شبهة الآستيلاء على قوافل
قريش
http://www.islamweb.net/ver2/archive...t.php?id=82444
يلحظ الناظر في شبهات المستشرقين ومن تبعهم
سياستهم في قلب الحقائق والنظر إلى الأمور بمنظار قاتم ، يُرى فيه
الحق باطلاً ، والحسن قبيحاً ، والفضيلة رذيلةً ، متوصلين بذلك إلى
مأربهم الدنيء من تشويه صورة هذا الدين وتزييف حقائقه ، وهذه هي
طريقتهم المفضّلة في حربهم على الإسلام .
وسوف نستعرض في مقالنا هذا ، نموذجا لإحدى
التشويهات المتعمدة والنظرات الجائرة للتاريخ الإسلامي .
لقد حاول المستشرقون ومن تبعهم إيهام الناس
أن النبي صلى الله عليه وسلّم لجأ إلى السطو على قوافل قريش التي
كانت محمّلة بأثمن البضائع ، رغبةً منه في التوسّع المالي ، وتكديس
الثروات ، متناسين ما وُصف به النبي صلّى الله عليه وسلم والمؤمنون
معه من زهدٍ وتقشّفٍ طيلة حياتهم ، ويقول أحدهم واصفاً جيوش
المؤمنين في العهد المدني قبل غزوة بدر : " ..وبدأت هذه السرايا
باعتراض قوافل قريش والسطو عليها ، وأخذ ما أمكن من الغنائم منها "
.
وللإجابة على هذه الشبهة ، ينبغي لنا أن
نعلم تداعيات الأحداث وسرد تسلسلها التاريخي كي نفهم المناخ الذي
ألجأ المسلمين إلى التعرّض لتلك القوافل ، ولأجل أن يتّضح للقاريء
الكريم كيف تُقلب الحقائق وتُسمّى بغير اسمها .
إن الوضع الذي عاش فيه المسلمون في العهد
المكيّ كان شديداً ، فقد ضُيّق عليهم من قبل صناديد قريش وكبرائها
، فقاموا بتعذيبهم والتنكيل بهم ، ومارسوا معهم كل أساليب الاضطهاد
الديني والتعذيب الوحشيّ ، حتى فقدوا بعضهم ، وأكلوا أوراق الشجر ،
وعاشوا حياةً مليئةً بالمصاعب والآلام ، فما كان للمسلمين بدّ أن
يتخلّوا عن أوطانهم وديارهم ، فراراً بدينهم ، وطلباً لمكان يعبدون
فيه ربّهم ، دون أن يتعرّض لهم أحد ، وصدق الله إذ يقول في كتابه :
{ الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله } (
الحج : 40 ) .
ومما يؤكد ذلك قول عائشة رضي الله عنها : "
كان المؤمنون يفرّ أحدهم بدينه إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله
عليه وسلم ، مخافة أن ُيفتن عليه" رواه البخاري ، وعنها أيضا : "
..وجعل البلاء يشتد على المسلمين من المشركين لما يعلمون من الخروج
– أي : لبيعة العقبة - ، فضيّقوا على أصحابه وتعبّثوا بهم ، ونالوا
منهم مالم يكونوا ينالون من الشتم والأذى ؛ فشكا ذلك أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، واستأذنوه في الهجرة " رواه ابن سعد في
الطبقات .
وعلى الرغم من ذلك ، لم تقف قريش مكتوفة
الأيدي ، بل قامت بالاستيلاء على جميع ممتلكات المهاجرين ،
واستباحت ديارهم وأموالهم ، وليس أدل على ذلك من تجريدهم لأموال
صهيب الرومي رضي الله عنه .
حتى إذا تم استقرار المسلمين في المدينة
واستتبّ لهم الأمر ، أذن الله تعالى لهم بالقتال لمن ظلمهم وبغى
عليهم ، قال الله تعالى : { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا } (
الحج : 39 ) ، فأُعلنت الحرب على قُريش ورجالاتها منذ تلك اللحظة ،
ومعلوم أن الحروب تأخذ أشكالا عديدة ، يأتي في مقدّمها ما يُسمى
بلغة عصرنا : " الحرب الاقتصادية " ، فلهذا كان المسلمون يتعرّضون
لقوافل قريش ، ويقطعون طريقها .
يقول اللواء محمد جمال الدين محفوظ : "
والضغط الاقتصادي من الأساليب التي لها آثار استراتيجية في الصراع
، وبدراسة الأعمال العسكرية التي تمت خلال العامين الأول والثاني
للهجرة إلى ما قبل غزوة بدر ، يتّضح أن هدفها الغالب هو التعرّض
لقافلة قريش على طريق تجارتها من مكة إلى الشام ، مما شكّل ضغطاً
اقتصادياً على قريش التي أدركت أن هذا الطريق أصبح محفوفاً
بالمخاطر ، وخاصةً بعد أن عقد الرسول صلّى الله عليه وسلّم
الاتفاقات والمعاهدات مع القبائل العربية ، وأبلغ تعبير عن آثار
هذا الضغط الاقتصادي قول صفوان بن أميّة لقومه : إن محمدا وأصحابه
قد عوّروا علينا متجرنا ، فما ندري كيف نصنع بأصحابه وهم لا يبرحون
الساحل ، وأهل الساحل قد وادعهم ودخل عامتهم معه ، فما ندري أين
نسلك ؟ ، وإن أقمنا في دارنا هذه أكلنا رؤوس أموالنا ، لم يكن لها
من بقاء ، وإنما حياتنا بمكة على تجارة الشام في الصيف ، وإلى
الحبشة في الشتاء " أ.هـ.
ويؤكّد ما سبق ، ما رواه الإمام الطبراني في
معجمه أن أبا جهل قال في معرض كلامه عن سريّة سيف البحر : " يا
معشر قريش ، إن محمداً قد نزل يثرب وأرسل طلائعه ، وإنما يريد أن
يصيب منكم شيئا ، فاحذروا أن تمرّوا طريقه وأن تقاربوه ، فإنه
كالأسد الضاري ، إنه حنق عليكم " ، وهكذا أعادت قريش النظر في
صراعها مع المسلمين بعد تلك الضربات الموجعة .
ولم تكن تلك الضربات هي المعتمد الإقتصادي
لدى المسلمين ، فقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إنشاء سوق
منافسة لسوق اليهود في المدينة ، وسرعان ما ازدهرت تلك الحركة
التجارية لتصبح مورداً قوياً لتلك الدولة الناشئة .
ثم لو كان المقصود من هذه الغارات الطمع في
التوسّع المادي المجرد من القيم الأخلاقية ، لما روى لنا التاريخ
في صدره الأول أمثلةً راقيةً لذلك الجيل ، تبيّن لنا ما وصلوا إليه
من زهدٍ في الدنيا ، وتقلّلٍ من متاعها ، ولما وجدت في تعاليم
النبي صلى الله عليه وسلّم ذمّا لها أو تحذيرا من الافتتان ببهرجها
وزخارفها.
ولما تضافرت النصوص النبوية نهياً عن كل مظاهر الإسراف والترف ، أو
بياناً لعواقب المتكبّرين والمختالين ، أو ترغيباً بالجود والعطاء
، والكرم والسخاء ، والإيثار بكل صوره .
ثم إن المسلمين قد تحقّق لهم توسعٌ أكبر في
دولتهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، وصار لها ثقل اقتصادي
ضخم ، وموارد مالية عديدة ، فما زادهم إلا زهداً في الدنيا وما
فيها ، وغدا الجميع كأسرةٍ واحدة ، يحنو بعضهم على بعض ، ويغيث
الأخ أخاه ، ويتعاهده في حضرته وغيبته .
ولم تقتصر هذه المظاهر الإنسانية على أبناء
ملتهم فحسب ، بل امتدّت لتشمل الآخرين من معتنقي الملل الأخرى ،
وشواهد التاريخ أعظم دليلٍ على ذلك .
فخلاصة الأمر : أن التعرض لقوافل قريشٍ كان
نوعاً من الحرب الاقتصادية عليها ، وكسراً لشوكتها ، وما ذلك إلا
رغبةً في رد حقوق المسلمين المسلوبة وأموالهم المنهوبة ، وبهذا
يتقرّر لنا أن هذه الشبهة المثارة ليس لها رصيد من الحقيقة ، ولا
تجرّد من قائليها ، بل هي انحرافٌ ظاهرٌ في تقييم الأمور وتوصيف
الأحداث .