فهرس الكتاب الصفحة الرئيسية

الفصل الثاني
واجبات أهل الذمة

تلك هي حقوق المواطنين من غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، وهذه هي ضمانات الوفاء بتلك الحقوق. فما هي الواجبات التي فرضها عليهم الإسلام في مقابل التمتع بتلك الحقوق؟، فمن المقرر أن كل حق يقابله واجب.
والجواب: أن هؤلاء المواطنين (أهل الذمة) تنحصر واجباتهم في أمور معدودة، هي:
1. أداء الجزية والخراج والضريبة التجارية، وهذه هي واجباتهم المالية.
2. التزام أحكام القانون الإسلامي في المعاملات المدنية ونحوها.
3. احترام شعائر المسلمين ومشاعرهم.

الجزية والخراج

أما الجزية فهي ضريبة سنوية على الرؤوس، تتمثل في مقدار زهيد من المال يُفرض على الرجال البالغين القادرين، على حسب ثرواتهم. أما الفقراء فمعفون منها إعفاءً تامًا. قال تعالى: (لا يكلف الله نفسًا إلا ما آتاها) (الطلاق: 7).
وليس للجزية حد معيَّن، وإنما ترجع إلى تقدير الإمام الذي عليه أن يراعي طاقات الدافعين ولا يرهقهم، كما عليه أن يرعى المصلحة العامة للأمة.
وقد جعل عمر الجزية على الموسرين 48 درهمًا، وعلى المتوسطين في اليسار 24، وعلى الطبقة الدنيا من الموسرين 12 درهمًا . وبهذا سبق الفكر الضريبي الحديث في تقرير مبدأ تفاوت الضريبة بتفاوت القدرة على الدفع. ولا تعارض بين صنيع عمر وقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن:
"خذ من كل حالم دينارًا" (رواه أحمد وأصحاب السنن وحسَّنه الترمذي) لأن الفقر كان في أهل اليمن أغلب فراعى النبي صلى الله عليه وسلم حالتهم.
والأصل في وجوب الجزية من القرآن قوله تعالى في سورة التوبة:
(قاتِلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يُحَرِّمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون). (التوبة: 29).
ومعنى "الصغار" هنا التسليم وإلقاء السلاح والخضوع لحكم الدولة الإسلامية.
ومن السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس البحرين.
كذلك أخذ الخلفاء الراشدون الجزية من أهل الكتاب ومن في حكمهم في سائر البلاد المفتوحة واستقر العمل عليه فصار إجماعًا.
وأما الخراج فهو ضريبة مالية تفرض على رقبة الأرض إذا بقيت في أيديهم، ويرجع تقديره إلى الإمام أيضًا، فله أن يقاسمهم بنسبة معينة مما يخرج من الأرض كالثلث والربع مثلاً، وله أن يفرض عليهم مقدارًا محددًا مكيلاً أو موزونًا بحسب ما تطيقه الأرض كما صنع عمر في سواد العراق، وقد يقوَّم ذلك بالنقود.
والفرق بين الجزية والخراج أن الأولى تسقط بالإسلام، دون الخراج.
فالذمي إذا أسلم لا يعفيه إسلامه من أداء الخراج، بل يظل عليه أيضًا، ويزيد على الذمي الباقي على ديانته الأصلية أنه يدفع العشر أو نصفه عن غلة الأرض، بجوار دفع الخراج عن رقبتها، كما هو مذهب الأئمة الثلاثة وجمهور الفقهاء (خلافًا لأبي حنيفة) فالخراج هو بمثابة ضريبة الأملاك العقارية اليوم، والعشر بمثابة ضريبة الاستغلال الزراعي.

وجه إيجاب الجزية على أهل الذمة
ومن الناس من ينظرون إلى الأمور نظرة سطحية، فيحسبون الإسلام متعسفًا في فرضه الجزية على غير المسلمين.
ولو أنهم أنصفوا وتأملوا حقيقة الأمر لعلموا أن الإسلام كان منصفًا كل الإنصاف في إيجابه هذه الجزية الزهيدة.
فقد أوجب الإسلام على أبنائه (الخدمة العسكرية) باعتبارها (فرض كفاية) أو (فرض عين) وناط بهم واجب الدفاع عن الدولة، وأعفى من ذلك غير المسلمين، وإن كانوا يعيشون في ظل دولته.
ذلك أن الدولة الإسلامية دولة (عقائدية) أو بتعبير المعاصرين دولة (أيديولوجية) أي أنها دولة تقوم على مبدأ وفكرة، ومثل هذه الدولة لا يقاتل دفاعًا عنها إلا الذين يؤمنون بصحة مبدئها وسلامة فكرتها . . وليس من المعقول أن يؤخذ شخص ليضع رأسه على كفه، ويسفك دمه من أجل فكرة يعتقد ببطلانها، وفي سبيل دين لا يؤمن به، والغالب أن دين المخالفين ذاته لا يسمح لهم بالدفاع عن دين آخر، والقتال من أجله.
ولهذا قصر الإسلام واجب (الجهاد) على المسلمين؛ لأنه يعد فريضة دينية مقدسة، وعبادة يتقرب بها المسلم إلى ربه، حتى إن ثواب المجاهد ليفضل ثواب العابد القانت الذي يصوم النهار ويقوم الليل . ولهذا قال الفقهاء: إن أفضل ما يتقرب به المسلم من العبادات هو الجهاد.
ولكن الإسلام فرض على هؤلاء المواطنين من غير المسلمين أن يسهموا في نفقات الدفاع والحماية للوطن عن طريق ما عرف في المصطلح الإسلامي باسم (الجزية).
فالجزية -فضلاً عن كونها علامة خضوع للحكم الإسلامي- هي في الحقيقة بدل مالي عن (الخدمة العسكرية) المفروضة على المسلمين.
ولهذا فرضها الإسلام على كل قادر على حمل السلاح من الرجال . فلا تجب على امرأة ولا صبي؛ لأنهما ليسا من أهل القتال. وقد قال عمر:
(لا تضربوها على النساء والصبيان) ولهذا قال الفقهاء: لو أن المرأة بذلت الجزية ليُسمح لها بدخول دار الإسلام تُمَكَّن من دخولها مجانًا، ويُرَد عليها ما أعطته؛ لأنه أخذ بغير حق، وإن أعطتها تبرعًا مع علمها بأن لا جزية عليها قُبلت منها، وتعتبر هبة من الهبات.
ومثل المرأة والصبي: الشيخ الكبير، والأعمى والزَّمِن، والمعتوه، وكل من ليس من أهل السلاح.
ومن سماحة المسلمين أنهم قرروا: أن لا جزية على الراهب المنقطع للعبادة في صومعته؛ لأنه ليس من أهل القتال.
(انظر على سبيل المثال: مطالب أولى النهى بشرح غاية المنتهى في فقه الحنابلة ج ـ 2 ص96).
يقول المؤرخ الغربي آدم متز: (كان أهل الذمة -بحكم ما يتمتعون به من تسامح المسلمين معهم، ومن حمايتهم لهم- يدفعون الجزية، كل منهم بحسب قدرته، وكانت هذه الجزية أشبه بضريبة الدفاع الوطني، فكان لا يدفعها إلا الرجل القادر على حمل السلاح، فلا يدفعها ذوو العاهات، ولا المترهبون وأهل الصوامع إلا إذا كان لهم يسار) (الحضارة الإسلامية ج ـ 1 ص 69).
على أن هناك علة أخرى لإيجاب الجزية على أهل الذمة، وهي العلة التي تبرر فرض الضرائب من أي حكومة في أي عصر على رعاياها، وهي إشراكهم في نفقات المرافق العامة، التي يتمتع الجميع بثمراتها ووجوه نشاطها، كالقضاء والشرطة، وما تقوم به الدولة من إصلاح الطرق وإقامة الجسور، وما يلزمها من كفالة المعيشة الملائمة لكل فرد يستظل بظلها مسلمًا كان أو غير مسلم.
والمسلمون يسهمون في ذلك بما يدفعونه من زكاة عن نقودهم وتجاراتهم وأنعامهم وزرعهم وثمارهم، فضلاً عن صدقة الفطر وغيرها . فلا عجب أن يطلب من غير المسلمين المساهمة بهذا القدر الزهيد وهو الجزية.
ومن ثم وجدنا كتب الفقه المالكي تضع أحكام الجزية لأهل الذمة في صلب أحكام الزكاة للمسلمين .
(انظر على سبيل المثال: الرسالة لابن أبى زيد مع شرحيها لابن ناجى وزروق ج ـ 1 ص331 وما بعدها، حيث وضعت الجزية في صلب أبواب الزكاة).

إلى الفهرس

متى تسقط الجزية
إن الجزية كما بينا بدل عن الحماية العسكرية التي تقوم بها الدولة الإسلامية لأهل ذمتها، في المرتبة الأولى . فإذا لم تستطع الدولة أن تقوم بهذه الحماية لم يعد لها حق في هذه الجزية أو هذه الضريبة.
وهذا ما صنعه أبو عبيدة حين أبلغه نوابه عن مدن الشام، بتجمع جحافل الروم، فكتب إليهم أن يردوا الجزية عمن أخذوها منه، وأمرهم أن يعلنوهم بهذا البلاغ:
"إنما رددنا عليكم أموالكم، لأنه قد بلغنا ما جُمع لنا من الجموع، وإنكم اشترطتم علينا أن نمنعكم (أي نحميكم) وإنا لا نقدر على ذلك . وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشروط، وما كتبنا بيننا وبينكم، إن نصرنا الله عليهم" (رواه أبو يوسف في الخراج).
وجاء في كثير من العقود التي كتبها قواد المسلمين كخالد وغيره لأهل الذمة مثل هذا النص: "إن منعناكم فلنا الجزية، وإلا فلا حتى نمنعكم" (كما يروي ذلك الطبري في تاريخه).
وتسقط الجزية أيضًا باشتراك أهل الذمة مع المسلمين في القتال والدفاع عن دار الإسلام ضد أعداء الإسلام . وقد نُصَّ على ذلك صراحة في بعض العهود والمواثيق التي أبرمت بين المسلمين وأهل الذمة في عهد عمر رضى الله عنه . (أنظر: أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام للدكتور عبد الكريم زيدان ص 155 وما بعدها . وراجع على سبيل المثال: فتوح البلدان للبلاذري ص 217ط . بيروت، حيث صالح مندوب أبى عبيدة جماعة (الجراجمة) المسيحيين أن يكونوا أعوانًا للمسلمين وعيونًا على عدوهم، وإلا يؤخذوا بالجزية . . . إلخ).
أما طريقة جمع الجزية وموعدها، فيقول أصحاب كتاب (الإسلام وأهل الذمة) (ص 70-71) أخذًا عن أوثق المصادر: (كانت الجزية تجمع مرة واحدة كل سنة بالشهور الهلالية . (المواردي: الأحكام السلطانية ص 138) وكان يسمح بدفع الجزية نقدًا أو عينًا، لكن لا يسمح بتقديم الميتة أو الخنزير أو الخمر بدلاً من الجزية، وأمر عمر بن الخطاب بالتخفيف عن أهل الذمة فقال: "من لم يطق الجزية خففوا عنه . ومن عجز فأعينوه، فإنا لا نريدهم لعام أو لعامين". (ابن عساكر: تاريخ مدينة دمشق ج ـ 1 ص178).
وكانت الدولة الإسلامية كثيرًا ما يؤخر موعد تأدية الجزية حتى تنضج المحصولات الزراعية، فيستطيع أهل الذمة تأديتها دون أن يرهقهم ذلك، فقال أبو عبيدة: (الأموال ص 44) "وإنما وجه التأخير إلى الغلة للرفق بهم".
واتبعت الدولة الإسلامية الرفق والرحمة في جمع الجزية،
فقد قَدِمَ أحد عمال عمر بن الخطاب عليه بأموال الجزية، فوجدها عمر كثيرة، فقال لعامله: إني لأظنكم قد أهلكتم الناس ؟ فقال: لا، والله ما أخذنا إلا عفوًا صفوًا . فقال عمر: بلا سوط، ولا نوط ؟ فقال نعم، فقال عمر: الحمد لله الذي لم يجعل ذلك على يدي، ولا في سلطاني. (الأموال ص 43).

إلى الفهرس

الضريبة التجارية

أما الضريبة التجارية فقد فرضها عمر بن الخطاب على أهل الذمة بمقدار نصف العشر في المال الذي يَتَّجرون به مرة في السنة إذا انتقلوا به من بلد إلى بلد آخر، فهي أشبه بالضريبة الجمركية في عصرنا.
هكذا روى عنه أنس بن مالك رضى الله عنه، وزياد بن حدير: أنه كان يأخذ من تجار المسلمين ربع العشر، ومن تجار أهل الذمة مثلي ما يأخذ من تجار المسلمين، أي نصف العشر، ومن تجار أهل الحرب العشر .
(الأموال للإمام أبى عبيد القاسم بن سلام بتحقيق محمد خليل هراس . ط دار الشروق بالقاهرةص 710- 712).
أما ما فُرض على تجار المسلمين فهو مقدار الزكاة الواجبة في عروض التجارة، سواء انتقل بها أم لم ينتقل، ولا إشكال فيه.
وما فرض على التجار أهل الحرب فهو من باب المعاملة بالمثل، فقد سُئل زياد ابن حدير: من كنتم تعشرون ؟ أي تأخذون العُشر قال: ما كنا نعشر مسلمًا ولا ذميًا . . كنا نعشر تجار الحرب كما كانوا يعشروننا إذا آتيناهم .
(المصدر السابق ص706).
فكان سبيله في هذين الصنفين بينًا واضحًا، كما قال أبو عبيد . (المصدر نفسه ص 709).
وأما فرض نصف العشر على تجار أهل الذمة فهو الذي اختلف فيه تعليل الفقهاء.
فالإمام أبو عبيد رد ذلك إلى أنه من شروط الصلح، التي التزموا بها مع عمر . قال: (وكان الذي أشكل عليّ وجهه، أخذه من أهل الذمة، فجعلت أقول: ليسوا بمسلمين فتؤخذ منهم الصدقة (يعنى ربع العشر) ولا من أهل الحرب فيؤخذ منهم مثل ما أخذوا منا (يعنى العشر) فلم أدر ما هو حتى تدبرت حديثًا له (أي لعمر) فوجدته إنما صالحهم على ذلك صلحًا، سوى جزية الرؤوس، وخراج الأرضين، وذكر أبو عبيد هذا الحديث أو الأثر ثم قال: فأرى الأخذ من تجارهم في أصل صلح، فهو الآن حق للمسلمين عليهم.
(الأموال المصدر السابق ص 709 710).
أما الإمام ابن شهاب الزهري الفقيه التابعي الشهير، فكان له تفسير آخر، ذكره عنه أبو عبيد وقال: غيره أحب إليّ منه. قال: حدثنا إسحاق بن عيسى عن مالك بن أنس: سألت ابن شهاب الزهري: لِمَ أخذ عمر العشر من أهل الذمة ؟ فقال: كان يؤخذ منهم في الجاهلية، فأقرهم عمر على ذلك.
قال أبو عبيد: والوجه الأول ذكرناه من الصلح أشبه بعمر وأولى، وبه كان يقول مالك نفسه .
(نفس المصدر ص 713).
ومن علماء الحنفية من علل تضعيف ما يؤخذ من الذمي بأن الجباية بالحماية، وحاجة التاجر الذمي إلى الحماية أكثر من المسلم، لأن طمع اللصوص في أموال أهل الذمة أوفر .(شرح العناية على الهداية ج ـ 1 ص 532).
ويذهب الأستاذ أبو الأعلى المودودي مذهبًا آخر في التعليل، فيرى أن معظم المسلمين في ذلك الزمان كانوا منتظمين بالدفاع عن الوطن الإسلامي، فأصبحت التجارة كلها بأيدي الذميين، فرأى الفقهاء أن ينقصوا من الضريبة على التجار المسلمين، حفزًا لهم على التجارة، وحفظًا لمصالحهم التجارية .(حقوق أهل الذمة في الدولة الإسلامية للأستاذ أبى الأعلى المودودي نشر دار الفكر ص 25).
والمعروف أن الفقهاء قرروا هذا الحكم استنادًا إلى فعل عمر. فالأولى أن ينسب الحكم إليه لا إلى الفقهاء، ولو ترخصنا في التعبير بالفقهاء فإن الأولى أيضًا أن يقال: فرأى الفقهاء أن يزيدوا من الضريبة على غير التجار المسلمين، حفزًا للمسلمين على التجارة، وحفظًا لمصالحهم التجارية، لأن الذي استحدث ليس هو النقص مما وجب على المسلمين، بل الزيادة على غيرهم.
ومرد هذا الاختلاف في التعليل أن الأمر يرد فيه نص معصوم، وإنما فعله عمر رضى الله عنه، بناء على اجتهاد مصلحي، اقتضته السياسة الشرعية . حتى لو أخذنا بما رجحه أبو عبيد من أن فعل عمر بناء على صلح صالحهم عليه. فإن بنود الصلح عادة تُبنى على مصالح واعتبارات زمنية وبيئية قد تتغير.
وأرجح التعليلات عندي من جهة النظر، ما ذكره الدكتور عبد الكريم زيدان: أن السبب في هذا التضعيف هو أن الذمي لا يؤخذ من أمواله شيء سوى ما يؤخذ من أمواله التجارية التي ينتقل بها من بلد إلى بلد. أما أمواله التجارية التي في بلده، وأمواله الباطنة كالذهب والفضة، وزروعه وسوائمه فلا يؤخذ منها شيء بخلاف المسلم، إذ يؤخذ منه زكاة هذه الأموال جميعًا وعلى هذا تكون التكاليف المالية على المسلم أكثر منها على الذمي . ولم يمكن جعل ضريبة المسلم كضريبة الذمي ؛ لأن المأخوذ من المسلم زكاة حقيقية، وهذا هو مقدارها، فلا يمكن أن يُزاد عليه (أي لأنها عبادة).
وقد يقال: إن الذمي تؤخذ منه الجزية، كما يؤخذ منه خراج أرضه، مما يجعل التكاليف المفروضة عليه مساوية لما على المسلم!
والجواب: أن الخراج لا يختص به الذمي إذا أسلم بقي الخراج مفروضًا عليه، وأن المسلم إذا كانت تحت يده أرض خراجية لزمه الخراج . أما الجزية فإنها -وإن كانت خاصة بالذمي- إلا أن مقدارها زهيد جدًا، ولا تجب على كل ذمي، وإنما على القادر على حمل السلاح، وتسقط عنه إذا دعي إلى الخدمة العسكرية .(أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام ص 186).
وعلى هذا لو تغير الوضع بالنظر إلى الذمي، وأصبح يؤخذ منه ضرائب على أمواله الظاهرة والباطنة (من أنعام وزروع وثمار ونقود وعروض وتجارة) مساوية للزكاة التي تؤخذ من المسلم، فيمكن حينئذ أن يؤخذ من التاجر الذمي مثل ما يؤخذ من المسلم ولا حرج.

إلى الفهرس

التزام أحكام القانون الإسلامي

والواجب الثاني على أهل الذمة: أن يلتزموا أحكام الإسلام، التي تُطبق على المسلمين لأنهم بمقتضى الذمة أصبحوا يحملون جنسية الدولة الإسلامية، فعليهم أن يتقيدوا بقوانينها التي لا تمس عقائدهم وحريتهم الدينية.
فليس عليهم أي تكليف من التكاليف التعبدية للمسلمين، أو التي لها صبغة تعبدية أو دينية، مثل الزكاة التي هي ضريبة وعبادة في الوقت نفسه، ومثل الجهاد الذي هو خدمة عسكرية وفريضة إسلامية، ومن أجل ذلك فرض الإسلام عليهم الجزية بدلاً من الجهاد والزكاة -كما عرفنا- رعاية لشعورهم الديني أن يفرض عليهم ما هو من عبادات الإسلام.
وليس عليهم في أحوالهم الشخصية والاجتماعية أن يتنازلوا عما أحله لهم دينهم، وإن كان قد حرمة الإسلام، كما في الزواج والطلاق وأكل الخنزير وشرب الخمر . فالإسلام يقرهم على ما يعتقدون حله، ولا يتعرض لهم في ذلك بإبطال ولا عتاب.
فالمجوسي الذي يتزوج إحدى محارمه، واليهودي الذي يتزوج بنت أخيه، والنصراني الذي يأكل الخنزير ويشرب الخمر، لا يتدخل الإسلام في شئونهم هذه ما داموا يعتقدون حلها، فقد أُمر المسلمون أن يتركوهم وما يدينون.
فإذا رضوا بالاحتكام إلى شرع المسلمين في هذه الأمور حكمنا فيهم بحكم الإسلام لقوله تعالى:
(وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم) (سورة المائدة: 49).
ويرى بعض الفقهاء أننا مخيرون إذا احتكموا إلينا: إما أن نحكم بشرعنا أو نترك فلا نحكم بشيء؛ لقوله تعالى: (فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم، وإن تُعرض عنهم فلن يضروك شيئًا، وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط، إن الله يحب المقسطين) (سورة المائدة: 42 . ومن هنا كان لأهل الذمة محاكمهم الخاصة، يحتكمون إليها إن شاءوا، وإلا لجأوا إلى القضاء الإسلامي . يقول المؤرخ الغربي (آدم متز) في كتابه عن "الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري": ولما كان الشرع الإسلامي خاصًا بالمسلمين فقد خلت الدولة الإسلامية بين أهل الملل الأخرى وبين محاكمهم الخاصة بهم . والذي نعلمه من أمر هذه المحاكم أنها كانت محاكم كنسية، وكان رؤساء المحاكم الروحيون يقوموا فيها مقام كبار القضاة أيضًا، وقد كتبوا كثيرًا من كتب القانون، ولم تقتصر أحكامهم على مسائل الزواج، بل كانت تشمل إلى جانب ذلك مسائل الميراث وأكثر المنازعات التي تخص المسيحيين وحدهم مما لا شأن للدولة به . (وعلى أنه كان يجوز للذمي أن يلجأ إلى المحاكم الإسلامية . ولم تكن الكنائس بطبيعة الحال تنظر إلى ذلك بعين الرضا . ولذلك ألف الجاثليق تيمونيوس حوالي عام 200 ه ـ (800م) كتابًا في الأحكام القضائية المسيحية "لكي يقطع كل عذر يتعلل به النصارى الذين يلجأون إلى المحاكم غير النظرية بدعوى فقدان القوانين المسيحية". إلى أن يقول: (وفي عام 120ه ـ (738م) وَلِىَ قضاء مصر خير بن نعيم، فكان يقضى في المسجد بين المسلمين ثم يجلس على باب المسجد بعد العصر على المعارج فيقضى بين النصارى . ثم خصص القضاة للنصارى يومًا يحضرون فيه إلى منازل القضاء ليحكموا بينهم . حتى جاء القاضي محمد بن مسروق الذي وَلِىَ قضاء مصر عام 177ه ـ فكان أول من أدخل النصارى في المسجد ليحكم بينهم) ثم قال متز: (أما في الأندلس، فعندنا من مصدر جدير بالثقة أن النصارى كانوا يفصلون في خصوماتهم بأنفسهم، وأنهم لم يكونوا يلجأون للقاضي إلا في مسائل القتل).
وفيما عدا ذلك يلزمهم أن يتقيدوا بأحكام الشريعة الإسلامية في الدماء والأموال والأعراض -أي في النواحي المدنية والجنائية ونحوها- شأنهم في ذلك شأن المسلمين، وفي هذا يقول الفقهاء: لهم ما لنا وعليهم ما علينا -أي في الجملة لا في التفصيلات.
فمن سرق من أهل الذمة أُقيم عليه حد السرقة، كما يُقام على المسلم، ومن قتل نفسًا أو قطع طريقًا، أو تعدى على مال، أو زنى بامرأة، أو رمى محصنة، أو غير ذلك من الجرائم أُخذ بها، وعوقب بما يعاقب به المسلم، لأن هذه الأمور مُحرَّمة في ديننا، وقد التزموا حكم الإسلام في ما لا يخالف دينهم.
ويرى الإمام أبو حنيفة: أن عقوبة الذمي والذمية في جريمة الزنا هي: الجلد أبدًا، لا الرجم، لأنه يُشترط في توافر الإحصان -الموجب التغليظ في العقوبة- الإسلام.
ومثل ذلك المعاملات المالية والمدنية، من البيوع، والإجارات والشركات، والرهن والشفعة، والمزارعة، وإحياء الموات، والحوالة، والكفالة وغيرها من العقود والتصرفات، التي يتبادل الناس بواسطتها الأموال والمنافع، وتنتظم بها شئون المعاش.
فكل ما جاز من بيوع المسلمين وعقودهم، جاز من بيوع أهل الذمة وعقودهم، وما يفسد منها عند المسلمين يفسد عند الذميين، إلا الخمر والخنزير عند النصارى، فقد استثناهما كثير من الفقهاء، لاعتقادهم حلهما في دينهم . على ألا يجاهروا بهما.
أما الربا فهو حرام عليهم فلا يُقرون عليه.

إلى الفهرس

مراعاة شعور المسلمين

والواجب الثالث عليهم: أن يحترموا شعور المسلمين، الذين يعيشون بين ظهرانيهم، وأن يراعوا هيبة الدولة الإسلامية التي تظلهم بحمايتها ورعايتها.
فلا يجوز لهم أن يسبوا الإسلام أو رسوله أو كتابه جهرة، ولا أن يروجوا من العقائد والأفكار ما ينافي عقيدة الدولة ودينها، ما لم يكن ذلك جزءًا من عقيدتهم كالتثليث والصلب عند النصارى.
ولا يجوز لهم أن يتظاهروا بشرب الخمر وأكل لحم الخنزير، ونحو ذلك مما يحرم في دين الإسلام، كما لا يجوز لهم أن يبيعوها لأفراد مسلمين، لما في ذلك من إفساد المجتمع الإسلامي.
وعليهم ألا يظهروا الأكل والشرب في نهار رمضان، مراعاة لعواطف المسلمين.
وكل ما يراه الإسلام منكرًا في حق أبنائه، وهو مباح في دينهم، فعليهم -إن فعلوه- ألا يعلنوا به، ولا يظهروا في صورة المتحدى لجمهور المسلمين، حتى تعيش عناصر المجتمع كلها في سلام ووئام.
عن عرفة بن الحارث -وكانت له صحبة مع النبي صلى الله عليه وسلم وقاتل مع عكرمة بن أبى جهل باليمن في الردة- أنه دعا نصرانيًا إلى الإسلام فذكر النصراني النبي صلى الله عليه وسلم فتناوله -أي بسوء القول- فرفع ذلك إلى عمرو بن العاص، فقال عمرو: قد أعطيناهم العهد؛؛ فقال عرفة: معاذ الله أن نكون أعطيناهم العهود والمواثيق على أن يؤذونا في الله ورسوله، إنما أعطيناهم العهد على أن نخلي بينهم وبين كنائسهم، يقولون فيها ما بدا لهم وألا نحملهم ما لا طاقة لهم به، وأن نقاتل من ورائهم، وأن نخلي بينهم وبين أحكامهم، إلا أن يأتونا، فنحكم بينهم بما أنزل الله. فقال عمرو: صدقت. (رواه الطبراني بسند فيه عبد الله بن صالح كاتب الليث، قال عبد الملك بن سعيد: ثقة مأمون، وضعفه جماعة، وبقية رجاله ثقات . مجمع الزوائد ج ـ 6 ص13).

إلى الفهرس