الشهاب الثاقب
18.01.2015, 21:21
بسم الله الرحمن الرحيم
و به نستعين
الزعم أنه - صلى الله عليه وسلم - اختلق أسبابا واهية لحرب اليهود وطردهم من المدينة(*)
مضمون الشبهة:
يزعم بعض الطاعنين أنه - صلى الله عليه وسلم - اختلق أسبابا واهية لحرب اليهود، وطردهم ظلما من المدينة؛ ويستدلون على ذلك: بأنه في غضون سنوات قليلة أخرج كل الجماعات اليهودية من المدينة، واستولى على أرضهم، كما أنه - صلى الله عليه وسلم - خير يهود بني قريظة بين الدخول في الإسلام أو القتل، ويتساءلون: أليس في هذا ظلم منه - صلى الله عليه وسلم - واضطهاد لهم دونما سبب سياسي بين؟!! رامين من وراء ذلك إلى الطعن في دوافع جهاده - صلى الله عليه وسلم - اليهود خاصة، والتشكيك في سياسته عامة.
وجوه إبطال الشبهة:
لقد اتخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - مع اليهود أسلوب الداعية الحريص على أن تصل دعوته إلى كافة الناس، ولما هاجر - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة عاهدهم العهد - المشهور - الذي تداولته كتب السير والتاريخ.
لم يلتزم اليهود بعهدهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذوا يكيدون للإسلام، ولحامل لوائه صلى الله عليه وسلم، ويدبرون المؤامرات لقتله صلى الله عليه وسلم، ويدسون أعمالهم الخبيثة؛ كي يقضوا على الإسلام ودولته.
أجلى النبي - صلى الله عليه وسلم - اليهود من المدينة وطردهم عن بكرة أبيهم، ولم يصدر - صلى الله عليه وسلم - صنيعه هذا عن ظلم وعدوان، بل كان انطلاقا من قاعدة: "الجزاء من جنس العمل".
التفصيل:
أولا. عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - مع اليهود في بداية العهد المدني:
لقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن اليهود أهل كتاب، وأن كتابهم غير المحرف فيه صفات النبي - صلى الله عليه وسلم - يعرفونه بها، لا تخطئهم فيه صفة من هذه الصفات، ولقد وصلوا بمعرفتهم تلك إلى حد اليقين في قلوبهم، كما أخبر الله عنهم أنهم )يعرفونه كما يعرفون أبناءهم( (الأنعام: ٢٠).
نقول: لقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن اليهود أهل كتاب، ولهم بالأنبياء صلة، وصفته في التوراة عندهم، وهم يعرفون نبوته، وقد بشروا بها قبل مجيئه؛ ومعرفة النبي - صلى الله عليه وسلم - باليهود على هذا النحو كانت عاملا مساعدا له - صلى الله عليه وسلم - كي يعرض عليهم أول ما يعرض أن يدخلوا معه في دينه.
والعقل يحتمل أن اليهود لن يرفضوا هذا العرض، لمعرفتهم بالنبي من جهة؛ ولأنهم مأمورون باتباعه في كتبهم المقدسة، وموروثات نبيهم موسى - عليه السلام - من جهة أخرى؛ ولأنهم كانوا ينتظرون مجيئه على شوق حتى يتبعوه، فينجبر به كسرهم، ويكتسبوا به عزتهم وشرفهم، وينتصروا به على عدوهم، كما يتصورون.
غير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين عرض عليهم أن يؤمنوا به وبنبوته، ثم يتبعوه على ما جاء به من ربه، رفضوا ذلك على غير قناعة، رفضوه على أساس الحسد - من عند أنفسهم - الذي قد ملأ قلوبهم.
لقد رفض اليهود عرض النبي صلى الله عليه وسلم، وأثر ذلك في نفس النبي، وكان - صلى الله عليه وسلم - كعادته يحزن على كل إنسان ينصرف عن الحق، ويعرض عن الإيمان. غير أن الله قد شرح للنبي - صلى الله عليه وسلم - طبيعة اليهود، وواساه حتى لا يحزن ولا يشتد على نفسه، وبين له أن اليهود لن ترضى عنه إلا أن يتبع ملتهم، وهو أمر غير وارد، وقد استبعد النبي - صلى الله عليه وسلم - مسألة إيمان اليهود تلك، ولكنه لم يستبعد أن يؤمن بعضهم، ورأى أن إيمان بعضهم ربما يكون سببا في إيمان آخرين ينجيهم الله من النار، ويذهب بهم الإيمان بعيدا عن الجحيم. واحتمالات النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك لم تضع هباء؛ حيث شرح الله صدور بعض اليهود فدخلوا معه في دينه[1].
وهكذا نجد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد اتخذ أسلوب الداعية الحريص على إيصال دعوته إلى الناس كافة. ولما هاجر - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة نظم العلاقة بين المهاجرين والأنصار وآخى بينهم، ونظم العلاقة بينهم وبين اليهود، ليعيش كل في أمان دون أن يتعرض بعضهم لبعض، وقد نصت على ذلك المعاهدة التي يحسن بنا أن نذكر منها - حسب ما يقتضي المقام - ما يخص اليهود فيما يأتي:
"وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس، وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم، وإن سلم المؤمنين واحدة؛ لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم.
وإنه من اعتبط مؤمنا[2] قتلا عن بينة فإنه قود به[3] إلا أن يرضى ولي المقتول، وإن المؤمنين عليه كافة، وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثا ولا يئويه، وإنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل، وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله - عز وجل - وإلى محمد صلى الله عليه وسلم.
وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ[4] إلا نفسه وأهل بيته. وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف - وكرر ذلك ليهود بني الحارث وبني ساعدة.. - إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.
وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم، وإن لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف، وإن البر دون الإثم (البر والوفاء ينبغي أن يكون حاجزا عن الإثم) وإن موالي ثعلبة كأنفسهم، وإن بطانة يهود كأنفسهم.
وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد صلى الله عليه وسلم، وإنه لا ينحجز على ثأر جرح، وإنه من فتك فبنفسه فتك وأهل بيته... وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة.. وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم. وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها، وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله - عز وجل - وإلى محمد صلى الله عليه وسلم... وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها، وإن بينهم النصر على من دهم يثرب، وإذا دعوا إلى الصلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين، وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وإنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم وأثم، وإن الله جار لمن بر واتقى ومحمد صلى الله عليه وسلم " [5].
ونحن إذا ما تجاوزنا مدلول العهد الأول - الذي كان بين المهاجرين وأهل المدينة - لنتأمل طبيعة ما انضوى عليه العهد الثاني - الذي كان بين المسلمين واليهود - من بنود؛ وجدناها تتلخص فيما يأتي:
يساعد اليهود المسلمين بالنفقة عند الحرب.
لليهود دينهم وللمسلمين دينهم (حرية الأديان).
البراءة ممن ظلم وأثم، فإنه يهلك نفسه ولا تحميه المعاهدة.. وإن البر والوفاء يمنع وقوع الظلم والإثم.
المسلمون واليهود بينهم النصر على من حارب أهل الصحيفة ومن هاجم المدينة.
المسلمون واليهود بينهم النصيحة والتناصح.
لا يأثم امرؤ بذنب حليفه. (ولهذا لم يؤاخذ الخزرج على غدر حلفائهم من اليهود).
الجار كالنفس يدافع عنه.
المرجع عند الاختلاف إلى الله ورسوله.
لا تجار[6] قريش ومن نصرها.
من خرج من المدينة آمن، ومن قعد آمن إلا من ظلم. (حرية التنقل).
غير أنه ثمة تقاربا بين العهدين - عهد المهاجرين والأنصار، وعهد المسلمين واليهود - من حيث الوقوف صفا واحدا ضد الظلم، والغدر والاعتداء على المدينة، ومن حيث تقرير "المرجع" عند الاختلاف.
إن العهد بين المؤمنين يقرر التلاحم والتضامن الكامل بين المؤمنين. أما العهد مع اليهود فيقرر تعايشا سلميا عادلا فيه التعاون على حماية المدينة التي هي وطن الطرفين، وفيه احترام لحرية الإنسان في الدين وفي السفر، والإقامة، وفيه ضمان السلامة لكل من التزم بالعهد، فمن ظلم فلا ذمة له. هذان العهدان كأنهما يمثلان ميثاقا سياسيا، وقانونا يضعه النبي - صلى الله عليه وسلم - واضحا أمام جميع الأطراف، ويأخذ منهم الموافقة على الالتزام به، وكأنه تصويت على الدستور. وبعد موافقة جميع الأطراف أصبح النبي - صلى الله عليه وسلم - مخولا لحكم المدينة، بموافقة جميع الأطراف الساكنة فيها.
وإن كان اليهود أحرارا في إدارة شئونهم، لكنهم سلموا السياسة العامة للمدينة إلى النبي. وفي ذلك تجلت حنكة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبراعته، ومرونته في السياسة مع الإنصاف الذي لا يستطيع أن يرفضه أحد. إن هذه المعاهدة تجهض كل محاولة للكيد من جانب اليهود. ولقد كانت حجة عليهم فيما بعد عندما غدروا وكادوا، وكانت محاربة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهم عندها مبررة قانونيا وأخلاقيا[7].
"إن هذه الوثيقة الطاهرة المطهرة، لو سارت الإنسانية مسيرتها على هديها، لصعدت إلى درجة الكمال، وحازت كل عناصر الجمال، ولعاش الناس - كل الناس - على الأرض سعداء حائزين لصلاحيتهم للنهوض بخلافة الله في الأرض. إن سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا الإعلان الدستوري الذي يسمو إلى درجة يكون بها أصدق وثيقة دولية تفرض نفسها بنفسها أسسا، وقواعد للقانون الدولي - سواء منه الخاص أو العام - فلا يشكو فيها المواطن ظلما، ولا يشكو شعب من شعوب العالم غبنا أو قهرا يقع عليه من ظالم أو غاشم" [8].
ثانيا. نقض اليهود للعهد النبوي، وعداءاتهم المستمرة للإسلام:
كان اليهود في مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم، وهم طوائف وشيع؛ بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة، واليهود - كما هم في كل أرض - غرباء على وجه الضيافة، ولا يربطهم بأصحاب الوطن الأصليين رابطة - من دين، أو تاريخ، أو لغة، أو هدف، واليهود فوق ذلك حين يحتلون الأوطان إنما يحتلونها على وجه الاغتصاب، وأفعالهم فيها تدل على مقاصدهم؛ فهم يبنون فيها المستعمرات، ويقيمون فيها الحصون، ويحيطون أنفسهم بالأسلحة الظاهرة والباطنة، ويحقرون من جيرانهم، ويستعلون عليهم على وجه الاستفزاز الذي تأنف منه الطباع.
وفي طباع اليهود الخاصة أنهم لا يقبلون سلما مع جيرانهم إلا أن يكون ستارا يستخفون خلفه بخياناتهم؛ لأنهم يريدون من جيرانهم أن يكونوا أعداء يضرب بعضهم رقاب بعض؛ كي يحتاجوا إلى الأسلحة فيشترونها من اليهود، وكي يقتل بعضهم بعضا، فتندر قوة الشباب فيهم، فلا ينتجون ما يحتاجون إليه من سلع، ويلجأون إلى اليهود ويشترونها منهم، فينشط اقتصادهم على أساس من دماء الآخرين وضعفهم.
وخليقة أخرى لا تكاد تفارق اليهود، وهي شعورهم الذي لا ينقطع بالضعف والذلة والمهانة، فيخشون من أجل ذلك دائما من يوم يأتي تحرر فيه الأرض، وتعود إلى أصحابها، ويعودون لما حكم الله به عليهم يتيهون في الأرض كلها، يبحثون لأنفسهم عن مأوى يأوون إليه، اغتصابا بقهر الضعفاء، أو بالحيلة والمكر والخداع[9].
ولقد قامت الحجج القاطعة والبراهين الساطعة على صدق رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولكن ذلك لم يزدهم إلا عنادا وعداوة واستكبارا، وحقدا وحسدا على الرسول، والذين آمنوا معه؛ فعن صفية بنت حيي بن أخطب أنها قالت: كنت أحب ولد أبي إليه، وإلى عمي أبي ياسر، لم ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه، قالت: فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ونزل قباء في بني عمرو بن عوف، غدا عليه أبي وعمي مغلسين[10]، قالت: فلم يرجعا حتى كان مع غروب الشمس، فأتيا كالين متعبين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى، فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله، ما التفت إلي واحد منهما، مع ما بهما من الغم، وسمعت عمي وهو يقول لأبي: أهو هو؟ قال: نعم والله، قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم، قال: فما في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت[11].
وقد شن اليهود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والذين آمنوا معه حملات إعلامية لتشويه صورته - صلى الله عليه وسلم - وتنفير الناس منه، ونزع الثقة بينه وبين الناس؛ فلقد شعر اليهود بخطورة هذا الدين على مصالحهم، وعلى عقيدتهم المنحرفة المزيفة، القائمة على الاستعلاء واحتقار الناس عدا الجنس اليهودي، لقد جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ينادي بعقيدة التوحيد، وهم يقولون: عزير ابن الله، وجاء ينادي بالمساواة بين أفراد الجنس البشري، وأنه لا يعلو شعب على شعب، ولا جماعة على جماعة، وهم يرون أنهم شعب الله المختار، يترفعون عن بقية الأجناس، وينظرون إليهم على أنهم دونهم وأقل منهم، ولذلك لم يلتزموا ببنود الوثيقة وشرعوا في التشكيك في نبوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ورسالته، وأكثروا من الأسئلة لإحراج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخدعوا المؤمنين ودلسوا عليهم، وغير ذلك من الأعمال الخبيثة[12].
ويحسن بنا أن نعرض - في هذا المقام - جانبا من أعمالهم الخبيثة حسبما ذكرها د. الصلابي فيما يأتي:
محاولة اليهود تصديع الجبهة الداخلية:
من وسائل اليهود الخبيثة في حرب الإسلام محاولاتهم المستمرة تمزيق الصف المسلم وتخريبه، بتقطيع أواصر المحبة بين المسلمين، وذلك بإثارة الفتن الداخلية، والشعارات الجاهلية، والنعرات الإقليمية، والدعوات القومية والقبلية، والسعي بالدسيسة والوقيعة بين الإخوة المتآلفين المتوادين المتحابين، فهم في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر.
فقد تفتق ذهن أحد شيوخهم الكبار في السن عن حيلة هدف بها إلى تفريق وحدة الأنصار، وذلك بإثارة العصبية القبلية بينهم ليعودوا إلى جاهليتهم، فتعود الحروب بينهم كما كانت، ويخسر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك أقوى أنصاره، وفي بيان هذا الأمر يقول محمد بن إسحاق: ومر شاس بن قيس - وكان شيخا كبير السن، عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم - على نفر من أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الأوس والخزرج، في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم، وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم في الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر فتى شابا من اليهود كان معهم، فقال: اعمد إليهم فاجلس معهم، ثم اذكر يوم بعاث وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا من الأشعار.
وكان بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظفر فيه يومئذ للأوس على الخزرج، وكان على الأوس يومئذ حضير بن سماك الأشهلي، وأبو أسيد بن حضير، وعلى الخزرج عمرو بن النعمان البياضي، فقتلوا جميعا.
قال ابن إسحاق: ففعل، فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب، أوس بن قيظي - أحد بني حارثة بن الحارث، من الأوس، وجبار بن صخر - أحد بني سلمة من الخزرج - فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم رددناها الآن جذعة، فغضب الفريقان جميعا وقالوا: قد فعلنا، موعدكم الظاهرة - والظاهرة: الحرة - السلاح السلاح، فخرجوا إليها.
فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم، فقال: "يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر وألف به بين قلوبكم"؟
فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سامعين مطيعين، قد كف الله عنهم كيد عدو الله شاس بن قيس، فأنزل الله - سبحانه وتعالى - في شاس بن قيس وما صنع: )قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون (98) قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون (99)( (آل عمران) [13].
هذا مثال لما كان يصنعه اليهود من محاولات للإيقاع بين الأنصار بعضهم البعض، أو بين المهاجرين والأنصار، وذلك لإضعاف الجبهة الداخلية للإسلام.
التهجم على الذات الإلهية:
ذكر غير واحد من كتاب السير والمفسرين أن أبا بكر قد دخل بيت المدراس - وهو مكان تتلى فيه التوراة - على يهود، فوجد منهم ناسا كثيرين قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له: "فنحاص"، وكان من علمائهم وأحبارهم، ومعهم حبر من أحبارهم، يقال له: "أشيع"، فقال أبو بكر لفنحاص: ويحك اتق الله وأسلم فوالله إنك تعلم أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لرسول الله قد جاءكم بالحق من عنده، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل، فقال فنحاص لأبي بكر: والله يا أبا بكر، ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير، وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء، وما هو عنا بغني، ولو كان عنا غنيا ما استقرضنا أموالنا، كما يزعم صاحبكم؛ ينهاكم عن الربا ويعطيناه، ولو كان عنا غنيا ما أعطانا الربا، فغضب أبو بكر، فضرب وجه فنحاص ضربا شديدا، وقال: والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينكم لضربت رأسك أي عدو الله.
فذهب فنحاص إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد، انظر ما صنع بي صاحبك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: "ما حملك على ما صنعت"؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله، إن عدو الله قال قولا عظيما، إنه يزعم أن الله فقير، وأنهم أغنياء، فلما قال ذلك غضبت لله مما قال، وضربت وجهه، فجحد ذلك فنحاص، وقال: ما قلت ذلك، فأنزل الله - عز وجل - فيما قال فنحاص ردا عليه، وتصديقا لأبي بكر: )لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق (181)( (آل عمران) [14].
سوء أدبهم مع رسول الله والنيل من الرسل الكرام والقرآن الكريم:
وكان اليهود يسيئون الأدب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حضرته وأثناء خطابه، إذ يلمزونه، ويحيونه بتحية فيها من الأذى والتهجم ما يدل على سوء أخلاقهم، فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - أناس من اليهود فقالوا: السام[15] عليك يا أبا القاسم، قال: "وعليكم". قالت عائشة قلت: بل وعليكم السام والذام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة، لا تكوني فاحشة". فقالت: ما سمعت ما قالوا؟ فقال: "أوليس قد رددت عليهم الذي قالوا؟ قلت: وعليكم».[16] وفي رواية بلفظ: «ففطنت بهم عائشة فسبتهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مه يا عائشة، فإن الله لا يحب الفحش والتفحش". وزاد: فأنزل الله عز وجل: )وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير (8)( (المجادلة)» [17].
وهذه الآية تظهر الحقد الذي هيمن على نفوس اليهود ودفعهم إلى استخدام كل الوسائل والطرق لهدم الإسلام والتخلص من صاحب الرسالة، والسيطرة على المسلمين.
وأما نيلهم من المرسلين فقد أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفر من يهود فيهم أبو ياسر بن أخطب، ورافع بن أبي رافع، وعازر بن أبي عازر.. وغيرهم، وسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمن يؤمن به من الرسل، فقال صلى الله عليه وسلم: "أومن بالله، وما أنزل إلينا، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى، وما أوتي النبيون من ربهم، لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون"، فلما ذكر عيسى - عليه السلام - وقالوا: لا نؤمن بعيسى ولا نؤمن بمن آمن به، أنزل الله فيهم: )قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون (59)( (المائدة) [18] [19].
ولم يكتف اليهود بما سبق كله، ولكنهم راحوا ينالون من القرآن الكريم في أسئلتهم، ونقاشاتهم التي لا تنتهي؛ فعن ابن عباس قال: لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، قالت أحبار اليهود: يا محمد، أرأيت قولك: )ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا (85)( (الإسراء)، إيانا تريد أم قومك؟ قال: "كلا"، قالوا: فإنك تتلو فيما جاءك: أنا قد أوتينا التوراة فيها بيان كل شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها في علم الله قليل، وعندكم في ذلك ما يكفيكم لو أقمتموه"، قال: فأنزل الله - سبحانه وتعالى - عليه فيما سألوه عنه من ذلك: )ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم (27)( (لقمان) [20].
دعم حزب المنافقين وتآمرهم معهم:
حدثنا القرآن الكريم عن قيادة اليهود الفكرية لحزب المنافقين؛ فهم شياطين المنافقين يخططون لهم، ويوجهونهم ويدرسونهم أساليب الكيد والمكر والخداع والدهاء وإثارة الفتن، قال سبحانه وتعالى: )وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون (14)( (البقرة). قال النسفي في تفسيره: "وشياطينهم الذين ماثلوا الشياطين في تمردهم هم اليهود".
وكان اليهود في المدينة يتآمرون مع المنافقين ضد المسلمين، وفي هذا التآمر قال سبحانه وتعالى: )بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما (138) الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا (139)( (النساء). قال الأستاذ محمد دروزة: "وجمهور المفسرين على أن الكافرين هنا هم اليهود، وفي الآية قرينة على صحة ذلك، كما أن فيما بعدها قرينة ثانية أيضا، وواضح أن اتخاذ المنافقين اليهود أولياء، وتواثقهم معهم، إنما هما أثران من آثار التآمر الموطد بين اليهود والمنافقين تجاه الدعوة والقوة الإسلامية".
بث الإشاعات والشماتة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين:
كان اليهود يتحينون الفرص للنيل من المسلمين والبحث عما يفرق كلمتهم، ومن ذلك استغلالهم لوفاة أحد النقباء الذين بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيعة العقبة وهو أبو أمامة أسعد بن زرارة الأنصاري الخزرجي، فعندما أخذته الشوكة (حمرة تعلو الوجه والجسد)، فجاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعوده، فقال: "بئس الميت ليهود - مرتين - سيقولون: لولا دفع عن صاحبه، ولا أملك له ضرا ولا نفعا، ولأتمحلن له" فأمر به فكوي بخطين فوق رأسه، فمات وفي رواية: فكواه حوران على عنقه فمات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بئس الميت لليهود، يقولون: قد داواه صاحبه أفلا نفعه"؟!
ولم تكن حادثة أبي أمامة هي الحدث الوحيد الذي أبان الحقد اليهودي على المسلمين، فقد أشاعوا في أول الهجرة أنهم سحروا المسلمين فلا يولد لهم ولد، وقد أشاعوا ذلك ليضيقوا على المسلمين الخناق، ويفسدوا عليهم حياتهم الجديدة التي عاشوها في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليعكروا ذلك الجو الصافي الذي يملؤه الحب والتآلف بين المسلمين، ومما يدل على مقدار ما فعلته تلك الإشاعة بين المسلمين، شدة الفرحة التي اعترتهم حيث ولد بينهم أول مولود ذكر من المهاجرين وهو عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما ـ[21].
وبعد... كانت هذه إلماعة من جملة ما سلكه اليهود في منظومة تقويض الدعوة المحمدية واضطهاد نبيها - صلى الله عليه وسلم - وازدراء مناصريها، وغيرها - مما يضيق عن استقصائه المقام - كثير تغني الإشارة إليه عن تفصيله وحصره، وحسبنا منه ما نبرهن به فقط على طبيعة موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه من قوم كان من جملة ما فعلوا وخبيث ما بيتوا ما سبق ذكره وبيانه.
ثالثا. انطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - في طرده لليهود من القاعدة المقررة: "الجزاء من جنس العمل":
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد وادع اليهود وعاهدهم - كما أسلفنا - وبذلك أمنهم على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، ولكنهم لم يلبثوا أن نقضوا العهد، وتمالئوا مع المشركين، وصاروا يحرضونهم على قتال النبي - صلى الله عليه وسلم - كما حدث في أحد وغيرها، بل حاولوا طعن المسلمين في ظهورهم، كما حدث في غزوة الأحزاب، وطالما سعوا في إفساد ما بين الأوس والخزرج - كما بينا آنفا - وإفساد ما بين المهاجرين والأنصار، وبذلك أصبحوا شوكة في ظهور المسلمين، وجراثيم إفساد - في المجتمع المدني - لا بد من القضاء عليها؛ فلذلك أمر الله - سبحانه وتعالى - نبيه بقتالهم بعد إيذائهم بنقض ما بينه وبينهم من عهود بقوله سبحانه وتعالى: )وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين (58)( (الأنفال) [22].
هذا البيان الإلهي يضع قوانين خاصة لمعاملة الخائنين، وقد طبق الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما جاء في البيان الإلهي، فعامل اليهود معاملة الناقضين للعهد، وفيما يأتي نفصل ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - مع كل فرقة منهم على حدة:
و به نستعين
الزعم أنه - صلى الله عليه وسلم - اختلق أسبابا واهية لحرب اليهود وطردهم من المدينة(*)
مضمون الشبهة:
يزعم بعض الطاعنين أنه - صلى الله عليه وسلم - اختلق أسبابا واهية لحرب اليهود، وطردهم ظلما من المدينة؛ ويستدلون على ذلك: بأنه في غضون سنوات قليلة أخرج كل الجماعات اليهودية من المدينة، واستولى على أرضهم، كما أنه - صلى الله عليه وسلم - خير يهود بني قريظة بين الدخول في الإسلام أو القتل، ويتساءلون: أليس في هذا ظلم منه - صلى الله عليه وسلم - واضطهاد لهم دونما سبب سياسي بين؟!! رامين من وراء ذلك إلى الطعن في دوافع جهاده - صلى الله عليه وسلم - اليهود خاصة، والتشكيك في سياسته عامة.
وجوه إبطال الشبهة:
لقد اتخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - مع اليهود أسلوب الداعية الحريص على أن تصل دعوته إلى كافة الناس، ولما هاجر - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة عاهدهم العهد - المشهور - الذي تداولته كتب السير والتاريخ.
لم يلتزم اليهود بعهدهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذوا يكيدون للإسلام، ولحامل لوائه صلى الله عليه وسلم، ويدبرون المؤامرات لقتله صلى الله عليه وسلم، ويدسون أعمالهم الخبيثة؛ كي يقضوا على الإسلام ودولته.
أجلى النبي - صلى الله عليه وسلم - اليهود من المدينة وطردهم عن بكرة أبيهم، ولم يصدر - صلى الله عليه وسلم - صنيعه هذا عن ظلم وعدوان، بل كان انطلاقا من قاعدة: "الجزاء من جنس العمل".
التفصيل:
أولا. عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - مع اليهود في بداية العهد المدني:
لقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن اليهود أهل كتاب، وأن كتابهم غير المحرف فيه صفات النبي - صلى الله عليه وسلم - يعرفونه بها، لا تخطئهم فيه صفة من هذه الصفات، ولقد وصلوا بمعرفتهم تلك إلى حد اليقين في قلوبهم، كما أخبر الله عنهم أنهم )يعرفونه كما يعرفون أبناءهم( (الأنعام: ٢٠).
نقول: لقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن اليهود أهل كتاب، ولهم بالأنبياء صلة، وصفته في التوراة عندهم، وهم يعرفون نبوته، وقد بشروا بها قبل مجيئه؛ ومعرفة النبي - صلى الله عليه وسلم - باليهود على هذا النحو كانت عاملا مساعدا له - صلى الله عليه وسلم - كي يعرض عليهم أول ما يعرض أن يدخلوا معه في دينه.
والعقل يحتمل أن اليهود لن يرفضوا هذا العرض، لمعرفتهم بالنبي من جهة؛ ولأنهم مأمورون باتباعه في كتبهم المقدسة، وموروثات نبيهم موسى - عليه السلام - من جهة أخرى؛ ولأنهم كانوا ينتظرون مجيئه على شوق حتى يتبعوه، فينجبر به كسرهم، ويكتسبوا به عزتهم وشرفهم، وينتصروا به على عدوهم، كما يتصورون.
غير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين عرض عليهم أن يؤمنوا به وبنبوته، ثم يتبعوه على ما جاء به من ربه، رفضوا ذلك على غير قناعة، رفضوه على أساس الحسد - من عند أنفسهم - الذي قد ملأ قلوبهم.
لقد رفض اليهود عرض النبي صلى الله عليه وسلم، وأثر ذلك في نفس النبي، وكان - صلى الله عليه وسلم - كعادته يحزن على كل إنسان ينصرف عن الحق، ويعرض عن الإيمان. غير أن الله قد شرح للنبي - صلى الله عليه وسلم - طبيعة اليهود، وواساه حتى لا يحزن ولا يشتد على نفسه، وبين له أن اليهود لن ترضى عنه إلا أن يتبع ملتهم، وهو أمر غير وارد، وقد استبعد النبي - صلى الله عليه وسلم - مسألة إيمان اليهود تلك، ولكنه لم يستبعد أن يؤمن بعضهم، ورأى أن إيمان بعضهم ربما يكون سببا في إيمان آخرين ينجيهم الله من النار، ويذهب بهم الإيمان بعيدا عن الجحيم. واحتمالات النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك لم تضع هباء؛ حيث شرح الله صدور بعض اليهود فدخلوا معه في دينه[1].
وهكذا نجد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد اتخذ أسلوب الداعية الحريص على إيصال دعوته إلى الناس كافة. ولما هاجر - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة نظم العلاقة بين المهاجرين والأنصار وآخى بينهم، ونظم العلاقة بينهم وبين اليهود، ليعيش كل في أمان دون أن يتعرض بعضهم لبعض، وقد نصت على ذلك المعاهدة التي يحسن بنا أن نذكر منها - حسب ما يقتضي المقام - ما يخص اليهود فيما يأتي:
"وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس، وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم، وإن سلم المؤمنين واحدة؛ لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم.
وإنه من اعتبط مؤمنا[2] قتلا عن بينة فإنه قود به[3] إلا أن يرضى ولي المقتول، وإن المؤمنين عليه كافة، وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثا ولا يئويه، وإنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل، وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله - عز وجل - وإلى محمد صلى الله عليه وسلم.
وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ[4] إلا نفسه وأهل بيته. وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف - وكرر ذلك ليهود بني الحارث وبني ساعدة.. - إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.
وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم، وإن لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف، وإن البر دون الإثم (البر والوفاء ينبغي أن يكون حاجزا عن الإثم) وإن موالي ثعلبة كأنفسهم، وإن بطانة يهود كأنفسهم.
وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد صلى الله عليه وسلم، وإنه لا ينحجز على ثأر جرح، وإنه من فتك فبنفسه فتك وأهل بيته... وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة.. وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم. وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها، وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله - عز وجل - وإلى محمد صلى الله عليه وسلم... وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها، وإن بينهم النصر على من دهم يثرب، وإذا دعوا إلى الصلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين، وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وإنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم وأثم، وإن الله جار لمن بر واتقى ومحمد صلى الله عليه وسلم " [5].
ونحن إذا ما تجاوزنا مدلول العهد الأول - الذي كان بين المهاجرين وأهل المدينة - لنتأمل طبيعة ما انضوى عليه العهد الثاني - الذي كان بين المسلمين واليهود - من بنود؛ وجدناها تتلخص فيما يأتي:
يساعد اليهود المسلمين بالنفقة عند الحرب.
لليهود دينهم وللمسلمين دينهم (حرية الأديان).
البراءة ممن ظلم وأثم، فإنه يهلك نفسه ولا تحميه المعاهدة.. وإن البر والوفاء يمنع وقوع الظلم والإثم.
المسلمون واليهود بينهم النصر على من حارب أهل الصحيفة ومن هاجم المدينة.
المسلمون واليهود بينهم النصيحة والتناصح.
لا يأثم امرؤ بذنب حليفه. (ولهذا لم يؤاخذ الخزرج على غدر حلفائهم من اليهود).
الجار كالنفس يدافع عنه.
المرجع عند الاختلاف إلى الله ورسوله.
لا تجار[6] قريش ومن نصرها.
من خرج من المدينة آمن، ومن قعد آمن إلا من ظلم. (حرية التنقل).
غير أنه ثمة تقاربا بين العهدين - عهد المهاجرين والأنصار، وعهد المسلمين واليهود - من حيث الوقوف صفا واحدا ضد الظلم، والغدر والاعتداء على المدينة، ومن حيث تقرير "المرجع" عند الاختلاف.
إن العهد بين المؤمنين يقرر التلاحم والتضامن الكامل بين المؤمنين. أما العهد مع اليهود فيقرر تعايشا سلميا عادلا فيه التعاون على حماية المدينة التي هي وطن الطرفين، وفيه احترام لحرية الإنسان في الدين وفي السفر، والإقامة، وفيه ضمان السلامة لكل من التزم بالعهد، فمن ظلم فلا ذمة له. هذان العهدان كأنهما يمثلان ميثاقا سياسيا، وقانونا يضعه النبي - صلى الله عليه وسلم - واضحا أمام جميع الأطراف، ويأخذ منهم الموافقة على الالتزام به، وكأنه تصويت على الدستور. وبعد موافقة جميع الأطراف أصبح النبي - صلى الله عليه وسلم - مخولا لحكم المدينة، بموافقة جميع الأطراف الساكنة فيها.
وإن كان اليهود أحرارا في إدارة شئونهم، لكنهم سلموا السياسة العامة للمدينة إلى النبي. وفي ذلك تجلت حنكة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبراعته، ومرونته في السياسة مع الإنصاف الذي لا يستطيع أن يرفضه أحد. إن هذه المعاهدة تجهض كل محاولة للكيد من جانب اليهود. ولقد كانت حجة عليهم فيما بعد عندما غدروا وكادوا، وكانت محاربة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهم عندها مبررة قانونيا وأخلاقيا[7].
"إن هذه الوثيقة الطاهرة المطهرة، لو سارت الإنسانية مسيرتها على هديها، لصعدت إلى درجة الكمال، وحازت كل عناصر الجمال، ولعاش الناس - كل الناس - على الأرض سعداء حائزين لصلاحيتهم للنهوض بخلافة الله في الأرض. إن سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا الإعلان الدستوري الذي يسمو إلى درجة يكون بها أصدق وثيقة دولية تفرض نفسها بنفسها أسسا، وقواعد للقانون الدولي - سواء منه الخاص أو العام - فلا يشكو فيها المواطن ظلما، ولا يشكو شعب من شعوب العالم غبنا أو قهرا يقع عليه من ظالم أو غاشم" [8].
ثانيا. نقض اليهود للعهد النبوي، وعداءاتهم المستمرة للإسلام:
كان اليهود في مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم، وهم طوائف وشيع؛ بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة، واليهود - كما هم في كل أرض - غرباء على وجه الضيافة، ولا يربطهم بأصحاب الوطن الأصليين رابطة - من دين، أو تاريخ، أو لغة، أو هدف، واليهود فوق ذلك حين يحتلون الأوطان إنما يحتلونها على وجه الاغتصاب، وأفعالهم فيها تدل على مقاصدهم؛ فهم يبنون فيها المستعمرات، ويقيمون فيها الحصون، ويحيطون أنفسهم بالأسلحة الظاهرة والباطنة، ويحقرون من جيرانهم، ويستعلون عليهم على وجه الاستفزاز الذي تأنف منه الطباع.
وفي طباع اليهود الخاصة أنهم لا يقبلون سلما مع جيرانهم إلا أن يكون ستارا يستخفون خلفه بخياناتهم؛ لأنهم يريدون من جيرانهم أن يكونوا أعداء يضرب بعضهم رقاب بعض؛ كي يحتاجوا إلى الأسلحة فيشترونها من اليهود، وكي يقتل بعضهم بعضا، فتندر قوة الشباب فيهم، فلا ينتجون ما يحتاجون إليه من سلع، ويلجأون إلى اليهود ويشترونها منهم، فينشط اقتصادهم على أساس من دماء الآخرين وضعفهم.
وخليقة أخرى لا تكاد تفارق اليهود، وهي شعورهم الذي لا ينقطع بالضعف والذلة والمهانة، فيخشون من أجل ذلك دائما من يوم يأتي تحرر فيه الأرض، وتعود إلى أصحابها، ويعودون لما حكم الله به عليهم يتيهون في الأرض كلها، يبحثون لأنفسهم عن مأوى يأوون إليه، اغتصابا بقهر الضعفاء، أو بالحيلة والمكر والخداع[9].
ولقد قامت الحجج القاطعة والبراهين الساطعة على صدق رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولكن ذلك لم يزدهم إلا عنادا وعداوة واستكبارا، وحقدا وحسدا على الرسول، والذين آمنوا معه؛ فعن صفية بنت حيي بن أخطب أنها قالت: كنت أحب ولد أبي إليه، وإلى عمي أبي ياسر، لم ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه، قالت: فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ونزل قباء في بني عمرو بن عوف، غدا عليه أبي وعمي مغلسين[10]، قالت: فلم يرجعا حتى كان مع غروب الشمس، فأتيا كالين متعبين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى، فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله، ما التفت إلي واحد منهما، مع ما بهما من الغم، وسمعت عمي وهو يقول لأبي: أهو هو؟ قال: نعم والله، قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم، قال: فما في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت[11].
وقد شن اليهود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والذين آمنوا معه حملات إعلامية لتشويه صورته - صلى الله عليه وسلم - وتنفير الناس منه، ونزع الثقة بينه وبين الناس؛ فلقد شعر اليهود بخطورة هذا الدين على مصالحهم، وعلى عقيدتهم المنحرفة المزيفة، القائمة على الاستعلاء واحتقار الناس عدا الجنس اليهودي، لقد جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ينادي بعقيدة التوحيد، وهم يقولون: عزير ابن الله، وجاء ينادي بالمساواة بين أفراد الجنس البشري، وأنه لا يعلو شعب على شعب، ولا جماعة على جماعة، وهم يرون أنهم شعب الله المختار، يترفعون عن بقية الأجناس، وينظرون إليهم على أنهم دونهم وأقل منهم، ولذلك لم يلتزموا ببنود الوثيقة وشرعوا في التشكيك في نبوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ورسالته، وأكثروا من الأسئلة لإحراج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخدعوا المؤمنين ودلسوا عليهم، وغير ذلك من الأعمال الخبيثة[12].
ويحسن بنا أن نعرض - في هذا المقام - جانبا من أعمالهم الخبيثة حسبما ذكرها د. الصلابي فيما يأتي:
محاولة اليهود تصديع الجبهة الداخلية:
من وسائل اليهود الخبيثة في حرب الإسلام محاولاتهم المستمرة تمزيق الصف المسلم وتخريبه، بتقطيع أواصر المحبة بين المسلمين، وذلك بإثارة الفتن الداخلية، والشعارات الجاهلية، والنعرات الإقليمية، والدعوات القومية والقبلية، والسعي بالدسيسة والوقيعة بين الإخوة المتآلفين المتوادين المتحابين، فهم في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر.
فقد تفتق ذهن أحد شيوخهم الكبار في السن عن حيلة هدف بها إلى تفريق وحدة الأنصار، وذلك بإثارة العصبية القبلية بينهم ليعودوا إلى جاهليتهم، فتعود الحروب بينهم كما كانت، ويخسر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك أقوى أنصاره، وفي بيان هذا الأمر يقول محمد بن إسحاق: ومر شاس بن قيس - وكان شيخا كبير السن، عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم - على نفر من أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الأوس والخزرج، في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم، وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم في الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر فتى شابا من اليهود كان معهم، فقال: اعمد إليهم فاجلس معهم، ثم اذكر يوم بعاث وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا من الأشعار.
وكان بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظفر فيه يومئذ للأوس على الخزرج، وكان على الأوس يومئذ حضير بن سماك الأشهلي، وأبو أسيد بن حضير، وعلى الخزرج عمرو بن النعمان البياضي، فقتلوا جميعا.
قال ابن إسحاق: ففعل، فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب، أوس بن قيظي - أحد بني حارثة بن الحارث، من الأوس، وجبار بن صخر - أحد بني سلمة من الخزرج - فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم رددناها الآن جذعة، فغضب الفريقان جميعا وقالوا: قد فعلنا، موعدكم الظاهرة - والظاهرة: الحرة - السلاح السلاح، فخرجوا إليها.
فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم، فقال: "يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر وألف به بين قلوبكم"؟
فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سامعين مطيعين، قد كف الله عنهم كيد عدو الله شاس بن قيس، فأنزل الله - سبحانه وتعالى - في شاس بن قيس وما صنع: )قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون (98) قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون (99)( (آل عمران) [13].
هذا مثال لما كان يصنعه اليهود من محاولات للإيقاع بين الأنصار بعضهم البعض، أو بين المهاجرين والأنصار، وذلك لإضعاف الجبهة الداخلية للإسلام.
التهجم على الذات الإلهية:
ذكر غير واحد من كتاب السير والمفسرين أن أبا بكر قد دخل بيت المدراس - وهو مكان تتلى فيه التوراة - على يهود، فوجد منهم ناسا كثيرين قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له: "فنحاص"، وكان من علمائهم وأحبارهم، ومعهم حبر من أحبارهم، يقال له: "أشيع"، فقال أبو بكر لفنحاص: ويحك اتق الله وأسلم فوالله إنك تعلم أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لرسول الله قد جاءكم بالحق من عنده، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل، فقال فنحاص لأبي بكر: والله يا أبا بكر، ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير، وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء، وما هو عنا بغني، ولو كان عنا غنيا ما استقرضنا أموالنا، كما يزعم صاحبكم؛ ينهاكم عن الربا ويعطيناه، ولو كان عنا غنيا ما أعطانا الربا، فغضب أبو بكر، فضرب وجه فنحاص ضربا شديدا، وقال: والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينكم لضربت رأسك أي عدو الله.
فذهب فنحاص إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد، انظر ما صنع بي صاحبك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: "ما حملك على ما صنعت"؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله، إن عدو الله قال قولا عظيما، إنه يزعم أن الله فقير، وأنهم أغنياء، فلما قال ذلك غضبت لله مما قال، وضربت وجهه، فجحد ذلك فنحاص، وقال: ما قلت ذلك، فأنزل الله - عز وجل - فيما قال فنحاص ردا عليه، وتصديقا لأبي بكر: )لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق (181)( (آل عمران) [14].
سوء أدبهم مع رسول الله والنيل من الرسل الكرام والقرآن الكريم:
وكان اليهود يسيئون الأدب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حضرته وأثناء خطابه، إذ يلمزونه، ويحيونه بتحية فيها من الأذى والتهجم ما يدل على سوء أخلاقهم، فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - أناس من اليهود فقالوا: السام[15] عليك يا أبا القاسم، قال: "وعليكم". قالت عائشة قلت: بل وعليكم السام والذام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة، لا تكوني فاحشة". فقالت: ما سمعت ما قالوا؟ فقال: "أوليس قد رددت عليهم الذي قالوا؟ قلت: وعليكم».[16] وفي رواية بلفظ: «ففطنت بهم عائشة فسبتهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مه يا عائشة، فإن الله لا يحب الفحش والتفحش". وزاد: فأنزل الله عز وجل: )وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير (8)( (المجادلة)» [17].
وهذه الآية تظهر الحقد الذي هيمن على نفوس اليهود ودفعهم إلى استخدام كل الوسائل والطرق لهدم الإسلام والتخلص من صاحب الرسالة، والسيطرة على المسلمين.
وأما نيلهم من المرسلين فقد أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفر من يهود فيهم أبو ياسر بن أخطب، ورافع بن أبي رافع، وعازر بن أبي عازر.. وغيرهم، وسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمن يؤمن به من الرسل، فقال صلى الله عليه وسلم: "أومن بالله، وما أنزل إلينا، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى، وما أوتي النبيون من ربهم، لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون"، فلما ذكر عيسى - عليه السلام - وقالوا: لا نؤمن بعيسى ولا نؤمن بمن آمن به، أنزل الله فيهم: )قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون (59)( (المائدة) [18] [19].
ولم يكتف اليهود بما سبق كله، ولكنهم راحوا ينالون من القرآن الكريم في أسئلتهم، ونقاشاتهم التي لا تنتهي؛ فعن ابن عباس قال: لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، قالت أحبار اليهود: يا محمد، أرأيت قولك: )ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا (85)( (الإسراء)، إيانا تريد أم قومك؟ قال: "كلا"، قالوا: فإنك تتلو فيما جاءك: أنا قد أوتينا التوراة فيها بيان كل شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها في علم الله قليل، وعندكم في ذلك ما يكفيكم لو أقمتموه"، قال: فأنزل الله - سبحانه وتعالى - عليه فيما سألوه عنه من ذلك: )ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم (27)( (لقمان) [20].
دعم حزب المنافقين وتآمرهم معهم:
حدثنا القرآن الكريم عن قيادة اليهود الفكرية لحزب المنافقين؛ فهم شياطين المنافقين يخططون لهم، ويوجهونهم ويدرسونهم أساليب الكيد والمكر والخداع والدهاء وإثارة الفتن، قال سبحانه وتعالى: )وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون (14)( (البقرة). قال النسفي في تفسيره: "وشياطينهم الذين ماثلوا الشياطين في تمردهم هم اليهود".
وكان اليهود في المدينة يتآمرون مع المنافقين ضد المسلمين، وفي هذا التآمر قال سبحانه وتعالى: )بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما (138) الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا (139)( (النساء). قال الأستاذ محمد دروزة: "وجمهور المفسرين على أن الكافرين هنا هم اليهود، وفي الآية قرينة على صحة ذلك، كما أن فيما بعدها قرينة ثانية أيضا، وواضح أن اتخاذ المنافقين اليهود أولياء، وتواثقهم معهم، إنما هما أثران من آثار التآمر الموطد بين اليهود والمنافقين تجاه الدعوة والقوة الإسلامية".
بث الإشاعات والشماتة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين:
كان اليهود يتحينون الفرص للنيل من المسلمين والبحث عما يفرق كلمتهم، ومن ذلك استغلالهم لوفاة أحد النقباء الذين بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيعة العقبة وهو أبو أمامة أسعد بن زرارة الأنصاري الخزرجي، فعندما أخذته الشوكة (حمرة تعلو الوجه والجسد)، فجاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعوده، فقال: "بئس الميت ليهود - مرتين - سيقولون: لولا دفع عن صاحبه، ولا أملك له ضرا ولا نفعا، ولأتمحلن له" فأمر به فكوي بخطين فوق رأسه، فمات وفي رواية: فكواه حوران على عنقه فمات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بئس الميت لليهود، يقولون: قد داواه صاحبه أفلا نفعه"؟!
ولم تكن حادثة أبي أمامة هي الحدث الوحيد الذي أبان الحقد اليهودي على المسلمين، فقد أشاعوا في أول الهجرة أنهم سحروا المسلمين فلا يولد لهم ولد، وقد أشاعوا ذلك ليضيقوا على المسلمين الخناق، ويفسدوا عليهم حياتهم الجديدة التي عاشوها في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليعكروا ذلك الجو الصافي الذي يملؤه الحب والتآلف بين المسلمين، ومما يدل على مقدار ما فعلته تلك الإشاعة بين المسلمين، شدة الفرحة التي اعترتهم حيث ولد بينهم أول مولود ذكر من المهاجرين وهو عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما ـ[21].
وبعد... كانت هذه إلماعة من جملة ما سلكه اليهود في منظومة تقويض الدعوة المحمدية واضطهاد نبيها - صلى الله عليه وسلم - وازدراء مناصريها، وغيرها - مما يضيق عن استقصائه المقام - كثير تغني الإشارة إليه عن تفصيله وحصره، وحسبنا منه ما نبرهن به فقط على طبيعة موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه من قوم كان من جملة ما فعلوا وخبيث ما بيتوا ما سبق ذكره وبيانه.
ثالثا. انطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - في طرده لليهود من القاعدة المقررة: "الجزاء من جنس العمل":
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد وادع اليهود وعاهدهم - كما أسلفنا - وبذلك أمنهم على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، ولكنهم لم يلبثوا أن نقضوا العهد، وتمالئوا مع المشركين، وصاروا يحرضونهم على قتال النبي - صلى الله عليه وسلم - كما حدث في أحد وغيرها، بل حاولوا طعن المسلمين في ظهورهم، كما حدث في غزوة الأحزاب، وطالما سعوا في إفساد ما بين الأوس والخزرج - كما بينا آنفا - وإفساد ما بين المهاجرين والأنصار، وبذلك أصبحوا شوكة في ظهور المسلمين، وجراثيم إفساد - في المجتمع المدني - لا بد من القضاء عليها؛ فلذلك أمر الله - سبحانه وتعالى - نبيه بقتالهم بعد إيذائهم بنقض ما بينه وبينهم من عهود بقوله سبحانه وتعالى: )وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين (58)( (الأنفال) [22].
هذا البيان الإلهي يضع قوانين خاصة لمعاملة الخائنين، وقد طبق الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما جاء في البيان الإلهي، فعامل اليهود معاملة الناقضين للعهد، وفيما يأتي نفصل ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - مع كل فرقة منهم على حدة: