هِداية
05.09.2009, 10:35
إتحاف أهل الأالباب بمعرفة العقيدة في سؤال وجواب
التـوسـل
الشيـخ / وليـد بن راشـد س1 ما القاعدة المعتمدة عند أهل السنة في باب التوسل ؟ مع شرح معناها الإجمالي .
ج :
القاعدة المعتمدة عند أهل السنة في باب التوسل تقول:
الأصل في التوسل التوقيف على الدليل الشرعي الصحيح ، الصريح . وبيانها: أن يقال:
إن المتقرر عند أهل الإسلام أن باب التعبد لله - تعالى- باب توقيفي على الدليل ، فلا يجوز إثبات شيء منها إلا إذا أثبته الدليل ، فما أثبته الدليل منها أثبتناه، وما نفاه منها نفيناه، وما لم يثبته ، ولم ينفه فالأصل عدمه من المعلوم أن باب التوسل من أبواب العبادات فهو عبادة ؛ لأن مبناه على أنك تتقرب إلى الله - تعالى- باتخاذه الوسيلة المعينة المحبوبة له - جل وعلا- وحيث كان عبادة فالأصل فيه التوقيف تفريعاً على القاعدة في العبادات، وبناءً عليه فلا يجوز لك - أيها الأخ المبارك - أن تتوسل بشيء وتعتقد من جملة ما يتوسل به ، إلا وعليه دليل من الكتاب ، أو صحيح السنة، وما لا دليل عليه فاحذره، فليس باب التوسل مفتوحاً للشهوات ، وآراء الرجال والهوى، والأحاديث الضعيفة أو الموضوعة ، أو الأذواق ، بل هو باب توقيفي على الدليل فما ورد الدليل بجواز التوسل به فيجوز التوسل به، وما لم يرد على جوازه دليل فقف منه موقف المنع؛ لأن الأصل في باب التوسل التوقيف على الدليل الشرعي الصحيح . والله أعلم.
http://m7ml.com/uploads6/3ddfaefb18.gif
س2 ما المراد بلفظ ( الوسيلة والتوسل ) في الكتاب والسنة وكلام الصحابة؟ مع بيان ذلك بالأدلة ؟
ج :
اعلم أن الوسيلة تختلف باختلاف الإطلاق:
فالوسيلة في كتاب الله - تعالى- يراد بها التقرب إليه بفعل أوامره ، واجتناب نواهيه، وطاعة رسله وهي الوسيلة العامة التي يطالب بها كل أحد وذلك كما في قوله - تعالى- ﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون﴾ [ المائدة:35] فابتغاء الوسيلة إليه يراد بها التقرب له بالعمل بما يرضيه وبالمناسبة فإنه لم يرد لفظ الوسيلة في القرآن إلا في هذا الموضع فقط. وأما الوسيلة في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم- فيراد بها المنزلة التي في الجنة التي لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم- ( ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له الشفاعة ) رواه مسلم.وفي حديث جابر مرفوعا ( من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته حلت له شفاعتي ) حديث صحيح .
وأما الوسيلة في كلام الصحابة فإنما يراد بها طلب الدعاء فقط، فإذا وجدت في كلامهم أنهم كانوا يتوسلون بكذا وكذا ،فاعلم أن المراد بذلك أنهم يطلبون منه أن يدعو لهم، وذلك كما في حديث أنس:( أنهم كانوا إذا قحطوا يقول عمر -رضي الله عنه- اللهم إنا كنا نتوسل بنبيك - صلى الله عليه وسلم- فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قم يا عباس، فيقوم فيدعو فيسقون ) فقوله ( كنا نتوسل بنبيك ) أي: كنا نطلب الدعاء منه. وقوله ( وإنا نتوسل بعم نبيك ) أي ونحن الآن نطلب منه أن يدعو لنا ، فهذه الإطلاقات الثلاث للفظ الوسيلة يجب التفريق بينها، فإن من فرق بينها فقد أحكم بذلك شيئاً كثيراً من مسائل هذا الباب الشائك الذي ضلت فيه أقوام وزلت فيه أقدام . والله أعلم.
http://m7ml.com/uploads6/3ddfaefb18.gif
س3 ما الوسائل التي ثبت الدليل بجواز التوسل بها ؟ مع تأييد ذلك بالأدلة .
ج : لقد أثبت الدليل الشرعي الصحيح الصريح جواز التوسل بعدة أشياء:
الأول: التوسل إلى الله - تعالى- بأسمائه الحسنى . قال الله - تعالى- ﴿ ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها﴾ [ الأعراف:180]
الثاني: التوسل بالصفات، وله أدلة كثيرة وذلك كما في حديث الاستخارة ( االلهم إني أستخيرك بعلمك الغيب وأستقدرك بقدرتك ...... الحديث ) ومنه دعاء سليمان - عليه السلام- ( وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ) ومنه حديث بريدة - رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- سمع رجلاً يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فقال ( لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى ، وإذا دعي به أجاب ) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه بإسناد صحيح، وغير ذلك من الأدلة.
الثالث: التوسل إلى الله - تعالى- بذكر الحال ، ومنه قوله - تعالى- عن نوح عليه السلام " رب إن قومي كذبون فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين" وقوله - تعالى- عنه أيضا" رب إني مغلوب فانتصر ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر" وقوله - تعالى- عن موسى "رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير" ومنه الحديث المشهور في السير أنه - صلى الله عليه وسلم- قال لما طرده أهل الطائف: ( اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس ..... الحديث ).
الرابع : التوسل إلى الله - تعالى- بدعاء الحي الحاضر القادر، ودليله حديث أنس في الصحيح أن رجلاً دخل المسجد من نحو دار القضاء ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم- قائم يخطب فقال: يا رسول الله هلكت الأموال ، وجاع العيال ، وانقطعت السبل ، فادع الله يغيثنا، فرفع النبي - صلى الله عليه وسلم- يديه وقال: ( اللهم أغثنا ) ثلاثاً قال أنس: فلا ، والله ما في السماء من سحاب ولا قزعة حتى خرجت من وراء سلع سحابة سوداء ثم توسطت السماء فأمطرت ، فلا ، والله ما رأينا الشمس أسبوعاً كاملاً ..... الحديث</B> ) ومنه حديث أنس في طلب عمر - رضي الله عنه- من العباس أن يدعو للمسلمين، وهذا دعاء أقره عليه جميع الصحابة، ولم ينكره أحد مع شهرته، وهو من أظهر الإجماعات الإقرارية، وكذا فعل معاوية - رضي الله عنه- لما أصابهم القحط في الشام ، فإنه أمر يزيد بن الأسود أن يتقدم الناس ويدعو ، ومنه أيضا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم- من لقي أويساً القرني أن يطلب منه أن يدعو له ، ومنه أيضا حديث الأعمى الذي جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- وطلب منه أن يدعو له ، أن يرد الله - تعالى- عليه بصره ، ومنه أيضاً طلب أم سليم منه -صلى الله تعالى عليه وسلم- أن يدعو لأنس . والأدلة على ذلك كثيرة شهيرة.
الخامس: التوسل إلى الله - تعالى- بالأعمال الصالحة ، ودليله حديث ابن عمر في توسل الثلاثة من بني إسرائيل الذين انطبقت عليهم الصخرة، وسدت عليهم باب الغار فقال بعضهم لبعض: ( إن الله - تعالى- لن ينجيكم من أمر هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله - تعالى- بصالح أعمالكم ) فتوسل الأول ببره بوالديه ، وتوسل الثاني بعفته وخوفه من الله - تعالى ، وتوسل الثالث بأمانته وحفظ عهده وفي آخره ( فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون ) متفق عليه.
السادس: التوسل إلى الله - تعالى- بالإيمان به وبرسوله - صلى الله عليه وسلم- كما قال - تعالى- ﴿ ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فأغفر لنا ذنوبنا وكفرعنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار .....الآيات﴾ [ آل عمران:193] ،
وقوله - تعالى- ﴿ الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار﴾ [ آل عمران:16] وهذا السادس يدخل في الأمر الخامس؛ لأنه من جملة الأعمال الصالحة ، فالأعمال الصالحة من أعظم ما يتوسل به العبد ، فهذه الوسائل الست هى التي دل الدليل الشرعي الصحيح الصريح على جواز التوسل بها . والله أعلم .
http://m7ml.com/uploads6/3ddfaefb18.gif
س4 ما أقسام التوسل بالأسماء والصفات ؟ مع بيان ما تقول بالمثال .
ج: التوسل بالأسماء والصفات قسمان :
توسل عام ، وتوسل خاص . والمراد بالتوسل العام أي: أن تقول: اللهم أني أسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى ، هكذا على وجه العموم ، فهذا جائز كما مضى بلا شرط . والمراد بالتوسل الخاص: أن تتوسل باسم معين أو صفة معينة، فيشترط حينئذٍ مناسبة الاسم والصفة للسؤال ، فإذا سألت الرزق فتوسل باسم الله الرزاق والكريم والجواد و المعطي ونحوها ، وإذا سألت المغفرة والرحمة فتوسل باسمه الرحمن الرحيم الغفور الودود التواب الرءوف ونحوها ، وإذا سألت هلاك ظالم فتوسل باسمه الجبار والقوي والمهيمن والعزيز والقدير ونحوهما، وكذلك يقال في الصفات، فلا بد أن يكون الاسم أو الصفة المتوسل بها مناسبة لسؤالك الذي تريد أن يحققه الله لك . والله أعلم .
http://m7ml.com/uploads6/3ddfaefb18.gif
س5 ما حكم التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم- ؟ مفصلاً الجواب مع ضرب المثال .
ج: أقول: التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم- أنواع:
الأول : التوسل به بمعنى طاعته فيما أمر ، واجتناب ما نهى عنه وزجر ، وتصديقه فيما أخبر ، وألا يعبد الله إلا بما شرع ، فهذا حقيقة دين الإسلام ، وزبدة رسالة الشريعة التي بعث بها - صلى الله عليه وسلم- .
الثاني : التوسل به بمعنى طلب الدعاء منه فهذا جائز في حياته فقط ، وأما بعد وفاته فلا يجوز، وقد قدمنا الأدلة على جوازه في حياته ، وأما الدليل على عدم الجواز بعد وفاته فلأنه لا يملك حينئذ لنفسه نفعاً ولا ضراً وفاقد الشيء لا يعطيه،؛ ولأن الصحابة كانوا إذا قحطوا استسقوا بالعباس مع أنه - صلى الله عليه وسلم- كان مدفوناً بجوارهم في حجرة عائشة ، فعدم إتيانهم لقبره ، وسؤاله إجماعٌ منهم على عدم الجواز ، ولأنه - صلى الله عليه وسلم- قال: ( اشتد غضب الله - تعالى- على قومٍ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) وقال ( اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد ) وقصده للدعاء عنده من اتخاذه عيداً ووثناً ومسجداً ، فهو باب مفضٍ إلى ذلك فلابد من سده ، فحيث لم يفعله أحد من الصحابة والتابعين وتابعيهم وأئمة السلف ، فلا يجوز فعله إذ لو كان ذلك مما يجوز لنبهوا عليه، وفي المختارة أن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رأى رجلاً يجيء إلى فرجةٍ كانت عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم- فيدعو فنهاه وقال: ألا أحدثك حديثاً سمعته عن أبي عن جدي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: ( لا تتخذوا قبري عيداً ، وصلوا عليَّ حيث كنتم فإن صلاتكم تبلغني ) فطلبُ الدعاء منه بعد مماته من الشرك الأكبر المخرج من الملة ، فإنه لا يدعى إلى الله - تعالى ، وأما دعاء الأموات أياً كانوا فإنه من الشرك الأكبر- نعوذ بالله منه .
الثالث التوسل إلى الله بجاهه ، وهذا لا يجوز؛ لأنه لا جاه له عند الله- نعوذ بالله من قول ذلك- بل هو أعظم الخلق عند الله جاهاً وأعلاهم منزلة ، لكن قد قدمت لك أن الأصل في التوسل التوقيف على الدليل ، ولم يأت الدليل الشرعي الصحيح في جواز التوسل بذلك ، بل ولا يعرف عن أحد من الصحابة في ذلك حرفاً واحداً ، وكل ما يروى في التوسل بجاهه فكذب مختلق موضوع -لعن الله واضعه وعامله بما توعد به الكاذبين على نبيه - صلى الله عليه وسلم- فبان بذلك أن التوسل به ثلاثة أنواع: نوع جائز وهو الأول ، بل هو حقيقة الدين ، لكن قلت: جائز بالنسبة للنوعين قبله فقط ، وإلا فهو أوجب الواجبات وأعظم المطلوبات المتحتمات . ونوعان ممنوعان . والله أعلم .
http://m7ml.com/uploads6/3ddfaefb18.gif
س6 هل الأفضل طلب الدعاء من الغير أم الأفضل تركه ؟
ج: هذا يختلف باختلاف ما يقوم بقلب الطالب ، فإن قام بقلبه حب نفع نفسه وأخيه بدعاء الملك له ، فإنه ما دعا أحد لأخيه بظهر الغيب إلا أجابه ملك ، وقال ( آمين ولك بالمثل ) فأنا قام في قلبي حب نفع أخي بدعاء الملائكة له فأمرته أن يدعو لي حباً لانتفاعه هو بدعاء الملك له مع انتفاعي أنا أيضاً بدعائه فهذا جائز لا بأس به وعليه يحمل قوله - صلى الله عليه وسلم- لعمر ( لا تنسنا يا أخي من صالح دعائك ) وأما إذا لم يقم في قلب الطالب إلا انتفاعه هو فقط بهذا الدعاء فهذا جائز أيضاً ، لكن تركه أفضل ، فإنه - صلى الله عليه وسلم- قد أخذ العهد على بعض أصحابه ألا يسألوا الناس شيئاً ، فكان سوط أحدهم يسقط فينزل ويأخذه ولا يقول لمن تحته ناولنيه ولأن منزلتك في قلب غيرك تخف بقدر سؤالك له ، ولأن قلبك و لا بد أن تتعلق شعبة منه بالمطلوب الدعاء منه والمستحب للعبد في كل أحواله أن يتعلق قلبه بالله التعلق الكامل ، ولأن الداعي لك قد لا يقوم في قلبه الإلحاح وشدة الافتقار وصدق اللجأ لله - تعالى- كما يقوم بقلبك أنت؛ لأنك صاحب الحاجة ، وليس النائحة الثكلى كالمستأجرة، فدعاؤك لنفسك في هذه الحالة أكمل؛ لأنه أتم في تحقيق مراتب العبودية في الدعاء من كمال الافتقار ، وغاية الذل ، وصدق اللجأ لله - تعالى . ويكره للإنسان أن يترك هذه الأحوال القلبية الكاملة اتكالاً على دعاء غيره له، ولأن سؤال غيرك أن يدعو لك فيه نوع ذلة ومسكنة له ، وقد يكون فيه إيذاء لذلك المسئول . والله أعلم .
http://m7ml.com/uploads6/3ddfaefb18.gif
س7 ما حكم شد الرحيل إلى قبور الأنبياء والأولياء للتبرك بها والدعاء عندها مع الدليل؟
ج: هذا الأمر من أشد المنكرات ، وأعظم المحرمات ، وأكبر الوسائل لتعظيمها ، واتخاذها أوثاناً تعبد من دون الله - تعالى- ومن اتخاذها عيداً ففي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ، والمسجد الأقصى ، ومسجدي هذا ) وفي الصحيح أيضا أنه قال: ( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) يحذر ما صنعوا قالت عائشة رضي الله - تعالى- عنها: ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً وفي الصحيح أيضاً عنه أنه قال: ( ألا إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك ) فالزيارة على هذه الوجوه كلها مبتدعة لم يشرعها النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم- ولا فعلها الصحابة لا عند قبره - صلى الله عليه وسلم- ولا عند غيره ، وهي من جنس الشرك وأسبابه ، ولا يفهم أحمق أرعن جاهل غبي أخرق أن كلامنا هذا فيه إنقاص من قدر الأنبياء والأولياء فإن هذا لا يفهمه إلا من عشعش الشيطان في قلبه وبيض وفرخ وعمَّره بسوء الظن؛ لأن تعظيم الأنبياء إنما يكون بالإيمان بهم ، وطاعتهم ، وموالاتهم ، ونصرتهم ، وتعزيرهم ، وتوقيرهم بما هو مشروع ، فالتعبد مبناه على الدليل والاتباع ، لا على الهوى والابتداع فليس كل أحد يعمل في دينه ما يشتهي ، بل مصداق المحبة الصادقة اتباع المحبوب فيما يأمر به فيمتثل ، وفيما ينهى عنه فيجتنب ، وفيما يخبر به فيصدق ، وما شرع لنا على لسان نبينا - صلى الله عليه وسلم- النهي عن شد الرحال لغير هذه المساجد الثلاثة ـ أعني : إذا كان القصد التعبد ـ كما نهى عن الدعاء عند القبور ، ورفع ترابها ، والبناء عليها ، والكتابة عليها ، وتجصيصها ، وزخرفتها ، وإسراجها ، والذبح عندها ، والنذر لها ، وبناء المساجد عليها ، والصلاة عندها . كل ذلك مما شرع لأمته ، فواجب على الأمة اتباعه فيه ، وأن يكون هوانا تبعاً لما جاء به - صلى الله عليه وسلم- وأن لا تأذي الأموات بفعل هذا الشرك عندهم و جريمة نكراء ، في حق التوحيد لما فيه من فتح باب الشرك على مصراعيه . وهل - بالله عليك- دخل الشرك ، وفساد الأحوال ، والاعتقاد إلا بسبب الغلو في الأولياء والصالحين وقبورهم ، والعكوف عندها - فاللهم أصلح أحوال المسلمين ، واكفنا شرور أنفسنا ،و نزغات الشيطان الرجيم- والله أعلم .
http://m7ml.com/uploads6/3ddfaefb18.gif
س8 كيف توجه قول الأعمى ( اللهم إني أتوجه لك بنبيك - صلى الله عليه وسلم- ) فإن بعض المبتدعة يستدل به على جواز التوسل بجاه النبي و- صلى الله عليه وسلم- وبدعائه بعد مماته ؟
ج :
أقول : لا إشكال في هذا الحديث أبدًا لكن يجب أن تفهم:
أولاً: أنه لا يمكن أبدًا أن تتعارض النصوص الشرعية التي ثبتت صحتها ، ولا يمكن أن يكون فيها ما يدعو إلى ما نهي عنه أبداً ، فيجب عليك أن تعتقد ذلك ، وما ورد عليك مما تتوهم فيه مخالفة أو معارضة فعليك بالاستعانة بالله - تعالى- في كشفه ، ثم بسؤال أهل العلم الراسخين في بيانه . وهذا الحديث قد وردت فيه روايات يبين بعضها بعضًا ، ويفسر بعضها بعضًا ففي جامع الترمذي أن هذا الأعمى قال: ( اللهم إني أسالك ، وأتوسل إليك بنبيك محمد - صلى الله عليه وسلم- في الرحمة لي اللهم شفعه في ) وقد تقدم لك أن التوسل في عرف الصحابة يراد به طلب الدعاء من الغير ، ولذلك ففي رواية في جامع الترمذي ، وسنن ابن ماجه أن هذا الأعمى قال للنبي - صلى الله عليه وسلم- ( ادع الله أن يعافيني فقال: له إن شئت دعوت ، وإن شئت صبرت. قال: فادعه ) فهذا يبين أن هذا التوجه المذكور في حديث السؤال إنما يراد به طلب الدعاء منه ، لا أنه توسل بذاته أو بجاهه كما قد فهمه بعض الغالطين ، ويوضح ذلك لفظ النسائي فإن الأعمى قال للنبي - صلى الله عليه وسلم- ( ادع الله أن يكشف لي عن بصري ....... الحديث. ) وفي المسند ( أن ذلك الأعمى قال: ادع الله أن يعافيني ) فهذا الحديث كحديث عمر السابق ( اللهم إنا كنا نتوسل بنبيك ....... الحديث ) فهذان الحديثان شيء واحد ، فالتوجه المذكور والتوسل الوارد مما يراد به طلب الدعاء من النبي - صلى الله عليه وسلم- وسؤال الشفاعة منه ، وهو حي ، وهذا أمر لا تنازع فيه ، بل قد ذكرنا أن حديث الأعمى من جملة الأدلة على جوازه ، ويوضح ذلك أن الصحابة -رضي الله عنهم- بعد موته إنما كانوا يتوسلون بغيره بدلاً عنه ، فلو كان التوسل به حياً وميتاً سواءً لما عدلوا عن التوسل به بعد موته إلى التوسل بعمه العباس - رضي الله عنه- وهذا واضح إن شاء الله - تعالى- والله أعلم .
http://m7ml.com/uploads6/3ddfaefb18.gif
س9 هل ثبت في زيارة قبره - صلى الله عليه وسلم- على وجه الخصوص شيء من السنة ؟
ج : لا ، لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم- حديث واحد في زيارة قبره ولا قبر غيره على وجه الخصوص ، وما يروى في ذلك فإنما هو موضوع أو شديد الضعف باتفاق أهل المعرفة بالحديث ، كقولهم: ( من زارني وزار قبر أبي الخليل في عام واحد ضمنت له الجنة ) قال أبو العباس عنه: كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أهـ .
وقال النووي : باطل ليس هو مروياً عن النبي - صلى الله عليه وسلم- ولا يعرف في كتابٍ صحيح ولا ضعيف بل وضعه بعض الفجرة أهـ
ومن ذلك قولهم: ( من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي ) ولا يصح من أساسه ، بل هو شديد الضعف بمرة ويقرب أن يكون موضوعاً ، ومن ذلك قولهم( من حج فلم يزرني فقد جفاني ) وهذا الحديث لا أصل له ، بل هو من المكذوبات والموضوعات كما قاله ابن عبدالهادي في الصارم المنكي .
بل قال شيخ الإسلام عن هذه الأحاديث : كلها مكذوبة موضوعة . وقد تقرر في الأصول والقواعد أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة ، وحيث لم يصح في ذلك شيء فالأصل هو الاستدلال على استحباب الزيارة بالأحاديث العامة الواردة في الباب لكن من غير شد رحلٍ لا لقبره ولا لقبر غيره. والله أعلم .
http://m7ml.com/uploads6/3ddfaefb18.gif
التـوسـل
الشيـخ / وليـد بن راشـد س1 ما القاعدة المعتمدة عند أهل السنة في باب التوسل ؟ مع شرح معناها الإجمالي .
ج :
القاعدة المعتمدة عند أهل السنة في باب التوسل تقول:
الأصل في التوسل التوقيف على الدليل الشرعي الصحيح ، الصريح . وبيانها: أن يقال:
إن المتقرر عند أهل الإسلام أن باب التعبد لله - تعالى- باب توقيفي على الدليل ، فلا يجوز إثبات شيء منها إلا إذا أثبته الدليل ، فما أثبته الدليل منها أثبتناه، وما نفاه منها نفيناه، وما لم يثبته ، ولم ينفه فالأصل عدمه من المعلوم أن باب التوسل من أبواب العبادات فهو عبادة ؛ لأن مبناه على أنك تتقرب إلى الله - تعالى- باتخاذه الوسيلة المعينة المحبوبة له - جل وعلا- وحيث كان عبادة فالأصل فيه التوقيف تفريعاً على القاعدة في العبادات، وبناءً عليه فلا يجوز لك - أيها الأخ المبارك - أن تتوسل بشيء وتعتقد من جملة ما يتوسل به ، إلا وعليه دليل من الكتاب ، أو صحيح السنة، وما لا دليل عليه فاحذره، فليس باب التوسل مفتوحاً للشهوات ، وآراء الرجال والهوى، والأحاديث الضعيفة أو الموضوعة ، أو الأذواق ، بل هو باب توقيفي على الدليل فما ورد الدليل بجواز التوسل به فيجوز التوسل به، وما لم يرد على جوازه دليل فقف منه موقف المنع؛ لأن الأصل في باب التوسل التوقيف على الدليل الشرعي الصحيح . والله أعلم.
http://m7ml.com/uploads6/3ddfaefb18.gif
س2 ما المراد بلفظ ( الوسيلة والتوسل ) في الكتاب والسنة وكلام الصحابة؟ مع بيان ذلك بالأدلة ؟
ج :
اعلم أن الوسيلة تختلف باختلاف الإطلاق:
فالوسيلة في كتاب الله - تعالى- يراد بها التقرب إليه بفعل أوامره ، واجتناب نواهيه، وطاعة رسله وهي الوسيلة العامة التي يطالب بها كل أحد وذلك كما في قوله - تعالى- ﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون﴾ [ المائدة:35] فابتغاء الوسيلة إليه يراد بها التقرب له بالعمل بما يرضيه وبالمناسبة فإنه لم يرد لفظ الوسيلة في القرآن إلا في هذا الموضع فقط. وأما الوسيلة في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم- فيراد بها المنزلة التي في الجنة التي لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم- ( ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له الشفاعة ) رواه مسلم.وفي حديث جابر مرفوعا ( من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته حلت له شفاعتي ) حديث صحيح .
وأما الوسيلة في كلام الصحابة فإنما يراد بها طلب الدعاء فقط، فإذا وجدت في كلامهم أنهم كانوا يتوسلون بكذا وكذا ،فاعلم أن المراد بذلك أنهم يطلبون منه أن يدعو لهم، وذلك كما في حديث أنس:( أنهم كانوا إذا قحطوا يقول عمر -رضي الله عنه- اللهم إنا كنا نتوسل بنبيك - صلى الله عليه وسلم- فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قم يا عباس، فيقوم فيدعو فيسقون ) فقوله ( كنا نتوسل بنبيك ) أي: كنا نطلب الدعاء منه. وقوله ( وإنا نتوسل بعم نبيك ) أي ونحن الآن نطلب منه أن يدعو لنا ، فهذه الإطلاقات الثلاث للفظ الوسيلة يجب التفريق بينها، فإن من فرق بينها فقد أحكم بذلك شيئاً كثيراً من مسائل هذا الباب الشائك الذي ضلت فيه أقوام وزلت فيه أقدام . والله أعلم.
http://m7ml.com/uploads6/3ddfaefb18.gif
س3 ما الوسائل التي ثبت الدليل بجواز التوسل بها ؟ مع تأييد ذلك بالأدلة .
ج : لقد أثبت الدليل الشرعي الصحيح الصريح جواز التوسل بعدة أشياء:
الأول: التوسل إلى الله - تعالى- بأسمائه الحسنى . قال الله - تعالى- ﴿ ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها﴾ [ الأعراف:180]
الثاني: التوسل بالصفات، وله أدلة كثيرة وذلك كما في حديث الاستخارة ( االلهم إني أستخيرك بعلمك الغيب وأستقدرك بقدرتك ...... الحديث ) ومنه دعاء سليمان - عليه السلام- ( وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ) ومنه حديث بريدة - رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- سمع رجلاً يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فقال ( لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى ، وإذا دعي به أجاب ) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه بإسناد صحيح، وغير ذلك من الأدلة.
الثالث: التوسل إلى الله - تعالى- بذكر الحال ، ومنه قوله - تعالى- عن نوح عليه السلام " رب إن قومي كذبون فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين" وقوله - تعالى- عنه أيضا" رب إني مغلوب فانتصر ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر" وقوله - تعالى- عن موسى "رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير" ومنه الحديث المشهور في السير أنه - صلى الله عليه وسلم- قال لما طرده أهل الطائف: ( اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس ..... الحديث ).
الرابع : التوسل إلى الله - تعالى- بدعاء الحي الحاضر القادر، ودليله حديث أنس في الصحيح أن رجلاً دخل المسجد من نحو دار القضاء ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم- قائم يخطب فقال: يا رسول الله هلكت الأموال ، وجاع العيال ، وانقطعت السبل ، فادع الله يغيثنا، فرفع النبي - صلى الله عليه وسلم- يديه وقال: ( اللهم أغثنا ) ثلاثاً قال أنس: فلا ، والله ما في السماء من سحاب ولا قزعة حتى خرجت من وراء سلع سحابة سوداء ثم توسطت السماء فأمطرت ، فلا ، والله ما رأينا الشمس أسبوعاً كاملاً ..... الحديث</B> ) ومنه حديث أنس في طلب عمر - رضي الله عنه- من العباس أن يدعو للمسلمين، وهذا دعاء أقره عليه جميع الصحابة، ولم ينكره أحد مع شهرته، وهو من أظهر الإجماعات الإقرارية، وكذا فعل معاوية - رضي الله عنه- لما أصابهم القحط في الشام ، فإنه أمر يزيد بن الأسود أن يتقدم الناس ويدعو ، ومنه أيضا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم- من لقي أويساً القرني أن يطلب منه أن يدعو له ، ومنه أيضا حديث الأعمى الذي جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- وطلب منه أن يدعو له ، أن يرد الله - تعالى- عليه بصره ، ومنه أيضاً طلب أم سليم منه -صلى الله تعالى عليه وسلم- أن يدعو لأنس . والأدلة على ذلك كثيرة شهيرة.
الخامس: التوسل إلى الله - تعالى- بالأعمال الصالحة ، ودليله حديث ابن عمر في توسل الثلاثة من بني إسرائيل الذين انطبقت عليهم الصخرة، وسدت عليهم باب الغار فقال بعضهم لبعض: ( إن الله - تعالى- لن ينجيكم من أمر هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله - تعالى- بصالح أعمالكم ) فتوسل الأول ببره بوالديه ، وتوسل الثاني بعفته وخوفه من الله - تعالى ، وتوسل الثالث بأمانته وحفظ عهده وفي آخره ( فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون ) متفق عليه.
السادس: التوسل إلى الله - تعالى- بالإيمان به وبرسوله - صلى الله عليه وسلم- كما قال - تعالى- ﴿ ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فأغفر لنا ذنوبنا وكفرعنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار .....الآيات﴾ [ آل عمران:193] ،
وقوله - تعالى- ﴿ الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار﴾ [ آل عمران:16] وهذا السادس يدخل في الأمر الخامس؛ لأنه من جملة الأعمال الصالحة ، فالأعمال الصالحة من أعظم ما يتوسل به العبد ، فهذه الوسائل الست هى التي دل الدليل الشرعي الصحيح الصريح على جواز التوسل بها . والله أعلم .
http://m7ml.com/uploads6/3ddfaefb18.gif
س4 ما أقسام التوسل بالأسماء والصفات ؟ مع بيان ما تقول بالمثال .
ج: التوسل بالأسماء والصفات قسمان :
توسل عام ، وتوسل خاص . والمراد بالتوسل العام أي: أن تقول: اللهم أني أسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى ، هكذا على وجه العموم ، فهذا جائز كما مضى بلا شرط . والمراد بالتوسل الخاص: أن تتوسل باسم معين أو صفة معينة، فيشترط حينئذٍ مناسبة الاسم والصفة للسؤال ، فإذا سألت الرزق فتوسل باسم الله الرزاق والكريم والجواد و المعطي ونحوها ، وإذا سألت المغفرة والرحمة فتوسل باسمه الرحمن الرحيم الغفور الودود التواب الرءوف ونحوها ، وإذا سألت هلاك ظالم فتوسل باسمه الجبار والقوي والمهيمن والعزيز والقدير ونحوهما، وكذلك يقال في الصفات، فلا بد أن يكون الاسم أو الصفة المتوسل بها مناسبة لسؤالك الذي تريد أن يحققه الله لك . والله أعلم .
http://m7ml.com/uploads6/3ddfaefb18.gif
س5 ما حكم التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم- ؟ مفصلاً الجواب مع ضرب المثال .
ج: أقول: التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم- أنواع:
الأول : التوسل به بمعنى طاعته فيما أمر ، واجتناب ما نهى عنه وزجر ، وتصديقه فيما أخبر ، وألا يعبد الله إلا بما شرع ، فهذا حقيقة دين الإسلام ، وزبدة رسالة الشريعة التي بعث بها - صلى الله عليه وسلم- .
الثاني : التوسل به بمعنى طلب الدعاء منه فهذا جائز في حياته فقط ، وأما بعد وفاته فلا يجوز، وقد قدمنا الأدلة على جوازه في حياته ، وأما الدليل على عدم الجواز بعد وفاته فلأنه لا يملك حينئذ لنفسه نفعاً ولا ضراً وفاقد الشيء لا يعطيه،؛ ولأن الصحابة كانوا إذا قحطوا استسقوا بالعباس مع أنه - صلى الله عليه وسلم- كان مدفوناً بجوارهم في حجرة عائشة ، فعدم إتيانهم لقبره ، وسؤاله إجماعٌ منهم على عدم الجواز ، ولأنه - صلى الله عليه وسلم- قال: ( اشتد غضب الله - تعالى- على قومٍ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) وقال ( اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد ) وقصده للدعاء عنده من اتخاذه عيداً ووثناً ومسجداً ، فهو باب مفضٍ إلى ذلك فلابد من سده ، فحيث لم يفعله أحد من الصحابة والتابعين وتابعيهم وأئمة السلف ، فلا يجوز فعله إذ لو كان ذلك مما يجوز لنبهوا عليه، وفي المختارة أن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رأى رجلاً يجيء إلى فرجةٍ كانت عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم- فيدعو فنهاه وقال: ألا أحدثك حديثاً سمعته عن أبي عن جدي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: ( لا تتخذوا قبري عيداً ، وصلوا عليَّ حيث كنتم فإن صلاتكم تبلغني ) فطلبُ الدعاء منه بعد مماته من الشرك الأكبر المخرج من الملة ، فإنه لا يدعى إلى الله - تعالى ، وأما دعاء الأموات أياً كانوا فإنه من الشرك الأكبر- نعوذ بالله منه .
الثالث التوسل إلى الله بجاهه ، وهذا لا يجوز؛ لأنه لا جاه له عند الله- نعوذ بالله من قول ذلك- بل هو أعظم الخلق عند الله جاهاً وأعلاهم منزلة ، لكن قد قدمت لك أن الأصل في التوسل التوقيف على الدليل ، ولم يأت الدليل الشرعي الصحيح في جواز التوسل بذلك ، بل ولا يعرف عن أحد من الصحابة في ذلك حرفاً واحداً ، وكل ما يروى في التوسل بجاهه فكذب مختلق موضوع -لعن الله واضعه وعامله بما توعد به الكاذبين على نبيه - صلى الله عليه وسلم- فبان بذلك أن التوسل به ثلاثة أنواع: نوع جائز وهو الأول ، بل هو حقيقة الدين ، لكن قلت: جائز بالنسبة للنوعين قبله فقط ، وإلا فهو أوجب الواجبات وأعظم المطلوبات المتحتمات . ونوعان ممنوعان . والله أعلم .
http://m7ml.com/uploads6/3ddfaefb18.gif
س6 هل الأفضل طلب الدعاء من الغير أم الأفضل تركه ؟
ج: هذا يختلف باختلاف ما يقوم بقلب الطالب ، فإن قام بقلبه حب نفع نفسه وأخيه بدعاء الملك له ، فإنه ما دعا أحد لأخيه بظهر الغيب إلا أجابه ملك ، وقال ( آمين ولك بالمثل ) فأنا قام في قلبي حب نفع أخي بدعاء الملائكة له فأمرته أن يدعو لي حباً لانتفاعه هو بدعاء الملك له مع انتفاعي أنا أيضاً بدعائه فهذا جائز لا بأس به وعليه يحمل قوله - صلى الله عليه وسلم- لعمر ( لا تنسنا يا أخي من صالح دعائك ) وأما إذا لم يقم في قلب الطالب إلا انتفاعه هو فقط بهذا الدعاء فهذا جائز أيضاً ، لكن تركه أفضل ، فإنه - صلى الله عليه وسلم- قد أخذ العهد على بعض أصحابه ألا يسألوا الناس شيئاً ، فكان سوط أحدهم يسقط فينزل ويأخذه ولا يقول لمن تحته ناولنيه ولأن منزلتك في قلب غيرك تخف بقدر سؤالك له ، ولأن قلبك و لا بد أن تتعلق شعبة منه بالمطلوب الدعاء منه والمستحب للعبد في كل أحواله أن يتعلق قلبه بالله التعلق الكامل ، ولأن الداعي لك قد لا يقوم في قلبه الإلحاح وشدة الافتقار وصدق اللجأ لله - تعالى- كما يقوم بقلبك أنت؛ لأنك صاحب الحاجة ، وليس النائحة الثكلى كالمستأجرة، فدعاؤك لنفسك في هذه الحالة أكمل؛ لأنه أتم في تحقيق مراتب العبودية في الدعاء من كمال الافتقار ، وغاية الذل ، وصدق اللجأ لله - تعالى . ويكره للإنسان أن يترك هذه الأحوال القلبية الكاملة اتكالاً على دعاء غيره له، ولأن سؤال غيرك أن يدعو لك فيه نوع ذلة ومسكنة له ، وقد يكون فيه إيذاء لذلك المسئول . والله أعلم .
http://m7ml.com/uploads6/3ddfaefb18.gif
س7 ما حكم شد الرحيل إلى قبور الأنبياء والأولياء للتبرك بها والدعاء عندها مع الدليل؟
ج: هذا الأمر من أشد المنكرات ، وأعظم المحرمات ، وأكبر الوسائل لتعظيمها ، واتخاذها أوثاناً تعبد من دون الله - تعالى- ومن اتخاذها عيداً ففي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ، والمسجد الأقصى ، ومسجدي هذا ) وفي الصحيح أيضا أنه قال: ( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) يحذر ما صنعوا قالت عائشة رضي الله - تعالى- عنها: ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً وفي الصحيح أيضاً عنه أنه قال: ( ألا إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك ) فالزيارة على هذه الوجوه كلها مبتدعة لم يشرعها النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم- ولا فعلها الصحابة لا عند قبره - صلى الله عليه وسلم- ولا عند غيره ، وهي من جنس الشرك وأسبابه ، ولا يفهم أحمق أرعن جاهل غبي أخرق أن كلامنا هذا فيه إنقاص من قدر الأنبياء والأولياء فإن هذا لا يفهمه إلا من عشعش الشيطان في قلبه وبيض وفرخ وعمَّره بسوء الظن؛ لأن تعظيم الأنبياء إنما يكون بالإيمان بهم ، وطاعتهم ، وموالاتهم ، ونصرتهم ، وتعزيرهم ، وتوقيرهم بما هو مشروع ، فالتعبد مبناه على الدليل والاتباع ، لا على الهوى والابتداع فليس كل أحد يعمل في دينه ما يشتهي ، بل مصداق المحبة الصادقة اتباع المحبوب فيما يأمر به فيمتثل ، وفيما ينهى عنه فيجتنب ، وفيما يخبر به فيصدق ، وما شرع لنا على لسان نبينا - صلى الله عليه وسلم- النهي عن شد الرحال لغير هذه المساجد الثلاثة ـ أعني : إذا كان القصد التعبد ـ كما نهى عن الدعاء عند القبور ، ورفع ترابها ، والبناء عليها ، والكتابة عليها ، وتجصيصها ، وزخرفتها ، وإسراجها ، والذبح عندها ، والنذر لها ، وبناء المساجد عليها ، والصلاة عندها . كل ذلك مما شرع لأمته ، فواجب على الأمة اتباعه فيه ، وأن يكون هوانا تبعاً لما جاء به - صلى الله عليه وسلم- وأن لا تأذي الأموات بفعل هذا الشرك عندهم و جريمة نكراء ، في حق التوحيد لما فيه من فتح باب الشرك على مصراعيه . وهل - بالله عليك- دخل الشرك ، وفساد الأحوال ، والاعتقاد إلا بسبب الغلو في الأولياء والصالحين وقبورهم ، والعكوف عندها - فاللهم أصلح أحوال المسلمين ، واكفنا شرور أنفسنا ،و نزغات الشيطان الرجيم- والله أعلم .
http://m7ml.com/uploads6/3ddfaefb18.gif
س8 كيف توجه قول الأعمى ( اللهم إني أتوجه لك بنبيك - صلى الله عليه وسلم- ) فإن بعض المبتدعة يستدل به على جواز التوسل بجاه النبي و- صلى الله عليه وسلم- وبدعائه بعد مماته ؟
ج :
أقول : لا إشكال في هذا الحديث أبدًا لكن يجب أن تفهم:
أولاً: أنه لا يمكن أبدًا أن تتعارض النصوص الشرعية التي ثبتت صحتها ، ولا يمكن أن يكون فيها ما يدعو إلى ما نهي عنه أبداً ، فيجب عليك أن تعتقد ذلك ، وما ورد عليك مما تتوهم فيه مخالفة أو معارضة فعليك بالاستعانة بالله - تعالى- في كشفه ، ثم بسؤال أهل العلم الراسخين في بيانه . وهذا الحديث قد وردت فيه روايات يبين بعضها بعضًا ، ويفسر بعضها بعضًا ففي جامع الترمذي أن هذا الأعمى قال: ( اللهم إني أسالك ، وأتوسل إليك بنبيك محمد - صلى الله عليه وسلم- في الرحمة لي اللهم شفعه في ) وقد تقدم لك أن التوسل في عرف الصحابة يراد به طلب الدعاء من الغير ، ولذلك ففي رواية في جامع الترمذي ، وسنن ابن ماجه أن هذا الأعمى قال للنبي - صلى الله عليه وسلم- ( ادع الله أن يعافيني فقال: له إن شئت دعوت ، وإن شئت صبرت. قال: فادعه ) فهذا يبين أن هذا التوجه المذكور في حديث السؤال إنما يراد به طلب الدعاء منه ، لا أنه توسل بذاته أو بجاهه كما قد فهمه بعض الغالطين ، ويوضح ذلك لفظ النسائي فإن الأعمى قال للنبي - صلى الله عليه وسلم- ( ادع الله أن يكشف لي عن بصري ....... الحديث. ) وفي المسند ( أن ذلك الأعمى قال: ادع الله أن يعافيني ) فهذا الحديث كحديث عمر السابق ( اللهم إنا كنا نتوسل بنبيك ....... الحديث ) فهذان الحديثان شيء واحد ، فالتوجه المذكور والتوسل الوارد مما يراد به طلب الدعاء من النبي - صلى الله عليه وسلم- وسؤال الشفاعة منه ، وهو حي ، وهذا أمر لا تنازع فيه ، بل قد ذكرنا أن حديث الأعمى من جملة الأدلة على جوازه ، ويوضح ذلك أن الصحابة -رضي الله عنهم- بعد موته إنما كانوا يتوسلون بغيره بدلاً عنه ، فلو كان التوسل به حياً وميتاً سواءً لما عدلوا عن التوسل به بعد موته إلى التوسل بعمه العباس - رضي الله عنه- وهذا واضح إن شاء الله - تعالى- والله أعلم .
http://m7ml.com/uploads6/3ddfaefb18.gif
س9 هل ثبت في زيارة قبره - صلى الله عليه وسلم- على وجه الخصوص شيء من السنة ؟
ج : لا ، لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم- حديث واحد في زيارة قبره ولا قبر غيره على وجه الخصوص ، وما يروى في ذلك فإنما هو موضوع أو شديد الضعف باتفاق أهل المعرفة بالحديث ، كقولهم: ( من زارني وزار قبر أبي الخليل في عام واحد ضمنت له الجنة ) قال أبو العباس عنه: كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أهـ .
وقال النووي : باطل ليس هو مروياً عن النبي - صلى الله عليه وسلم- ولا يعرف في كتابٍ صحيح ولا ضعيف بل وضعه بعض الفجرة أهـ
ومن ذلك قولهم: ( من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي ) ولا يصح من أساسه ، بل هو شديد الضعف بمرة ويقرب أن يكون موضوعاً ، ومن ذلك قولهم( من حج فلم يزرني فقد جفاني ) وهذا الحديث لا أصل له ، بل هو من المكذوبات والموضوعات كما قاله ابن عبدالهادي في الصارم المنكي .
بل قال شيخ الإسلام عن هذه الأحاديث : كلها مكذوبة موضوعة . وقد تقرر في الأصول والقواعد أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة ، وحيث لم يصح في ذلك شيء فالأصل هو الاستدلال على استحباب الزيارة بالأحاديث العامة الواردة في الباب لكن من غير شد رحلٍ لا لقبره ولا لقبر غيره. والله أعلم .
http://m7ml.com/uploads6/3ddfaefb18.gif