البتول
06.03.2012, 14:48
http://img209.imageshack.us/img209/3121/cc5da8.gif
بورائد
مُشرِف شرف المنتدى
رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى
م.ن
محمد إبراهيم عنان
لم أكن أتصور أن أكتب في ترجمة أحد أصدقائي ، ولكم عانيت في التحكم لسوق كلامي ، ولم يكن دافعي الأول في تلك الترجمة محبتي إياه ، بل كونه واحدا من علماء تلك الأمة في مجاله ، وراجيا أن يترحم عليه قاص أو دان ، وأن يُعْتَبر بحياته القصيرة المليئة بالأحداث .
ـ النشأة :
ولد بمحافظة المنصورة بمصر سنة 1969 م .
بدأ حياته متدينا ، حيث تربى في مساجد السلفية بمحافظته ، واعتقل لأيام قصيرة من أمن الدولة وهو في مقتبل الشباب .
تخرج في كلية الهندسة جامعة المنصورة ، وكان ذكيا فائقا ـ وله في ذلك أقاصيص مع أساتذته وزملائه وبعض مشروعاته في التخرج ـ وكان من أوائل دفعته ، وعين فيها معيدا ، ثم تركها لظرف شخصي .
ـ طلب العلم :
بدأ مشواره الفعلي مع العلم عقب سفره إلى الكويت سنة 1996 م ، حيث عمل مهندسا للكمبيوتر في بعض الشركات الخاصة ، حتى استقر به الحال في وزارة الإعلام ، ثم لجنة التعريف بالإسلام ، ثم مبرة الآل والأصحاب .
طلب العلم الشرعي أول مقدمه الكويت ، فكان يحضر في بعض الأيام خمسة دروس ، بعد الفجر والعصر والمغرب والعشاء ، إضافة لدوامه وعمله الرسمي .
سمع الكتب الستة ومسند أحمد وموطأ مالك وغير ذلك في مشاريع سماع الكويت منذ أول انعقادها ، وله شهادات الاعتماد الخاصة بذلك ، وله تعليقات وتقييدات مما كان يذكره المشايخ المجيزون أثناء القراءة .
وحضر على أغلب المشايخ وطلبة العلم في الكويت ، وأبرزهم الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق وقرأ عليه ، والشيخ عثمان الخميس ـ وله به علاقة خاصة ـ ، والشيخ صالح النهام ، والشيخ شافي العجمي ، والشيخ مبارك الميلي في علم المخطوط ، وغيرهم .
وحضر في مصر للشيخ الحويني والشيخ مصطفى العدوي والشيخ النقيب والشيخ محمد حسان ، وله علاقة حسنة بأغلب طلبة العلم والمشايخ في المنصورة .
ـ التخصص العلمي :
بدأت رحلة أبي رائد مع المسيحية ودراستها بحادث طارئ ، حيث كان من زملائه في العمل بعض المسيحيين ، وكانت تجري بينهم بعض المناقشات بطبيعة الحال ، وفي بعض تلك النقاشات جرى على لسان بعض المسيحيين ما معناه أنه يفهم أكثر منه في الإسلام ، وهو لا يعلم شيئا عن المسيحية ! ، فكان أن صمم أبو رائد على دراسة المسيحية دراسة معمقة .
ولم يكن ذلك غريبا عليه ، فقد كان أبو رائد شغوفا طلعة طبعًا في أي مجال يقرأ فيه ، سواء في علوم الشريعة ، أو علوم الحياة على اختلاف أنواعها ، محبا للتصوير ، والأجهزة الكهربية ، والطبخ ، والمخطوطات .
كان أبو رائد عصاميا ، سواء في حياته العملية ، حيث نشأ في أسرة متوسطة ، وكافح في دراسته وكان مجيدا فيها ، وتزوج وأنجب وسافر .
وكذلك في حياته العلمية حيث بدأ تعلم المسيحية من الصفر ، فأخذ يجمع الكتب ، والمخطوطات ، ونسخ الكتاب المقدس ، ويقرأها ، وتعلَّم الأبجدية اليونانية وقواعدها العامة ، وكان مجيدا للإنجليزية بطلاقة ، وسأل من تقدمه في طلب ذلك العلم ، فاستشار الأخ / علي الريس ، وكان يثني عليه كثيرا ويقدمه على من سواه ، واتصل بالأخ / حسام أبو البخاري ، والأخ / حسن علي حسن ، والدكتور / منقذ السقار ، وغيرهم من المهتمين بذلك المجال ، وكان له بهم جميعا علاقة حسنة فاضلة ، حتى استوى عوده ، واستقام له الطريق ، وتوسع فيه جدا ، وجد واجتهد .
طوَّف أبو رائد البلاد ليجمع أمهات كتب المسيحية ، ونسخ الكتاب المقدس ، فسافر لبنان وسوريا وغيرها مما لا أضبطه الآن لشراء الكتب ، واتصل بأمريكا وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا والهند والعراق ، وغيرها ، واشترى من تلك البلاد مئات الكتب والمخطوطات ، وأنفق في ذلك أموالا طائلة .
تحصل لديه آلاف الكتب عن المسيحية ، باختلاف فروعها ، مما لا يكون عند غيره في أمة المسلمين ، إلا أن يعلم الله .
ولم يبخل بتلك الكتب ، فجعل يصورها ، ويعطي من يراه مستحقا لتلك الكتب حسب اجتهاده ، وعمله ، واحتياجه ، وكان له نظر واجتهاد في عدم نشرها لئلا يستفيد منها النصارى ، وبعض المتعالمين في ذلك المجال .
ـ الدعوة :
كان له نشاط دعوي دؤوب ، ليس له هم إلا نصر الإسلام ، والدفاع عن التوحيد ، ونبوة محمد عليه الصلاة والسلام ، وبراءة عيسى من الشرك ، ولا أبعد إذا قلت إنني لم أر مثله في ذلك الحرص والدأب ، في صحوه ونومه ، كان يقوم من الليل فزعا يبحث عن كتاب تذكَّر معلومة قرأها فيه ليدونها ، وكان يأكل والكتاب والقلم والأوراق في يده ، يأكل باليمني ويكتب باليسرى ، وكان يقرأ في كل أحواله ، حتى في الخلاء عنده كتبه وأوراقه وأقلامه ، وهو من القلة التي قرأت كل مكتبتها ، فقرأ عشرات الآلاف من الكتب تحقيقا لا ظنا ، يعزو إليها بالصفحات ، ويصف لون غلافها وتصميمه ، على اختلاف طبعاتها ، وفجْأَةِ ورودها أمامه ، ويغالط فيها الناشرين وأصحاب المكتبات في مكتباتهم ، ويخضعون له غاية الخضوع بعد استيثاقهم من مَلَكته ، وقد رأيت منه في ذلك ما لا يسع المقام ولا البال لذكره .
مارس دعوته فعليا في أرض الواقع ، فدخل كنائس بيروت ودمشق وسائر أرجاء مصر ، وناقش كثيرا من القساوسة ، والتقى كثيرا من أعلام المسيحية المعاصرة مثل بولس الفغالي ، وبيشوي حلمي ، وغيرهما ، وأذعنوا له .
ناقش كثيرا من المسيحيين ، والمتنصرين ، والمسلمين المتشككين ، عربا وعجما ، بلا كلل ولا ملل ، وأسلم على يديه غير واحد .
انطلق للدعوة عبر الإنترنت باعتبارها أسهل انتشارا ، وأكثر تأثيرا ، وأليق بظروفه حال مرضه وعدم قدرته على الحركة بسهولة ، وشارك في برنامج البالتوك الشهير ، في غرف الرد على النصارى ، ومن أهم تلك الغرف التي كان فاعلا فيها ( غرفة الحوار الإسلامي المسيحي ) المعروفة ، وهي غرفة الأخ / وسام عبد الله ، وكان اسمه الرمزي في البالتوك ( دايركت ترست ) direct trust .
وكانت له مشاركة في المنتديات ، سيما المتخصصة في مقارنة الأديان مثل : منتديات ابن مريم ، وغيرها ، وكان له معرف ومشاركة يسيرة في ملتقى أهل الحديث باسم ( أبو رائد المصري ) .
ـ التأليف :
كذلك اتجه أبو رائد للتأليف ، وله في التأليف آلاف الأوراق ، في موضوعات شتى ، سيما النقد النصي ، وتاريخ الآباء ، والهرطقات ، واللاهوت المسيحي المقارن والطقسي .
وكان يعمل دائما على تهذيب تلك الأوراق ليخرج منها كتبا ، فأخرج كتابه الأول ( ما لا تعرفه عن المسيحية ) منذ نحو السنتين ، والذي كان على وجازته جامعا لكم هائل من المعلومات وعلى طريقة غير مألوفة من حيث الجمع والتصنيف والمصادر والإخراج ، وشاملا لأهم مسائل الاعتقاد المسيحي ، وفارقا بمسافة ضخمة ثابتة عن المؤلفات العربية في مقارنة الأديان عموما ، والمسيحية خصوصا .
ثم كان كتابه الثاني ( إخوة الزيف ) ، وقد صدر في آخر معرض الكتاب القاهري الأخير ، وهو دراسة معمقة لخاتمة إنجيل مرقس ، من الناحية الكتابية ، والعقدية ، والتاريخية ، وهو نوع من الدراسات غير المألوفة بالعربية كذلك ، من حيث حجم المادة ، وكم المراجع الأصلية ، وجودة الترتيب والوضع .
وكتابه الثالث ـ وهو قيد الطباعة يسر الله إخراجه بعد أيام ـ ( الدم والنار ) ، درس فيه أوجه التأثير والتأثر بين النصرانية والإمامية الاثني عشرية ، جمع فيه مادة مميزة ووثائق كثيرة ، وصورا فريدة في بابها .
ـ معي :
تعرفت على أبي رائد قبل أن آتي الكويت بأكثر من سنتين ، عن طريق برنامج البالتوك ، وكان بيننا احترام وتقدير ، ثم التقيته في مصر في المنصورة ، وكان في إجازة ، في جلسة علمية رائعة جمعتنا مع الأخ محمد مصطفى ، والدكتور حسام أبو البخاري ، وأحمد سالم ( أبو فهر السلفي ) ، وانعقدت محبتنا حينها أكثر ، ووجه إليَّ بعض الأسئلة الخاصة وخصني بكثير من طيب الكلام بيني وبينه .
سافرت بعدها إلى السعودية ، ثم لم ألبث أقل من عام حتى وجدته يكلمني ، ويلح عليَّ إلحاحا شديدا أن آتي الكويت ، فقبلت ومشى الأمر على ذلك .
كان اتفاقي معه أن أنزل عليه حتى أدبر أمر المسكن ، فقال لي : الله يسهل ! ، تعال بس .
بمجرد دخولي عليه في بيته ـ حيث لا ترى إلا كتباً في كل شيء وفوق كل شيء وجانب كل شيء وتحت كل شيء ـ قال لي : أنا لم أسكن مع أحد منذ أكثر من سنتين ، فقد مللت من السكن المشترك خصوصا مع المصريين ! ، لكن اعمل حسابك أنك ستسكن معي ! ، وقد كان .
عشت مع أبي رائد أكثر من سنتين حتى وفاته ، ومنها استقيت كلَّ ما ذكرته هاهنا ـ وهو قليل جدا مما يسمح المقام والبال بذكره ـ ، فمنه ما رأيته بعيني ، ومنه ما سمعته منه كثيرا .
تعلمت منه أكثر معارفي عن المسيحية ، فهو شيخي الأول فيها ، وكان حريصا على تعليمي إياها ، ويرى في ذلك فائدة كبيرة للأمة ـ وكان أمميا في تصوراته ولفظ الأمة مما يروج في كلامه ـ ، فكان يضع لي سلما للقراءة ، وكنا نتناقش بالساعات الطويلة في أدق أمور المسيحية الكتابية واللاهوتية ، وتبادلنا كثيرا من المعارف على طريق التكامل بين الفلسفة الإسلامية والكلام الإسلامي ، ومتون اللاهوت المسيحي الكلامية ، وشبهات النصارى ضد القرآن والنبي عليه الصلاة والسلام .
وكان حريصا على انتقاء بعض الإخوة ممن يرجو فيه خيرا فيوجهه لسد ذلك الفرض الكفائي ، وينصحه بالكتب المفيدة في ذلك المجال ، ولا يبخل عليه بالنصيحة والإجابة والإفادة ، وكان ممن يثني عليهم كثيرا الأخ هيثم سمير في إيطاليا ، وكان لهما مشروع مشترك في ترجمة وجرد موسوعة الآباء اليونانية المترجمة بالإنجليزية في أكثر من مائة مجلد ، والتي اشتراها مؤخرا ، ولم يرها عربي قط! ، في حدود ما نعلم .
كذلك كان بيننا كثير من المشاريع المشتركة ، لا أبوح بها ، وأسأل الله أن يعينني على إقامتها ، كي أنشر علومه وفوائده وقراءاته ، لما في ذلك من نفع للأمة ، ورفعة لحجة الإسلام وإظهار لها ، وأجر وثواب في ميزانه يوم القيامة ، فإن العلم الذي ينتفع به من آكد ما ينفع المسلم بعد موته ، فالمال ينقطع ، والولد يرجى صلاحه ، والعلم لا حاجز بينه وبين مريده .
ـ محنة المرض :
بدأت محنة المرض مع أبي رائد منذ ست سنين تقريبا ، حيث أصيب بالسرطان فجأة دون مقدمات ، نام واستيقظ واجدا ورما في رأسه ، وكان في حج أو عمرة ، ثم تلقى ذلك الأمر صابرا محتسبا ، بل مرحا ساخرا في أغلب الأحيان .
بدأ رحلة العلاج الطويلة المؤلمة ، حيث كان يعالج علاجا كيماويا ، يهد الأركان ويفقد الحركة ، ويسقط شعر الإنسان كله ـ حتى الحاجبين ـ ، وكان صابرا محتسبا لا يترك كتبه وأوراقه وحاسوبه الشخصي ، حتى انتهت تلك الرحلة .
ثم استمرت صحته بخير نحو السنة حتى هاجمه المرض من جديد ، وعلى نحو أشرس من ذي قبل ، فغزا الورم الخبيث جسمه في أماكن كثيرة ، مع أمراض الكبد ، ومشاكل في القلب ، وظل معانيا آلامه نحو السنة ونصف ، حتى دخل المستشفى منذ نحو الأربعين يوما ، قضى العشرة الأيام الأخيرة منها غائبا عن الوعي ، حتى توفاه الله عز وجل ليل الإثنين الخامس من مارس 2012 م ، في شرخ الأربعين ، مبطونا شهيدا ، غفر الله له ورحمه رحمة واسعة ، وبلغه رجاءه ، وجمعنا به على خير .
وعلى قدر حزن الإنسان على فقد أخ كبير ، ومعلم ، وحبيب ، فإنه يحزن على ما دفن معه من العلم ، فإنه بهذا تثلم الأمة ، وينزع العلم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
عمرو
الكويت ، فجر الثلاثاء الثالث عشر من ربيع الأول 1433 هـ ، 6/3/2012 م .
بورائد
مُشرِف شرف المنتدى
رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى
م.ن
محمد إبراهيم عنان
لم أكن أتصور أن أكتب في ترجمة أحد أصدقائي ، ولكم عانيت في التحكم لسوق كلامي ، ولم يكن دافعي الأول في تلك الترجمة محبتي إياه ، بل كونه واحدا من علماء تلك الأمة في مجاله ، وراجيا أن يترحم عليه قاص أو دان ، وأن يُعْتَبر بحياته القصيرة المليئة بالأحداث .
ـ النشأة :
ولد بمحافظة المنصورة بمصر سنة 1969 م .
بدأ حياته متدينا ، حيث تربى في مساجد السلفية بمحافظته ، واعتقل لأيام قصيرة من أمن الدولة وهو في مقتبل الشباب .
تخرج في كلية الهندسة جامعة المنصورة ، وكان ذكيا فائقا ـ وله في ذلك أقاصيص مع أساتذته وزملائه وبعض مشروعاته في التخرج ـ وكان من أوائل دفعته ، وعين فيها معيدا ، ثم تركها لظرف شخصي .
ـ طلب العلم :
بدأ مشواره الفعلي مع العلم عقب سفره إلى الكويت سنة 1996 م ، حيث عمل مهندسا للكمبيوتر في بعض الشركات الخاصة ، حتى استقر به الحال في وزارة الإعلام ، ثم لجنة التعريف بالإسلام ، ثم مبرة الآل والأصحاب .
طلب العلم الشرعي أول مقدمه الكويت ، فكان يحضر في بعض الأيام خمسة دروس ، بعد الفجر والعصر والمغرب والعشاء ، إضافة لدوامه وعمله الرسمي .
سمع الكتب الستة ومسند أحمد وموطأ مالك وغير ذلك في مشاريع سماع الكويت منذ أول انعقادها ، وله شهادات الاعتماد الخاصة بذلك ، وله تعليقات وتقييدات مما كان يذكره المشايخ المجيزون أثناء القراءة .
وحضر على أغلب المشايخ وطلبة العلم في الكويت ، وأبرزهم الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق وقرأ عليه ، والشيخ عثمان الخميس ـ وله به علاقة خاصة ـ ، والشيخ صالح النهام ، والشيخ شافي العجمي ، والشيخ مبارك الميلي في علم المخطوط ، وغيرهم .
وحضر في مصر للشيخ الحويني والشيخ مصطفى العدوي والشيخ النقيب والشيخ محمد حسان ، وله علاقة حسنة بأغلب طلبة العلم والمشايخ في المنصورة .
ـ التخصص العلمي :
بدأت رحلة أبي رائد مع المسيحية ودراستها بحادث طارئ ، حيث كان من زملائه في العمل بعض المسيحيين ، وكانت تجري بينهم بعض المناقشات بطبيعة الحال ، وفي بعض تلك النقاشات جرى على لسان بعض المسيحيين ما معناه أنه يفهم أكثر منه في الإسلام ، وهو لا يعلم شيئا عن المسيحية ! ، فكان أن صمم أبو رائد على دراسة المسيحية دراسة معمقة .
ولم يكن ذلك غريبا عليه ، فقد كان أبو رائد شغوفا طلعة طبعًا في أي مجال يقرأ فيه ، سواء في علوم الشريعة ، أو علوم الحياة على اختلاف أنواعها ، محبا للتصوير ، والأجهزة الكهربية ، والطبخ ، والمخطوطات .
كان أبو رائد عصاميا ، سواء في حياته العملية ، حيث نشأ في أسرة متوسطة ، وكافح في دراسته وكان مجيدا فيها ، وتزوج وأنجب وسافر .
وكذلك في حياته العلمية حيث بدأ تعلم المسيحية من الصفر ، فأخذ يجمع الكتب ، والمخطوطات ، ونسخ الكتاب المقدس ، ويقرأها ، وتعلَّم الأبجدية اليونانية وقواعدها العامة ، وكان مجيدا للإنجليزية بطلاقة ، وسأل من تقدمه في طلب ذلك العلم ، فاستشار الأخ / علي الريس ، وكان يثني عليه كثيرا ويقدمه على من سواه ، واتصل بالأخ / حسام أبو البخاري ، والأخ / حسن علي حسن ، والدكتور / منقذ السقار ، وغيرهم من المهتمين بذلك المجال ، وكان له بهم جميعا علاقة حسنة فاضلة ، حتى استوى عوده ، واستقام له الطريق ، وتوسع فيه جدا ، وجد واجتهد .
طوَّف أبو رائد البلاد ليجمع أمهات كتب المسيحية ، ونسخ الكتاب المقدس ، فسافر لبنان وسوريا وغيرها مما لا أضبطه الآن لشراء الكتب ، واتصل بأمريكا وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا والهند والعراق ، وغيرها ، واشترى من تلك البلاد مئات الكتب والمخطوطات ، وأنفق في ذلك أموالا طائلة .
تحصل لديه آلاف الكتب عن المسيحية ، باختلاف فروعها ، مما لا يكون عند غيره في أمة المسلمين ، إلا أن يعلم الله .
ولم يبخل بتلك الكتب ، فجعل يصورها ، ويعطي من يراه مستحقا لتلك الكتب حسب اجتهاده ، وعمله ، واحتياجه ، وكان له نظر واجتهاد في عدم نشرها لئلا يستفيد منها النصارى ، وبعض المتعالمين في ذلك المجال .
ـ الدعوة :
كان له نشاط دعوي دؤوب ، ليس له هم إلا نصر الإسلام ، والدفاع عن التوحيد ، ونبوة محمد عليه الصلاة والسلام ، وبراءة عيسى من الشرك ، ولا أبعد إذا قلت إنني لم أر مثله في ذلك الحرص والدأب ، في صحوه ونومه ، كان يقوم من الليل فزعا يبحث عن كتاب تذكَّر معلومة قرأها فيه ليدونها ، وكان يأكل والكتاب والقلم والأوراق في يده ، يأكل باليمني ويكتب باليسرى ، وكان يقرأ في كل أحواله ، حتى في الخلاء عنده كتبه وأوراقه وأقلامه ، وهو من القلة التي قرأت كل مكتبتها ، فقرأ عشرات الآلاف من الكتب تحقيقا لا ظنا ، يعزو إليها بالصفحات ، ويصف لون غلافها وتصميمه ، على اختلاف طبعاتها ، وفجْأَةِ ورودها أمامه ، ويغالط فيها الناشرين وأصحاب المكتبات في مكتباتهم ، ويخضعون له غاية الخضوع بعد استيثاقهم من مَلَكته ، وقد رأيت منه في ذلك ما لا يسع المقام ولا البال لذكره .
مارس دعوته فعليا في أرض الواقع ، فدخل كنائس بيروت ودمشق وسائر أرجاء مصر ، وناقش كثيرا من القساوسة ، والتقى كثيرا من أعلام المسيحية المعاصرة مثل بولس الفغالي ، وبيشوي حلمي ، وغيرهما ، وأذعنوا له .
ناقش كثيرا من المسيحيين ، والمتنصرين ، والمسلمين المتشككين ، عربا وعجما ، بلا كلل ولا ملل ، وأسلم على يديه غير واحد .
انطلق للدعوة عبر الإنترنت باعتبارها أسهل انتشارا ، وأكثر تأثيرا ، وأليق بظروفه حال مرضه وعدم قدرته على الحركة بسهولة ، وشارك في برنامج البالتوك الشهير ، في غرف الرد على النصارى ، ومن أهم تلك الغرف التي كان فاعلا فيها ( غرفة الحوار الإسلامي المسيحي ) المعروفة ، وهي غرفة الأخ / وسام عبد الله ، وكان اسمه الرمزي في البالتوك ( دايركت ترست ) direct trust .
وكانت له مشاركة في المنتديات ، سيما المتخصصة في مقارنة الأديان مثل : منتديات ابن مريم ، وغيرها ، وكان له معرف ومشاركة يسيرة في ملتقى أهل الحديث باسم ( أبو رائد المصري ) .
ـ التأليف :
كذلك اتجه أبو رائد للتأليف ، وله في التأليف آلاف الأوراق ، في موضوعات شتى ، سيما النقد النصي ، وتاريخ الآباء ، والهرطقات ، واللاهوت المسيحي المقارن والطقسي .
وكان يعمل دائما على تهذيب تلك الأوراق ليخرج منها كتبا ، فأخرج كتابه الأول ( ما لا تعرفه عن المسيحية ) منذ نحو السنتين ، والذي كان على وجازته جامعا لكم هائل من المعلومات وعلى طريقة غير مألوفة من حيث الجمع والتصنيف والمصادر والإخراج ، وشاملا لأهم مسائل الاعتقاد المسيحي ، وفارقا بمسافة ضخمة ثابتة عن المؤلفات العربية في مقارنة الأديان عموما ، والمسيحية خصوصا .
ثم كان كتابه الثاني ( إخوة الزيف ) ، وقد صدر في آخر معرض الكتاب القاهري الأخير ، وهو دراسة معمقة لخاتمة إنجيل مرقس ، من الناحية الكتابية ، والعقدية ، والتاريخية ، وهو نوع من الدراسات غير المألوفة بالعربية كذلك ، من حيث حجم المادة ، وكم المراجع الأصلية ، وجودة الترتيب والوضع .
وكتابه الثالث ـ وهو قيد الطباعة يسر الله إخراجه بعد أيام ـ ( الدم والنار ) ، درس فيه أوجه التأثير والتأثر بين النصرانية والإمامية الاثني عشرية ، جمع فيه مادة مميزة ووثائق كثيرة ، وصورا فريدة في بابها .
ـ معي :
تعرفت على أبي رائد قبل أن آتي الكويت بأكثر من سنتين ، عن طريق برنامج البالتوك ، وكان بيننا احترام وتقدير ، ثم التقيته في مصر في المنصورة ، وكان في إجازة ، في جلسة علمية رائعة جمعتنا مع الأخ محمد مصطفى ، والدكتور حسام أبو البخاري ، وأحمد سالم ( أبو فهر السلفي ) ، وانعقدت محبتنا حينها أكثر ، ووجه إليَّ بعض الأسئلة الخاصة وخصني بكثير من طيب الكلام بيني وبينه .
سافرت بعدها إلى السعودية ، ثم لم ألبث أقل من عام حتى وجدته يكلمني ، ويلح عليَّ إلحاحا شديدا أن آتي الكويت ، فقبلت ومشى الأمر على ذلك .
كان اتفاقي معه أن أنزل عليه حتى أدبر أمر المسكن ، فقال لي : الله يسهل ! ، تعال بس .
بمجرد دخولي عليه في بيته ـ حيث لا ترى إلا كتباً في كل شيء وفوق كل شيء وجانب كل شيء وتحت كل شيء ـ قال لي : أنا لم أسكن مع أحد منذ أكثر من سنتين ، فقد مللت من السكن المشترك خصوصا مع المصريين ! ، لكن اعمل حسابك أنك ستسكن معي ! ، وقد كان .
عشت مع أبي رائد أكثر من سنتين حتى وفاته ، ومنها استقيت كلَّ ما ذكرته هاهنا ـ وهو قليل جدا مما يسمح المقام والبال بذكره ـ ، فمنه ما رأيته بعيني ، ومنه ما سمعته منه كثيرا .
تعلمت منه أكثر معارفي عن المسيحية ، فهو شيخي الأول فيها ، وكان حريصا على تعليمي إياها ، ويرى في ذلك فائدة كبيرة للأمة ـ وكان أمميا في تصوراته ولفظ الأمة مما يروج في كلامه ـ ، فكان يضع لي سلما للقراءة ، وكنا نتناقش بالساعات الطويلة في أدق أمور المسيحية الكتابية واللاهوتية ، وتبادلنا كثيرا من المعارف على طريق التكامل بين الفلسفة الإسلامية والكلام الإسلامي ، ومتون اللاهوت المسيحي الكلامية ، وشبهات النصارى ضد القرآن والنبي عليه الصلاة والسلام .
وكان حريصا على انتقاء بعض الإخوة ممن يرجو فيه خيرا فيوجهه لسد ذلك الفرض الكفائي ، وينصحه بالكتب المفيدة في ذلك المجال ، ولا يبخل عليه بالنصيحة والإجابة والإفادة ، وكان ممن يثني عليهم كثيرا الأخ هيثم سمير في إيطاليا ، وكان لهما مشروع مشترك في ترجمة وجرد موسوعة الآباء اليونانية المترجمة بالإنجليزية في أكثر من مائة مجلد ، والتي اشتراها مؤخرا ، ولم يرها عربي قط! ، في حدود ما نعلم .
كذلك كان بيننا كثير من المشاريع المشتركة ، لا أبوح بها ، وأسأل الله أن يعينني على إقامتها ، كي أنشر علومه وفوائده وقراءاته ، لما في ذلك من نفع للأمة ، ورفعة لحجة الإسلام وإظهار لها ، وأجر وثواب في ميزانه يوم القيامة ، فإن العلم الذي ينتفع به من آكد ما ينفع المسلم بعد موته ، فالمال ينقطع ، والولد يرجى صلاحه ، والعلم لا حاجز بينه وبين مريده .
ـ محنة المرض :
بدأت محنة المرض مع أبي رائد منذ ست سنين تقريبا ، حيث أصيب بالسرطان فجأة دون مقدمات ، نام واستيقظ واجدا ورما في رأسه ، وكان في حج أو عمرة ، ثم تلقى ذلك الأمر صابرا محتسبا ، بل مرحا ساخرا في أغلب الأحيان .
بدأ رحلة العلاج الطويلة المؤلمة ، حيث كان يعالج علاجا كيماويا ، يهد الأركان ويفقد الحركة ، ويسقط شعر الإنسان كله ـ حتى الحاجبين ـ ، وكان صابرا محتسبا لا يترك كتبه وأوراقه وحاسوبه الشخصي ، حتى انتهت تلك الرحلة .
ثم استمرت صحته بخير نحو السنة حتى هاجمه المرض من جديد ، وعلى نحو أشرس من ذي قبل ، فغزا الورم الخبيث جسمه في أماكن كثيرة ، مع أمراض الكبد ، ومشاكل في القلب ، وظل معانيا آلامه نحو السنة ونصف ، حتى دخل المستشفى منذ نحو الأربعين يوما ، قضى العشرة الأيام الأخيرة منها غائبا عن الوعي ، حتى توفاه الله عز وجل ليل الإثنين الخامس من مارس 2012 م ، في شرخ الأربعين ، مبطونا شهيدا ، غفر الله له ورحمه رحمة واسعة ، وبلغه رجاءه ، وجمعنا به على خير .
وعلى قدر حزن الإنسان على فقد أخ كبير ، ومعلم ، وحبيب ، فإنه يحزن على ما دفن معه من العلم ، فإنه بهذا تثلم الأمة ، وينزع العلم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
عمرو
الكويت ، فجر الثلاثاء الثالث عشر من ربيع الأول 1433 هـ ، 6/3/2012 م .