Telmeeth_ALRAJI
15.04.2009, 10:45
ما هي أسباب اختلاف الفقهاء؟
وهل يمكن أن يختلفوا في الحكم الشرعي مع أن الدين واحد، و الشرع واحد، والمصدر واحد، وهو: الوحي الإلهي المتمثل في الكتاب والسنة، فهما المصدران أو الأصلان للجميع.
فكيف ولماذا وقع الخلاف؟ ولماذا التعدد في الأقوال, ولم لا يوحد بين المذاهب الفقهية؟
وقبل الجواب عن ذلك، يجب التنبيه إلى أن الخلاف لم يقع في الأمور المتفق عليها, وجاءت بها النصوص القطعية الواضحة التي لا مجال للخلاف فيها كأصول الدين ومصادر تلقيه, وأركان الإسلام، والإيمان وأمهات الفضائل و الرزائل إلى غير ذلك, بل الأصل هو عدم الخلاف؛ لأنه قد يؤدي للتفرق والتنازع، فهذا هو الاختلاف المذموم (اختلاف تضاد) النابع من التعصب أو اتباع للهوى أو مجانبة الأدلة الصحيحة, وهذا الخلاف المذموم شر و وبال على الأمة؛ لما له من آثار سيئة ومفاسد عديدة وقد أمرنا الله تعالى بتجنب الاختلاف المؤدي إلى التنازع والتفرق، قال الله تعالى:(وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) الأنفال:46 وقال الله تعالى:(وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) آل عمران:105
أما الاختلاف المسموح فهو: الخلاف الناتج عن الاجتهاد في نصوص ظنية، أو اختلاف تنوع: كالاختلاف في صيغ الأذان أو الإقامة, ومحل سجود السهو, ونحو ذلك مما قد شرع جميعه, وإن كان بعض أنواعه أرجح أو أفضل (1).
مع التأكيد على أنَّ علاقة الفقهاء مع بعضهم كانت علاقة أٌخوة تقوم على المحبة والمودة، وعدم التفريط في الصداقة، وكانوا يتباحثون ويتناقشون في المسائل الفقهية دون تحجُّرٍ أو تعصب، وإنما ظهر هذا التعصب في فترة أخرى قلَّ فيها العلم بين الناس.
ومن خلال العهود أو الأطوار التي مر بها الفقه الإسلامي نستطيع أن نقطع أن العهد الأول حتى وفاة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن فيه أثر للخلاف, وإذا وقع خلاف فوجود الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين الصحابة كفيل لحل أي نزاع.
ويمكن إجمال أسباب الخلاف في هذا العصر إلى ما يلي:
1. التفاوت في المواظبة على حضور مجالس الذكر والعلم مع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهذا ورد في حديث البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ قَالَ :"
كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِي مِنْ الْأَنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ وَهِيَ مِنْ عَوَالِي الْمَدِينَةِ وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِخَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ" عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد ، وهم من عوالي المدينة ، وكنا نتناوب النزول على النبي صلى الله عليه وسلم فينزل يوما وأنزل أنا ، فإذا نزلت جئته بما حدث من خبر ذلك اليوم من وحي أو غيره ، وإذا نزل فعل مثل ذلك"(2).
2. وكذلك التفاوت في قوة الحفظ ممن لازم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبعضهم كانت حافظته أقوى من غيره, ففيهم من يحفظ ولا ينسى, ومنهم من يحفظ و يكتب, ومنهم من يحفظ وينسى.
ومثاله في الصحابة : ما وقع بين عمار بن ياسر وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب _رضي الله عنها_، فعن عبد الرحمن بن أبزى ، قال : كنت عند عمر فجاءه رجل فقال : إنا نكون بالمكان الشهر والشهرين(أي لا نجد الماء فكيف نتوضأ)، فقال عمر: أما أنا فلم أكن أصلي حتى أجد الماء، قال: فقال عمار: يا أمير المؤمنين ، أما تذكر إذ كنت أنا وأنت في الإبل فأصابتنا جنابة ، فأما أنا فتمعكت (تمعك: تمرغ في التراب) فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: (إنما كان يكفيك أن تقول هكذا ) وضرب بيديه إلى الأرض ثم نفخهما ثم مسح بهما وجهه ويديه، فقال عمر: يا عمار؛ اتق الله(لأنَّه نسي الحادثة، فلم يعترض على الحكم وإنَّما على ورود اسمه فيها وهو لا يتذكرها)، فقال: يا أمير المؤمنين ، إن شئت والله لم أذكره أبدا ، فقال عمر: كلا والله لنولينك من ذلك ما توليت) أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه(3).
فهنا وقعت الحادثة لعمر بن الخطاب وعمار بن ياسر _رضي الله عنهما_، وفيها تعليم صفة التيمم، ولكن نسيها عمر فأفتى بعدم الصلاة حتى يجد الإنسان الماء، أما عمار فقد أفتى بما أخبر به الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو التيمم.
ومن الطرائف في هذه النقطة :
أنَّ بعض العلماء كان يسمع حديثًا، فيُحدِّثه لطلابه، ثم ينساه نهائيًا حتى إنَّه لم يعد يذكر أي شيءٍ عنه ! وعندما يخبره تلاميذه أنَّه حدَّثهم به، ويريد أن يذكر هذا الحديث في مجالسه أو كتبه يقول (حدثني فلان أنّي حدثتُه أن .....) !!
3. التفاوت في فهم النصوص عند التطبيق:
وقد وقعت أمثلة عملية في زمن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تؤكد وقوع الخلاف نتيجة تفاوت الأفهام والمدارك والعقول،كما في حادثة صلاة العصر في بني قريظة فقد قبلت ممن صلى بعد خروج الوقت بحسب فهمه ولم ينكر عليه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك, و إن كان هذا الفهم هو المرجوح.
روى الإمام البخاري عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنْ الْأَحْزَابِ:"لا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمْ الْعَصْرُ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ "(4).
وقصة إعادة الصلاة لمن تيمم لفقد الماء ثم وجده فقد قبل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الاجتهاد ممن أعاد ولم يعنفه وأوضح للذي لم يعد أنه أصاب السنة: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: خَرَجَ رَجُلانِ فِي سَفَرٍ فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ وَلَيْسَ مَعَهُمَا مَاءٌ، فَتَيَمَّمَا صَعِيدًا طَيِّبًا فَصَلَّيَا ثُمَّ وَجَدَا الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ، فَأَعَادَ أَحَدُهُمَا الصَّلَاةَ وَالْوُضُوءَ. وَلَمْ يُعِدْ الْآخَرُ .ثُمَّ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لِلَّذِي لَمْ يُعِدْ:" أَصَبْتَ السُّنَّةَ وَأَجْزَأَتْكَ صَلَاتُكَ " وَقَالَ لِلَّذِي تَوَضَّأَ وَأَعَادَ:" لَكَ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ"(5).
إضافة إلى ما سبق فقد وقع الخلاف بعد ذلك في عصر الصحابة رضي الله عنهم لأسباب أخرى كثيرة منها:
أ- ظهور الوقائع الجديدة نتيجة للفتوحات الإسلامية العديدة، والاختلاط بأهل البلاد الآخرين، ودخول عدد كبير من الناس في الإسلام.
ب- انتقال الصحابة إلى مختلف الأمصار خصوصاً بعد خلافة عمر رضي الله عنه, وانتشار علمهم وفقههم في البلاد مع وجود التفاوت السابق ذكره.
ت- اعتماد بعضهم على الرأي فيما لا نص فيه, وتحرج بعضهم من اللجوء إليه.
ث- اختلاف بيئات وعادات وحاجات الأقطار التي نزل الصحابة بها.
الإحالات ( الهوامش):
1. انظر شرح العقيدة الطحاوية ط أولى 1408=1988مؤسسة الرسالة تحقيق د. التركي والأرناؤوط ج2/من ص 778 ـ 786 , وراجع أيضا كتاب أسباب اختلاف الفقهاء للدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي (رسالة ماجستير في الأصل ) ط أولى 1394هـ =1974م , مطبعة السعادة القاهرة من ص 26 ـ 29.
2. رواه البخاري في العلم باب التناوب في العلم(87).
3. رواه البخاري مختصرا في التيمم باب التيمم ضربة(340)، ورواه مسلم في الحيض باب التيمم ضربة(368)، ورواه أبو داود في الطهارة باب التيمم(322،323) و رواه النسائي في الطهارة باب التيمم (312)، ورواه ابن حبان في الطهارة ، باب الماء المستعمل(1267).
4. رواه الإمام البخاري في صلاة الخوف(946) وفي المغازي(4119)ومسلم في الجهاد (1770) عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنْ الْأَحْزَابِ :" لا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمْ الْعَصْرُ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ، فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ "
5. رواه أبو داود في الطهارة باب في التيمم بعد ما يصل في الوقت (286)، وصححه الألباني كما في صحيح أبي داود(338)، ورواه النسائي أيضا في الغسل باب التيمم لمن يجد الماء بعد الصلاة (340)، وصححه الألباني كما في صحيح النسائي (431).
وهل يمكن أن يختلفوا في الحكم الشرعي مع أن الدين واحد، و الشرع واحد، والمصدر واحد، وهو: الوحي الإلهي المتمثل في الكتاب والسنة، فهما المصدران أو الأصلان للجميع.
فكيف ولماذا وقع الخلاف؟ ولماذا التعدد في الأقوال, ولم لا يوحد بين المذاهب الفقهية؟
وقبل الجواب عن ذلك، يجب التنبيه إلى أن الخلاف لم يقع في الأمور المتفق عليها, وجاءت بها النصوص القطعية الواضحة التي لا مجال للخلاف فيها كأصول الدين ومصادر تلقيه, وأركان الإسلام، والإيمان وأمهات الفضائل و الرزائل إلى غير ذلك, بل الأصل هو عدم الخلاف؛ لأنه قد يؤدي للتفرق والتنازع، فهذا هو الاختلاف المذموم (اختلاف تضاد) النابع من التعصب أو اتباع للهوى أو مجانبة الأدلة الصحيحة, وهذا الخلاف المذموم شر و وبال على الأمة؛ لما له من آثار سيئة ومفاسد عديدة وقد أمرنا الله تعالى بتجنب الاختلاف المؤدي إلى التنازع والتفرق، قال الله تعالى:(وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) الأنفال:46 وقال الله تعالى:(وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) آل عمران:105
أما الاختلاف المسموح فهو: الخلاف الناتج عن الاجتهاد في نصوص ظنية، أو اختلاف تنوع: كالاختلاف في صيغ الأذان أو الإقامة, ومحل سجود السهو, ونحو ذلك مما قد شرع جميعه, وإن كان بعض أنواعه أرجح أو أفضل (1).
مع التأكيد على أنَّ علاقة الفقهاء مع بعضهم كانت علاقة أٌخوة تقوم على المحبة والمودة، وعدم التفريط في الصداقة، وكانوا يتباحثون ويتناقشون في المسائل الفقهية دون تحجُّرٍ أو تعصب، وإنما ظهر هذا التعصب في فترة أخرى قلَّ فيها العلم بين الناس.
ومن خلال العهود أو الأطوار التي مر بها الفقه الإسلامي نستطيع أن نقطع أن العهد الأول حتى وفاة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن فيه أثر للخلاف, وإذا وقع خلاف فوجود الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين الصحابة كفيل لحل أي نزاع.
ويمكن إجمال أسباب الخلاف في هذا العصر إلى ما يلي:
1. التفاوت في المواظبة على حضور مجالس الذكر والعلم مع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهذا ورد في حديث البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ قَالَ :"
كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِي مِنْ الْأَنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ وَهِيَ مِنْ عَوَالِي الْمَدِينَةِ وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِخَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ" عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد ، وهم من عوالي المدينة ، وكنا نتناوب النزول على النبي صلى الله عليه وسلم فينزل يوما وأنزل أنا ، فإذا نزلت جئته بما حدث من خبر ذلك اليوم من وحي أو غيره ، وإذا نزل فعل مثل ذلك"(2).
2. وكذلك التفاوت في قوة الحفظ ممن لازم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبعضهم كانت حافظته أقوى من غيره, ففيهم من يحفظ ولا ينسى, ومنهم من يحفظ و يكتب, ومنهم من يحفظ وينسى.
ومثاله في الصحابة : ما وقع بين عمار بن ياسر وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب _رضي الله عنها_، فعن عبد الرحمن بن أبزى ، قال : كنت عند عمر فجاءه رجل فقال : إنا نكون بالمكان الشهر والشهرين(أي لا نجد الماء فكيف نتوضأ)، فقال عمر: أما أنا فلم أكن أصلي حتى أجد الماء، قال: فقال عمار: يا أمير المؤمنين ، أما تذكر إذ كنت أنا وأنت في الإبل فأصابتنا جنابة ، فأما أنا فتمعكت (تمعك: تمرغ في التراب) فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: (إنما كان يكفيك أن تقول هكذا ) وضرب بيديه إلى الأرض ثم نفخهما ثم مسح بهما وجهه ويديه، فقال عمر: يا عمار؛ اتق الله(لأنَّه نسي الحادثة، فلم يعترض على الحكم وإنَّما على ورود اسمه فيها وهو لا يتذكرها)، فقال: يا أمير المؤمنين ، إن شئت والله لم أذكره أبدا ، فقال عمر: كلا والله لنولينك من ذلك ما توليت) أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه(3).
فهنا وقعت الحادثة لعمر بن الخطاب وعمار بن ياسر _رضي الله عنهما_، وفيها تعليم صفة التيمم، ولكن نسيها عمر فأفتى بعدم الصلاة حتى يجد الإنسان الماء، أما عمار فقد أفتى بما أخبر به الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو التيمم.
ومن الطرائف في هذه النقطة :
أنَّ بعض العلماء كان يسمع حديثًا، فيُحدِّثه لطلابه، ثم ينساه نهائيًا حتى إنَّه لم يعد يذكر أي شيءٍ عنه ! وعندما يخبره تلاميذه أنَّه حدَّثهم به، ويريد أن يذكر هذا الحديث في مجالسه أو كتبه يقول (حدثني فلان أنّي حدثتُه أن .....) !!
3. التفاوت في فهم النصوص عند التطبيق:
وقد وقعت أمثلة عملية في زمن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تؤكد وقوع الخلاف نتيجة تفاوت الأفهام والمدارك والعقول،كما في حادثة صلاة العصر في بني قريظة فقد قبلت ممن صلى بعد خروج الوقت بحسب فهمه ولم ينكر عليه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك, و إن كان هذا الفهم هو المرجوح.
روى الإمام البخاري عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنْ الْأَحْزَابِ:"لا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمْ الْعَصْرُ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ "(4).
وقصة إعادة الصلاة لمن تيمم لفقد الماء ثم وجده فقد قبل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الاجتهاد ممن أعاد ولم يعنفه وأوضح للذي لم يعد أنه أصاب السنة: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: خَرَجَ رَجُلانِ فِي سَفَرٍ فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ وَلَيْسَ مَعَهُمَا مَاءٌ، فَتَيَمَّمَا صَعِيدًا طَيِّبًا فَصَلَّيَا ثُمَّ وَجَدَا الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ، فَأَعَادَ أَحَدُهُمَا الصَّلَاةَ وَالْوُضُوءَ. وَلَمْ يُعِدْ الْآخَرُ .ثُمَّ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لِلَّذِي لَمْ يُعِدْ:" أَصَبْتَ السُّنَّةَ وَأَجْزَأَتْكَ صَلَاتُكَ " وَقَالَ لِلَّذِي تَوَضَّأَ وَأَعَادَ:" لَكَ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ"(5).
إضافة إلى ما سبق فقد وقع الخلاف بعد ذلك في عصر الصحابة رضي الله عنهم لأسباب أخرى كثيرة منها:
أ- ظهور الوقائع الجديدة نتيجة للفتوحات الإسلامية العديدة، والاختلاط بأهل البلاد الآخرين، ودخول عدد كبير من الناس في الإسلام.
ب- انتقال الصحابة إلى مختلف الأمصار خصوصاً بعد خلافة عمر رضي الله عنه, وانتشار علمهم وفقههم في البلاد مع وجود التفاوت السابق ذكره.
ت- اعتماد بعضهم على الرأي فيما لا نص فيه, وتحرج بعضهم من اللجوء إليه.
ث- اختلاف بيئات وعادات وحاجات الأقطار التي نزل الصحابة بها.
الإحالات ( الهوامش):
1. انظر شرح العقيدة الطحاوية ط أولى 1408=1988مؤسسة الرسالة تحقيق د. التركي والأرناؤوط ج2/من ص 778 ـ 786 , وراجع أيضا كتاب أسباب اختلاف الفقهاء للدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي (رسالة ماجستير في الأصل ) ط أولى 1394هـ =1974م , مطبعة السعادة القاهرة من ص 26 ـ 29.
2. رواه البخاري في العلم باب التناوب في العلم(87).
3. رواه البخاري مختصرا في التيمم باب التيمم ضربة(340)، ورواه مسلم في الحيض باب التيمم ضربة(368)، ورواه أبو داود في الطهارة باب التيمم(322،323) و رواه النسائي في الطهارة باب التيمم (312)، ورواه ابن حبان في الطهارة ، باب الماء المستعمل(1267).
4. رواه الإمام البخاري في صلاة الخوف(946) وفي المغازي(4119)ومسلم في الجهاد (1770) عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنْ الْأَحْزَابِ :" لا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمْ الْعَصْرُ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ، فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ "
5. رواه أبو داود في الطهارة باب في التيمم بعد ما يصل في الوقت (286)، وصححه الألباني كما في صحيح أبي داود(338)، ورواه النسائي أيضا في الغسل باب التيمم لمن يجد الماء بعد الصلاة (340)، وصححه الألباني كما في صحيح النسائي (431).