحات إلاَّ المُخالَفَة، كأَنْ يوجَد في مكانٍ لا يَجِدُ فيه إلاَّ ما يَحْرُمُ تَناوُله. - الإكْراه إلى حَدٍّ يُخْشَى معَه تَلَفُ النَّفْس أو الأعضاء... - ألا يُخالِفَ المُضْطرُّ مَبادِئ الشريعة من حِفْظ حُقُوق الآخَرين، وتحقيق العدْل، وأداء الأمانات، ودَفْع الضَّرَر، والحِفاظِ على مبْدأ التَّدَيُّن، فلا تَحِلُّ المَفاسدُ في ذاتها، كالزِّنا والقتْل والكُفْر، لأنَّ ما خالَفَ قواعد الشرع لا أثر فيه للضرورة. - أنْ يَقْتَصِر فيما يُباح تناوُله ُللضرورة، في رأْيِ جُمْهور العلماء، على الحَدِّ الأدْنَى أو القَدْر اللازِم لِدَفْع الضرر. - أنْ يَصِف المُحَرَّم- في حالة ضرورة الدواء – طبيبٌ عدْلٌ ثِقَةٌ في دينه وعلمه، وألاَّ يوجَد من غير المُحَرَّم عِلاج ٌآخَرَ يقومُ مَقَامَه... (249). كما أنَّ مُراعاة الإسلام للعُرْف والعادات مَشْروطةٌ هي الأُخْرَى بضوابط. فالعرف في اعتبار الشرع نوعان: صحيحٌ وفاسدٌ. فالعُرف الصحيح: هو ما تَعَارَف عليه الناس دُون أنْ يُحِلَّ حراماً أو يُحَرِّمَ حلالاً، والعرف الفاسد: هو ما تَعَارَفَهُ الناس ولكنَّه يُحِل حرامًا ويُحَرِّم حلالاً. وقد اشترط العلماء في العرف شروطاً لجوازه، أهمها: ألاَّ يُعارِض نَصاً تشريعياً آمِراً بِنَقِيض المُتَعارَف عليه، أو ناهِياً عنه، أو مَمْنوعًا بنَصٍّ خاصٍّ واردٍ فيه.. وبناءً على ما تَقَدَّم، فإنَّ الشرع قصَد إلى مُراعاة مَصالح العباد، فأحَلَّ لهم الطَّيْباتِ وحَرَّم عليهم الخَبائث. ولكنه حدَّد لهذه المصالح ضوابط حتى لا يتَساهَل الناس في الإفْتاء لأنْفُسِهِم بِفِعْل ما يَحْلُو لهم بِدَعْوَى الظروف والضرورة والمصالح... والمُتأمِّل في مُجتمعِنا يُلاحِظ هذه الالْتِباساتِ والشُّبُهات الكثيرة التي يقع فيها الناس بِوَعْيٍ أو بدون وَعْي. وبعض الناس تَشْتَبِه أمامهم السُّبُل والاختيارات، فيَرْتَكبون المُحَرَّمات ويتساهلون في «الإفتاء» لغيرهم فَيَضِلُّون ويُضِلُّون. وأحيانا يكون الفساد مَغْموراً بِصلاحٍ، والصلاحُ مَغموراً بفساد. فأحْكام الإسلام في القِصاص والرَّجْم وقطْع يدِ السارِق قد تَبْدو لِلْبعض هَمَجِيَّةً لا تُناسِب مَصالح البَشَر، أو قد يَعُدُونها امْتِهاناً للكرامة الإنسانية... والتَّعاملُ بالرِّبا قَدْ يُغْرِي البعض بالقيام بِمَشاريعَ إسلاميةٍ... وقد يكون ذلك من الهَوَى أو مِن قُصورٍ في النَظَر والتأمُّل، أو مِن إِرادَةٍ مُتَحَمِّسةٍ لِنُصْرَةِ الإسلام... ولكن هؤلاء مُخْطِئون في نَظْرَتِهم لِلمصالح ِ، فما هو مَصلحةٌ بالنسبة إليهم هو في أغلب الأحيان سبيلٌ إلى فسادٍ أكبرَ منه، فالذين لا يتحَرَّجون من التَّعامُل بالرِّبا يُعَمِّقون هذه المُمَارَسة الاستغلالية ويَزيدون الأوضاع تأزُّماً، والذين يخافون من القِصاص يَجْعلون المُجْرمِين يَسْتَسْهِلون هذه الكبائر، فيكون ذلك سبيلاً مَباشِراً لامْتِهان كرامة الإنسان، ولقد بَيَّنَت التَّجارِب التاريخيةُ القديمةُ والحديثةُ فَعالِية نِظام ِالعُقُوبات ِفي الإسلام... وما يقال في نظام العقوبات يقال كذلك في مجال تنظيم المجتمع والعائلة. والحِكْمَة مِن الحُكم الشرعي قد لا تَتَجَلَّى أمامنا في كل وقت؛ لأنها قد تكون ضِمْنِية غير صريحة، فقد لا نُدرِك بِوُضوحٍ الحِكْمة من بعض الشعائر التَّعَبْدِية، ومن الطريقة التي يُطالِبنا الشرع فيها بأدائها. فلقد أنْبَأَنا الله بِبَعض الحِكَم العامَّة من العِبادات (التَّقْوَى – الانْتهاء عن الفَحْشاء والمُنْكَر..) ولكن عدد ركَعَات الصلاة، أو صيام شهر رمضان، أو بعض مَناسِك الحَجّ.. لم يُفَصّل لنا وجْهَ الحِكْمة في كل جوانبها. وفي المعاملات: سَنَّ الإسلام أحْكاماً وحَرَّم أشياءَ وأحَلَّ أُخْرَى، وسَكَتَ عن أشياءَ رحْمةً بِنا غير نِسْيانٍ. وقد نَقِف على الحِكمة بسَهولة وقد لا نقف؛ فإذا وقَفْنا انتَهَت المُشكِلة، وإذا لم نقف فإنَّ علينا أنْ نعملَ بتلك الأحكام مُعْتَقِدين في حِكْمَة المُشَرِّع. فالمسلمون الأوائل صَدَّقوا بهذه الأحكام وعمِلوا بها «تَعَبُّداً لله»، فامْتَنَعوا عن أكْلِ لحْم الخِنزير لِمُجَرَّد أنْ أنْبأَهُم القرآن بأنه ( رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ )، ولم يكونوا عارفين بِمَضارِّه المادِّيةِ. واليوم وقد بدَأَ العِلْمُ يقف على بعض الأضرار الموجودة في لحم الخِنزير، لا نقول إنَّه عَرَفها كلَّها، ولا نستطيع أن نقول إننا اكتشفْنا عِلَّة التَّحْريم، ولا نتَطاوَل فنقول: إنه يُمْكن القضاءُ على بعض الجراثيم ثُم نأكلُ هذا اللحم، لأن العِلة الصريحة والمُجَسّمة لم يَقَع اكتشافها ولذلك فإن الحُكْمَ سيبْقَى قائماً ما دامت السماوات والأرض... وما يقال في هذا المثال يقال في غيره من الأحكام الشرعية، فلا نقول: إن المرأة اليوم أصبحت تعمل خارج البيت، فلا حاجة لنا إذن بالنص القرآني الذي يقول: +فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ".. إنَّ تَصَرُّفا مِثْل هذا يُؤدي مُباشَرةً إلى نَقْض كافَّة أحْكام الشرع، فَضْلاً عن كَوْنِه يَتَضَمَّن مَعْنَىً مُؤَدَّاه أنَّ الله لا يعْلَم مَصالح عباده، وهذا باطل: { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (250). وهناك فريقٌ آخَرَ يقِفُ مَوْقِفاً آخَر مِن هذه المسألة، حين يَعْتَبِر أنَّ الأحْكام قابلةٌ للتَّغَيُّر، ويُمكن الاكْتفاءُ ببعض المبادئ التي جاء بها الإسلام. وبالنسبة لهذا الرأي «إنَّ الثابت في التشريع هو مبدأ العقوبة أو الجزاء، أما الأشْكال التَّطْبيقية لهذا المبدأ فمَوْكُولَةٌ لِكلِّ عصرٍ على حسْب أوْضاعِه وأعْرافِه وقِيَمه. وبهذا يَسْتَوْعِب القرآن مُتَغَيِّرات العصور، ويَبْقَى كما أرادَ لَه الله صالحاً لكل زمان ومكان» (251). وهذا الرأي يُريد الدِّفاع عن الإسلام وإبْرازَه في صورةٍ تجْعلُه حسْب ظَنِّ صاحِبِه، مُتلائماً مع كل الظروف. ولكنه يُؤَدي هو الآخَر إلى اخْتزالِ الشريعة في بعض المبادئ، ونقول لِصاحِبِه: إنَّ الشريعة لم تَكْتَفِ بِسَنِّ مَبادئ العقوبات؛ بل سَنَّت كذلك الأحْكام، فلَمْ يكْتَفِ القرآن بمبدأ عُقوبة جَرِيمَة الزِّنا أو السرقة، وإنما حدَّد هذه العُقوبة، ولو كان يُمْكِن الاكْتِفاءُ بالمبادئ لَقُلْنا:إنَّ الإسلام لم يُضِف – تبْعاً لذلك – أشياءَ جديدةً وتشريعاتٍ مميزةً، ويكون بذلك قد اقْتَصر على تأْيِيد بعض العقوبات التي في عصره، فجميع القوانين أو أغلبها تُعاقِب على جريمة السَّرقة والخِيانةِ والزِّنا... وليس المُهِمُّ في المبدأ فقط، وإنما في الشكل كذلك. إن هذا الرأي بِقَطْع النَّظر عن خلفِيَّاته ,لأننا لا نُناقِش الخَلْفِيات، يؤدي كذلك إلى تأْويل أحكام الشريعة الواضحة تأويلاً يُمَزِّقُها ويُفْسِدُها. لا شك في أن الشريعة جاءت لِترْفَع الحَرَجَ والمَشَقَّة، وقد أدْرك علماء الأمة هذه المعاني فَبَيَّنُوا سَماحة الشريعة، وغيَّر بعضُهم فَتْواهُ بتَغَيُّر الزمان والمكان، يقول ابن القيِّم: «فَصْلٌ في تَغَيُّر الفَتْوَى واختلافِها بحسْب تَغيُّر الأزْمنة والأمكنة والأحوال والنِّيات والعَوائد؛هذا فَصْلٌ عظيمٌ جداً، ووَقَع بِسَبَب الجَهْلِ بِهِ غَلَطٌ عظيمٌ على الشريعة أَوْجَبَ مِن الحَرَجِ والمَشقَّة وتكْلِيف ما لا سبِيل إليه ما يُعْلَمُ أنَّ الشريعة الباهرة التي في أعلى رُتَبِ المصالح لا تأْتِي به» (252). وقد قال الإمام مالك ردَّاً على الخليفة أبي جعفر المنصور عندما طَلب منه تأْليفَ كِتابٍ يَتَوسَّط فيه بينَ رُخَصِ ابنِ عباسٍ وشدائدِ ابنِ عمر، قال: «لا تَفْعَل يا أميرَ المؤمنين، فقَد سَبَقَت إلى الناس أقاوِيل، وسمعوا أحاديث، وأخذ كل قومٍ بما سَبَق إليهِم، فَدَعِ الناس وما اختارَ كلُّ قَوْمٍ لأنْفُسِهم» وفي روايةٍ أنه قال: «إنَّ أصْحابَ رسول الله تَفَرَّقوا في الأمْصار، وعِنْدَ كل قومٍ علمٌ، فإنْ حَمَلْتَهم على رأْيٍ واحدٍ تكون فتنة» (253). وبذلك يَتَبَيَّن أنَّ شريعة الإسلام مُتَوافِقَةٌ مع الإنسان في ثَباتِه وتَطَوُّرِه دُون أنْ تَتَحوَّل إلى «مَرْكوبٍ سهْلِ الامْتِطاء» يَتَطَاولُ عليه كلُّ إنسانٍ ).
( المرجع : " ظاهرة اليسار الإسلامي ، عبدالسلام بسيوني ، ص 145-158) .
الشبهة(9) : تفريقهم بين السنة التشريعية غير التشريعية
يقوم مبدأ تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية على مبدأ التمييز بين بشرية الرسول ونبوته, ومن القضايا التي تلتقي فيها العصرانية في الشرق والغرب يهوديها ونصرانيها ومسلميها في هذه القضية، التي يعبر عنها أحيانًا بمبدأ التمييز بين ما هو إلهي Dinvine وبشريHuman في الدين. ولعل لليهود والنصارى عذرهم في المناداة بهذا المبدأ؛ لأن الحاخامات والباباوات عندهم زعمت أن كل ما يصدر منها هو وحي من عند الله، وادعت هذه الطبقة لنفسها العصمة من الخطأ في آرائها وأقوالها، بل وبلغ التطرف نهايته في المسيحية في ادعاء ألوهيته المسيح، ولهذا كانت المطالبة بفصل ما هو إلهي ومصدره الإله، عما هو بشري ومصدره البشر، وتأكيد بشرية المسيح مطالبة لها مسوغاتها ودوافعها في اليهودية والمسيحية (254) ، إذ قصد من ذلك إزاحة القدسية عن الإضافات البشرية للكتب المقدسة، وإزاحة القدسية عن طبقة رجال الدين، واعتبارهم في منزلة عادية كسائر البشر، واعتبار آرائهم وتفسيراتهم للدين آراء بشرية تخضع للنقد وتقبل الخطأ والصواب. وقد اتخذت فكرة الفصل بين الجزء الإلهي في الدين والجزء البشري مبدأين في الإسلام على أيدي العصرانيين: الأول: التمييز بين بشرية النبي صلى الله عليه وسلم ونبوته. الثاني: التمييز بين شريعة الله وشريعة الفقهاء. ونتحدث هنا عن المبدأ الأول، أما المبدأ الثاني فسوف يأتي الحديث عنه إن شاء الله. ويشرح عبد الوهاب خلاَّف مبدأ التمييز بين بشرية النبي صلى الله عليه وسلم ونبوته، فيقول تحت عنوان (ما ليس تشريعًا من أقوال الرسول وأفعاله): «ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقوال وأفعال، إنما يكون حجة على المسلمين واجبًا اتباعه، إذا صدر عنه بوصفه أنه رسول الله، وكان مقصودًا به التشريع العام والاقتداء؛ وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنسان كسائر الناس، اصطفاه الله رسولا إليهم، كما قال تعالى: { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ } [ الكهف: 110] 1- فما صدر عنه بمقتضى طبيعته الإنسانية من قيام وقعود، ومشي ونوم، وأكل وشرب فليس تشريعًا؛ لأن هذا ليس مصدره رسالته، ولكن مصدره إنسانيته، لكن إذا صدر منه فعل إنساني ودل على أن المقصود من فعله الاقتداء به كان تشريعا بهذا الدليل. 2- وما صدر عنه بمقتضى الخبرة الإنسانية والحذق والتجارب في الشئون الدنيوية، من إتجار أو زارعة، أو تنظيم جيش أو تدبير حربي، أو وصف دواء لمرض أو أمثال هذا، فليس تشريعًا أيضًا؛ لأنه ليس صادرًا عن رسالته، وإنما هو صادر عن خبرته الدنيوية وتقديره الشخصي، ولهذا لَمَّا رأى في بعض غزواته أن ينـزل الجند في مكان معين، قال له بعض صحابته: أهذا منزل أنزلكه الله أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال الصحابي: ليس هذا بمنزل، وأشار بإنزال الجند في مكان آخر لأسباب حربية بَيَّنها للرسول. ولما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم أهل المدينة يؤبِّرون النخل أشار عليهم ألا يؤبِّروا، فتركوا التأبير (يعني التلقيح)، وتلف الثمر، فقال لهم: أبِّروا، أنتم أعلم بأمور دنياكم. 3- وما صدر عن رسول الله ودل الدليل الشرعي على أنه خاص به، وأنه ليس أسوة فيه فليس تشريعًا عامًّا، كتزوجه بأكثر من أربع زوجات؛ لأن قوله تعالى: { فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} دلَّ على أن الحد الأعلى لعدد الزوجات أربع، وكاكتفائه في إثبات الدعوى بشهادة (خزيمة) وحده؛ لأن النصوص صريحة في أن البيِّنة شاهدان. ويراعى أن قضاء الرسول في خصومه يشتمل على أمرين: أحدهما إثباته وقائع، وثانيهما: حكمه على تقدير ثبوت الوقائع. فإثبات الوقائع أمر تقديري له وليس بتشريع، وأما حكمه بعد تقرير ثبوت الوقائع فهو تشريع.. ولهذا روي البخاري ومسلم عن أم سلمة أن رسول الله سمع خصومة بباب حجرته فخرج إليهم، فقال: إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصوم، فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها. والخلاصة: أن ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقوال وأفعال في حال من الحالات الثلاث التي بينَّاها، فهو مِنْ سنته ولكنه ليس تشريعًا ولا قانونًا واجبًا اتباعه، وأما فيما صدر من أقوال وأفعال بوصف أنه رسول ومقصود به التشريع العام واقتداء المسلمين به فهو حجة على المسلمين، وقانون واجب اتباعه . (255) ومبدأ تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية من المبادئ الهامة عند سيد خان، وقد نقلنا هذا الرأي من قبل عنه، وقلنا: إنه حتى الأحاديث التي يقبلها وتصح فيها شروطه فهو يقسمها إلى قسمين: أحاديث خاصة بالأمور الدينية، وأحاديث خاصة بالأمور الدنيوية، فالأحاديث في دائرة أمور الدين هي الملزمة عنده وعلى المسلمين أن يستمسكوا بها، أما الأحاديث في أمور الدنيا فهي غير داخلة في مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم مطلقًا. ويرى أن كل ما جاء في هذا المجال فهو خاص بظروف وحالة العرب في زمان النبوة، وتشمل الأمور الدنيوية كل المسائل السياسية والإدارية والاجتماعية والاقتصادية، أما أمور الدين فهي تختص فقط بالعقائد والعبادات. (256) ولا ينفرد (سيد خان) بتوسيع دائرة السنة غير التشريعية إلى الحد الذي شرحناه، بل يشاركه في هذا الرأي آخرون، وهذا يدل على مدى خطورة هذا المبدأ، إذ أنه عمليًّا ينتهي إلى حَصْرِ الدين في مجموعة العقائد والعبادات فقط. يقول (أحمد كمال أبو المجد): «إن كثيرًا من أقواله وأفعاله (يعني الرسول صلى الله عليه وسلم ) قد صدرت عنه بحكم تلك البشرية، دون أن يكون المقصود منها التشريع وتقرير الأحكام الملزمة للناس من بعده». (257) وفيما يبدو أن هذا هو رأي محمد سليم العوا في بحثه لهذا الموضوع . (258) فما هي الحجج التي تساق لتقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية؟ يعتمد أصحاب هذا الرأي على عدد من الأدلة والحجج، ونناقش فيما يلي ما أودره الشيخ (خلاَّف) فيما نقل عنه قبل قليل وما يورده غيره. الحجة الأولى : أفعال الرسول الجبليَّة يقال: إن من أقسام السنة غير التشريعية ما صدر من الرسول صلى الله عليه وسلم من أفعال بمقتضى جبلته البشرية وطبيعته الإنسانية، مثل حركات الجسم، وتصرفات الأعضاء، أو القيام أو القعود في بعض المواطن أو في بعض الأزمنة اتفاقًا. وفي حقيقة الأمر أن في هذا النوع من أفعال الرسول نوع من الاشتباه، يوقع بعض الناس في اللَّبس. وممن شرح هذا الأمر شرحًا وافيًا العلامة الشوكاني، فأوضح أن هذا النوع من الأفعال ليس فيه أسوة أو قدوة ولا يتعلق به أمر باتباعه أو نهي عن مخالفته، ولكن مع ذلك فإن هذه الأفعال تدل على إباحتها، والإباحة من الأحكام الشرعية. (259) ومن المتأمل في هذا النوع من الأفعال الجبلية يتضح أنها تلك الأعمال التي لا اختيار للمرء لهيئتها وكيفيتها في لونه وطوله وصفة وجهه، فكذلك لا يتأسى به في أفعاله الجبلية؛ لأن ذلك التأسي لا يملكه أحد، ولا يدخل في اختياره ولا يقدر عليه حتى لو أراده. وعلى هذا فمن يطلق على هذه الأفعال أنها ليست تشريعية، بمعنى أنه ليس فيها تأسٍ ولا اقتداء، فهو إطلاق صحيح. ومَنْ قال: إن هذه الأفعال تشريعية لأنها تدل على حكم شرعي وهو الإباحة، والتشريع يتنوع إلى إباحة وندب وواجب وغيره، فهو أيضًا مصيب. وعلى هذا فلا بد من تحديد ما المقصود بكلمة تشريع أو غير تشريع، فإن الغموض في تحديد معاني المصطلحات يُوقِعُ في اللبس. والمعاصرون الذين بحثوا السنة غير التشريعية لم يحددوا معناها بكل دقة وضبط، ويوهم كلامهم أن المراد من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس بتشريع، بمعنى أن منها ما لا يدل على حكم شرعي، حتى لو كان هذا الحكم الإباحة، وهو معنى خاطئ لا شك فيه. أما إذا كانوا يقصدون من مصطلح السنة غير التشريعية أنها تلك السنة التي ليس فيها إلزام، بمعنى أنها لا تدل على فرض أو حُرْْمَة، ولا تدل على ندب أو كراهة، بل تدل على إباحة، فصبيان المدارس يعلمون المباح من أقسام السنة. وهل ادعى أحد أن كل السنة في درجة واحدة من درجات الإلزام؟ ثم هل الإباحة ليست من التشريع؟ أليس تحليل الحلال من أهم مقتضيات الإيمان؟ ألا يقدح في الإيمان تحريم الحلال أو تحليل الحرام؟ فإذا كان الحل والجواز يمثل هذه الأهمية، فكيف تكون السنة التي تدل على هذا الحل، وهذه الإباحة سنة غير تشريعية؟ الحجة الثانية: خطط الرسول الحربية. وقد استدل على تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية بحادثة مشورة الحباب بن المنذر في غزوة بدر؛ حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله: أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. قال: يا رسول الله: فإن هذا ليس بمنزل، ثم أشار عليه بأن ينزل منزلا آخر . (260) وقد جعلت هذه الحادثة دليلا على أن تدبير الحروب من أقسام السنة غير التشريعية، وتأتي على هذا الاستدلال اعتراضات أساسية: 1- الحادثة نفسها غير ثابتة، فقد رواها ابن هشام في سيرته وفي روايته لها جهالة، ورواها الحاكم وفي سندها مَنْ لا يعرف، وقال عنها الذهبي: حديث منكر، وذكرها ابن كثير في (البداية والنهاية) وفي رواتها مُتَّهم (261) وإذا كانت الحادثة غير ثابتة فلا تقوم بها حجة. 2- وعلى فرض صحة ثبوت الحادثة فما وجه الدليل فيها؟ هل لأن النبي صلى الله عليه وسلم صدر فيها عن رأيه من غير وحي، ولهذا فهي سنة غير تشريعية، أم لأنه استشار أصحابه في الأمر ونزل عن رأيه لرأيهم؟ فعلى الصحيح مِنْ رأي العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد برأيه أحيانًا من غير وحي في بعض أحكام الشرع، وأحيانًا كان يشاور أصحابه في أمور لا يشك أنها من الأمور الدينية، فقد روي أنه شاور أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- في مفاداة الأسارى يوم بدر، فأشار عليه أبو بكر بأن يفادي بهم، ومال رأيه إلى ذلك، حتى نزل قوله تعالى: ( لَوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ومفاداة الأسير بالمال جوازه وفساده من أحكام الشرع، ومما هو حقٌّ الله تعالى، وقد شاور فيه أصحابه وعمل فيه بالرأي، إلى أن نزل الوحي بخلاف ما رآه. وقد شاورهم فيما يكون جامعًا لهم في أوقات الصلاة ليؤدوها بالجماعة. ثم لَمَّا جاء عبد الله بن زيد -رضي الله عنه- وذكر ما رأى في المنام من أمر الآذان فأخذ بها، وقال: «ألقها على بلال»، ومعلوم أنه أخذ بذلك بطريق الرأي دون طريق الوحي. ألا ترى أنه لَمَّا أتى عمر وأخبره أنه رأى مثل ذلك قال: «الله أكبر.. هذا أثبت»، ولو كان قد نزل عليه الوحي به لم يكن لهذا الكلام معنى، ولا شك أن حكم الأذان مما هو من حق الله، ثم جوز العمل فيه بالرأي. (262) فإذا قيل: إن السنة غير التشريعية هي التي تصدر عن رأي الرسول من غير وحي، إذ أنها حينئذ صادرة عنه بوصفه بَشَرًا، فهلا قيل: إن الأذان من السنة غير التشريعية؛ لأنه صدر عن رأي من غير وحي، أو هلا قيل: إن مسألة مفاداة الأسرى من السنة غير التشريعية؛ لأن الرسول قد حكم فيها برأيه، ثم خَطَّأه الوحي. ولعله يحسن في هذا المقام أن نبين أنه لا فرق في سنة النبي صلى الله عليه وسلم بين أن يأتي بها الوحي أو تصدر عن رأيه، وذلك أنه بخلاف ما يكون من الرأي من غيره من المجتهدين؛ فإن النبي لا يقر على الخطأ. فإذا بَيَّنَ أمرًا من رأيه وأقر عليه كان ذلك صوابًا لا محالة، وصار ذلك بسكوت الوحي عليه وموافقته له ضِمْنًا، وإقراره عليه، كأنه صدر من الوحي ابتداء. والدليل على هذه القاعدة ما روي أن خولة -رضي الله عنها- لَمَّا جاءت إليه تسأله عن ظهار زوجها منها قال: «ما أراك إلا قد حرمت عليه»، فقالت: إني أشتكي إلى الله، فأنزل الله تعالى قوله: ( قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَتِي تُجَادِلُكَ ) وبَيَّن فيها حكم الظهار. فعرفنا أنه كان يفتي بالرأي في أحكام الشرع، وكان لا يقر على الخطأ، وهذا لأنا أمرنا باتباعه؛ قال تعالى: ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ) وحين بين بالرأي وأقر على ذلك كان اتباع ذلك فرضًا علينا لا محالة، فعرفنا أن ذلك هو الحق المتيقن به، ومثل ذلك لا يوجد في حق الأمة؛ فالمجتهد قد يخطئ . (263) ولعله من الطريف حقًّا أن نعلم أن (ابن كثير) أضاف إلى الرواية حادثة الحباب بن المنذر أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه بعد ذلك جبريل، وملك، فقال له الملك: إن الله يقول لك: إن الأمر هو الذي أمرك به الحباب بن المنذر. (264) فإذا قبلنا ثبوت حادثة الحباب هذه، فينبغي أن يعلم أن الوحي قد أقرها صراحة، فلا تكون راجعة إلى الرأي والخبرة وحدها. الحجة الثالثة: حديث تلقيح النخل: من أقوى حجج اشتمال السنة على أمور غير تشريعية (هي الشئون الدنيوية) حديث تلقيح النخل الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «أنتم أعلم بأمور دنياكم». وفيما يلي عدد من الروايات الصحيحة لهذا الحديث : 1- عن موسى بن طلحة عن أبيه قال: مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رؤوس النخل، فقال: «ما يصنع هؤلاء؟» فقالوا: يلقحونه يجعلون الذكر في الأنثى فتلقح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أظن ذلك يغني شيئًا» فأخبروه فتركوه. فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: «إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظنًّا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئًا فخذوا به؛ فإني لن أكذب على الله عز وجل». رواه مسلم(265) 2- عن رافع بن خديح قال: قَدِم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يُأبِّرون النخل (يلقحون النخل) فقال: «ما تصنعون؟» قالوا: كنا نصنعه، قال: «لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا»، فتركوه فنفضت (يعني أسقطت ثمرها)، قال: فذكروا ذلك، فقال: «إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر». رواه مسلم (266) 3- عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّ بقوم يلقحون النخل فقال: «لو لم تفعلوا لصلح»، فخرجت شَيصًا (الشيص: هو التمر الرديء)، فمر بهم فقال: «ما لنخلكم؟» قالوا: قلت كذا وكذا، قال: «أنتم أعلم بأمور دنياكم». رواه مسلم (267) 4- عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع أصواتًا، فقال: «ما هذه الأصوات؟» قالوا: النخل يؤبرونه يا رسول الله، فقال: «لو لم يفعلوا لصلح»، فلم يؤبروا عامئذ فصار شيصًا، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إذا كان شيئًا من أمر دنياكم فشأنكم به، وإذا كان شيئًا من أمر دينكم فإليَّ». رواه الإمام أحمد. (268) ويقول (الدكتور العوا) عن هذا الحديث: « ولو لم يكن غير هذا الحديث الشريف في تبيين أن سنته صلى الله عليه وسلم ليست كلها شرعًا لازمًا وقانونًا دائمًا لكفى.ففي نص عبارة الحديث بمختلف رواياته تبين أن ما يلزم اتباعه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان مستندًا إلى الوحي فحسب، وذلك غالبه متعلق بأمور الدين، وأقله متعلق بأمور الدنيا، وليس أوضح في الدلالة على هذا من خبرة لي بالنخل ـ إذ ليس في مكة نخل ـ أو لا أحسن الزراعة فبلدي واد غير ذي زرع، ولكنه -عليه الصلاة والسلام- تخير أحسن العبارات وأجمعها، وجعل من حديثه في هذه المسألة الجزئية، قاعدة كلية عامة، مؤداها: أنه في ما لا وحي فيه من شئون الدنيا فالأمر للخبرة والتجربة والمصلحة، التي يحسن أرباب الأمر معرفتها دون من لا خبرة له به. فلم يكن الجواب قاصرًا على مسألة تلقيح النخل، وإنما جاء شاملا لكل أمر مما لم يأت فيه وحي بقرآن أو سنة. (269) وفهم الحديث على هذا النحو قال به أيضًا (سيد خان)، وعدد من المحدثين وتوسع فيه بعضهم حتى حصر الدين في العقائد والعبادات فقط، وللمرء أن يسأل هنا: هل كان الناس يفهمون الحديث على هذا النحو قبل هؤلاء. من مطالعة شروح هذا الحديث والتعليقات عليه (270) ، ومن المتأمل في رواياته تتجلى الأمور التالية: 1- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصدر منه أمر للقوم بترك التلقيح، ولم يصدر منه خبر أن التلقيح مفيد أو غير مفيد، بل هو قد ظن ظنًّا وأساء القوم فهم هذا الظن، فتركوا التلقيح بناء عليه. يقول ابن تيمية موضحًا ذلك: «...وهو صلى الله عليه وسلم لم ينههم عن التلقيح، لكن هم غلطوا في ظنهم أنه نهاهم، كما غلط في ظنه أن الخيط الأبيض والخيط الأسود هو الحبل الأبيض والأسود» . (271) ويؤكد النووي هذه الحقيقة فيقول: «... قال العلماء: ولم يكن هذا القول خبرًا، وإنما كان ظنًّا كما بينه في هذه الروايات». (272) والروايات التي يشير إليها النووي هي ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ما أظن يغني ذلك شيئًا».. فأخبروا بذلك فتركوه وحين لم يثمر النخل قال: «إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه؛ فإني إنما ظننت ظنًّا، فلا تؤاخذوني بالظن». 2- جاء في روايات هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أضاف قائلا: « أنتم أعلم بأمور دنياكم»، وتضيف رواية أخرى أنه قال: « إذا كان شيئًا من أمر دنياكم فشأنكم به، وإذا كان شيئًا من أمر دينكم فإليَّ». فماذا يقصد الرسول صلى الله عليه وسلم بأمور الدنيا؟ لدينا على الأقل مثال واحد عن المقصود بأمور الدنيا لا يثور حوله جدل، وهو تلقيح النخل، وحتى هذا المثال الوحيد لم يصدر عن النبي فيه خبر صريح أو أمر جازم، وهكذا الحال في أقرب الأمور شبهًا بتلقيح النخل وأمور الفلاحة، فإننا لا نجد خبرًا عن الرسول عن كيفية خياطة الملابس مثلا، أو عن كيفية صنع السيوف والدروع، وعن كيفية طبخ الأطعمة أو نصب الخيام، أو أمثالها من معايش الدنيا. فلَمَّا لَمْ نجد ذلك علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن مهمته أن يبين هذه الأمور، وإنما مهمته أن يبين أمور الدين، ولهذا قال لهم: « إذا كان شيئًا من أمر دنياكم فشأنكم به، وإذا كان شيئًا من أمر دينكم فإليَّ». وقال لهم: «أنتم أعلم بأمور دنياكم ». فكل ما بينه الرسول وجاءت به سنته فهو من أمور الدين، وأما معايش الدنيا من مثل الأمور المذكورة، فلم يتعرض لها الرسول ببيان. 3- ومما يؤكد أن كل ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم فهو من أمور الدين شيئان: الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين لنا فَرقًا واضحًا في سنته بين أمور الدنيا وأمور الدين، ولو كان مثل هذا التقسيم حقيقة قائمة لأوضح لنا كيف نميز بين القسمين تمييزًا لا نقع معه في لبس؛ لأن الحاجة - لا شك - ماسة لمثل هذا التمييز، فلما لَمْ نجد بيانًا عن الرسول مع قيام الحاجة إليه تأكدنا أن التقسيم إلى سنة خاصة بأمور الدين، وسنة خاصة بأمور الدنيا تقسيم لا وجود له. وحتى أولئك الذين وَلَّدَ وَهْمُهُمْ هذا التقسيم، لم يستطع أحد منهم أن يقدم معيارًا صحيحًا للتمييز بين ما ظنوه سنة تشريعية وغير تشريعية، ولن يستطيعوا؛ لأن هذا التمييز لا يقوم إلا في أذهانهم فقط. والثاني : أن الصحابة والتابعين وأئمة المجتهدين والفقهاء وقادة الرأي والفكر خلال أربعة عشرة قرنًا، لم يعرف أحد منهم أنه ردَّ سنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم بحجة أنها خاصة بأمور الدنيا، مع كثرة اختلافهم، ورد بعضهم على بعض عند تعارض الأدلة. الحجة الرابعة: الأحاديث النبوية عن الطب يشرح المستشرق (موريس بوكاي) هذه الحجة كالآتي: هناك بعض الأحاديث غير المقبولة علميًّا في مواضيع الطب والمعالجة، ومع أن هذه الأحاديث صحيحة إلا أن الحديث قد يكون صحيحًا لا شك فيه، ولكنه قد يكون متعلقًا بشأن من شئون الدنيا مما لا وحي فيه، وعندئذ لا فرق في ذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين غيره مِنَ البشر؛ لحديث « أنتم أعلم بأمور دنياكم»، وهذه الأحاديث المتعلقة بموضوعات طبية تعطينا صورة عن مفاهيم ذلك العصر وآرائهم في مثل هذه المواضيع الطبية. وللتدليل على رأيه سرد عددًا من الأحاديث المتعلقة بالطب، والتي يرى أنها لا تتفق مع حقائق العلم الحديث، وفيما يلي نقوم بتصنيف هذه الأحاديث التي ذكرها، وننظر هل صحيح أنها لا تتفق مع حقائق العلم الحديث؟ وهل صحيح ما استنتجه من أنها ناشئة عن الخبرة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم فقط؟ ويمكن تصنيف هذه الأحاديث على النحو التالي : 1- الأحاديث المتعلقة بالعين والسحر. ولا أدري ما الحقيقة العلمية التي تناقض هذه الأحاديث؟! ففضلا عن أن مسائل العين والسحر لا تدخل في نطاق الطب التجريبي الغربي الحديث، فإن القرآن قد أثبت أيضًا السحر والعين، ولا يوجد دليل علمي واحد ينفي وجودهما، فكيف ينكر أمر تَضَافَرَ على إثباته القرآن والسنة اعتمادًا على تصور مادي بحت لا يقوم إلا على الظن. 2- الأحاديث التي أشارت لبعض الخواص الطبية العلاجية لبعض الثمار مثل التمر أو الحبوب مثل الحبة السوداء، أو بعض الأغذية مثل لبن الناقة. ومن العجيب أن يستريب أحد فيما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من وجود خصائص علاجية في هذه المواد، وإلا فمن أين تستخرج الأدوية قديمًا وحديثًا؛ ألا تستخرج من مثل هذه المواد؟ 3- الحديث الذي أخبر عن استخدام بول الإبل كدواء. ومن الثابت طبيًّا أن البول حتى بول الإنسان ليس ضارًّا إذا شرب، بل إن هناك أدوية فعالة جدا تستخرج الآن من البول، وقد بدأت الدراسات الحديثة تتسع في هذا المضمار. 4- الأحاديث التي تشير إلى أن من أصول العلاج ثلاث: الكي والأشربة والجراحة (شرطة محجم)، فهل تغيرت طرق العلاج هذه، أم كل ما هناك أنه قد أصبحت وسائل متقدمة لاستخدامها. (من مظاهر سوء الفهم حصر الكي أو غيره في كيفية معينة، فالحديث لم يتعرض لهذه الكيفية، إنما أشار فقط لأصول طرق العلاج). 5- الحديث الذي يشير إلى أن الذباب ينقل في بعض أجزاء جسمه سمومًا، وأن في بعض أجزاء جسمه الأخرى مضادات لتلك السموم، وكل ما يمكن أن يقال من الناحية الطبية أن العلم لم يكتشف ذلك حتى الآن، ولكن هل يستطيع أحد أن يجزم بنفي إمكان اكتشاف ذلك مستقبلا. 6- الحديث الذي يشير إلى أن الْحُمَّى من فيح جهنم، وينصح بإبرادها بالماء. واستعمال الضمادات المثلجة لإنزال حرارة الحمى هو من طرق العلاج المستخدمة الآن، أما كون الحمى من فيح جهنم فهناك تفسيران لذلك: أولهما أن حرارة الحمى شبيهة بحرارة جهنم، وهذا لا اعتراض عليه. والثاني: أن هناك صلة حقيقية بين حرارة الحمى وبين جهنم؟ فهل يستطيع بشر بأي تجربة علمية أن يثبت أن مثل هذه الصلة لا يمكن أن توجد؟ إن جهنم من أمور الغيب، والنبي صلى الله عليه وسلم هو وحده الخبير بأمور الغيب. 7- الأخبار بأن هناك جنسًا من الثعابين يسبب العمى ويُسْقِطُ الْحَمْل، وهذا النوع من الثعابين نوع معروف حتى الآن وموجود ومشهور، ويُعْرف باسم الكوبرا Copصلى الله عليه وسلمa، ومن المعروف عنه أنه يصوب سمَّه إلى عين فريسته ليعميها. أما إسقاط الحمل فقد يكون بسبب الفزع من رؤيته، أو بسبب سمه إذا لدغ. وهكذا فالنظر في الأحاديث التي ساقها (موريس بوكاي) نخلص إلى أنه ليس فيها حديث واحد يخالف حقائق العلم الحديث، وفي حقيقة الأمر لا يستطيع أحد أن يعثر على حديث من هذا النوع، إنما الذي يوقع في الالتباس ويوهم أن هناك تناقضًا إما سوء فهم الحديث أو الجهل بالعلم الحديث. ولهذا فإن الطريقة المثلى إذا وقع في نفس المرء الْتِبَاس من هذا النوع، أن يتثبت من صحة الحديث، ويراجع شروحه، ويستوثق من فهم الحديث على وجهه الصحيح، ويسأل في المسائل العلمية جهات الاختصاص، ولا يسارع إلى الإنكار ورد الأحاديث الصحيحة، ففضلا عن أن ذلك ليس منهجًا علميًّا صحيحًا، فهو ليس سبيل الذين رسخ الإيمان في قلوبهم. ويحسن التنويه هنا بأمرين: أولهما : إن مثل هذه الاعتراضات لم تظهر في عصرنا هذا فحسب، ولكنها ظهرت في العصور الماضية، ولم تكن تصدر إلا مِمَّن عرف عنهم انحراف في التفكير، فهذا ابن قتيبة مثلا من علماء القرن الثالث الهجري يؤلف كتابًا في الردِّ على أعداء أهل الحديث، والجمع بين الأخبار التي ادَّعوا عليها التناقض والاختلاف، والجواب عما أوردوه مِنَ الشُّبه على بعض الأخبار المتشابهة أو المشكلة بادئ الرأي . (273) وثانيهما: أن مِنْ بعض ما ظن الناس فيه تناقضًا مع ما عندهم من المعرفة في عصرهم، قد ظهر خطؤه في هذا العصر مع تقدم العلم، ومن ذلك: الأمر بغسل الإناء الذي يلغ فيه الكلب. وقد نقل الخطابي من علماء القرن الرابع الهجري اعتراضًا على أحد الأحاديث فقال: « اعترض بعض سخفاء الأطباء على حديث إبراد الْحُمَّى بالماء بأن قال: اغتسال المحموم بالماء خطر يقرِّبه من الهلاك؛ لأنه يجمع المسام ويحقن البخار، ويعكس الحرارة إلى داخل الجسم، فيكون ذلك سببًا للتلف». ثم ردَّ الخطابي على ذلك بأن قال: « وإنما أوقعه في ذلك جهله بمعنى الحديث، والجواب أن هذا الإشكال صَدَرَ عَنْ صَدْرٍ مرتاب في صدق الخبر، فيقال له أولا: من أين حملت الأمر على الاغتسال وليس في الحديث الصحيح بيان الكيفية.. إلى أن قال: «وإنما قصد صلى الله عليه وسلم استعمال الماء على وجه ينفع، فليبحث عن ذلك الوجه ليحصل الانتفاع به ». (274) ولا أظننا في هذا العصر -الذي أصبح فيه إبراد الحمى بالماء طريقة طبية مستخدمة- نقابل ذلك الاعتراض المثار بغير السخرية من جهل صاحبه وجنايته على الطب وعلى الدين. وفي حقيقة الأمر فإن الطب النبوي كله يحتاج لدراسة دقيقة، وربما توصل الناس عن طريق البحث والتجارب إلى اكتشافات عظيمة، ولو كانت هذه الثورة العلمية عند الغربيين لأفادوا منها كثيرًا، ولكن المسلمين اليوم متأخرون متخلفون في كثير من مجالات الحياة. الحجة الخامسة : تصرفات الرسول بالرسالة وبالإمامة والقضاء : قسم (الإمام القرافي) تصرفات الرسول إلى أنواع: تصرفات بوصفه رسولا، وبوصفه مفتيًا، وبوصفه قاضيًا، وبوصفه إمامًا (رأس دولة) (275) وقد ذهب مَنِ احتج بهذا التقسيم إلى أن تصرفات الرسول في القضاء والإمامة ليست من السنة التشريعية الملزمة . (276) وإذا تمعنَّا في هذا الذي ذكره الإمام القرافي يتضح أن المقصود من تقسيم تصرفات الرسول -عليه السلام- إلى تصرفات بالرسالة وبالقضاء وبالإمامة، هو التفرقة بين الأمور الخاصة بالسلطة التنفيذية، والتي لا يجوز للأفراد العاديين مباشرتها، والتي تختص بالسلطة القضائية، والتي لا يجوز لعامة الأفراد ممارستها إلا بعد حكم قضائي وإذن، وبين الأمور التي تُرِكَ للناس الحرية في التصرف فيها دون حاجة إلى إذن من السلطات. فالمقصود من كلام (القرافي) البحث عن ذلك في تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بيانًا للاختصاصات، وتوزيعات للسلطات، وحصرًا لِمَا يدخل تحت اختصاص كل سلطة من سلطات الدولة. ولا يفهم من كلام (القرافي) بحال أن تصرفات الرسول في قسم الإمامة والقضاء ليست تشريعية. بل إن صفة الرسالة -وهي الوظيفة التشريعية- لا تفارق الرسول حتى وهو حين يتصرف باعتباره رأس دولة، أو حين ترفع إليه الخصومات ويقضي فيها بوصفه قاضيًا. فهو حين يقسم الغنائم، أو حين يقيم الحدود، أو حين يعلن الحروب وكل ذلك من تصرفات الإمامة (رأس الدولة)، فتشريعه في هذه الأمور تشريع لازم لكل إمام بعده، وكذلك أحكامه القضائية. السنة تشريع كلها : والخلاصة أن السنة تشريع كلها ما كان منها أقوالا أو أفعالا. يقول ابن تيمية: «إن جميع أقواله يستفاد منها شرع... ويدخل في ذلك ما دل عليه من المنافع في الطب». (177) وقد روي أن عبد الله بن عمرو كان يكتب ما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له بعض الناس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم في الغضب فلا تكتب كل ما تسمع، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: «اكتب.. فوالذي نفسي بيده ما خرج من بينهما إلا حق» يعني شفتيه الكريمتين. (278) أما الأفعال فأيضًا كلها تشريع، إلا تلك الأفعال الْجِبِليَّة التي لا يدخل في طوع بشر اختيار كيفيتها وهيئتها. شريعة الله وشريعة الفقهاء المبدأ الثاني الذي تحاول (العصرانية) أن تضع به خطًّا فاصلا بين الجزء الإلهي في الدين والجزء البشري، هو مبدأ التمييز بين شريعة الله وشريعة الفقهاء، فتوصف الأولى بالثبات والدوام، وتوصف الثانية بالتغير والتقلب حسب ظروف العصر. يكتب أحمد كمال أبو المجد عن ذلك فيقول: «إننا نؤكد ضرورة التمييز بين الشريعة والفقه؛ فالشريعة هي الجزء الثابت من أحكام الإسلام، الثابت في النصوص القطعية في ورودها ودلالتها، والفقه تفسير الرجال لهذا الجزء الثابت المستمد مباشرة من النصوص القطعية وقياساتهم عليه، واجتهاداتهم فيما لا نصَّ فيه، وترجيحهم بين ما بَدَا تعارضه من الأدلة، وهو اجتهاد بشر يتفقون ويختلفون، وقلَّما يجتمعون، وخطؤهم وصوابهم ليس تشريعًا، ولكنه يعكس خطَّ كل واحد منهم من المعرفة بالوقائع ومصادر الأحكام، وقواعد التفسير وأصول الترجيح، كما يعكس ظروف الزمان والمكان.. ويعكس بعد ذلك كله رأيه ورؤيته للقيم والمصالح والاعتبارات.. وهو في ذلك كله يرمز إلى الجزء المتغير من تراث الإسلام. وباطل قول مَنْ قال: إن الأول لم يترك للآخر شيئًا... فقد ترك له عَالَمًا كاملا غير عالمه، ودنيا غير دنياه... وتجربة جديدة لا تغني عنها تجربة قديمة. فتلك أمة قد خلت، ولا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ». (279) أما أن الشريعة تشتمل على نصوص منزَّلة من عند الله تعالى، وعلى تفسير الرجال لتلك النصوص، واجتهادهم فيما لا نَصَّ فيه فذلك حَقٌّ لا مراء فيه. أما وصف فقه الرجال بالتغير وعدم الثبات فهو الموضع الذي يحتاج إلى فحص وتأمل. ذلك أن كلمة التغير كلمة تحتمل معاني متعددة، فمن الخطأ البَيِّن أن يقصد منها اطراح فقه العصور الماضية، والبدء في تدوين فقه عصري جديد. «وإذا قرر الجيل الحاضر أن يعرض عن كل ما أنجزته الأجيال الماضية من عمل وجهد، وأن يؤسس له بناءً جديدًا، على قواعد جديدة، فإن للأجيال الآتية بعده أن تتخذ قرارًا سفيها مثل هذا. ولذا فإن شعبًا لم يفارقه العقل لا يبيد الجهود والأعمال التي تمت على أيدي أسلافه، وإنما يتقدم إلى الأمام مضيفًا إلى الأعمال السابقة أعمالا جديدة لم يُتَحْ للأولين أن يقوموا بها، وهكذا لا يزال يتقدم بخطي حثيثة في ميدان الكمال والارتقاء ». (280) إن الفقهاء الأوائل بَشَرٌ ما في ذلك شك، لا يعني ذلك أن ما قالوه فهو خطأ يجب اطراحه. أو لَسْنَا أيضا بشرًا، فما الذي يجعل لنا فضلا عليهم؟ إن فقه الأولين فيه الخطأ والصواب، وكل ذي عقل يرى أن ما كان صوابًا قبلناه، وما كان خطأ طرحناه. وإذا كان تقسيم الشريعة إلى شريعة الله وشريعة الفقهاء له إيحاءات خاطئة، فالأفضل منه أن يجعل التقسيم أكثر تفصيلا، حتى يكون أكثر بيانًا ووضوحًا. وقد قسم الإمام ابن تيمية الشريعة إلى ثلاثة أقسام (281) : شريعة منزلة وهي القرآن والسنة، وشريعة اجتهادية وهي ما توصل إليها عن طريق الاجتهاد، وشريعة محرمة وهي التي يظن أنها من الشرع وهي محض انحرافات. فالشريعة الاجتهادية تتعدد الآراء فيها في المسألة الواحدة، ونقبل ونرفض منها بحسب الأدلة، أما الانحرافات والتحريفات فمرفوضة كلها.
( المرجع : مفهوم تجديد الدين ، بسطامي محمد سعيد ، ص 242-259).
الشبهة(10) : تغير الأحكام بتغير الزمان
يقول: الدكتور محمد سليم العوا: (إن أصحاب رسول الله، وهم حملة الشريعة، والقائمون عليها من بعده، غيروا بعض السنن المروية عن الرسول لما تغيرت الظروف لعلمهم أنها صدرت عنه – عليه السلام – ملاحظًا فيها حال الأمة ومقتضيات البيئة زمن التشريع دون أن تكون شرعًا لازمًا عامًا في كل حال. ولولا ذلك ما غيروا، ونحن نعيذهم جميعًا من أن يخالفوا حديث رسول الله، وهم يعلمون أنه دين عام، وتشريع لازم لكل الناس في جميع الحالات، وكيف يتصور أن يقع ذلك منهم، وهم أحرص الناس على اتباع هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وترسم خطاه ) (282) . ويقول الدكتور معروف الدواليبي في مقال بعنوان: « النصوص وتغير الأحكام بتغير الزمان »: (لقد اعتبرت الشريعة الإسلامية النسخ لبعض الأحكام الشرعية حقًا خاصًا بمن له سلطة التشريع وأخذت به، أما التغيير لحكم لم ينسخ قصة من قبل الشارع فقد أجازته للمجتهدين من قضاة ومفتين، تبعًا لتغير المصالح في الأزمان أيضًا، وامتازت بذلك على غيرها من الشرائع، وأعطت فيها درسًا بليغًا عن مقدار ما تعطيه من حرية للعقول في الاجتهاد، ومن تقدير لتحكيم المصالح في الأحكام. وهكذا أصبح العمل بهذا المبدأ الجليل قاعدة مقررة في التشريع الإسلامي، تعلن بأنه « لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأمان ») (283) ويقول الدكتور النويهي: ( إن كل التشريعات التي تخص أمور المعاش الدنيوي والعلاقات الاجتماعية، بين الناس والتي يحتويها القرآن والسنة، لم يقصد بها الدوام، وعدم التغيير، ولم تكن إلا حلولاً مؤقتة، احتاج لها المسلمون الأوائل، وكانت صالحة وكافية لزمانهم، فليس بالضرورة ملزمة لنا، ومن حقنا بل من واجبنا أن ندخل عليها من الإضافة والحذف والتعديل والتغيير ما نعتقد أن الأحوال تستلزمه ) (284). ومن الأحكام التي وردت النصوص بإثباتها تحديد المواقيت التي يُحْرم منها الحاج والمعتمر، ولكنا نجد من يرى تغيير أو تجاوز هذه المواقيت، بحجة تغير ظروف الزمان والمكان. يقول الشيخ محمد الغزالي: (إن الاجتهاد في بعض الأحكام العبادية ممكن، وقد صرت إلى هذا الرأي بعد ما قرأت رسالة للفقيه المعاصر الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود عنوانها «جواز الإحرام من جدة لركاب الطائرات والسفن البحرية » والعنوان يشير إلى الموضوع، فإن مواقيت الحد حددتها السُنَّة، وقد جد في عالم المواصلات ما لا معنى للتغابي عنه ... يقول الشيخ الجليل: والحكم يدور مع علته، ولكل حادث حديث، ولن يعجز الفقه الإسلامي الصحيح، الواسع الأفق عن إخراج حكم صحيح، في تعيين ميقات يعترف به لحج هؤلاء القادمين على متون الطائرات، لكون شريعة الإسلام كفيلة بحل مشكلات العالم ما وقع في هذا الزمان، وما سيقع بعد أعوام . وحاجة تعيين ميقات في جدة للقادمين على الطائرات، آكد من هذا كله، ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيًا، ويرى كثرة النازلين من أجواء السماء إلى ساحة جدة، يؤمون هذا البيت للحج والعمرة لبادر إلى تعيين ميقات لهم من جدة نفسها، لكون ذلك من مقتضى أصوله ونصوصه)(285) ومن الأمثلة على اجتهاد العقلانيين في أمور ثبت بالدليل حرمتها، وغيروا الحكم فيها «مسألة التصوير لذوات الأرواح » حيث قالوا بجوازها بحجة تغير الزمان، فهذا محمد عمارة يوضح اجتهاده في هذه المسألة مستشهدًا بقول إمامه محمد عبده، ونحن مقدمون على استعراض المأثورات والأحاديث النبوية، التي رويت في هذا الموضوع، هي وجوب الاستحضار والتدبر للمناخ والبيئة والإطار الذي قيلت فيه هذه الأحاديث، وذلك حتى ندرك فيها ومنها المقاصد والعلل والحكم والغايات، فهي قد قيلت للمؤمنين بالله الواحد، كانوا حتى الأمس القريب يعبدون الصور والتماثيل، وهؤلاء المؤمنين كانوا محاطين بعبدة الصور والتماثيل الذين لم يؤمنوا بعد ... وصُنَّاع النسيج والأوثان والأدوات – وهم في الأساس من غير العرب – كانوا يزنون مصنوعاتهم ومنسوجاتهم بصور الآلهة – (الأصنام) – ترويجًا لها في البيئة الوثنية ... ومن هنا كان النهي عن هذه «الصور » نهيًا عن الوثنية ودعوة إلى تنقية المنازل والأندية من صور الأصنام المعبودة في الجاهلية، وسعيًا لاجتثاث جذور المرضى الوثنى، وذلك حتى تبرأ هذه الجماعة البشرية تمامًا من الشرك والتعددية، فتخلص العبودية لله وحده، وترسخ في قلوبها عقيدة التوحيد) (286) . ويقول: (وإذا كانت الأحكام تدور مع عللها وجودًا وعدمًا، فإن التحريم للتماثيل والصور سيصبح بداهة مرهونًا ومشروطًا ومعللاً بمظنة اتخاذها أندادًا تشارك الله في الألوهية والتعظيم، فإذا ما انتفى هذا السبب، وزالت هذه المظنة انتفى التحريم، وعادت الإباحة حكمًا للصور والتماثيل، من جديد) (287) . ويستشهد بموقف محمد عبده من التصوير قائلاً: (وفي العصر الحديث: عندما شرعت مدرسة التجديد والإحياء الديني تزيل عن الفكر الإسلامي غبار عصور الجمود والتراجع الحضاري – المملوكية العثمانية – وجدنا واحدًا من أبرز مهندسي ذلك التجديد، وهو الأستاذ الإمام محمد عبده ... يطرق هذا الباب باجتهاده وتجديده، فيعلن مباركة الإسلام للفنون الجميلة، منبهًا على دور فنون التشكيل – رسمًا ونحتًا وتصويرًا – دورها النافع والضروري في تسجيل الحياة وحفظها، وفي ترقية الأذواق والحواس والاقتراب بالإنسان من صفات الكمال !.. ثم يأتي الأستاذ الإمام إلى القضية الشائكة والخلافية .. قضية الإسلام من هذه الفنون وأصحابها، فيدلي بالقول الفصل في فائدتها – ومن ثم حلها – وذلك لتغير الملابسات والمقاصد التي دعت إلى نفور المسلمين منها في عصر البعثة النبوية، يوم كانت الرسوم والصور والتماثيل إنما تتخذ كي تعبد من دون الله، أو على الأقل كانت مظنة شبهة، لتعظيمها دينيًا، فكان أن نهى عنها الرسول – عليه الصلاة والسلام - ... أما الآن وبعد زوال الخطر بالكلية، وبعد أن لم تعد الرسوم والتماثيل مظنة شبهة العبادة أو التعظيم الديني، وبعد أن وضحت وتأكدت منافعها في ترقية أذواق الأمة، وحفظ حقائق تاريخها وعلومها، فإن رضاء الإسلام ومباركته لها أمر لا شك فيه! .. ) (288) . وذكر أنه قال في مجلة المنار: (ربما تعرض مسألة عند قراءة هذا الكلام، وهي: ما حكم هذه الصور في الشريعة الإسلامية، إذ كان القصد منها ما ذكر، من تصوير هيئات البشر في انفعالاتهم النفسية، وأوضاعهم الجسمانية؟ هل هذا حرام؟ أو مكروه؟ أو مندوب؟ أو واجب فأقول: إن الراسم قد رسم، والفائدة محققة لا نزاع فيها، ومعنى العبادة وتعظيم التمثال أو الصورة قد محى من الأذهان... وما ورد من حديث « إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون » (289) . أو ما في معناه مما ورد في الصحيح، فالحديث جاء في أيام الوثنية، وكانت الصور تتخذ في ذلك العهد لسببين: الأول: اللهو. والثاني: التبرك بتمثال من ترسم صورته من الصالحين. والأول مما يبغضه الدين، والثاني مما جاء الإسلام لمحوه، والمصور في الحالين شاغل عن الله، أو ممهد للإشراك به، فإذا زال هذان العارضان، وقصدت الفائدة كان تصوير الأشخاص بمنزلة تصوير النبات والشجر في المصنوعات) (290) . ومن أبرز الأدلة التي يستشهد بها أصحاب هذا الاتجاه على تغيير الأحكام الثابتة بالنصوص تبعًا لتغير الظروف، سهم المؤلفة قلوبهم، ومنع خروج النساء إلى المساجد، وحد السرقة، بالإضافة إلى استدلالهم بكلام ابن القيم عن تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والنيات والعوائد . الــرد : بعد أن بينا آراء أصحاب هذا الاتجاه في هذه القضية، وذكرنا بعض الأمثلة، ومجمل الأدلة التي يبررون بها ما ذهبوا إليه، أقول: إن ما ثبت حكمه بنصوص القرآن والسنة، فهو حكم دائم وثابت لا يملك أحد تغييره، إلا بتشريع أعلى منه أو مساوٍ له، ينسخ الحكم السابق، وهذا ممتنع بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله-: (ما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته « شرعًا لازمًا » إنما لا يمكن تغييره، لأنه لا يمكن نسخ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز أن يظن بأحد من علماء المسلمين أن يقصد هذا؛ ولاسيما الصحابة، لاسيما الخلفاء الراشدون، وإنما يظن ذلك في الصحابة أهل الجهل والضلال كالرافضة، والخوارج الذين يكفرون بعض الخلفاء أو يفسقونهم، ولو قدر أن أحدًا فعل ذلك لم يقره المسلمون على ذلك، فإن هذا إقرار على أعظم المنكرات، والأمة معصومة أن تجتمع على مثل ذلك) (291) . وإذا قلنا بهذا، فكيف غير الصحابة الحكم في مثل منع إعطاء المؤلفة قلوبهم من الزكاة، وقد ثبت حقهم فيها يقول الله: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ } [التوبة: 60] ، وكذلك منع النساء من الخروج إلى المساجد، وقد ثبت قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله » (292) ، وعدم قطع عمر يد السارق في عام المجاعة والله تعالى يقول: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا } [المائدة: 38]. والجواب أن نقول: ما يتوهمه البعض أن هذا تغيير في الأحكام الشرعية ليس بصحيح فالحكم الثابت عن الله، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم دائم لا يتغير، وإنما تطبيقه على الوقائع هو الذي يمكن أن يتغير، لعدم تحقق شروطه التي اشترطها الشارع، أو لعدم تحقق المناط كما يقول الأصوليون، وبتطبيق هذه القاعدة على هذه القضايا، التي توهم البعض تغير الحكم فيها يتضح الأمر . أولاً : منع عمر – رضي الله عنه – إعطاء المؤلفة قلوبهم سهمهم من الزكاة : مَنْع عمر إعطاء المؤلفة قلوبهم من الزكاة، ليس إيقافًا للحكم ولا نسخًا له، ولا أحد يملك ذلك بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي، (وإن غاية ما يقال أن النص الذي جاء في إعطاء المؤلفة قلوبهم لم يحدد أشخاصًا بأسمائهم، وإنما أعطى أناسًا بوصف معين هم «المؤلفة قلوبهم »، فمناط الإعطاء إذن أنهم من المؤلفة قلوبهم. فإذا توافر هذا المناط أعطوا، وإذا لم يتوافر لهم يُعطوا، ولا يقال في هذه الحالة أن النص عُدِّل أو ألغي إذا وقف، إنما غاية ما يقال أن النص لم يطبق لتخلف مناطه) (293). يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: (وما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم شرعًا معلقًا بسبب، إنما يكون مشروعًا عند وجود السبب، كإعطاء المؤلفة قلوبهم، فإنه ثابت بالكتاب والسنة. وبعض الناس ظن أن هذا نسخ، لما روي عن عمر: أنه ذكر أن الله أغنى عن التآلف، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وهذا الظن غلط، ولكن عمر استغنى في زمن عن إعطاء المؤلفة قلوبهم، فترك ذلك لعدم الحاجة إليه، لا لنسخه، كما لو فرض أنه عدم في بعض الأوقات ابن السبيل والغارم ونحو ذلك) (294) . ويؤكد هذا المعنى الشاطبي – رحمه الله – في قوله: (واعلم أن ما جرى ذكره هنا من اختلاف في الأحكام، عند اختلاف العوائد فليس في الحقيقة باختلاف في أصل الخطاب لأن الشرع موضوع على أنه « دائم أبدي »، لو فرض بقاء الدنيا من غير نهاية والتكليف كذلك لم يحتج في الشرع إلى مزيد وإنما معنى الاختلاف أن العوائد إذا اختلفت رجعت كل عادة إلى أصل شرعي يحكم به عليها كما في البلوغ مثلاً، فإن الخطاب التكليفي مرتفع عن الصبي ما كان قبل البلوغ، فإذا بلغ وقع عليه التكليف، فسقوط التكليف قبل البلوغ ثم ثبوته بعده ليس باختلاف في الخطاب، وإنما وقع الاختلاف في العوائد أو في الشواهد، وكذلك الحكم بعد الدخول، بأن القول قول الزوج في دفع الصداق بناء على العادة وأن القول قول الزوجة بعد الدخول أيضًا بناء على نسخ تلك العادة ليس باختلاف في الحكم، بل الحكم أن الذي ترجح جانبه بمعهود أو أصل، فالقول قول بإطلاق، لأنه مدي عليه وهكذا سائر الأمثلة، فالأحكام ثابتة تتبع أسبابها حيث كانت بإطلاق، والله أعلم) (295) . ونخلص بعد هذا إلى أن اجتهاد عمر في هذه المسألة ليس فيها معارضة للنص، ولا يجوز لمسلم أن يقول أن عمر أوقف حكم الآية أو ألغاه . ثانيًا : منع الصحابة النساء من الخروج إلى المساجد : من الأدلة التي يستدل بها القائلون بتغير الأحكام حسب تغير الظروف، حتى إن كانت ثابتة بالنصوص، ما حدث من الصحابة – رضوان الله عليهم – من منع النساء من الذهاب إلى المساجد، مع ثبوت الإذن لهن من الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد كانت عائشة – رضي الله عنها – ممن قال بالمنع قائلة « لو أدرك رسول الله ما أحدثه النساء لمنعهن المساجد » (296) . يقول محمد سليم العوا عن الإذن للنساء بالخروج إلى المساجد: (ولو كان هذا شرعًا دائمًا لما ساغ لعائشة مخالفته، وإنما كان الشرع الدائم هو تحقيق مصلحة الأمة التي ما بعث الله الرسل في أي أمة كانوا إلا لتحقيقها فأينما تبين وجهها فشم شرع الله ودينه) (297) . ونقول جوابًا على هذا، إن ما حدث من الصحابة ليس إيقافًا للحكم الثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما كان المنع لعدم تحقيق المناط، فالشرط أن يخرجن غير متزينات. ذكر النووي – رحمه الله-: (شروط العلماء في خروج النساء بأن لا تكون متطيبة ولا متزينة، ولا ذات خلاخل يسمع صوتها، ولا ثياب فاخرة ولا مختلة بالرجال) (298) . حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، ولكن ليخرجن وهن تفلات » (299) ، ومعنى تفلة: أي غير متطيبة . فتتحقيق المناط يكون (هل هذه المرأة تفلة فتخرج أو غير تفلة فلا تخرج. وهذا وإن تغير فليس هو الحكم، وإذا تبين هذا سقطت دعوى من يعتمد على هذه الآثار في القول بتغير الأحكام بتغير الزمان) (300) . وعائشة – رضي الله عنها – في قولها بالمنع يكون استنادًا إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم لأنها علمت أن الإذن بالخروج منها بأمر معين، وهو أن يكون الخروج لمصلحة، وليس لفتنة أو مفسدة (301) . ثالثًا : إيقاف عمر لحد السرقة عام المجاعة : يعتبر العقلانيون إيقاف عمر لحد السرقة الثابت بنص القرآن دليلاً على شرعية تغير الأحكام بتغير الظروف، يقول معروف الدواليبي: (اجتهاد عمر – رضي الله عنه – عام المجاعة في وقف تنفيذ حد السرقة على السارقين وهو قطع اليد ... وفي هذا تغيير لحكم السرقة الثابت بنص القرآن عملاً بتغير الظروف التي أحاطت بالسرقة) (302) . والجواب أن نقول: الحد الذي أوقفه عمر ليس تغييرًا للحكم الشرعي، وإنما أوقفه لعدم تحقق شروطه (303) ، والتي منها ألا يكون أخذ السارق لسد رمقه يقول ابن حزم: (من سرق من جهد أصابه، فإن أخذ مقدار ما يغيث به نفسه فلا شيء عليه) (304) . ويقول ابن القيم – رحمه الله-: (فإن السنة إذا كانت سَنَة مجاعة وشدة غلب على الناس الحاجة والضرورة، فلا يكاد يسلم السارق من ضرورة تدعوه إلى ما يسد به رمقه – وهذه شبهة قوية تدرأ القطع عن المحتاج وهي أقوى من كثير من الشبه التي يذكرها كثير من الفقهاء) (305) ، ولو قام عمر بتنفيذ هذا الحد، بدون تحقق شروطه لكان هذا مخالفة شرعية. ( فالعموم في آية السرقة لا يصلح وحده لتطبيق الحد بل هناك شروط وردت في السُنة لابد من اعتبارها، ومن اعتبرها – كما هو صنيع عمر – لا يقال له أنه خالف الآية) (306)
( المرجع : الاتجاه العقلاني لدى المفكرين الإسلاميين المعاصرين ، سعيد الزهراني ، 2/640-648).
الشبهة(11) : موقفهم من الجهاد
يعتبر سيد أحمد خان ومحمد عبده هما أول من أظهر الروح الانهزامية أمام الأعداء المستعمرين، وليت الأمر منهما – على خطورته – وقف عند القول بأن الجهاد دفاع فقط ولكن مما لا تهما للمستعمرين في بلديهما يعبر عن إماتتهما لروح الجهاد، حتى الدفاع منه، ولذلك لم يبق معنى للجهاد إلا للدفاع عن النفس عند سيد أحمد خان الذي (يرى أن الجهاد يشرع فقط للدفاع عن النفس، وفي حالة واحدة فقط هي اعتداء الكافرين على المسلمين من أجل حملهم على تغيير دينهم، أما إذا كان الاعتداء من أجل أمر آخر مثل احتلال الأراضي، فالجهاد غير مشروع ) (307) . ويقرر محمد عبده أن الجهاد دفاعي فيقول: ( فقتال النبي صلى الله عليه وسلم كله كان مدافعة عن الحق وأهله، وحماية لدعوة الحق، ولذلك كان تقديم الدعوة شرطًا لجواز القتال وإنما تكون الدعوة بالحجة والبرهان لا بالسيف والسنان، فإذا مُنعنا من الدعوة بالقوة بأن هدد الداعي أو قتل، فعلينا أن نقاتل لحماية الدعاة ونشر الدعوة، لا للإكراه على الدين فالله تعالى يقول: { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]، ويقول: { أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]، وإذا لم يوجد من يمنع الدعوة ويؤذي الدعاة أو يقتلهم أو يهدد الأمن ويعتدي على المؤمنين، فالله تعالى لا يفرض علينا القتال لأجل سفك الدماء وإزهاق الأرواح، ولا لأجل الطمع في الكسب . ولقد كانت حروب الصحابة في الصدر الأول لأجل حماية الدعوة، ومنع المسلمين من تغلب الظالمين لا لأجل العدوان. فالروم كانوا يعتدون على حدود البلاد العربية التي دخلت حوزة الإسلام، ويؤذونهم وأولياؤهم من العرب المتنصرة، ومن يظفرون به من المسلمين، وكان الفرس أشد إيذاء للمؤمنين منهم، فقد مزقوا كتاب النبي صلى الله عليه وسلم ورفضوا دعوته وهددوا رسوله، وكذلك كانوا يفعلون، وما كان بعد ذلك من الفتوحات الإسلامية اقتضته طبيعة الملك ولم يكن كله موافقًا لأحكام الدين، فإن من طبيعة الكون أن بسط القوي يده على جاره الضعيف، ولم تعرف أمة قوية أرحم في فتوحاتها بالضعفاء من الأمة العربية شهد لها علماء الإفرنج بذلك . وجملة القول في القتال أنه شرع للدفاع عن الحق وأهله وحماية الدعوة ونشرها، فعلى من يدعي من الملوك أنه يحارب للدين، أن يحيي الدعوة الإسلامية، ويعد لها عدتها من العلم والحجة بحسب حال العصر وعلومه، ويقرن ذلك بالاستعداد التام لحمايتها من العدوان، ومن عرف حال الدعاة إلى الدين عند الأمم الحية وطرق الاستعداد لحمايتهم يعرف، ما يجب في ذلك وما ينبغي له في هذا العصر وبما قررناه بطل ما يهذي به أعداء الإسلامي – حتى من المنتمين إليه – من زعمهم أن الإسلام قام بالسيف، وقول الجاهلين المتعصبين أنه ليس دينًا إلهيًا لأن الإله الرحيم لا يأمر بسفك الدماء، وأن العقائد الإسلامية خطر على المدنية – فكل ذلك باطل، والإسلام هو الرحمة العامة للعالمين) (308) . وعند تفسير قوله تعالى: { حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ }[التوبة: 29]، يقول رشيد رضا: (هذه غاية للأمر بقتال أهل الكتاب ينتهي بها إذا كان الغلب لنا، أي قاتلوا من ذكر عند وجود ما يقتضي وجوب القتال، كالاعتداء عليكم أو على بلادكم، أو اضطهادكم وفتنتكم عن دينكم، أو تهديد أمنكم وسلامتكم ... ) (309) . وممن يرجح أن الجهاد شرع للدفاع فقط عبدالوهاب خلاف الذي يقول: (والنظر الصحيح يؤيد أنصار السلم، القائلين بأن الإسلام أسس علاقات المسلمين بغيرهم على المسالمة والأمان، لا على الحرب والقتال، إلا إذا أريدوا بسوء، لفتنتهم عن دينهم أو صدهم عن دعوتهم، فحينئذ يفرض عليهم الجهاد دفعًا للشر، وحماية الدعوة وهذا بين في قوله تعالى في سورة الممتحنة المدنية: { لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }[الممتحنة، 8، 9]، وقوله تعالى في سور النساء المدنية: { فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً } [النساء:90]، وقوله في سورة الأنفال المدنية: { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ } [الأنفال: 61]، وفي كثير من آي الكتاب وأصول الدين ما يعزز هذه الروح السليمة، ويبعد أن يكون الإسلام أسس علاقات المسلمين بغيرهم على الحرب الدائمة، وأن يكون فرض الجهاد وشرع القتال على أنه طريق الدعوة إلى الدين، لأن الله نفى أن يكون إكراه على الدين، وأنكر أن يُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين، وكيف يتكون الإيمان بالإكراه ويصل السيف إلى القلوب. إن طريق الدعوة إلى التوحيد والإخلاص لله وحده هي الحجة لا السيف، ولو أن غير المسلمين كفوا عن فتنتهم، وتركوهم أحرارًا في دعوتهم ما شهر المسلمون سيفًا ولا أقاموا حربًا) (310) . ويختار عبدالخالق النواوي القول بأن الجهاد في الإسلام دفاعي ويقول: (وبهذا الاختيار نكون قد تخلصنا مما يوصم به الإسلام في نظر خصومه، إذ يقولون: إن الإسلام كالبلشفية خطر على المدنية تجب محاربته ... ويستطردون بأن الإسلام ليس دينًا إلهيًا في نظرهم لأن الإله الرحيم لا يأمر بسفك الدماء) (311) . والدكتور محمد أبو زهرة يعتبر ( الأصل هو السلْم، وأن الحرب من إغراء الشيطان ) (312) ويرى أن القتال للدفاع فقط فيقول: (نجد نصوص القرآن كلها تتجه إلى بيان أن القتال المطلوب هو دفع قتال المشركين قال تعالى: { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ } [البقرة: 190]، ونجد الآية التي تبيح قتال العرب كافة تنص على أن ذلك في مقابل اعتدائهم كافة على المسلمين قال تعالى: { وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } [التوبة: 36] ) (313). والشيخ محمد الغزالي يرى أن الجهاد دفاع لا هجوم، ويرد حديث: «بعثت بالسيف بين يدي الساعة » (314) ، ويحاول أن ينفي ما يثار من أن الإسلام انتشر بالسيف، ومما قال: (.... وما من شك في أن الجهاد حق لتأمين الدعوة وهزيمة الفتانين؟ فأما تصوير الإسلام بأنه يتحرش بالآخرين ويتعطش لدمائهم، فهو افتراء على الله والمرسلين، ومع أننا أشبعنا هذا الموضوع بحثًا في كتبنا الأخرى فإن الحاجة إلى الكلام فيه لا تزال ماسة ... ، وفي هذا الآونة استخرج البعض حديث: «بعثت بالسيف بين يدي الساعة، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري .. ». قلت : والكلام للغزالي – ليت لكم سيفًا يحمي الحق، ويرد عنه العوادي! فإن الحق يغرق وليس له صريخ! ... ما لكم ولهذا الحديث؟ قال لي غلام متعالم: إنه يردّ كل ما تقول...! قلت : سأتجاوز عن ضعف هذا الحديث من ناحية سنده، ولن أطعن في صحته – مع أن الطعن وارد – ولكن اسأل : لماذا لا تتعلمون الدين وتحسنون فقهه والعمل به، ثم تحسنون الدعوة إليه؟ عندما يراكم العالم أدنى مستوى منه فلن يسمع منكم ولن يرتضيكم قادة له، لا يجوز أن يكون الإمام أجهل من المأموم ... ! ) (315) . ثم يقول : (... ولم تبدأ سياسة العصا الغليظة إلا بعد أن أوجعت عصى الأعداء جلود المؤمنين، وكسرت عظامهم. هنا نزل قوله تعالى: { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } [الحج: 39] ) (316) . ومما يوضح موقف الغزالي من الجهاد أيضًا كلامه في كتابه « الدعوة الإسلامية تستقبل قرنها الخامس عشر » إذ يقول: (ومع وضوح المنهج الإسلامي في الدعوة، فإن دخانًا كثيفًا انطلق في جوه، وما نلوم المبشرين والمستشرقين فيما اختلقوا من إفك، وإنما نلوم نفرًا من الناس لبس أزياء العلماء. وهم سوقة، وانطلق في عصبية طائشة يزعم أن الإسلام يمهد لحرب الهجوم وينشر دعوته بالسيف ... ) (317) . ويحاول أن يرد ما يقال عن أن من الجهاد ما يكون هجومي فيقول: (كيف يصف عاقل اعتراض المسلمين أهل مكة بأنه حرب هجومية، ويسكت بغباء عن أن مكة حظرت الإسلام في أرضها، وطردت أهله واعتقلت بعد ذلك كل من يدخل فيه، هل حرب هؤلاء عدوان؟ وكتب مسكين آخر يقول: إن الحرب عندنا هجومية، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون . أي باغتهم دون دعوة ودون انتظار إيمان، ودون إتاحة أية فرصة للنجاة . وهذا كذب قبيح، وجهل غليظ، فإن الرسول الكريم حارب القوم بعدما أعدوا له وتهيأوا للنيل منه.. وكتب مغفل آخر يزعم أن الحرب ضد هوازن وثقيف كانت هجومية وما فكر في قراءة الجموع التي حشدها زعيم المشركين، والقوى التي دبرها لضرب الإسلام بعد فتح مكة . إن هناك ناسًا يغلب عليهم القصور العقلي، ولكن لديهم جراءة على إرسال الأحكام البلهاء بثقة العباقرة! وقد أصاب الإسلام شر كبير من هؤلاء المنتسبين إليه الجاهلين به وبتاريخه، فقد جروا عليه تهمًا منكرة) (318) . ويقول أيضًا: (وهناك شبهة ضعيفة ولكن الإجابة عنها مهمة جدًا، فقد ذكر البعض حديث: « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله. فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله » . وظاهر الحديث أن الإسلام دين هجوم لنشر التوحيد . ونقول: هذا الظاهر باطل، وسبب الخطأ في فهم الحديث كلمة «الناس » التي وردت فيه، أنها لأول وهلة تغني العالم أجمع، .... والحديث يتناول ناسًا معينين، ونقضوا كل عهد، ورفضوا كل حرية، وكرسوا جهودهم وثرواتهم للقضاء على الإسلام ورجاله..) (319) . ويقول تحت عنوان « ما يسمونه آية السيف »: (لا يوجد ما يسمى آية السيف! هناك جملة من الآيات في معاملة خصوم الإسلام، وفي مقاتلهم أحيانًا لأسباب لا يختلف المشرعون قديمًا وحديثًا على وجاهتها، وعلى أنها تنافي الحرية الدينية في أرقى المجتمعات) (320) . ويقول: (سمعت من يحتج بالآية: { وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً} [التوبة: 36]، فقلت له: ألا تكملها ؟ أليس بعدها: { كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً} [التوبة: 36]، فأنى في الآية الدعوة إلى الهجوم، وإعمال السيف في الناس ) (321) . ويقول أيضًا: (إن الإسلام لم يحارب الكفر لأنه كفر، بل لأنه ضم إلى عجوه الفكري جملة من الآفات الأخلاقية، والمسالك العدوانية لا يجوز قبولها، ولا يصبر حرُّ عليها!) (322) . وبعد أن يورد الغزالي الآية: { أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ } [التوبة: 13]، يقول: ( في أي لفظ من هذه الألفاظ تشم رائحة الهجوم والتعديّ ؟ إنها استثارة للدفاع وحسب! وعندما يأمر بالقتال يذكّر بمآسيهم السابقة وما تركوه في القلوب من جراحات ... قال تعالى: { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } [التوبة: 14، 15]. ممن يكون شفاء الصدور وذهاب الغيظ؟ لا شك أن هؤلاء الناس تركوا في نفوس المؤمنين جراحات لا تندمل، غرّبوهم، وقتلوا أحبتهم، وضنّوا عليهم بكل حق، وظلوا على هذه الحال ثنتين وعشرين سنة يتربصون بالمسلمين، ويقلبون لهم الأمور ... أعطيناهم حق الحياة بكفرهم، وأبوا أن نعيش بإيماننا! قلنا لهم: لكن دينكم ولنا ديننا فقالوا: ليس لكم إلا الموت. أولئك هم الذين برئت منهم ذمة الله ورسوله، وأولئك الذين نزل فيهم: { فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [التوبة: 5] ، بأي عقل يأتي مفسِّر فيقول: المقصود بهذه الآية كل كافر على وجه الأرضَ أساء أم أحسن! وفّى أم غدر! ظلم أو أنصف! ثم يطلق على هذه الآية المحددة: آية السيف! ويلغي بها مائة آية في العرض الهادئ والجدال الحسن والوعظ البليغ!! ثم تظهر في عصرنا الأسود طوائف من الشباب الأغرار تحمل العصي، وتزعم أن الإسلام دين هجوم، وتريد أن تقاتل روّاد الفضاء) (323) . ويجيب حسن الترابي في ندوة تلفزيونية عن النصوص التي تحث على الجهاد وترغب فيه ومنها قوله تعالى: { فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } [التوبة: 5]، وقوله صلى الله عليه وسلم: « الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة، الأجر والمغنم » (324) . ويقول في الجواب : ( القول بأن القتال حكم ماض، هذا قول تجاوزه الفكر الإسلامي الحديث في الواقع الحديث، ولا أقول إن الحكم قد تغير، ولكن أقول: إن الواقع قد تغير، هذا الحكم عندما ساد كان في واقع معين، وكان العالم كله قائمًا على علاقات العدوان، لا يعرف المسالمة، ولا الموادعة، كانت امبراطوريات، إما أن تعدو عليها، أو تعدو عليك) . (325) ويطيل فهمي هويدي الحديث في محاولة تبرئة الإسلام من القول بأن الجهاد فيه جهاد طلب وابتداء، ويستدل بعدد من الآيات التي تدعو إلى السلم من مثل قول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً } [البقرة: 208] وقوله جل وعلا: { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ } [الأنفال: 61]، وقوله: { وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ } [البقرة: 190]، ... الخ ويقول بعد ذلك: (... ويتفق مع هذا السياق قول الله سبحانه وتعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ }[البقرة: 216] ، أي أنه أمر تفرضه عليكم عداوات الآخرين وظلمهم لكم، عليكم أن تقبلوه مضطرين)(326) . فهو يرى أن الجهاد دفاع فقط، والإسلام لا يعتمد القتال وسيلة للتبليغ، ولا يكون إلا لأمر اضطراري، يقول: (ومنذ البداية، سلح الله المسلمين بالكلمة، وكان أول ما أنزل الله على نبيه هو: «اقرأ – وليس اضرب » أو «ابطش »، وكان كتاب المسلمين هو القرآن الكريم، ولم يكن سلاح المسلمين سيفًا ولا سوطًا، ولم تكن شريعتهم قانون حرب، والأمر كذلك فإن القتال في التصور الإسلامي ينبغي أن يظل منعطفًا يكره إلى المسلمون أو نوعًا من «الهبوط الاضطراري » الذي يعترض المسار الطبيعي لرحلة التبليغ الإسلامية) (327) . وعند حديثه عن الحرب المشروعة إسلاميًا يقول: ( يرى الشيخ رشيد رضا أن الحرب الإسلامية تحكمها عدة قواعد : القاعدة الأولى: أن الأمر بالقتال ورد في سياق الرد على عدوان المعتدين درءًا للمفاسد وتوطيدًا لمصالح المسلمين، وأن هذا الأمر جاء مقترنًا بالنهي عن قتال الاعتداء والبغي والظلم، وهو ما يشهد عليه قوله تعالى:{ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ } [البقرة: 190]. القاعدة الثانية: أن تكون الغاية الإيجابية من القتال بعد دفع الاعتداء والظلم واستتباب الأمن، هي حماية الأديان كلها من الاضطهاد فيها أو الإكراه عليها، وعبادة المسلمين لله وحده، وإعلاء كلمته وتأمين دعوته وتنفيذ شريعته ) (328) . وبعد ذلك يحاول أن يعلل قيام الغزوات التي قام بها الرسول صلى الله عليه وسلم وحروب الإسلام الأولى، ويقول بأن أعداء الإسلام هم الذين أشعلوا نارها، وأطاروا شرارها، وما كان من المسلمين إلا أنهم قبلوا التحدي، وردوا التعدي. وكان تتابع الفتوح بحكم الضرورات الحربية وحدها، وما كان جهاد المسلمين إلا ليؤمنوا دولتهم (329) . ويحاول فهمي هويدي أن يرد دلالة الأحاديث الصريحة في الأمر بالجهاد، فبعد أن يورد قول الرسول صلى الله عليه وسلم: « أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ... »، يقول: (وحقيقة الأمر أن المعنى بالناس هنا ليس كل البشر، وإنما هم جماعة من البشر) (330) . أما عن حديث: « ٍبعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله تعالى وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري » فيشكك أولاً في صحته، ثم يقول: وفي شرح معاصر للحديث أنه يعني: أن سيف الإسلام حاضر للقتال في سبيل الله، كلما دُعي إلى ذلك، وأن مصير الشرك والوثنية هو الهزيمة والامتثال لأحكام الله وتعاليمه. وأن الشق الأخير المتعلق بالغنائم خاص برسول الله الذي أبيح له أن يأخذ نصيبًا منها، وهذا الحديث يفهم خطأ إذا عزل عن الموقف الإسلامي الأصيل من قضية الحرب والسلم، الذي تحدده نصوص القرآن الكريم بالدرجة الأولى، وهي النصوص القاطعة في منع العدوان وإشاعة السلام، وفي كل الأحوال، فينبغي أن يوضح في إطار الإعلان عن القوة التي تحمي الحق، وتصد عنه كل عدوان . والمنطلق الذي ينبغي أن نقرأ به هذا الحديث النبوي، هو ذاته الذي ينبغي أن نفهم به عبارة السيد المسيح في الإصحاح العاشر من إنجيل متى: « ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا » إذ لا يمكن أن يزعم زاعم أنها دعوة لقتال العالم، ومخاطبته بالسيف، وهو ما تقطع بكذبه التعاليم الأساسية للديانة المسيحية. وإنما يقضي الإنصاف أن نستقبل هذه العبارة باعتبارها تلويحًا من جانبه بأن القتال في سبيل الدفاع عن العقيدة يظل واردًا إذا لزم الأمر) (331) . ويرى محمد عمارة أن الجهاد في الإسلام دفاعي، وهو سبيل يلجأ إليه المسلمون عند الضرورة، أما القول بأن المسلمين مطالبون بقتال مخالفيهم في الدين حتى يؤمنوا بالإسلام فيرى أنها شبهة أصبحت عالقة بسماء الفكر في عالم الإسلام يجب تبديدها، وتبرئة الفكر منها. ويستدل بقوله تعالى: { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ } [البقرة: 190]، ويعلق بقوله: ( فالمطلوب هنا ليس قتال المخالفين لنا في الدين، وإنما قتال « الذين يقاتلوننا » من بين هؤلاء «المخالفين » فحكمة القتال وسبب هما «قتال » هؤلاء المخالفين لنا، و «عدوانهم » علينا، وليس مجرد «الخلاف لنا في الدين »! ذلك أن الإسلام لا ينهى، فقط عن مقاتلة المخالفين لمجرد الاختلاف الديني معهم، بل إنه يدعو إلى مودتهم والقسط إليهم طالما لم يقاتلونا في الدين! فإن هم قاتلونا، واعتدوا علينا، وانتهكوا الحرمات، وجب علينا قاتلهم) (332) . ويرى دلالة الحديث: « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله.. الحديث » بقوله: (أما هذا الحديث، والذي يبدوا للعامة وأنصاف المثقفين ثقافة إسلامية، من ظاهر ألفاظه، أنه يدعو إلى مقاتلة المخالفين في الدين، حتى يثوبوا إلى عقيدة التوحيد.. فإن الفقه الحق لمعناه يتطلب ما هو أكثر من النظر العابر لظاهر الألفاظ ! فالمراد « بالناس » الذي أمر الرسول بقتالهم: « المشركون » من العرب أولئك الذين كانوا يمنعون، بالفتنة والعدوان، دعوة الإسلام من أن تتخذ لنفسها القاعة الآمنة التي ينطلق منها الدعاة) (333) . والقاعدة عنده تتبين من قوله: ( فالذين يكفون الأيدي عن قتالنا ويلقون حبال السلام إلى عالم الإسلام وأهله، لا سبيل لنا عليهم، أما «المنافقون » الذين لا يكفون أيديهم عن قتال المسلمين، فإن « السلطان » الذي قرر الله لنا عليهم يدعونا إلى قتالهم، ردًا للعدوان، وتأمينًا لعالم الإسلام وحريات المسلمين ... « فالعدوان » أو « المسالمة » هو المعيار، ليس « النفاق » ولا الخلاف في الدين) (334) . وفي ختام كلامه يقول: ( والقتال في الإسلام سبيل يلجأ إليها المسلمون عند الضرورة.. ضرورة حماية الدعوة، وتأمين الحرية للدعاة، وضمان الأمن لدار الإسلام وأوطان المسلمين. سان كان ذلك القتال «دفاعيًا تمامًا » أو «مبادأة » يجهض بها المسلمون عدوانًا أكيدًا أو محتملاً ... فهو في كل الحالات ضد للعدوان.. أما إذا جنح المخالفون إلى السلم، وانفتحت السبل أمام دعوة الإسلام ودعائه، وتحقق الأمن لدار الإسلام فلا ضرورة للحرب عندئذ، ولا مجال للحديث عن القتال، باسم «الدنيا » كان ذلك الحديث أو باسم « الدين ») (335) . الــرد : من هذا العرض لأقوال هؤلاء المفكرين عن الجهاد، يتبين موقفهم الانهزامي أمام شبه أعداء الإسلام، القائلين بأن الإسلام لم ينتشر إلا بالسيف، وأنه دين العنف والإرهاب، فأراد هؤلاء المفكرون أن ينفوا مثل هذه الشبه، ويدافعوا عن سمعة الإسلام، فوقعوا في المصيدة التي نصبها لهم الأعداء، وقالوا أن الجهاد في الإسلام لم يشرع إلا للدفاع، وأن معارك الإسلام جميعها لم تتخط هذه الغاية، وبذلك حصروا الحكم في أن الجهاد لا يكون مشروعًا إلا للدفاع عن المسلمين، والأرض الإسلامية، وأبطلوا الحكم الشرعي الثابت بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، من أن من الجهاد ما هو جهاد طلب وابتداء، وهو أن يُطلب الكفار في عقر دارهم، ويقاتلون إذا لم يقبلوا الخضوع لحكم الإسلام . وهذا الحكم الذي قال به هؤلاء المفكرون، يتبين بطلانه بأمور منها : 1 – إن النصوص التي استدلوا بها على أن الجهاد دفاعي فقط، من مثل قوله تعالى: { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ }[البقرة: 190]، وقوله تعالى: { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } [البقرة: 194]، وقوله تعالى: { فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً } [النساء: 90]. أقول أن استدلالهم بهذه الأدلة استدلال في غير محله، ولا يختلف عن من استدل بقوله تعالى للمؤمنين في مكة : { كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ } [النساء: 77]، على حرمة القتال في كل زمان، وهذا ما لا يقول به أحد من المسلمين. لأن هذه الآيات التي استدلوا بها نزلت في المرحلة الثالثة من المراحل التي شرع فيها القتال (336) ، وفيها فرض قتال من قاتل المسلمين فقط. ثم تلا ذلك النصوص التي وضعت الأحكام النهائية في المرحلة الرابعة والأخيرة، وفيها فرض الجهاد لمقاتلة المشركين كافة، وأن يقاتلوا أهل الكتاب حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. وهذه المرحلة بدأت من انقضاء أربعة أشهر من بعد حج العام التاسع من الهجرة، ومن أدلتها قوله تعالى: { فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [التوبة: 5]. يقول الشيخ عبدالرحمن الدوسري – رحمه الله-: (إن قتال الكفار على العموم واجب بالنصوص القطعية من وحي الله كتابًا وسنة، وهذا القتال واجب للهجوم لا للدفاع. كما تصوره بعض المنهزمين هزيمة عقلية، باسم الدفاع عن تشويه سمعة الإسلام والذين اشتبهت عليهم معاني النصوص التي يفيد بعضها الخصوص فأعمتهم هزيمتهم العقلية أو الهوى عن النظر في العمومات الصارفة الناسخة لما قبلها، لكونها عامة ومتأخرة، قال الله سبحانه وتعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } [التوبة: 123]، وقال: { فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [التوبة: 5]، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: « أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله ». وغير ذلك من النصوص الواضحة التي لا نطيل بها المقام ولكن المهزومين وأصحاب الهوى يضربون صفحًا عن هذه النصوص القاطعة العامة، الناسخة لما قبلها لتأخرها في النزول، ويتمسكون فقط بقوله تعالى: { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ } [البقرة: 190]، كما يأخذون التعليل بآية الإذن في الجهاد، غافلين أو متغافلين أن مشروعية القتال جاءت في القرآن على مراحل) (337) . ويقول الشيخ عبدالعزيز بن باز – رحمه الله – رادًا على من استدل ببعض الآيات على أن الجهاد للدفاع فقط: (... وقد تعلق القائلون بأن الجهاد للدفاع فقط بآيات ثلاث: الأولى قوله جل وعلا: { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ } [البقرة: 190]، والجواب عن ذلك أن هذه الآلية ليس معناها القتال للدفاع، وإنما معناها القتال لمن كان شأنه القتال: كالرجل المكلف القوي، وترك من ليس شأنه القتال: كالمرأة والصبي ونحو ذلك، ولهذا قال بعدها: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ } [البقرة: 193]، فاتضح بطلان هذا القول، ثم لو صح ما قالوا، فقد نسخت بآية السيف وانتهى الأمر بحمد الله . والآية الثانية التي احتج بها من قال بأن الجهاد للدفاع هي قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]، وهذه لا حجة فيها، لأنها على الأصح مخصوصة بأهل الكتاب والمجوس وأشباههم، فإنهم لا يكرهون على الدخول في الإسلام إذا بذلوا الجزية، هذا هو أحد القولين في معناها. والقول الثاني أنها منسوخة بآية السيف، ولا حاجة للنسخ بل هي مخصوصة بأهل الكتاب، كما جاء في التفسير عن عدة من الصحابة والسلف، فهي مخصوصة بأهل الكتاب ونحوهم فلا يكرهون إذا أدوا الجزية، وهكذا من الحق بهم من المجوس وغيرهم إذا أدوا الجزية فلا إكراه، ولأن الراجح لدى أئمة الحديث والأصول أنه لا يصار إلى النسخ مع إمكان الجميع وقد عرفت أن الجمع ممكن بما ذكرنا. فإن أبوا الإسلام والجزية قوتلوا كما دلت عليه الآيات الكريمات الأخرى. والآية الثالثة التي تعلق بها من قال أن الجهاد للدفاع فقط قوله تعالى في ســـورة النساء: { فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً } [النساء: 90]، قالوا من اعتزلنا وكف عنا لم نقاتله. وقد عرفت أن هذا كان في حال ضعف المسلمين أول ما هاجروا إلى المدينة. ثم نسخت بآية السيف وانتهى أمرها أو أنها محمولة على أن هذا كان في حالة ضعف المسلمين، فإذا قووا أمروا بالقتال، كما هو القول الآخر كما عرفت وهو عدم النسخ، وبهذا يعلم بطلان هذا القول، وأنه لا أساس له ولا وجه له من الصحة ... ) (338). 2 – القول بأن الجهاد دفاعي فقط، دعوى تدل على الجهل بطبيعة الشر وأهله، فقد أخبر الله وهو أعلم بخلقه بنوايا المشركين تجاه المسلمين، في مثل قوله: { وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ } [البقرة: 217]، وقوله تعالى: { وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } [البقرة: 120]، وقوله: { وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً } [النساء: 102] . وإذا كانت هذه نوايا أهل الكفر تجاه المسلمين، « فكيف يجوز أن يدعى بأن الجهاد في الإسلام لم يشرع إلا عندما يهجم أعداء الإسلام على دار الإسلام، أو على المسلمين، مع أن الله أخبرنا أنهم فاعلون ذلك إن عاجلاً أو آجلاً، وأنهم لا يسالمون إلا وفي نيتهم منازلة المسلمين عندما تتاح لهم الفرص والظـــروف؛ يؤيد هذا ما أخبر به عز وجل من أن المشركين لا عهد لهم ولا أيمان، فقال سبحانه: + كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ " ، إلى قوله تعالى: { فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ } [التوبة: 7-12] ) (339) . يقول سيد قطب – رحمه الله -: « ... إن الله سبحانه يعلم أن الشر متبجح، ولا يمكن أن يكون منصفًا، ولا يمكن أن يدع الخير ينمو مهما يسلك هذا الخير من طرق سلمية موادعة، فإن مجرد نمو الخير يحمل الخطورة على الشر، ومجرد وجود الحق يحمل الخطر على الباطل، ولابد أن يجنح الشر إلى العدوان، ولابد أن يدافع الباطل عن نفسه، بمحاولة قتل الحق وخنقه بالقوة، هذه جبلة ولبست ملابسة وقتية، هذه فطرة وليست حالة طارئة، ومن ثم لابد من الجهاد، لابد منه في كل صورة، ولابد أن يبدأ في عالم الضمير ثم يظهر فيشمل عالم الحقيقة والواقع والشهود، ولابد من مواجهة الشر المسلح بالخير المسلح، ولابد من لقاء الباطل المتترس بالعدد بالحق المتوشح بالعدة، وإلا كان الأمر انتحارًا أو كان هزلاً لا يليق بالمؤمنين) (340) . 3 – ومما يرد به على من زعم أن الجهاد دفاعي فقط أن يقال هذه الدعوى تناقض الواقع الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وواقع الخلفاء الراشدين، فما كان صلى الله عليه وسلم يقنع بفرع راية الإسلام على بقعة من الأرض فقط، ولو صح ما يدعيه هؤلاء المفكرون لاكتفى صلى الله عليه وسلم بفتح مكة، وتأديب كفار قريش، ولما كانت الفتوحات الإسلامية في عهد الخلفاء حتى عمت دعوة التوحيد ودولة الإسلام أقطار شتى . والذي يتدبر الحوار الذي دار بين مجاهدي الإسلام من جهة، وبين كسرى ورستم من جهة أخرى أثناء الفتوحات الإسلامية، لا يجد في كلام المجاهدين ما يشير إلى أنهم جاءوا ليدافعوا عن أنفسهم وأراضيهم، أو يؤدبوا قومًا اعتدوا عليهم ثم يرجعوا عنهم، وإنما يجد في كلامهم ما يدل على سمو رسالتهم، ونبل أهدافهم التي عبروا عنها بقولهم (الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ... فأرسل رسوله بدينه إلى خلقه، فمن قبله منا قبلنا منه ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه، ومن أبى قاتلناه حتى نفضي إلى الجنة أو الظفر) (341) .
( المرجع : الاتجاه العقلاني لدى المفكرين الإسلاميين المعاصرين ، سعيد الزهراني ، 2/711-726).
(133) انظر تقييد ما ورد من الإطلاق في هذه المقالة، وقد حرر ذلك الأستاذ: علي أحمد غلام الندوي في رسالته للماجستير «القواعد الفقهية وأثرها في الفقه الإسلامي» مخطوط جامعة أم القرى ص 55، وقد تبين أن هذا الإطلاق غير صحيح. (134) انظر محاولة لتحديد معنى «التغيّر» لغة وشرعًا والفرق بينه وبين النسخ في رسالة الماجستير «الفقه والقضاء وأولو الأمر ودورهم التطبيقي لقاعدة تغير الأحكام بتغير الزمان» إعداد محمد راشد علي – كلية الشريعة والقانون – بالقاهرة ص 8-18. (135) اخترت هذا المثال لوضوحه وأدائه المقصود وستأتي أمثلة كثيرة متصلة بأبواب كثيرة في الفقه الإسلامي، عند مناقشة أدلة القائلين بالتغيير. (136) انظر ما سبق ص232. (137) رسالة «تغير الأحكام بتغير الزمان» 18-24-25. (138) تغير الأحكام بتغير الزمان 10. (139) تغير الأحكام بتغير الزمان 18. (140) جاء في اللسان: «العرف والعارفة والمعروف ضد النكر، وهو كل ما تعرفه النفس من الخير. (اللسان مادة «عرف» 9/239). وكل ذلك يوحي بأن معنى العرف هو كل ما تعرفه النفوس من الخير وتتابع عليه ومنه قوله تعالى: ( وأمر بالمعروف.. ) وقريب من المعنى اللغوي ما قصده الفقهاء – في الجملة- حيث تدور تعريفاتهم لمعنى «العرف» حول ما اطمأنت إليه النفوس وألفته عن طريق الاستعمال الشائع المتكرر قولاً أو فعلاً، ومن أمثلة ذلك: اشتراط المسلمين بعض الشروط في البيع، واستصناعهم الثياب- وتعاملهم بذلك، ووقف بعض المنقولات وقبض بعضهم نصف الصداق قبل العقد، واعتياد بعضهم كشف رؤوسهم كأهل المغرب، ونحو ذلك. انظر في ذلك العرف والعادة في رأي الفقهاء، عرض نظرية في التشريع الإسلامي بقلم أستاذي في قسم الدراسات الشرعية أحمد فهمي أبوسنة – مخطوط بدار الكتب المصرية، 2864/1949. (141) والعادة: الديدن، فكل ما استمر عليه الإنسان ودأب يسمى عادة، وجمعها عادات وعوائد، اللسان مادة «عود» 3/316-317، والعادة في عرف الفقهاء يشترط فيها التكرار في الحدوث، قولاً أو فعلاً، صدر من الفرد أو الجماعة سببه مكتسب أو غير مكتسب، مثل حرارة الإقليم وبرودته، فإن لهما أثرًا في العادة على إسراع البلوغ وإبطائه، وطبيعة الأرض فإنه يترتب عليها عادة اشتغال الناس بالتجارة بنوع من الأموال، وقد ذكر د.أحمد فهمي تعاريف كثيرة اختار منها أشملها لمقصود الفقهاء فإن الفقهاء قصدوا من بحث العرف والعادة جعلهما قاعدة تُبنى عليها الأحكام العملية، انظر 10-11-12. ولذلك اشترط في تعريفها حدوث التكرار في القول أو الفعل من الفرد أ والجماعة بسبب مكتسب أو غير مُكتسب وقد يسمى غير ذلك عادة أو عرفًا والمقصود هنا النظر فيما يكون قاعدة للحكم الفقهي. (142) يقصد والله أعلم من يخالفه فيما قرره سواء نفاة التعليل أو القائلين به الذين يشترطون شروطا معينة للعمل بالمصلحة فإن كان هذا مراده، فإن كلامه هذا لا يستقيم إذ أن الذين يعملون بالمصلحة ويلتزمون بضوابطها الشرعية لا ينظرون إلى النصوص مفككة، بل ينظرون لها جملة ويتعرفون على عللها ومقاصدها. (143) تعليل الأحكام 71. (144) المرجع نفسه 56-64. (145) المرجع نفسه 34. (146) المرجع نفسه 34. (147) المرجع نفسه 322. (148) المرجع السابق 32. (149) المرجع السابق 37-38. (150) المرجع السابق 43. (151) المرجع السابق 61. (152) المرجع السابق 293. (153) المرجع السابق 293. (154) المرجع السابق 302، ظاهر من منهج المؤلف أن كتابه- تعليل الأحكام- مبني على ما نقله عن الصحابة من تطبيقات، وهو يظن أن الأمثلة التي جمعها تدل على مقصوده، ويطالب مخالفه في دعواه أن يستقرئ هذه الأمثلة ويخرجها على غير تفسيره هو، وهذا ما أسأل الله عليه العون والتوفيق.. وإذا خرجت التفسيرات عن تفسيره بالأدلة الواضحة سقط كل ما بناه عليها، والله المستعان. (155) المرجع السابق 282. (156) ولذلك فإني أعتبر هذه المطالب ردًا وتفنيدًا لشبهة تغير الأحكام سواء وردت في الكتاب المذكور أو في غيره من الكتب، وإنما تتبعها كما جاءت فيه لأنه استوعب أكثر الشبه التي يمكن أن تروج لقضية التغيير والتبديل، وقد بناها على القول باتباع المصالح، ونحن نحتاج إلى بيان مدى خطورة ترك ضوابط المصلحة من الناحية التطبيقية، ليكون في ذلك عبرة لكل من يتحدث عن الإسلام ويعمل له، فكثيرًا ما ضل قوم وهم يزعمون أنهم يتبعون المصلحة ، ولابد من استيعابه ومتابعة الشبه وتصحيح نقول بعض الباحثين عن الأئمة التي لم تصحح في بحوث أخرى ، ولو اقتضى ذلك نوعاً من التطويل.. والله المستعان.. (157) تعليل الأحكام 37-38. (158) انظر بيانه فيما سبق ص 232. (159) سنن أبي داود رقم 533، ومعنى تفلة أي غير متطيبة، وتفلة بفتح المثناة وكسر الفاء، وامرأة تفلة إذا كانت متغيرة الريح» فتح الباري 2/349. (160) سنن أبي داود رقم 536، وتعليل الأحكام 38-39. (161) رسالة تعليل الأحكام 39. (162) المرجع السابق 1/231. (163) فتح الباري 2/348-349. (164) معنى بكتوه أي وبخوه، انظر سنن أبي داود رقم 4312. (165) سنن البيهقي 8/320 الطبعة الأولى 1354هـ - وتعليل الأحكام 60-61-62، وسنن أبي داود 4314. (166) سنن البيهقي 8/320، وسنن أبي داود 4324. (167) تعليل الأحكام 61. (168) انظر ما سبق ص383. (169) انظر المسألة فيما سبق ص433-434. (170) سنن أبي داود 4324. (171) تنوير الحوالك شرح الموطأ 2/220. (172) وهو من معنى الأثر السابق- انظر المصدر السابق 2/220. (173) تعليل الأحكام 62-63. (174) راجع المسألة في كتاب المغني 9/103 إلى 137. (175) المغني 9/136. (176) تعليل الأحكام 63. (177) انظر كيفية الاستنباط من الآية في أحكام القرآن لابن العربي 2/615. (178) معنى أملقوا افتقروا. انظر فتح الباري 6/130. (179) فتح الباري 6/129-130. (180) تعليل الأحكام 32. (181) سورة النساء : آية 64. (182) سورة الأحزاب : آية 36. (183) سورة النور : آية 63. (184) سورة الحجرات: آية 1. (185) فتح الباري 6/130. (186) فتح الباري 6/130. (187) فتح الباري 12/275. (188) الموافقات 4/225. (189) مختصر سنن أبي داود مع معالم السنن للخطابي رقم 4246. (190) سنن الترمذي رقم 1474. (191) تعليل الأحكام 36. (192) تعليل الأحكام 37. (193) انظر المغني 308. (194) المغني 308-309، تعليل الأحكام 36-37. (195) انظر ما سبق ص358. (196) سورة البقرة : آية 104. وقد كان المسلمون من قولهم: «راعنا» الخير فاستعمله اليهود وهم يقصدون به الشر، يقصدون فاعلاً من الرعونة، فنهى الله المؤمنين عن ذلك، تفسير ابن كثير 1/150 وأعلام الموقعين 3/137. 1/150 وأعلام الموقعين 3./137. (197) { فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } (الأنعام:108). (198) أخرجه مسلم من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص بلفظ «إن رسول الله × قال ، من الكبائر شتم الرجل والديه، قالوا يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه، قال نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه» فنهاه عن سب غير أبيه وأمه لكي لا يتخذ ذريعة لسب أبويه . باب أكبر الكبائر 2/83- صحيح مسلم بشرح النووي. (199) الموافقات 3/189، 190. (200) 3/137-159. (201) الموافقات 3/188. (202) المصدر السابق 3/192. (203) المصدر السابق 3/193. (204) 226، وانظر 200، 391، 509. (205) انظر أعلام الموقعين 3/143- 154 ونظرية المصلحة 227. (206) ومثله ما نسبه إلى عمر رضي الله عنه ص 37-38. من أنه منع أهل الذمة من الذبح للمسلمين واعتبر هذا العمل من عمر رضي الله عنه مخالفة للنص الذي أجاز حل ذبائحهم وهو قوله تعالى:+وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ" . والظاهر - والله أعلم- أنه لا ارتباط بين الموضعين فحل ذبائحهم لا يلزم منه جواز استخدامهم في الذبح للمسلمين في أسواقهم من دون المسلمين، والاعتماد عليهم في مثل هذه الأمور، حتى يقول أن عمر منع ذلك مخالفًا فيه للآية، فالجهة منفكة كما يقول الأصوليون. (207) ومثل ذلك ما قاله في تضمين الصناع ص59. مع أن هذا المثال في الحقيقة يدخل تحت أصل أو قاعدة معتبرة وهي قاعدة سد الذرائع. انظر نظرية المصلحة 341، أو تدخل تحت أصل معتبر وهو أن المصلحة العامة تقدم على المصلحة الخاصة عند التعارض في الوقائع التي لم يرد فيها حكم منصوص. نظرية المصلحة 133-137. (208) انظر الإجماع ص266-384. (209) أشرت إلى فساد عقيدته وفساد رأيه الذي قدم به المصلحة على النص . انظر ما سبق ص413. (210) انظر رسالة أستاذي «نظرية المصلحة» من أولها إلى آخرها تجد فيها ما يثبت ذلك ، وكذلك ضوابط المصلحة. (211) تعليل الأحكام 3002. (212) مخالفة المؤلف للمنكرين للتعليل -مع موافقتي له في ذلك - لا يبيح له رفع ضوابط المصلحة واتباع مذهب الطوفي.. والشذوذ عن الإجماع. (213) رسالة تعليل الأحكام 92. (214) تعليل الأحكام 292-293-294-295. (215) تعليل الأحكام 295-296. (216) تعليل الأحكام 292-296. (217) انظر نظرية المصلحة ، وانظر ضوابط المصلحة للأستاذ البوطي. وهما بحثان متخصصان في موضوع المصلحة. (218) نظرية المصلحة 807. (219) المرجع نفسه 807. (220) المرجع نفسه 808 وراجع إن شئت ما ذكره من التفاصيل والأدلة في كل موضع من هذه المواضع تجد أنه حرر نسبة المذاهب إلى أصحابها وضبطها ورد على المخالفين أمثال الطوفي الذي يحاول د. شلبي الانتصار له. (221) المرجع السابق 293. (222) انظر هامش ص 413 وما بعدها. (223) انظر ما سبق ص 460- 461 من الرد على محمد شلبي في التطبيقات التي ذكرها. (224) بل زاد صاحب رسالة التعليل ص370 الطين بلة، وزعم أن المصلحة تقدم على النص ويترك بها جميع أفراده، وتقدم على الإجماع ، وتعطل النص ولا تنسخه، وهذا المذهب أقبح من مذهب الطوفي ، انظر مقارنة بينهما في نظرية المصلحة 111-113. (224) انظر ص 149 من هذا البحث. (225) (هذه المجلة)، كلمة التحرير، د. جمال الدين عطية، ص 7، (المسلم المعاصر)، العدد الافتتاحي، شوال 1394هـ، (نوفمبر 1974م). (226) انظر (منهاج هذه المجلة) محمود أبو السعود، ص 123 العدد الافتتاحي ـ و(إمكان الاجتهاد في أصول الفقه) د. مصطفى كمال وصفي، ص 131، العددان الأول والثاني (ربيع الأول 1395هـ) و(نظرات في العدد الأول)، يوسف القرضاوي، ص 136 نفس المصدر. (227) (مواجهة مع عناصر الجمود في الفكر الإسلامي المعاصر)، ص 257، مجلة العربي، عدد 222، مايو 1977م. (228) (نظرات في العدد الأول) يوسف القرضاوي، ص 138، (مجلسة المسلم المعاصر)، العدد الأول والثاني ربيع الأول 1395هـ. (229) تجديد الفكر الإسلامي ص 12. (230) تجديد الفكر الإسلامي ص 21. (331) تجديد أصول الفقه ص 29. (232) انظر الرسالة للإمام الشافعي ص 471 وما بعدها، ففيها هذا المعنى. (233) منهاج الوصول في علم الأصول (2/273). (234) جمع الجوامع (2/176). (235) الفقيه والمتفقه (1/154). (236) يقصد بقوله: «حالت» تحولت تلك الظروف وتبدلت. (237) تجديد الفكر الإسلامي ص 11. (238) تجديد الفكر الإسلامي ص 12 . (239) تجديد الفكر الإسلامي ص 21. (240) الفقيه والمتفقه (2/178). (241) منهاج الوصول في علم الأصول (3/3). (242) تجديد أصول الفقه ص 22. (243) الشاطبي : الاعتصام 1/184 (244) عبد المجيد النجار : العقل والسلوك في البنية الإسلامية ص115 (245) معالم في الطريق ص105 (246) إمتاع العقول بروضة الأصول : ص107-110 (247) إمتاع العقول بروضة الأصول : ص107-110 (248) د. وهبة الزُّحيلي : نظرية الضرورة الشرعية : ص67-68 انظر كذلك كتاب : ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية للبُوطي. (249) المصدر السابق: ص69-71 (250) سورة الملك : الآية 14 (251) محمد أبو القاسم حاج حمد : العالمية الإسلامية الثانية ص279 (252) ابن القيم : أعلام الموقعين 3/5 . (253) الشعراني: الميزان 1/30 . (254) راجع آراء جايجر ص 118، وسباتيه ص 135 من هذا البحث. (255) (علم أصول الفقه)، عبد الوهاب خلاف، ص 44. (256) انظر ص 133 من هذا البحث. (257) (الخيط الرفيع بين التجديد في الإسلام والانفلات منه)، مجلة العربي، ص 16، العدد 225، أغسطس 1977م. (258) انظر ص 190 من هذا البحث. (259) (إرشاد الفحول)، الشوكاني، ص 33. ومن الصحابة مَنْ كان يقتدي بالرسول حتى في بعض أفعاله الجبلية البشرية، فقد كان عبد الله بن عمر يتتبع مواطن قيامه وقعوده، ويقتدي به فيها كما هو معروف عنه رضي الله عنه، ومنقول في كتب السنة. (260) (سيرة ابن هشام)، ج 2 ص 259. (261) (سيرة ابن هشام)، ج 2 ص 259، و(المستدرك) للحاكم، ج3 ص 426، و(البداية والنهاية) لابن كثير، ج 3 ص 267، و(زاد المعاد) لابن القيم، تحقيق شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط، ج3 هامش ص 175. (262) أصول السرخسي، ج 2 ص 93. وحادثة أسارى بدر ثابتة في كتب السنة، ومن ذلك مسلم، راجع (تفسير القرطبي)، ج 8 ص 45. وقصة الآذان ثابتة أيضًا في كتب السنة، ومنها: البخاري ومسلم، راجع (نيل الأوطار)، ج 2 ص 35. (263) (أصول السرخسي)، ج 2 ص 95، وراجع في قصة خولة تفسير القرطبي، ج 17 ص 270. (264) (البداية والنهاية)، ابن كثير، ج 3 ص 267. (265) (شرح مسلم النووي)، ج 15 ص 116. (266) نفس المصدر ص 117. (267) نفس المصدر ص 118. (268) (المسند)، 6/ 123. (269) (السنة التشريعية وغير التشريعية)، مجلة المسلم المعاصر، العدد الافتتاحي، ص 29. (270) انظر (شرح مسلم للنووي)، 15/116، وشرح الآبي لمسلم، وشرح السنوسي ج 6 ص 153. (271) (فتاوى ابن تيمية) ج 18 ص 12. (272) (شرح مسلم للنووي)، ج 15 ص 117. (273) الكتاب مطبوع بمصر بمطبعة (كردستان العلمية)، عام 1326هـ. وراجع ص 289 عن الحجج التي أوردها في الرد على حديث: «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقلوه؛ فإن في أحد جناحيه سُمًّا، وفي الآخر شفاء». فقد ذكر أن الحديث صحيح، وأورد رواياته وألفاظه، ثم ناقش ذلك في ضوء الفلسفة (كان الطب في عصرهم من علوم الفلسفة) وكانت حججه تدور على أن الاعتراض لا يقوم على حقيقة فلسفية (طبية) صحيحة. (274) (فتح الباري)، ابن حجر، ج 12 ص 283. (275) انظر (الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، وتصرفات القاضي والإمام)، للإمام القرافي، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، ص (86 - 109). (276) (فتاوى ابن تيمية)، ج 18 ص 12. (177) نفس المصدر، ص 8. (278) نفس المصدر، ص 8. (279) (مواجهة مع عناصر الجمود في الفكر الإسلامي المعاصر)، مجلة العربي، ص 22، العدد 222، مايو 1977م. (280) (مفاهيم إسلامية حول الدين والدولة)، المودودي، ص 172. (281) (فتاوى ابن تيمية) ج 9 ص 308. (282) المصدر نفسه ص38 – 39 . (283) مجلة المسلمون العدد السادس السنة الأولى ص553 . (284) مجلة الأدب. بيروت. عدد مايو 1970 ص101 . (285) دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين. محمد الغزالي ص134 – 135 . (286) معالم المنهج الإسلامي. محمد عمارة ص234 . (287) المصدر السابق ص232 . (288) المصدر السابق، ص243 – 244 . (289) أخرجه البخاري، كتاب اللباس. باب عذاب المصورين يوم القيامة (10/382) ح(5950). ومسلم أيضًا في كتاب اللباس والزينة. باب تحريم صورة الحيوان.. (3/1670) ح(2109) . (290) معالم المنهج الإسلامي ص245 . (291) مجموع الفتاوى (33/93 – 94) . (292) أخرجه البخاري. كتاب الجمعة. باب ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد (2/382) ح(900). ومسلم في كتاب الصلاة. باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة .. (1/327) ح(442). (293) السنة تشريع لازم ودائم ص99- 100 . (294) الفتاوى (33/ 94) . (295) الموافقات للشاطبي (285- 286) . (296) الحديث أخرجه البخاري كتاب الآذان. باب انتظار الناس قيام الإمام العالم (2/349) ح(869). ومسلم في كتاب الصـلاة. باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة ... واللفظ لمسلم (1/329) ح:445 . (297) سنة تشريعية وغير تشريعية. محمد سليم العوا ص41 . (298) انظر: صحيح مسلم بشرح النووي (4/161) . (299) سبق تخريجه ص256 . (300) الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية – د. عابد السفياني ص465 . (301) انظر: صحيح مسلم بشرح النووي (4/164) . (302) مقال « النصوص وتغير الأحكام » مجلة المسلمون عدد (6) ص555 . (303) الشروط التي اشترطها الشارع لتنفيذ الحد : 1- أن يكون المسروق نصابًا . 2- أن يكون من حرز . 3- أن لا يكون فيه شبهة ملك . 4- أن لا يكون آخذه محتاجًا إليه لسد رمقه . انظر: المغني (9/103- 137)، وانظر الثبات والشمول لعابد السفياني ص471 . (304) المحلى لابن حزم (11/343) تحقيق أحمد شاكر – الناشر مكتبة دار التراث. القاهرة . (305) أعلام الموقعين (3/ 14) . (306) الثبات والشمول. عابد السفياني ص472 . (307) مفهوم تجديد الدين – بسطامي سعيد ص130 . (308) تفسير المنار (2/215 – 216 ) . (309) المصدر السابق (10/ 289) . (310) السياسة الشرعية في الشؤون الدستورية والخارجية والمالية. تأليف عبدالوهاب خلاف ص84- 85. الناشر دار القلم للنشر والتوزيع. الكويت، 1408هـ- 1988م . (311) العلاقات الدولية والنظم القضائية في الشريعة الإسلامية، تأليف عبدالخالق النواوي ص109، الناشر دار الكتاب العربي – بيروت، الطبعة الأولى 1394هـ- 1974م . (312) العلاقات الدولية في الإسلامية – تأليف محمد أبو زهرة ص47، الناشر الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة 1384هـ- 1964م . (313) المصدر السابق ص89- 90 . (314) أخرجه الإمام أحمد في المسند (2/50 – 92) . (315) السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث، لمحمد الغزالي ص132 . (316) المصدر السابق ص133 . (317) الدعوة الإسلامية تستقبل قرنها الخامس عشر. تأليف محمد الغزالي ص13. الناشر مكتبة وهبة. القاهرة. الطبعة الثانية 1405هـ- 1985م . (318) المصدر السابق ص13 . (319) المصدر السابق، ص16- 17 . (320) جهاد الدعوة بين عجز الداخل وكيد الخارج، تأليف محمد الغزالي ص89. الناشر دار القلم للنشر والتوزيع – دمشق الطبعة الأولى 1411هـ- 1991م . (321) المصدر السابق ص89 . (322) المصدر السابق ص90 . (323) المصدر السابق ص91 – 92 . (324) أخرجه البخاري – كتاب المناقب – باب 28 (6/633) ح: 3644. ومسلم – كتاب الإمارة – باب الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة (3/1493) ح: 1873 . (325) نقلاً عن الرد القويم لما جاء في الترابي والمجادلون عنه من الافتراء والكذب المهين، للشيخ الأمين الحاج محمد أحمد ص86 . (326) مواطنون لا ذميون – فهمي هويدي ص234 . (327) المصدر السابق ص236 . (328) المصدر السابق ص240 – 241 . (329) انظر: المصدر السابق ص244 – 249 . (330) المصدر السابق ص261 . (331) المصدر السابق ص261 – 262 . (332) الدولة الإسلامية بين العلمانية والسلطة الدينية – محمد عمارة ص130 . (333) المصدر السابق ص131 . (334) المصدر السابق ص135 – 136 . (335) المصدر السابق ص136- 137 . (336) مراحل تشريع الجهاد أربع مراحل: المرحلة الأولى: مرحلة النهي عن القتال قال تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ) [الناس: 77]. المرحلة الثانية: إباحة القتال من غير فرض. قال تعالى: ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)[الحج: 39]. المرحلة الثالثة : وفيها فرض القتال على المسلمين لمن قاتلهم فقط. قال تعالى: ( وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ) [البقرة: 190]. المرحلة الرابعة: وفيها فرض قتال جميع الكفار قال تعالى: ( فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ) [التوبة: 5]. ويتخلص الحكم في الجهاد بأنه « كان محرمًا ثم مأذونًا به ثم مأمورًا به لمن بدأهم بالقتال، ثم مأمورًا به لجميع المشركين. إما فرض عين على أحد القولين أو فرض كفاية على المشهور ». زاد المعاد لابن القيم (3/71)، وانظر أهمية الجهاد للعلياني ص136- 144، وانظر الجهاد في الإسلام، تأليف صالح اللحيدان ص43- 54، الناشـــــر دار اللواء للنشر والتوزيع. الرياض. الطبعة الثانية 1398هـ- 1978م (337) الأجوبة المفيدة لمهمات العقيدة للشيخ عبدالرحمن الدوسري ص137- 138، الناشر مكتبة الرشد للنشر والتوزيع. الرياض. الطبعة الثانية 1403هـ- 1983م . (338) مجموع فتاوى، ومقالات متنوعة للشيخ عبدالعزيز بن باز (3/198- 199) . (339) افتراءات حول غايات الجهاد، للدكتور محمد نعيم ياسين ص119. الناشر دار الأرقم للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية 1406هـ- 1986م . (340) في ظلال القرآن. سيد قطب (2/497) . (341) سبق ذكر هذا الأثر ص123، من هذه الرسالة .
|