نجح كثير من المستشرقين
في العصور المتأخرة في التأثير على عقول بعض
المسلمين ، فانخدعوا بكتاباتهم ودراساتهم حول
الإسلام ، وهماً منهم أنها قامت على الموضوعية
والحياد والإنصاف والتجرد في البحث العلمي ،
ومن ثم اقتفوا آثارهم ، ورددوا دعاواهم التي
لم يقيموا عليها أي بينة ، بل زادوا عليها من
أنفسهم ، وكل هؤلاء وأولئك نفثوا سمومهم باسم
البحث والمعرفة وحرية النقد ، وهم أبعد ما
يكون عن العلم الصحيح والبحث القويم والنقد
النزيه .
وبذلك جاءت كتابات هذا
الفريق من تلامذة المستشرقين وأذنابهم حول
الإسلام عموماً والحديث النبوي خصوصاً لا
تقلٌّ - إن لم تكن قد فاقت - كتابات
المستشرقين في إثارة الشبه والتشكيك في مصادر
الشريعة الإسلامية ، فكانت تلك الكتابات في
حقيقتها ما هي إلا مرآة وصدى لأفكار
المستشرقين التي تأثروا بها .
وكان من هؤلاء الذين دعوا إلى ترك الحديث
والاعتماد على القرآن الدكتور توفيق صدقي الذي
كتب مقالين في مجلة المنار بعنوان " الإسلام
هو القرآن وحده ، ثم تلاه " أحمد أمين في
كتابه" فجر الإسلام " الذي عقد فيه فصلاً
خاصاً أتى فيه بأفكار وآراء حول الحديث ، وهي
لا تخرج في جملتها عن أفكار وآراء المستشرقين
من غير أن ينسبها إليهم , ثم تسلم الراية
بعدهم محمود أبو رية الذي ألف كتابه " أضواء
على السنة المحمدية " ، فنشر فيه مزاعم
واتهامات حول الحديث النبوي ، وخلط بين ما
قاله من سبقه من المستشرقين ، ومن سار على
منهجهم من المسلمين ، فجاء كتابه مزيجاً من
مختلف الآراء التي قيلت للتشكيك في الحديث
النبوي ورجاله ، وإظهار السنة بمظهر الاختلاف
والتناقض والتحريف .
وكان غرضهم من ذلك التشكيك في الحديث النبوي
كمصدر ثانٍ من مصادر التشريع الإسلامي ، عن
طريق الطعن في حجية السنة ، وإثارة الشبه
حولها حتى يترك العمل بها من قبل المسلمين .
ومن هذه الشبه التي رددها أذناب المستشرقين
قولهم : " لوكانت السنة ضرورية لحفظها الله
كما حفظ القرآن في قوله تعالى :{
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون }
، ولأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -
بكتابتها كما أمر بكتابة القرآن " (1) .
وقولهم في الحديث الذي
يقول فيه النبي - صلى الله عليه وسلم : -
( ألا وإني أوتيت
القرآن ومثله معه ) ، : " لو كان هذا
الحديث صحيحاً لما نهى النبي - صلى الله عليه
وسلم - عن كتابة السنة ، ولأمر بتدوينها كما
دون القرآن ، ولا يمكن أن يدع نصف ما أوحي
إليه بين الناس بغير كتابة ، ولا يكون حينئذ
قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة كاملة إلى أهلها
، ولماذا ترك الصحابة نصف الوحي ولم يدونوه ،
فبإهمالهم له يصبحون جميعاً من الآثمين " (2)
.
وجواباً على هذه الشبه
نقول : إن الله عز وجل كما أراد لهذه الشريعة
البقاء والحفظ ، أراد سبحانه أيضاً ألا يكلف
عباده من حفظها إلا بما يطيقون ولا يلحقهم فيه
مشقة شديدة ، فمن المعلوم أن العرب كانوا أمة
أمية ، وكان يندر فيهم الكتبة ، وكانت أدوات
الكتابة عزيزة ونادرة ، حتى إن القرآن كان
يكتب على جريد النخل والعظام والجلود ، وقد
عاش النبي - صلى الله عليه وسلم -بين أصحابه
بعد البعثة ثلاثًا وعشرين سنة ، ولهذا كان
التكليف بكتابة الحديث كله أمرا ًفي غاية
الصعوبة والمشقة ، لأنه يشمل جميع أقواله
وأفعاله وأحواله وتقريراته - صلى الله عليه
وسلم - ، ولِما يحتاجه هذا العمل من تفرغ عدد
كبير من الصحابة له ، مع الأخذ في الاعتبار أن
الصحابة كانوا محتاجين إلى السعي في مصالحهم
ومعايشهم ، وأنهم لم يكونوا جميعا يحسنون
الكتابة ، بل كان الكاتبون منهم أفراداً قلائل
، فكان تركيز هؤلاء الكتبة من الصحابة على
كتابة القرآن دون غيره حتى يؤدوه لمن بعدهم
تامًا مضبوطًا لا يُنْقص منه حرف .
ومن أجل ذلك اقتصر
التكليف على كتابة ما ينزل من القرآن شيئاً
فشيئاً حتى جمع القرآن كله في الصحف .
وكان الخوف من حدوث
اللبس عند عامة المسلمين فيختلط القرآن بغيره
- وخصوصاً في تلك الفترة المبكرة التي لم
يكتمل فيها نزول الوحي - أحد الأسباب المهمة
التي منعت من كتابة السنة .
ثم إنه لم يحصل لحفاظ السنة في عهد الصحابة ما
حصل لحفاظ القرآن ، فقد استحرَّ القتل بحفاظ
القرآن من الصحابة ، أما السنة فإن الصحابة
الذي رووا الحديث عن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - كانوا كثر ، ولم يحصل أن استحر
القتل فيهم قبل تلقي التابعين عنهم .
ومن الأسباب أيضاً أن
السنة كانت متشعبة الوقائع والأحداث فلا يمكن
جمعها كلها بيقين ، ولو جمع الصحابة ما أمكنهم
فلربما كان ذلك سبباً في رد من بعدهم ما فاتهم
منها ظناً منهم أن ما جمع هو كل السنة .
ثم إن جمعها في الكتب
قبل استحكام أمر القرآن كان عرضة لأن يُقبِل
الناس على تلك الكتب ، ويدعوا القرآن ، فلذلك
رأوا أن يكتفوا بنشرها عن طريق الرواية ، وبعض
الكتابات الخاصة .
أضف إلى ذلك أن القرآن
يختلف عن السنة من حيث أنه متعبد بتلاوته ،
معجز في نظمه ولا تجوز روايته بالمعنى ، بل لا
بد من الحفاظ على لفظه المنزل ، فلو ترك
للحوافظ فقط لما أمن أن يزاد فيه حرف أو ينقص
منه ، أو تبدل كلمة بأخرى ، بينما السنة
المقصود منها المعنى دون اللفظ ، ولذا لم
يتعبد الله الخلق بتلاوتها ، ولم يتحداهم
بنظمها ، وتجوز روايتها بالمعنى ، وفي روايتها
بالمعنى تيسير على الأمة وتخفيف عنها في
تحملها وأدئها .
وقد بلَّغ - صلى الله
عليه وسلم - الدين كله وشهد الله له بهذا
البلاغ فقال سبحانه :{يا
أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم
تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس
} (المائدة 67) ، ووجود السنة بين
الأمة جنباً إلى جنب مع القرآن الكريم فيه
أبلغ دلالة على تبليغ الرسول - صلى الله عليه
وسلم - إياها لأمته وبالتالي لم يضع نصف ما
أوحاه الله إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم -
كما زعم الزاعمون - ، بل الجميع يعلم أن
الصحابه رضي الله عنهم كانوا يتمتعون بحوافظ
قوية ، وقلوب واعية ، وذكاء مفرط ، مما أعانهم
على حفظ السنة وتبليغها كما سمعوها ، مستجيبين
في ذلك لحث نبيهم - صلى الله عليه وسلم - لهم
بقوله : ( نضر
الله امرءاً سمع مني مقالة فحفظها فأداها كما
سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع ) رواه
الترمذي
وغيره .
فتم ما أراده النبي -
صلى الله عليه وسلم - من حفظ السنة وتبليغها ،
ويكون بذلك - صلى الله عليه وسلم - قد بلغ دين
الله عز وجل كاملاً ولم ينقص منه شيئاً