أجمعت الأمة على توقير وإكرام وتعظيم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبِرِّه، وحَرَّم الله تعالى إيذاءه، كما أجمعت الأمة على قتل مَن سَبَّه من المسلمين، أو نال منه، وذلك لقول الله تعالى: (إنَّ الذين يُؤْذُونَ اللهَ ورَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللهُ في الدنيا والآخرةِ وأَعَدَّ لهم عذابًا مُهينًا) وقوله سبحانه: (والذينَ يُؤْذونَ رسولَ اللهِ لهم عذابٌ أليمٌ)

ورَوَى علي ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "مَن سَبَّ نبيًّا فاقتلوه، ومَن سَبَّ أصحابي فاضربوه" وقد أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقتل كعب بن الأشرف غِيلةً؛ لإيذائه رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال: "مَن لكعب بن الأشرف؛ فإنه يُؤذي اللهَ ورسولَه؟"

كما أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقتل أبي رافع، وكان يُؤذي رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويُعين عليه، كما أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقتل جماعة ممَّن كانوا يُؤذونه من الكفار ويسبُّونه كالنضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط وغيرهم

ورُوِيَ عن ابن عباس: "أن رجلاً كانت له أم ولد على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تُكْثِر الوَقِيعة في رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتشتُمه، فقتلها، فذُكِرَ ذلك للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: أشهد أنَّ دمَّها هَدَر"

مقتل الكلب كعب بن الأشرف

ـ استنكاره ما فعله المسلمون بقريش في بدر

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وكان من حديث كعب بن الأشرف ‏‏:‏‏ أنه لما أصيب أصحاب بدر ، وقدم زيد بن حارثة إلى أهل السافلة ، وعبدالله بن رواحة إلى أهل العالية بشيرين ، بعثهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من بالمدينة من المسلمين بفتح الله عز وجل عليه ، وقتل من قتل من المشركين ، كما حدثني عبدالله بن المغيث بن أبي بردة الظفري ، وعبدالله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، وصالح بن أبي أمامة بن سهل ، كل قد حدثني بعض حديثه ، قالوا ‏‏:‏‏

قال كعب بن الأشرف ، وكان رجلاً من طيىء ، ثم أحد بني نبهان ، وكانت أمه من بني النضير ، هذان حين بلغه الخبر ‏‏:‏‏ أحق هذا ‏‏؟‏‏ أترون محمدا قتل هؤلاء الذين يسمي هذان الرجلان - يعني زيدا وعبدالله بن رواحة - فهؤلاء أشراف العرب وملوك الناس ، والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم ، لبطن الأرض خير من ظهرها ‏‏.‏‏‏

ـ ما قاله كعب تحريضا على رسول الله صلى الله عليه وسلم

فلما تيقن عدو الله الخبر ، خرج حتى قدم مكة ، فنزل على المطلب بن أبي وداعة بن ضبيرة السهمي ، وعنده عاتكة بنت أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ، فأنزلته وأكرمته ، وجعل يحرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وينشد الأشعار ، ويبكي أصحاب القليب من قريش ، الذين أصيبوا ببدر

ثم رجع كعب بن الأشرف إلى المدينة فشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم ‏‏.‏‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ كما حدثني عبدالله بن المغيث بن أبي بردة ، من لي بابن الأشرف ‏‏؟‏‏ فقال له محمد بن مسلمة ، أخو بني عبدالأشهل ، أنا لك به يا رسول الله ، أنا أقتله ؛ قال ‏‏:‏‏ فافعل إن قدرت على ذلك ‏‏.‏‏

فاجتمع في قتله محمد بن مسلمة ، وسلكان ابن سلامة بن وقش ، وهو أبو نائلة أحد بني عبدالأشهل ، وكان أخا كعب بن الأشرف من الرضاعة ، وعباد بن بشر بن وقش ، أحد بني عبدالأشهل ، والحارث بن أوس بن معاذ ، أحد بني عبدالأشهل ، وأبو عبس بن جبر ، أحد بني حارثة ‏‏.‏‏

ثم قدموا إلى عدو الله كعب بن الأشرف ، قبل أن يأتوه ، سلكان ابن سلامة ، أبا نائلة ، فجاءه ، فتحدث معه ساعة ، وتناشدوا شعرا ، وكان أبو نائلة يقول الشعر ، ثم قال ‏‏:‏‏ ويحك يابن الأشرف ‏‏!‏‏ إني قد جئتك لحاجة أريد ذكرها لك ، فاكتم عني ؛ قال ‏‏:‏‏ افعل ، قال ‏‏:‏‏ كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء من البلاء ، عادتنا به العرب ، ورمتنا عن قوس واحدة ، وقلعت عنا السبل حتى ضاع العيال ، وجهدت الأنفس ، وأصبحنا قد جهدنا وجهد عيالنا ؛

قال كعب ‏‏:‏‏ أنا ابن الأشرف ، أما والله لقد كنت أخبرك يابن سلامة ، إن الأمر سيصير إلى ما أقول ، فقال له سلكان ‏‏:‏‏ إني قد أردت أن تبيعنا طعاما ونرهنك ونوثق لك ، ونحسن في ذلك ؛ فقال ‏‏:‏‏ اترهنوني أبناءكم‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ لقد أردت أن تفضحنا ، إن معي أصحابا لي على مثل رأي ، وقد أردت أن آتيك بهم ، فتبيعهم وتحسن في ذلك ، ونرهنك في الحلقة ما فيه وفاء ، وأراد سلكان أن لا ينكر السلاح إذا جاءوا بها؛ قال ‏‏:‏‏ إن في الحلقة لوفاء ؛

قال فرجع سلكان إلى أصحابه فأخبرهم خبره ، وأمرهم أن يأخذوا السلاح ، ثم ينطلقوا فيجتمعوا إليه ، فاجتمعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏.‏‏‏

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ ويقال ‏‏:‏‏ أترهنوني نساءكم ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ كيف نرهنك نساءنا وأنت أشب أهل يثرب وأعطرهم ، قال ‏‏:‏‏ أترهنوني أبناءكم ‏‏؟‏‏

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ فحدثني ثور بن يزيد ، عن عكرمة عن ابن عباس قال ‏‏:‏‏

مشى معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد ، ثم وجههم ، فقال ‏‏:‏‏ انطلقوا على اسم الله ؛ اللهم أعنهم ، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته ، وهو في ليلة مقمرة ، وأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه ، فهتف به أبو نائلة ، وكان حديث عهد بعرس ، فوثب في ملحفته ، فأخذته امراته بناحيتها ، وقالت ‏‏:‏‏ إنك امرؤ محارَب ، وإن أصحاب الحرب لا ينزلون في هذه الساعة ، قال ‏‏:‏‏ إنه أبو نائلة ، لو وجدني نائما لما أيقظني ، فقالت ‏‏:‏‏ والله إني لأعرف في صوته الشر ، قال ‏‏:‏‏ يقول لها كعب ‏‏:‏‏ لو يدعى الفتى لطعنة لأجاب ‏‏.‏‏

فنزل فتحدث معهم ساعة ، وتحدثوا معه ، ثم قال ‏‏:‏‏ هل لك يا بن الأشرف أن تتماشى إلى الشعب العجور، فنتحدث به بقية ليلتنا هذه ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ إن شئتم ‏‏.‏‏ فخرجوا يتماشون ، فمشوا ساعة ، ثم إن أبا نائلة شام يده في فود رأسه ، ثم شم يده فقال ‏‏:‏‏ ما رأيت كالليلة طيبا أعطر قط ، ثم مشى ساعة ، ثم عاد لمثلها حتى اطمأن ، ثم مشى ساعة ، ثم عاد لمثلها ، فأخذ بفود رأسه ، ثم قال ‏‏:‏‏ اضربوا عدو الله ، فضربوه فاختلف عليه أسيافهم ، فلم تغن شيئا ‏‏.‏‏

قال محمد بن مسلمة ‏‏:‏‏ فذكرت مغولا في سيفي ، حين رأيت أسيافنا لا تغني شيئا ، فأخذته ، وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حصن إلا وقد أوقدت عليه نار ، قال ‏‏:‏‏ فوضعته في ثنته ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته ، فوقع عدو الله وقد أصيب الحارث بن أوس بن معاذ ، فجرح في رأسه أو في رجله ، أصابه بعض أسيافنا ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فخرجنا حتى سلكنا على بني أمية بن زيد ، ثم على بني قريظة ، ثم على بعاث ، حتى أسندنا في حرة العريض ، وقد أبطأ علينا صاحبنا الحارث بن أوس ، ونزَّفه الدم ، فوقفنا له ساعة ، ثم أتانا يتبع آثارنا ‏‏.‏‏

قال ‏‏:‏‏ فاحتملناه فجئنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر الليل ، وهو قائم يصلي ، فسلمنا عليه ، فخرج إلينا ، فأخبرناه بقتل عدو الله ، وتفل على جرح صاحبنا ، فرجع ورجعنا إلى أهلنا ، فأصبحنا وقد خافت يهود لوقعتنا بعدو الله ، فليس بها يهدوي إلا وهو يخاف على نفسه ‏‏.‏‏


ـ أمر محيصة وحويصة

* لوم حويصة لأخيه محيصة لقتله يهوديا ثم إسلامه

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه ‏‏)‏‏ فوثب محيصة بن مسعود ‏‏.‏‏

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ محيصة ويقال محيصة بن مسعود بن كعب بن عامر بن عدي بن مجدعة بن حارثة بن الحارث بن الخزرح بن عمرو بن مالك بن الأوس - على ابن شنينة -

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ ويقال شنينة - رجل من تجار يهود ، كان يلابسهم ويبايعهم فقتله وكان حويصة بن مسعود إذ ذاك لم يسلم ، وكان أسن من محيصة ، فلما قتله جعل حويصة يضربه ، ويقول أي عدو الله ،أقتلته ‏‏؟‏‏ أما والله لرب شحم في بطنك من ماله ‏‏.‏‏

قال محيصة ‏‏:‏‏ فقلت ‏‏:‏‏ والله لقد أمرني بقتله من لو أمرني بقتلك لضربت عنقك ، قال ‏‏:‏‏ فوالله إن كان لأول الإسلام حويصة قال ‏‏:‏‏ آولله لو أمرك محمد بقتلي لقتلتني ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ نعم ، والله لو أمرني بضرب عنقك لضربتها ‏‏!‏‏ قال ‏‏:‏‏ والله إن دينا بلغ بك هذا لعجب ، فأسلم حويصة

 

الرئيسيه