أندلسيّة
18.11.2009, 12:33
http://hanaa-port.net/wp-content/2009/11/SandClock-225x300.jpg
روى لي أحد الإخوة قصة حقيقية هو بطلها ومنزله مسرحها وأفراد عائلته شخوصها، قال فيها:
خطر ببالي ذاتَ يوم أن أسجِّل كلامنا العائلي وما يدور بيننا في جلستنا العائلية المعتادة التي نشرب فيها القهوة العربية المفعمة بهيلها وقرنفلها، والشاي المعطَّر بالنعناع، ونتجاذب فيها أطراف الأحاديث، وظللت عازماً على ذلك دون تنفيذ بسبب النسيان، ولكنَّ ذلك الخاطر بقي مسيطراً على نفسي حتى نفَّذت الأمر، وضعت أداة تسجيل صغيرة في جيبي وبدأنا جلستنا المعتادة التي لا تتجاوز الساعة – عادة – ولا تنقص عن نصف الساعة. شرَّقت بنا الأحاديث وغرَّبت، وشَمْأَلَتْ وجنَّبت، وارتفعت وانخفضت وتشنَّجَت وهَدَأت، وابتسمتْ وعَبَسَتْ، حتى إذا استنفد الجميع أحاديثهم وبدأ بعضهم يتململ في مجلسه مستعداً لمغادرة المجلس، قلت لهم: عندي لكم مفاجأة، فهل تسمح أوقاتكم بالاستماع إليها الآن فأعلنها أم أتركها لوقت آخر حتى نستطيع أن نستوعبها، ولأن بعض إخوتي كان على موعد، اتفقنا أن نجتمع مساءً لأعلن المفاجأة وطلبت من الجميع تفريغ أنفسهم لمدَّة ساعة كاملة.
وظللتُ أصارع نفسي ورغبتها الجامحة في الاستماع إلى مادة ذلك الشريط العجيب قبل أن يحين وقت الجلسة، ونجحت في كبح جماح الرغبة بعد أن أقنعت نفسي بأن متعة المفاجأة فيما سأسمع مع أفراد العائلة ستكون أكبر، وقد لفت نظري حرص شديد من أفراد العائلة على الحضور في الوقت المحدَّد للاستماع إلى المفاجأة التي لم أخبرهم بنوعها ومادتها وحضرت العائلة وعلى وجوه أفرادها – ذكوراً وإناثاً – علامات الاهتمام الشديد فهي أوَّل مرَّة في حياة أسرتنا يحدث فيها مثل هذا الإعلان.
ووضعت جهاز التسجيل أمامي، وشرحت لهم ما فعلت، ووجهة نظري في الأمر، ومع أن بعض أفراد العائلة قد أبدوا امتعاضهم من هذا العمل، وعبَّروا عن خيبة أملهم في نوع المفاجأة التي شغلت تفكيرهم بها، إلا أن الجميع كانوا حريصين على الاستماع، وطلبت منهم الهدوء وعدم التعليق حتى ينتهي عرض المادة العجيبة.
قال لي الرجل: لا تسل يا أبا أسامة عن تعبيرات الوجوه وهم يستمعون إلى حصيلة ما يقرب من ساعة إلاَّ ربع الساعة من أحاديثهم، وكلامهم، والموضوعات التي طرقوها في تلك الجلسة، كان الذهول هو العلامة البارزة التي ظهرت على وجوه الجميع، وكان الصمت لحظةً ليست بالقصيرة بعد انتهاء المسرحية معبِّراً عن المفاجأة، وكانت أختي الكبيرة هي التي فتحت باب التعليق وهي تبكي قائلة:
(والله إنه شيء يفشِّل، كيف سنواجه الله بمثل هذا؟).. ولا أكتمك أَنَّ موقفها هذا مع تعليقها قد فاجأني، وما كنت أظن أن التعامل مع ما سمعوه سيكون في هذا الاتجاه.
لقد كانت الأحاديث التلقائية التي لا نلقي لها بالاً مقسَّمة بين حديث عن بعض الأمور العائلية، وحديث عن بعض المواقف التي حدثت في ذلك اليوم لبعض أفراد العائلة، وحديث عن بعض الأقارب تأرجح بين السَّلْب والإيجاب، وحديث عن الجيران، وحديث عن العمل والزملاء مفعم بالنقد الذي يبتعد عن الموضوعية وفيه بعض التجنِّي ببعض الكلمات، وقد تخلل ذلك بعض السبِّ والشتم للأطفال الذين كانوا يعطِّرون الجلسة بإزعاجهم وحركاتهم، وبعض اللعن الصريح الذي سمعناه من أولئك الصغار لبعضهم.
هذا ما تضمنه ذلك الشريط لأقل من ساعة في جلسة عائلية معتادة ولو لم يُسَجَّلْ لما شعرنا به أبداً، بل إن والدي قال: الله المستعان هذه هي أحاديث معظم العوائل في جلساتهم المشابهة، والله إن الإنسان ليستحي منها، نسأل الله الصفح والغفران.
تذكرنا في هذه الجلسة (التأديبية) كما أطلق عليها أحد الإخوة، قول الله تعالى: { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) وقوله تعالى: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}. وعجبنا لأنفسنا كيف نتهاون بهذا الزمن الثمين فنهدره فيما يعود علينا بالحسرة والندامة في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
قلت للرجل: لقد قمتم بمحاسبة النفس فوصلتم إلى هذه النتيجة، وأنا على يقين أن أثرها إيجابي في نفوسكم فما أجمل ما صنعت!
إشارة:
لو كان الزمن مالاً محسوساً كالدرهم والدينار لعرف الإنسان قيمته.
من زاوية دفق قلم /د.عبدالرحمن العشماوي
جريدة الجزيرة السبت 05 ذو القعدة 1430
روى لي أحد الإخوة قصة حقيقية هو بطلها ومنزله مسرحها وأفراد عائلته شخوصها، قال فيها:
خطر ببالي ذاتَ يوم أن أسجِّل كلامنا العائلي وما يدور بيننا في جلستنا العائلية المعتادة التي نشرب فيها القهوة العربية المفعمة بهيلها وقرنفلها، والشاي المعطَّر بالنعناع، ونتجاذب فيها أطراف الأحاديث، وظللت عازماً على ذلك دون تنفيذ بسبب النسيان، ولكنَّ ذلك الخاطر بقي مسيطراً على نفسي حتى نفَّذت الأمر، وضعت أداة تسجيل صغيرة في جيبي وبدأنا جلستنا المعتادة التي لا تتجاوز الساعة – عادة – ولا تنقص عن نصف الساعة. شرَّقت بنا الأحاديث وغرَّبت، وشَمْأَلَتْ وجنَّبت، وارتفعت وانخفضت وتشنَّجَت وهَدَأت، وابتسمتْ وعَبَسَتْ، حتى إذا استنفد الجميع أحاديثهم وبدأ بعضهم يتململ في مجلسه مستعداً لمغادرة المجلس، قلت لهم: عندي لكم مفاجأة، فهل تسمح أوقاتكم بالاستماع إليها الآن فأعلنها أم أتركها لوقت آخر حتى نستطيع أن نستوعبها، ولأن بعض إخوتي كان على موعد، اتفقنا أن نجتمع مساءً لأعلن المفاجأة وطلبت من الجميع تفريغ أنفسهم لمدَّة ساعة كاملة.
وظللتُ أصارع نفسي ورغبتها الجامحة في الاستماع إلى مادة ذلك الشريط العجيب قبل أن يحين وقت الجلسة، ونجحت في كبح جماح الرغبة بعد أن أقنعت نفسي بأن متعة المفاجأة فيما سأسمع مع أفراد العائلة ستكون أكبر، وقد لفت نظري حرص شديد من أفراد العائلة على الحضور في الوقت المحدَّد للاستماع إلى المفاجأة التي لم أخبرهم بنوعها ومادتها وحضرت العائلة وعلى وجوه أفرادها – ذكوراً وإناثاً – علامات الاهتمام الشديد فهي أوَّل مرَّة في حياة أسرتنا يحدث فيها مثل هذا الإعلان.
ووضعت جهاز التسجيل أمامي، وشرحت لهم ما فعلت، ووجهة نظري في الأمر، ومع أن بعض أفراد العائلة قد أبدوا امتعاضهم من هذا العمل، وعبَّروا عن خيبة أملهم في نوع المفاجأة التي شغلت تفكيرهم بها، إلا أن الجميع كانوا حريصين على الاستماع، وطلبت منهم الهدوء وعدم التعليق حتى ينتهي عرض المادة العجيبة.
قال لي الرجل: لا تسل يا أبا أسامة عن تعبيرات الوجوه وهم يستمعون إلى حصيلة ما يقرب من ساعة إلاَّ ربع الساعة من أحاديثهم، وكلامهم، والموضوعات التي طرقوها في تلك الجلسة، كان الذهول هو العلامة البارزة التي ظهرت على وجوه الجميع، وكان الصمت لحظةً ليست بالقصيرة بعد انتهاء المسرحية معبِّراً عن المفاجأة، وكانت أختي الكبيرة هي التي فتحت باب التعليق وهي تبكي قائلة:
(والله إنه شيء يفشِّل، كيف سنواجه الله بمثل هذا؟).. ولا أكتمك أَنَّ موقفها هذا مع تعليقها قد فاجأني، وما كنت أظن أن التعامل مع ما سمعوه سيكون في هذا الاتجاه.
لقد كانت الأحاديث التلقائية التي لا نلقي لها بالاً مقسَّمة بين حديث عن بعض الأمور العائلية، وحديث عن بعض المواقف التي حدثت في ذلك اليوم لبعض أفراد العائلة، وحديث عن بعض الأقارب تأرجح بين السَّلْب والإيجاب، وحديث عن الجيران، وحديث عن العمل والزملاء مفعم بالنقد الذي يبتعد عن الموضوعية وفيه بعض التجنِّي ببعض الكلمات، وقد تخلل ذلك بعض السبِّ والشتم للأطفال الذين كانوا يعطِّرون الجلسة بإزعاجهم وحركاتهم، وبعض اللعن الصريح الذي سمعناه من أولئك الصغار لبعضهم.
هذا ما تضمنه ذلك الشريط لأقل من ساعة في جلسة عائلية معتادة ولو لم يُسَجَّلْ لما شعرنا به أبداً، بل إن والدي قال: الله المستعان هذه هي أحاديث معظم العوائل في جلساتهم المشابهة، والله إن الإنسان ليستحي منها، نسأل الله الصفح والغفران.
تذكرنا في هذه الجلسة (التأديبية) كما أطلق عليها أحد الإخوة، قول الله تعالى: { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) وقوله تعالى: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}. وعجبنا لأنفسنا كيف نتهاون بهذا الزمن الثمين فنهدره فيما يعود علينا بالحسرة والندامة في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
قلت للرجل: لقد قمتم بمحاسبة النفس فوصلتم إلى هذه النتيجة، وأنا على يقين أن أثرها إيجابي في نفوسكم فما أجمل ما صنعت!
إشارة:
لو كان الزمن مالاً محسوساً كالدرهم والدينار لعرف الإنسان قيمته.
من زاوية دفق قلم /د.عبدالرحمن العشماوي
جريدة الجزيرة السبت 05 ذو القعدة 1430