أم جهاد
04.06.2009, 22:40
ماذا يعني سكوت العلماء عند الفتن؟!
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
التكليف بالواجبات الشرعيّة العلميّة والعمليّة مشروط بالممكن من العلم والقدرة؛ لهذا يتعيَّن حَملُ كلام العلماء الربانيّين أو سكوتهم على أفضل الوجوه؛ لا سيَّما توقفهم وسكوتهم في حال التمكّن والاشتباه؛ فممَّا تقرر في الشريعة: (جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة والتمكّن)، و(ما كلُّ حديث تحدَّث به العامّة)، و(من المسائل مسائل جوابها السكوت).
فالعالم ينظر إلى المآلات والعواقب، فيمسك عن الكلام -أحياناً- خشية الفتنة؛ كما قال عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه-: ((ما أنت بمحدِّثٍ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة)) (1)؛ ويُراعي -أيضاً- ضابط المصلحة، ومراعاة الأولويات، فهو في كلامه وسكوته يمر بمراحل ثلاث:
الأولى: هل الأولى السكوت، أو الأولى الكلام؟
الثانية: ثم هل الكلام على العموم، أم الكلام على الخصوص والتعيين؟
الثالثة: عدم إهمال جانب المصالح، والنَّظر إلى المآلات.
وقد أوضح الشَّاطبي -رحمه الله- هذا الأمر -عند حديثه- على أقسام العلم: منه ما هو مطلوب النَّشر، وهو غالب علم الشريعة، ومنه ما لا يطلب نشره بإطلاق، أو لا يطلب نشره بالنسبة إلى حال، أو وقت، أو شخص؛ فقال:
((وضابطه أنَّك تعرض مسألتك على الشَّريعة، فإن صحت في ميزانها؛ فانظر في مآلها بالنَّسبة إلى حال الزَّمان وأهله، فإنْ لم يُؤَدِّ ذكرها إلى مفسدة، فاعرضها في ذهنك على العقول (2)، فإنْ قَبِلَتْها؛ فلك أن تتكلم فيها: إمّا على العموم إن كانت مما تقبلها العقول على العموم، وإمّا على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم، وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغُ؛ فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعيّة والعقليّة)) (3) ا. هـ.
والمقصود: أن العالم الرباني تتعدد أجوبته بحسب نوع المسألة أو النَّازلة، وبحسب حال السائل، فتارة يأمر، وتارة ينهى، وتارة ثالثة يسكت ويتوقف، وفي الصورة الأخيرة يقال: إن سكوت العلماء الربانيين الذين لهم لسان صدق في الأمَّة، وموافقة للسُّنّة المحضة في مواضع الفتن والاشتباه يعدُّ قرينة على أنَّه لا يصلح الجواب إلا بالسكوت، فسكوتهم جواب لبيان الحال وما آلت إليه الأحوال؛ فمن المسائل مسائل جوابها السكوت، والمقصود هو تحصيل الخير ودفع الشر، والخوض في حال الفتن واشتباه الأمور لا فائدة منه -في الغالب-؛ بل هو يزيد الشر وينقص الخير، ويضيّع رأس المال في دائرة السعي إلى الأرباح، فما دام أنه ناقض مقصود الشريعة، فتركه هو المقصود.
وقد بيّن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- هذا الأمر بياناً شافياً؛ فقال: ((فالعالم تارة يأمر، وتارة ينهى، وتارة يبيح، وتارة يسكت عن الأمر أو النهي أو الإباحة؛ كالأمر بالصلاح الخالص، أو الراجح، أو النهي عن الفساد الخالص أو الراجح، وعند التعارض يرجح الراجح بحسب الإمكان، فأمّا إذا كان المأمور والمنهي لا يتقيد بالممكن: إما لجهله، وإما لظلمه، ولا يمكن إزالة جهله وظلمه، فربما كان الأصلح الكفّ والإمساك عن أمره ونهيه، كما قيل: إن من المسائل مسائل جوابها السكوت، كما سكت الشارع في أول الأمر عن الأمر بأشياء والنهي عن أشياء، حتى علا الإسلام وظهر.
فالعالم في البيان والبلاغ كذلك؛ قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التّمكن؛ كما أخر الله -سبحانه- إنزال الآيات، وبيان أحكام إلى وقت تمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيانها)) (4) .
فظهر - من هذا- أن من أوجه جواب العالم: السُّكوت، والعالم لا يسكت إلا في حالتين:
الحالة الأولى: إذا كان السكوت هو الأصلح؛ فيقال: -آنذاك-: ((من المسائل مسائل جوابها السكوت)).
الحالة الثانيّة: أن يسكت العالم لعدم تمكنه من العلم بالمسألة أو النازلة؛ لا سيَّما إذا كانت من المباحث الجزئيّة الدّقيقة، أو أحياناً لعدم قدرته على الحق المشروع، وهو فيه معذور؛ وآنذاك يقال: ((لا ينسب إلى ساكت جواب)) .
والقول: إن سكوت العلماء في مواضع الفتن والملاحم (5) يعدُّ جواباً محرراً وقولاً محققاً، يحتاج إلى تأصيل وتعليل وتفصيل؛ لإنزال هذه القاعدة في محلها؛ لذلك احتاج المقام إلى بيان بعض الأمور:
الأمر الأول: أن العالم غالباً ما يُحذِّر ويتكلم عند إقبال الفتنة وقبل وقوعها؛ فإذا وقعت عجز عن الكلام وأمسك عن الخوض فيها(6) ؛ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: ((والفتنة إذا وقعت عجز العقلاء عن دفع السفهاء، فصار الأكابر -رضي الله عنهم- عاجزين عن إطفاء الفتنة وكف أهلها، وهذا شأن الفتن، كما قال -تعالى-: ((وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)) [الأنفال:25]، وإذا وقعت الفتنة لم يسلم من التلوث بها إلا من عصمه الله)) (7) اهـ.
فالعالم يتكلم قبل وقوع الفتنة؛ فإذا وقعت سكت وأمسك؛ فهو يتحسَّس أسبابها قبل الوقوع، ويتفرس رجالها قبل الشروع، ويتبصَّر مقدماتها قبل فوات الأوان؛ بخلاف غير العالم الذي لا ينشط إلا بعد وقوع الفتنة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: ((فلما قتل -رضي الله عنه- [أي: عثمان] تفرقت القلوب، وعظمت الكروب، وظهرت الأشرار، وذلَّ الأخيار، وسعى في الفتنة مَن كان عاجزاً عنها، وعجز عن الخير والصلاح من كان يحبُّ إقامته)) (8) .
الأمر الثاني: أنه إذا لم يكن للأمر والنَّهي مواضع قبول، وآذان صاغيّة عند المخاطبين؛ بل الضد من ذلك؛ فأنذاك يكون الكفُّ والإمساك عن الأمر والنَّهي هو الأصلح، ويشتغل المسلم بالممكن المستطاع، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((حتى إذا رأيت شحَّاً مطاعاً، وهوىً متبعاً، ودنيا مؤثرةً، وإعجاب كلِّ ذي رأي برأيه، فعليك بخاصّة نفسك، ودع العوام)) (9).
الأمر الثالث: أن هذه القاعدة تتنزَّل عند تداخل الخير بالشر، والمنكر بالمعروف، والمصلحة بالمفسدة بالنسبة لبعض الأمور الجزئية المعيّنة؛ فتكون مصلحة السكوت راجحة على مصلحة الكلام؛ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عند كلامه على مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ((فتارة يصلح الأمر، وتارة يصلح النهي، وتارة لا يصلح أمر ولا نهي؛ حيث كان المعروف والمنكر متلازمين؛ وذلك في الأمور المعيّنة الواقعة)) (10).
الأمر الرابع: ثم إنَّ العالم قد ينوِّع الجواب بحسب الحال فقد يتكلم مع طائفة ويسكت مع أخرى؛ لأن السكوت مع الأخيرة هو الأنفع والأصلح لها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: ((فإذا كان العلم (بهذه المسائل) قد يكون نافعاً وقد يكون ضاراً لبعض النّاس، تبيَّن لك أنَّ القول قد ينكَر في حال دون حال، ومع شخص دون شخص، وأن العالم قد يقول القولين الصوابين، كلّ قول مع قوم؛ لأنّ ذلك هو الذي ينفعهم؛ مع أن القولين صحيحان لا منافاة بينهما؛ لكن قد يكون قولهما جميعاً فيه ضرر على الطائفتين؛ فلا يجمعهما إلا لمن لا يضره الجمع)) (11) .
الأمر الخامس: فإن سكوت العالم -أحياناً- يكون مناسباً عندما تتسيّس الآراء والمواقف، وتتحزّب الرجال على غير هدى من الله، وعندما ينطق الرويبضة، وعندما يحرص أهل الضلالة على تحجير دور العلماء، وعندما يكون مدار المنازعات على حظوظ دنيويّة وأغراض نفسيّة، فآنذاك يُعلم الفرق بين سكوت بعض العلماء وثرثرة كثيرٍ مِن الجهال.
وإذا تقرر أنَّ السكوت: -أحياناً- يكون جواباً؛ ففرق بين السكوت الراجح، والتعطيل للعلم والدعوة، والعزلة المذمومة التي تفوِّت على الناس مصالحهم ودينهم وعقيدتهم؛ فالعالم إذا سكت عن مسألة معيّنة لمصلحة راجحة؛ فهو قد اشتغل بغيرها -تعليماً وتصنيفاً-؛ فانتقل من المفضول إلى الفاضل؛ بعد إذ أدرك أن القيام بوظائف العبوديّة -ظاهراً وباطناً-، وإحياء السنن النبويّة، والتطبب بالأدوية القرآنيّة، والتَّفقه على الآثار السلفيّة، فيه الغنية عن الخوض في الأمور المشتبه؛ والتَّعلق بالمصالح المظنونة.
وبهذا يتبين أن السكوت -أحياناً- من صور الجواب الحكيم، فالموفق -في الفتن- يحسن الظن بالعلماء، ويعتبرهم من وسائل حفظ الشريعة، وهو لا يسأل عن مشروعيّة سكوتهم؛ بل يسألُ: لماذا سكتوا؟ ففرق بين السؤال عن مشروعيّة الفعل، وبين السؤال عن حكمة الفعل....
والحمد لله ربِّ العالمين.
بقلم الشيخ أبي عبدالله فتحي بن محمد سلطان، نقلا من مجلة الأصالة العدد الأخير.
--------------------------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
التكليف بالواجبات الشرعيّة العلميّة والعمليّة مشروط بالممكن من العلم والقدرة؛ لهذا يتعيَّن حَملُ كلام العلماء الربانيّين أو سكوتهم على أفضل الوجوه؛ لا سيَّما توقفهم وسكوتهم في حال التمكّن والاشتباه؛ فممَّا تقرر في الشريعة: (جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة والتمكّن)، و(ما كلُّ حديث تحدَّث به العامّة)، و(من المسائل مسائل جوابها السكوت).
فالعالم ينظر إلى المآلات والعواقب، فيمسك عن الكلام -أحياناً- خشية الفتنة؛ كما قال عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه-: ((ما أنت بمحدِّثٍ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة)) (1)؛ ويُراعي -أيضاً- ضابط المصلحة، ومراعاة الأولويات، فهو في كلامه وسكوته يمر بمراحل ثلاث:
الأولى: هل الأولى السكوت، أو الأولى الكلام؟
الثانية: ثم هل الكلام على العموم، أم الكلام على الخصوص والتعيين؟
الثالثة: عدم إهمال جانب المصالح، والنَّظر إلى المآلات.
وقد أوضح الشَّاطبي -رحمه الله- هذا الأمر -عند حديثه- على أقسام العلم: منه ما هو مطلوب النَّشر، وهو غالب علم الشريعة، ومنه ما لا يطلب نشره بإطلاق، أو لا يطلب نشره بالنسبة إلى حال، أو وقت، أو شخص؛ فقال:
((وضابطه أنَّك تعرض مسألتك على الشَّريعة، فإن صحت في ميزانها؛ فانظر في مآلها بالنَّسبة إلى حال الزَّمان وأهله، فإنْ لم يُؤَدِّ ذكرها إلى مفسدة، فاعرضها في ذهنك على العقول (2)، فإنْ قَبِلَتْها؛ فلك أن تتكلم فيها: إمّا على العموم إن كانت مما تقبلها العقول على العموم، وإمّا على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم، وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغُ؛ فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعيّة والعقليّة)) (3) ا. هـ.
والمقصود: أن العالم الرباني تتعدد أجوبته بحسب نوع المسألة أو النَّازلة، وبحسب حال السائل، فتارة يأمر، وتارة ينهى، وتارة ثالثة يسكت ويتوقف، وفي الصورة الأخيرة يقال: إن سكوت العلماء الربانيين الذين لهم لسان صدق في الأمَّة، وموافقة للسُّنّة المحضة في مواضع الفتن والاشتباه يعدُّ قرينة على أنَّه لا يصلح الجواب إلا بالسكوت، فسكوتهم جواب لبيان الحال وما آلت إليه الأحوال؛ فمن المسائل مسائل جوابها السكوت، والمقصود هو تحصيل الخير ودفع الشر، والخوض في حال الفتن واشتباه الأمور لا فائدة منه -في الغالب-؛ بل هو يزيد الشر وينقص الخير، ويضيّع رأس المال في دائرة السعي إلى الأرباح، فما دام أنه ناقض مقصود الشريعة، فتركه هو المقصود.
وقد بيّن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- هذا الأمر بياناً شافياً؛ فقال: ((فالعالم تارة يأمر، وتارة ينهى، وتارة يبيح، وتارة يسكت عن الأمر أو النهي أو الإباحة؛ كالأمر بالصلاح الخالص، أو الراجح، أو النهي عن الفساد الخالص أو الراجح، وعند التعارض يرجح الراجح بحسب الإمكان، فأمّا إذا كان المأمور والمنهي لا يتقيد بالممكن: إما لجهله، وإما لظلمه، ولا يمكن إزالة جهله وظلمه، فربما كان الأصلح الكفّ والإمساك عن أمره ونهيه، كما قيل: إن من المسائل مسائل جوابها السكوت، كما سكت الشارع في أول الأمر عن الأمر بأشياء والنهي عن أشياء، حتى علا الإسلام وظهر.
فالعالم في البيان والبلاغ كذلك؛ قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التّمكن؛ كما أخر الله -سبحانه- إنزال الآيات، وبيان أحكام إلى وقت تمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيانها)) (4) .
فظهر - من هذا- أن من أوجه جواب العالم: السُّكوت، والعالم لا يسكت إلا في حالتين:
الحالة الأولى: إذا كان السكوت هو الأصلح؛ فيقال: -آنذاك-: ((من المسائل مسائل جوابها السكوت)).
الحالة الثانيّة: أن يسكت العالم لعدم تمكنه من العلم بالمسألة أو النازلة؛ لا سيَّما إذا كانت من المباحث الجزئيّة الدّقيقة، أو أحياناً لعدم قدرته على الحق المشروع، وهو فيه معذور؛ وآنذاك يقال: ((لا ينسب إلى ساكت جواب)) .
والقول: إن سكوت العلماء في مواضع الفتن والملاحم (5) يعدُّ جواباً محرراً وقولاً محققاً، يحتاج إلى تأصيل وتعليل وتفصيل؛ لإنزال هذه القاعدة في محلها؛ لذلك احتاج المقام إلى بيان بعض الأمور:
الأمر الأول: أن العالم غالباً ما يُحذِّر ويتكلم عند إقبال الفتنة وقبل وقوعها؛ فإذا وقعت عجز عن الكلام وأمسك عن الخوض فيها(6) ؛ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: ((والفتنة إذا وقعت عجز العقلاء عن دفع السفهاء، فصار الأكابر -رضي الله عنهم- عاجزين عن إطفاء الفتنة وكف أهلها، وهذا شأن الفتن، كما قال -تعالى-: ((وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)) [الأنفال:25]، وإذا وقعت الفتنة لم يسلم من التلوث بها إلا من عصمه الله)) (7) اهـ.
فالعالم يتكلم قبل وقوع الفتنة؛ فإذا وقعت سكت وأمسك؛ فهو يتحسَّس أسبابها قبل الوقوع، ويتفرس رجالها قبل الشروع، ويتبصَّر مقدماتها قبل فوات الأوان؛ بخلاف غير العالم الذي لا ينشط إلا بعد وقوع الفتنة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: ((فلما قتل -رضي الله عنه- [أي: عثمان] تفرقت القلوب، وعظمت الكروب، وظهرت الأشرار، وذلَّ الأخيار، وسعى في الفتنة مَن كان عاجزاً عنها، وعجز عن الخير والصلاح من كان يحبُّ إقامته)) (8) .
الأمر الثاني: أنه إذا لم يكن للأمر والنَّهي مواضع قبول، وآذان صاغيّة عند المخاطبين؛ بل الضد من ذلك؛ فأنذاك يكون الكفُّ والإمساك عن الأمر والنَّهي هو الأصلح، ويشتغل المسلم بالممكن المستطاع، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((حتى إذا رأيت شحَّاً مطاعاً، وهوىً متبعاً، ودنيا مؤثرةً، وإعجاب كلِّ ذي رأي برأيه، فعليك بخاصّة نفسك، ودع العوام)) (9).
الأمر الثالث: أن هذه القاعدة تتنزَّل عند تداخل الخير بالشر، والمنكر بالمعروف، والمصلحة بالمفسدة بالنسبة لبعض الأمور الجزئية المعيّنة؛ فتكون مصلحة السكوت راجحة على مصلحة الكلام؛ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عند كلامه على مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ((فتارة يصلح الأمر، وتارة يصلح النهي، وتارة لا يصلح أمر ولا نهي؛ حيث كان المعروف والمنكر متلازمين؛ وذلك في الأمور المعيّنة الواقعة)) (10).
الأمر الرابع: ثم إنَّ العالم قد ينوِّع الجواب بحسب الحال فقد يتكلم مع طائفة ويسكت مع أخرى؛ لأن السكوت مع الأخيرة هو الأنفع والأصلح لها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: ((فإذا كان العلم (بهذه المسائل) قد يكون نافعاً وقد يكون ضاراً لبعض النّاس، تبيَّن لك أنَّ القول قد ينكَر في حال دون حال، ومع شخص دون شخص، وأن العالم قد يقول القولين الصوابين، كلّ قول مع قوم؛ لأنّ ذلك هو الذي ينفعهم؛ مع أن القولين صحيحان لا منافاة بينهما؛ لكن قد يكون قولهما جميعاً فيه ضرر على الطائفتين؛ فلا يجمعهما إلا لمن لا يضره الجمع)) (11) .
الأمر الخامس: فإن سكوت العالم -أحياناً- يكون مناسباً عندما تتسيّس الآراء والمواقف، وتتحزّب الرجال على غير هدى من الله، وعندما ينطق الرويبضة، وعندما يحرص أهل الضلالة على تحجير دور العلماء، وعندما يكون مدار المنازعات على حظوظ دنيويّة وأغراض نفسيّة، فآنذاك يُعلم الفرق بين سكوت بعض العلماء وثرثرة كثيرٍ مِن الجهال.
وإذا تقرر أنَّ السكوت: -أحياناً- يكون جواباً؛ ففرق بين السكوت الراجح، والتعطيل للعلم والدعوة، والعزلة المذمومة التي تفوِّت على الناس مصالحهم ودينهم وعقيدتهم؛ فالعالم إذا سكت عن مسألة معيّنة لمصلحة راجحة؛ فهو قد اشتغل بغيرها -تعليماً وتصنيفاً-؛ فانتقل من المفضول إلى الفاضل؛ بعد إذ أدرك أن القيام بوظائف العبوديّة -ظاهراً وباطناً-، وإحياء السنن النبويّة، والتطبب بالأدوية القرآنيّة، والتَّفقه على الآثار السلفيّة، فيه الغنية عن الخوض في الأمور المشتبه؛ والتَّعلق بالمصالح المظنونة.
وبهذا يتبين أن السكوت -أحياناً- من صور الجواب الحكيم، فالموفق -في الفتن- يحسن الظن بالعلماء، ويعتبرهم من وسائل حفظ الشريعة، وهو لا يسأل عن مشروعيّة سكوتهم؛ بل يسألُ: لماذا سكتوا؟ ففرق بين السؤال عن مشروعيّة الفعل، وبين السؤال عن حكمة الفعل....
والحمد لله ربِّ العالمين.
بقلم الشيخ أبي عبدالله فتحي بن محمد سلطان، نقلا من مجلة الأصالة العدد الأخير.
--------------------------------------------