اكرم حسن
21.03.2018, 19:04
رد شبهة: هل كان نبيُّ الإسلام كان يعرف القراءة والكتابة ؟!
أرادوا الطعنَ في صدقِ رسالة النبي محمد، والقرآن الذي آتاه ربّه مستهدفين هدم المعجزات البينان ...
فقالوا: إنّ محمدًا كان يعرف القراءةَ والكتابةَ، ولم يكن أميًّا كما يزعم المسلمون ونقد نقل القرآن ممن عندهم علم بالكتب السابقة، وذلك بوثائق وبشهادات...!
استندوا في ذلك بعدّةِ روايات منها :
1- صحيح البخاري كِتَاب ( الْمَغَازِي) بَاب ( مَرَضِ النَّبِيِّr وَوَفَاتِه ِ..) برقم 4079 عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ : لَمَّا حُضِرَ رَسُولُ اللَّهِr وَفِي الْبَيْتِ رِجَالٌ فَقَالَ النَّبِيُّ r :" هَلُمُّوا أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ " فَقَالَ بَعْضُهُمْ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِr قَدْ غَلَبَهُ الْوَجَعُ وَعِنْدَكُمْ الْقُرْآنُ حَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ وَاخْتَصَمُوا فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: قَرِّبُوا يَكْتُبُ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَمَّا أَكْثَرُوا اللَّغْوَ وَالِاخْتِلَافَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r :" قُومُوا ". قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ : فَكَانَ يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ r وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ لِاخْتِلَافِهِمْ وَلَغَطِهِمْ .
2- صحيح مسلم كِتَاب ( الْجِهَادِ وَالسِّيَرِ) بَاب ( صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ فِي الْحُدَيْبِيَةِ) برقم 3336 عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ: لَمَّا أُحْصِرَ النَّبِيُّ r عِنْدَ الْبَيْتِ صَالَحَهُ أَهْلُ مَكَّةَ عَلَى أَنْ يَدْخُلَهَا فَيُقِيمَ بِهَا ثَلَاثًا وَلَا يَدْخُلَهَا إِلَّا بِجُلُبَّانِ السِّلَاحِ السَّيْفِ وَقِرَابِهِ وَلَا يَخْرُجَ بِأَحَدٍ مَعَهُ مِنْ أَهْلِهَا وَلَا يَمْنَعَ أَحَدًا يَمْكُثُ بِهَا مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ قَالَ لِعَلِيٍّ : " اكْتُبْ الشَّرْطَ بَيْنَنَا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ". فَقَالَ لَهُ الْمُشْرِكُونَ : لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ تَابَعْنَاكَ، وَلَكِنْ اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَمْحَاهَا فَقَالَ عَلِيٌّ: لَا وَاللَّهِ لَا أَمْحَاهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِr :" أَرِنِي مَكَانَهَا ". فَأَرَاهُ مَكَانَهَا فَمَحَاهَا وَكَتَبَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَأَقَامَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَلَمَّا أَنْ كَانَ يَوْمُ الثَّالِثِ قَالُوا لِعَلِيٍّ: هَذَا آخِرُ يَوْمٍ مِنْ شَرْطِ صَاحِبِكَ فَأْمُرْهُ فَلْيَخْرُجْ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ: نَعَمْ فَخَرَجَ و قَالَ ابْنُ جَنَابٍ فِي رِوَايَتِهِ مَكَانَ تَابَعْنَاكَ بَايَعْنَاكَ.
3- سنن ابن ماجة 2422 عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :"رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ مَكْتُوبًا الصَّدَقَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَالْقَرْضُ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَقُلْتُ يَا جِبْرِيلُ مَا بَالُ الْقَرْضِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّدَقَةِ قَالَ لِأَنَّ السَّائِلَ يَسْأَلُ وَعِنْدَهُ وَالْمُسْتَقْرِضُ لَا يَسْتَقْرِضُ إِلَّا مِنْ حَاجَةٍ".
الرد على الشبهة
أولًا: إن كلمة النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ تعني الذي لا يعرف القراءة والكتابة ، وقد ظل هكذا إلى أن تلقى الوحي ، وتعلمهما في آخر حياته وعلم العلوم الطبيعية والتاريخية والفلسفية والطبية والإنسانية لصالح البشرية ...
بينما كلمة ( الْأُمِّيِّينَ) ليس معناها الجاهلين أو الذين لا يقرؤون ويكتبون...وإنما معناها أمة ليس لها كتاب مقدس ...
وهذا هو المقصود من قوله تعالى:" هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (2)"( الجمعة). :"
ومن قوله تعالى حاكيًّا عن حال بعض اليهود:"وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)"(آل عمران).
تحكي الآية أن بعض اليهود يستحلون أكل مال الأمة التي ليس لها كتاب مقدس، وإن كان دينار واحدًا لا يأتمون عليه، بينما يختلف حالهم مع أهل كتابهم فيُحرم عليهم فعلتهم بنصوص قطعية...!
جاء في سفر التثنية أصحاح 23 عدد 20 للأجنبي تقرض بربا ولكن لأخيك لا تقرض بربا لكي يباركك الرب إلهك في كل ما تمتد إليه يدك في الأرض التي أنت داخل إليها لتمتلكها...
نلاحظ:أن الرب يباركه في كل ما تمتد إليه يده في كل أرض يدخلها...
ما سبق بيان تمهيدي تعريفي بعيدًا عن التعريفات المتعددة والمتشعبة... وهام لما سيأتي بيانه من نقاط قادمة لتفنيد الشبهة الوهمية....
ثانيًا: إنّ القرآنَ الكريم أخبر أنّ النبي محمدًا r هو النبي الأمي المخبر عنه في التوراةِ والإنجيل، وقد كان النبيُّ أميًّا بشهادة من حوله من أهل الشرك واليهودية والنصرانية... دلت على ذلك عدة أدلة منها:
1- قوله : الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) (الأعراف ).
3- قوله : قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)) ( الأعراف ).
4- قوله : الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) (البقرة ).
وصف اللهُ النبي محمدًاr بالأميةِ التي يعرفه بها اليهودُ والنصارى وغيرهم كما كانوا يعرفون أبنائهم؛ فهو المُبشر به، رفض نبوته اليهود لأنه من الأميين وليس يهوديا من نسل إسحاق...
ولم يقل أحدٌ أنه كان متعلما قبل الوحي، بل كان تاجرا، وكانوا يقولون تلقى عليه أساطير، وتارة يقولوه تملى عليه أخبار، وتارة يقولون يعلمه بشر...وكل هذا يعني أنه لم يكن متعلما القراءة والكتابة حينما أثناء نزول الوحي عليه؛ لدرجة أنه قالوا عنه( أُذن) يسمع وينقل فقط...
جاء في سفرِ إشعياء أصحاح 29 عدد 12 أَوْ يُدْفَعُ الْكِتَابُ لِمَنْ لاَ يَعْرِفُ الْكِتَابَةَ وَيُقَالُ لَهُ : «اقْرَأْ هَذَا» فَيَقُولُ: « لاَ أَعْرِفُ الْكِتَابَةَ».
بينما الترجمة الأصح للنص والأقرب معقولية....
ما جاء في التراجمِ الإنجليزية:" يقال له : اقرأ فيقول : " لا أعرف القراءة " أو " لم أتعلم القراءة ".
فليس من المعقولِ أن تطلب من أحدٍ القراءةَ فيقول لك : " أنا لا أعرف الكتابة " , ولكن المتوقع حتمًا أن يقول : " أنا لا أعرفُ القراءةَ " أو " أنا لست متعلمًا " !
وهو ما ذكرته أيضًا ترجمة كتاب الحياة:"وَعِنْدَمَا يُنَاوِلُونَهُ لِمَنْ يَجْهَلُ الْقِرَاءَةَ قَائِلِينَ: اقْرَأْ هَذَا، يُجِيبُ: لاَ أَسْتَطِيعُ الْقِرَاءَةَ".
وهذا الواقعة تشبه بمدى قريب جدًا ، واقعة تلقى الوحي للنبي محمد أول مرة في غار حراء بصورة ملفتة ومبهرة وتشويقية ....كانت للمعترضين أن يتفكروا فيها فلهم هم الأولية....
في صحيحِ البخاري باب( بدء الوحي) برقم 3 عَنْ عَائِشَةَ- أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ - أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ r مِنَ الْوَحْىِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاَءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ ـ وَهُوَ التَّعَبُّدُ ـ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ، فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ قَالَ: " مَا أَنَا بِقَارِئٍ ". قَالَ: " فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ : اقْرَأْ فَقُلْتُ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ , فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ r يَرْجُفُ فُؤَادُهُ....
ثالثًا: إنّ القرآن الكريم أكد أنّ أميةَ النبيِّ محمد r (عدم معرفة القراءة والكتابة) كانت سببًا كافيًا لدحضِ شبهات المشككين المبطلين الذين اتهموه r بأنه تناقل آيات القرآنَ من كتبٍ سابقةٍ ... قال : وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) (العنكبوت).
ومعنى الآية: يا محمد كنت قبل نزول الوحي عليك أميًّا لا تعرف القراءة والكتابة ، ومنْ حولك مقرون بذلك، ولو كنت قارئا وكاتبا قبل نزول الوحي عليك لشكك المبطلون بأنك تناقلت ناسخًا ونُسخًا.....ولكنك لم تكن تقرأ وتكتب حينها ...
كما أن آيات القرآن معجزات يحفظها العلماء في قلوبهم، ويجحدها الدهماء والظالمون...
والعجيب أننا لم نسمع قديمًا أن واحدًا تحدث مُكذبًا للآية؛ مدعيًّا بأن محمدًا كان يقرأ كتبا قبل نزول الوحي عليه...!
كما يُفهم من الآية أن النبي محمدًا تعلم القراءة والكتابة أثناء نزول الوحي عليه في مرحلة متأخرة..... هذا بجانب أنه أُمر بأن يقرأ، وهذا من قوله تعالى:" اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)"(العلق).
وأمر الله لا يؤخر ولا يُترك لاسيما إن كان المأمور هو النبي محمد فخر الإنسانية...
رابعًا: إنّ أمية النبيَّ محمد r وإنْ كانت دليلًا على إعجازِ القرآنِ إلا أن الإعجاز لا يزال قائمًا في كلِ الأحوالِ سواء كان النبي r أميًّا أم لا ؟
فالقرآن لم يتحد فئةَ معينةَ من البشرِ؛ وإنما تحدى كل البشرِ أن يأتوا بسورةِ من مثلِه، وقد شهد له أعتا عتاةِ العربِ في زمنِ النبيِّ محمد r ، وكانوا أفصح الناسِ ، وأبلغهم بيانًا على مر الحقب التاريخية...
بل وشهد له أهلُ اللغةِ والبيان في عصرنا من أدباء، ومؤرخين، وأطباء، وحكماء، وجيولوجيين، وكيميائيين... فما زال الإنسان عاجزًا أمام معجزةِ القرآنِ الكريم؛ فكلما ازداد علمه،كلما ازداد شعوره بالعجز أمامه، وأيقن أنه من رب البرية....
والعجيب أن مشركي قريش حينما أرادوا مهاجمة القرآن الكريم وهم أفصح بيانًا ولسانًا من معترضين اليوم...تضاربوا في أكاذيبهم حامله وناقله r ؛ فتارة يقولون شاعر، وتارة كاهن، وتارة ساحر،تارة مجنون...وهذا التضارب في الزعم يشعرنا بمدى تخبطهم نحو كلماته ، وعجزهم نحو آياته ...في حين أنهم أهل الشعر الفصاحة، وأصحاب المعلقات...واكتفي بكلمة حق قالها الوليد بن المغيرة من لهم لما سمع آيات من القرآن الكريم ....قال: "فَوَاللَّهِ مَا فِيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمَ بِالأَشْعَارِ مِنِّي ، وَلا أَعْلَمَ بِرَجَزِهِ وَلا بِقَصِيدَتِهِ مِنِّي ، وَلا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ ، وَاللَّهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا ، وَوَاللَّهِ ، إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ حَلاوَةً ، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلاوَةً وَإِنَّهُ لَمُثْمِرٌ أَعْلاهُ ، مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلا ، وَأَنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ ".(شعب الإيمان للبيهقي برقم 134).
فعلى فرض جدلًا أن النبي محمدًا كان يعرف القراءة والكتابة قبل نزول الوحي إلا أن الإعجاز لا يظل قائمًا إلى يوم القيامة ، وترد خائبةً دومًا شبهاتُهم الخيالية....
خامسًا: إن النبيَّ محمدًاr كان يحرك لسانَه بالقرآنِ، ويرهق نفسَه في ترديده خلف الملك (جبريل) قبل أن يقضى إليه وحيه؛خشية أن ينسى منه شيئًا...فيطمئنه ربُّه ويخبره أن حفظه موكول إليه ، وأنه سيجمعه في صدره، ولن ينساه...
قال : لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) ( القيامة) .
وقال : فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً (طه114 ).
وبالتالي لو كان النبيُّ محمد r يعرف الكتابةَ لكتب ما يوحى إليه من الملك جبريل وقتِ وحيِه أو بعده مباشرة كي لا ينسى، وهو أولى من إرهاق بُغية حفظة... لكنه لم يكن يعرف الكتابة حينها، ولو عرفها كان هذا دورها بالأولوية... !
سادسًا: بعد أن قمتُ بإثبات أميةِ النبي محمد r جاء دور توضيح وبيان الروايات التي آتى بها المعترضون للتشكيك في أُميته قبل الوحي ونسفها بالكلية..!
أولًا: بالنسبة للرواية الأولى: قال النوويُّ في بَاب ( تَرْكِ الْوَصِيَّةِ لِمَنْ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ): في هذا الحديث عدة فوائد...وَمِنْهَا: : جَوَاز اِسْتِعْمَال الْمَجَاز لِقَوْلِهِ r: ( أَكْتُب لَكُمْ ) أَيْ : آمُر بِالْكِتَابَةِ . اهـ
ثانيًا : الرواية الثانية : قَوْله r : " أَرِنِي مَكَانهَا فَأَرَاهُ مَكَانهَا فَمَحَاهَا وَكَتَبَ اِبْن عَبْد اللَّه " الإشكال نشأ عن التوهم الحاصل عن ظاهرِ النصِ ؛ كأن النبيَّ محمدا r أخذ الكتابَ من علىِّ بنِ أبى طالبٍ ثم كتب بنفسِه ، وليس الأمرُ كذلك ، ولكي يتضح فهم الروايةِ التي معنا فهمًا صحيحًا يُجمع بين الرواياتِ كما يلي :
1- صحيح مسلم كتاب (الجهاد و السير) باب ( صلح الحديبية في الحديبية) برقم 3337 عَنْ أَنَسٍ أَنَّ قُرَيْشًا صَالَحُوا النَّبِيَّ rفِيهِمْ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ النَّبِيُّ r لِعَلِيٍّ : " اكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" قَالَ سُهَيْلٌ: أَمَّا بِاسْمِ اللَّهِ فَمَا نَدْرِي مَا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَلَكِنْ اكْتُبْ مَا نَعْرِفُ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ فَقَالَ :" اكْتُبْ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ " قَالُوا : لَوْ عَلِمْنَا أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ لَاتَّبَعْنَاكَ وَلَكِنْ اكْتُبْ اسْمَكَ وَاسْمَ أَبِيكَ فَقَالَ النَّبِيُّr :" اكْتُبْ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ " فَاشْتَرَطُوا عَلَى النَّبِيِّ rأَنْ مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكُمْ وَمَنْ جَاءَكُمْ مِنَّا رَدَدْتُمُوهُ عَلَيْنَا فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَكْتُبُ هَذَا ؟! قَالَ: نَعَمْ إِنَّهُ مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إِلَيْهِمْ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ وَمَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ سَيَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا.
2- صحيح مسلم كتاب (الجهاد والسير) باب ( صلح الحديبية في الحديبية ) 3335 عن الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قال: كَتَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الصُّلْحَ بَيْنَ النَّبِيِّ r وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ فَكَتَبَ هَذَا مَا كَاتَبَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالُوا: لَا تَكْتُبْ رَسُولُ اللَّهِ فَلَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ لَمْ نُقَاتِلْكَ فَقَالَ النَّبِيُّr لِعَلِيٍّ : " امْحُهُ " فَقَالَ : مَا أَنَا بِالَّذِي أَمْحَاهُ فَمَحَاهُ النَّبِيُّ r بِيَدِهِ قَالَ: وَكَانَ فِيمَا اشْتَرَطُوا أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ فَيُقِيمُوا بِهَا ثَلَاثًا وَلَا يَدْخُلُهَا بِسِلَاحٍ إِلَّا جُلُبَّانَ السِّلَاحِ قُلْتُ لِأَبِي إِسْحَقَ: وَمَا جُلُبَّانُ السِّلَاحِ ؟ قَالَ: الْقِرَابُ وَمَا فِيهِ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى وَابْنُ بَشَّارٍ قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ يَقُولُا : لَمَّا صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ r أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ كَتَبَ عَلِيٌّ كِتَابًا بَيْنَهُمْ قَالَ : فَكَتَبَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ثُمَّ ذَكَرَ بِنَحْوِ حَدِيثِ مُعَاذٍ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْحَدِيثِ هَذَا مَا كَاتَبَ عَلَيْهِ
3-صحيح مسلم كتاب (الجهاد و السير) باب (صلح الحديبية في الحديبية) 3336 عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ: لَمَّا أُحْصِرَ النَّبِيُّ r عِنْدَ الْبَيْتِ صَالَحَهُ أَهْلُ مَكَّةَ عَلَى أَنْ يَدْخُلَهَا فَيُقِيمَ بِهَا ثَلَاثًا وَلَا يَدْخُلَهَا إِلَّا بِجُلُبَّانِ السِّلَاحِ السَّيْفِ وَقِرَابِهِ وَلَا يَخْرُجَ بِأَحَدٍ مَعَهُ مِنْ أَهْلِهَا وَلَا يَمْنَعَ أَحَدًا يَمْكُثُ بِهَا مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ قَالَ لِعَلِيٍّ :" اكْتُبْ الشَّرْطَ بَيْنَنَا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ" فَقَالَ لَهُ الْمُشْرِكُونَ : لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ تَابَعْنَاكَ وَلَكِنْ اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَمْحَاهَا فَقَالَ عَلِيٌّ: لَا وَاللَّهِ لَا أَمْحَاهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِr :" أَرِنِي مَكَانَهَا " فَأَرَاهُ مَكَانَهَا فَمَحَاهَا وَكَتَبَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَأَقَامَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَلَمَّا أَنْ كَانَ يَوْمُ الثَّالِثِ قَالُوا لِعَلِيٍّ : هَذَا آخِرُ يَوْمٍ مِنْ شَرْطِ صَاحِبِكَ فَأْمُرْهُ فَلْيَخْرُجْ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ: نَعَمْ فَخَرَجَ. و قَالَ ابْنُ جَنَابٍ فِي رِوَايَتِهِ مَكَانَ تَابَعْنَاكَ بَايَعْنَاكَ.
نلاحظ من خلالِ الجمعِ بين الرواياتِ : أن النبيَّ محمدًاr أمر عليًّا أن يمحو جملةَ (محمد رسول الله) فأبى عليُّ ذلك ، ولم تطاوعه نفسه ، فأخذ النبيُّ محمد r الكتابَ وسأل عليًّا أن يريه مكانها، وهذا في حد ذاته يثبت عدم معرفته القراءة يقينًا فسأل عن مكانِها ليمحوها فقط، وذلك بعد رفض عليُّ شطبها...
ثم أمر النبيُّ محمد r عليًّا أن يكتب بدل من (من محمدٍ رسول اللهِ) فقال : " اكتب من محمدٍ بنِ عبدِ اللهِ..... " وبهذا لم يكتب النبي محمد بنفسه ...
فكلمة ( وكَتَبَ ) مَعْنَاها: أنهr أَمَرَ بِالْكِتَابَةِ ، كَمَا يُقَال : رَجَمَ مَاعِزًا ؛أي : أَمَرَ برجمِه ؛ فالرجم وقع من أصحابِه وليس المعنى أنّ النبي محمدا r رجمَ هو بنفسه ..!
" أَرِنِي مَكَانَهَا " فَأَرَاهُ مَكَانَهَا فَمَحَاهَا وَكَتَبَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أي: أَمَرَ بِالْكِتَابَةِ ، والذي كتبها هو عليٌّ بعد أن مسحها النبيُّ محمد...
وأتساءل: ما المانع أن يكون النبيُّ محمدr قد كتب اسمَه بنفسِه كما هو ظاهر من الروايات ومُحتمل ؟!
الجواب: معلوم أن هناك أميين كُثُرٌ لا يعرفون القراءةَ ولا الكتابةَ، ولكن يعرفون كتابة أسمائِهم جيدًا، فبالأولى لا يُمتنع ذلك على إنسان ذكي عبقري مثل محمد النبي....؟!
ثالثًا: الرواية الثالثة فلا يُصح إسنادها؛ ضعفها الشيخ الألباني في ضعيف الجامع برقم 6828 " رأيت ليلة أسري بي على باب الجنة مكتوبا : الصدقة بعشر أمثالها و القرض بثمانية عشر فقلت يا جبريل : ما بال القرض أفضل من الصدقة ؟ قال : لأن السائل يسأل و عنده و المستقرض لا يستقرض إلا من حاجة".
قال الشيخ الألباني: ( ضعيف جدا ) انظر حديث رقم : 3083 في ضعيف الجامع .
سابعًا : ذهب أبو الوليد الباجي - رحمه اللهُ من علماء المغرب- وغيرُه إلى أن النبيَّr قرأ وكتب في آخرِ حياتِه ... واستشهد على ذلك بأدلةِ قوية منها:
1- قولُ اللهِ : وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) (العنكبوت ).
2-الأدلة التي ساقها المعترضون وغيرها؛ قطعية وظنية...
ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه قائمًا: ما المانع أن يكون النبيُّ r قرأ وكتبَ في آخرِ حياتِه ( قبل موته) ؛ فالقرآن المعجز نزل معظمه عليه وهو r أمي لم يكن يعرف القراءةَ ولا الكتابة...وهذا لا يقدح أبدًا في الإعجاز الذي يحاول المعترضون إسقاطه بالتبعية....
قلتُ: كتب وقرأ في آخرِ حياتِهr وهذا يظهر من قوله : r" ائْتُونِي بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ ... " كان قوله في مرضِه الأخير الذي مات بهr ؛ أي: قبل وفاتِه مباشرة ، وقد ذكره البخاريُّ في بَابِ مَرَضِ النَّبِيِّ r وَوَفَاتِهِ ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ...
وعلى هذا يزول الإشكال ويرفع القناع عن كل مُشكك مُحتال ، وتُتبدد الآمال ، وتُدفع الشبه والأذية....
كتبه / أكرم حسن مرسي
أرادوا الطعنَ في صدقِ رسالة النبي محمد، والقرآن الذي آتاه ربّه مستهدفين هدم المعجزات البينان ...
فقالوا: إنّ محمدًا كان يعرف القراءةَ والكتابةَ، ولم يكن أميًّا كما يزعم المسلمون ونقد نقل القرآن ممن عندهم علم بالكتب السابقة، وذلك بوثائق وبشهادات...!
استندوا في ذلك بعدّةِ روايات منها :
1- صحيح البخاري كِتَاب ( الْمَغَازِي) بَاب ( مَرَضِ النَّبِيِّr وَوَفَاتِه ِ..) برقم 4079 عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ : لَمَّا حُضِرَ رَسُولُ اللَّهِr وَفِي الْبَيْتِ رِجَالٌ فَقَالَ النَّبِيُّ r :" هَلُمُّوا أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ " فَقَالَ بَعْضُهُمْ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِr قَدْ غَلَبَهُ الْوَجَعُ وَعِنْدَكُمْ الْقُرْآنُ حَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ وَاخْتَصَمُوا فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: قَرِّبُوا يَكْتُبُ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَمَّا أَكْثَرُوا اللَّغْوَ وَالِاخْتِلَافَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r :" قُومُوا ". قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ : فَكَانَ يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ r وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ لِاخْتِلَافِهِمْ وَلَغَطِهِمْ .
2- صحيح مسلم كِتَاب ( الْجِهَادِ وَالسِّيَرِ) بَاب ( صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ فِي الْحُدَيْبِيَةِ) برقم 3336 عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ: لَمَّا أُحْصِرَ النَّبِيُّ r عِنْدَ الْبَيْتِ صَالَحَهُ أَهْلُ مَكَّةَ عَلَى أَنْ يَدْخُلَهَا فَيُقِيمَ بِهَا ثَلَاثًا وَلَا يَدْخُلَهَا إِلَّا بِجُلُبَّانِ السِّلَاحِ السَّيْفِ وَقِرَابِهِ وَلَا يَخْرُجَ بِأَحَدٍ مَعَهُ مِنْ أَهْلِهَا وَلَا يَمْنَعَ أَحَدًا يَمْكُثُ بِهَا مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ قَالَ لِعَلِيٍّ : " اكْتُبْ الشَّرْطَ بَيْنَنَا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ". فَقَالَ لَهُ الْمُشْرِكُونَ : لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ تَابَعْنَاكَ، وَلَكِنْ اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَمْحَاهَا فَقَالَ عَلِيٌّ: لَا وَاللَّهِ لَا أَمْحَاهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِr :" أَرِنِي مَكَانَهَا ". فَأَرَاهُ مَكَانَهَا فَمَحَاهَا وَكَتَبَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَأَقَامَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَلَمَّا أَنْ كَانَ يَوْمُ الثَّالِثِ قَالُوا لِعَلِيٍّ: هَذَا آخِرُ يَوْمٍ مِنْ شَرْطِ صَاحِبِكَ فَأْمُرْهُ فَلْيَخْرُجْ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ: نَعَمْ فَخَرَجَ و قَالَ ابْنُ جَنَابٍ فِي رِوَايَتِهِ مَكَانَ تَابَعْنَاكَ بَايَعْنَاكَ.
3- سنن ابن ماجة 2422 عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :"رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ مَكْتُوبًا الصَّدَقَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَالْقَرْضُ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَقُلْتُ يَا جِبْرِيلُ مَا بَالُ الْقَرْضِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّدَقَةِ قَالَ لِأَنَّ السَّائِلَ يَسْأَلُ وَعِنْدَهُ وَالْمُسْتَقْرِضُ لَا يَسْتَقْرِضُ إِلَّا مِنْ حَاجَةٍ".
الرد على الشبهة
أولًا: إن كلمة النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ تعني الذي لا يعرف القراءة والكتابة ، وقد ظل هكذا إلى أن تلقى الوحي ، وتعلمهما في آخر حياته وعلم العلوم الطبيعية والتاريخية والفلسفية والطبية والإنسانية لصالح البشرية ...
بينما كلمة ( الْأُمِّيِّينَ) ليس معناها الجاهلين أو الذين لا يقرؤون ويكتبون...وإنما معناها أمة ليس لها كتاب مقدس ...
وهذا هو المقصود من قوله تعالى:" هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (2)"( الجمعة). :"
ومن قوله تعالى حاكيًّا عن حال بعض اليهود:"وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)"(آل عمران).
تحكي الآية أن بعض اليهود يستحلون أكل مال الأمة التي ليس لها كتاب مقدس، وإن كان دينار واحدًا لا يأتمون عليه، بينما يختلف حالهم مع أهل كتابهم فيُحرم عليهم فعلتهم بنصوص قطعية...!
جاء في سفر التثنية أصحاح 23 عدد 20 للأجنبي تقرض بربا ولكن لأخيك لا تقرض بربا لكي يباركك الرب إلهك في كل ما تمتد إليه يدك في الأرض التي أنت داخل إليها لتمتلكها...
نلاحظ:أن الرب يباركه في كل ما تمتد إليه يده في كل أرض يدخلها...
ما سبق بيان تمهيدي تعريفي بعيدًا عن التعريفات المتعددة والمتشعبة... وهام لما سيأتي بيانه من نقاط قادمة لتفنيد الشبهة الوهمية....
ثانيًا: إنّ القرآنَ الكريم أخبر أنّ النبي محمدًا r هو النبي الأمي المخبر عنه في التوراةِ والإنجيل، وقد كان النبيُّ أميًّا بشهادة من حوله من أهل الشرك واليهودية والنصرانية... دلت على ذلك عدة أدلة منها:
1- قوله : الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) (الأعراف ).
3- قوله : قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)) ( الأعراف ).
4- قوله : الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) (البقرة ).
وصف اللهُ النبي محمدًاr بالأميةِ التي يعرفه بها اليهودُ والنصارى وغيرهم كما كانوا يعرفون أبنائهم؛ فهو المُبشر به، رفض نبوته اليهود لأنه من الأميين وليس يهوديا من نسل إسحاق...
ولم يقل أحدٌ أنه كان متعلما قبل الوحي، بل كان تاجرا، وكانوا يقولون تلقى عليه أساطير، وتارة يقولوه تملى عليه أخبار، وتارة يقولون يعلمه بشر...وكل هذا يعني أنه لم يكن متعلما القراءة والكتابة حينما أثناء نزول الوحي عليه؛ لدرجة أنه قالوا عنه( أُذن) يسمع وينقل فقط...
جاء في سفرِ إشعياء أصحاح 29 عدد 12 أَوْ يُدْفَعُ الْكِتَابُ لِمَنْ لاَ يَعْرِفُ الْكِتَابَةَ وَيُقَالُ لَهُ : «اقْرَأْ هَذَا» فَيَقُولُ: « لاَ أَعْرِفُ الْكِتَابَةَ».
بينما الترجمة الأصح للنص والأقرب معقولية....
ما جاء في التراجمِ الإنجليزية:" يقال له : اقرأ فيقول : " لا أعرف القراءة " أو " لم أتعلم القراءة ".
فليس من المعقولِ أن تطلب من أحدٍ القراءةَ فيقول لك : " أنا لا أعرف الكتابة " , ولكن المتوقع حتمًا أن يقول : " أنا لا أعرفُ القراءةَ " أو " أنا لست متعلمًا " !
وهو ما ذكرته أيضًا ترجمة كتاب الحياة:"وَعِنْدَمَا يُنَاوِلُونَهُ لِمَنْ يَجْهَلُ الْقِرَاءَةَ قَائِلِينَ: اقْرَأْ هَذَا، يُجِيبُ: لاَ أَسْتَطِيعُ الْقِرَاءَةَ".
وهذا الواقعة تشبه بمدى قريب جدًا ، واقعة تلقى الوحي للنبي محمد أول مرة في غار حراء بصورة ملفتة ومبهرة وتشويقية ....كانت للمعترضين أن يتفكروا فيها فلهم هم الأولية....
في صحيحِ البخاري باب( بدء الوحي) برقم 3 عَنْ عَائِشَةَ- أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ - أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ r مِنَ الْوَحْىِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاَءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ ـ وَهُوَ التَّعَبُّدُ ـ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ، فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ قَالَ: " مَا أَنَا بِقَارِئٍ ". قَالَ: " فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ : اقْرَأْ فَقُلْتُ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ , فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ r يَرْجُفُ فُؤَادُهُ....
ثالثًا: إنّ القرآن الكريم أكد أنّ أميةَ النبيِّ محمد r (عدم معرفة القراءة والكتابة) كانت سببًا كافيًا لدحضِ شبهات المشككين المبطلين الذين اتهموه r بأنه تناقل آيات القرآنَ من كتبٍ سابقةٍ ... قال : وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) (العنكبوت).
ومعنى الآية: يا محمد كنت قبل نزول الوحي عليك أميًّا لا تعرف القراءة والكتابة ، ومنْ حولك مقرون بذلك، ولو كنت قارئا وكاتبا قبل نزول الوحي عليك لشكك المبطلون بأنك تناقلت ناسخًا ونُسخًا.....ولكنك لم تكن تقرأ وتكتب حينها ...
كما أن آيات القرآن معجزات يحفظها العلماء في قلوبهم، ويجحدها الدهماء والظالمون...
والعجيب أننا لم نسمع قديمًا أن واحدًا تحدث مُكذبًا للآية؛ مدعيًّا بأن محمدًا كان يقرأ كتبا قبل نزول الوحي عليه...!
كما يُفهم من الآية أن النبي محمدًا تعلم القراءة والكتابة أثناء نزول الوحي عليه في مرحلة متأخرة..... هذا بجانب أنه أُمر بأن يقرأ، وهذا من قوله تعالى:" اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)"(العلق).
وأمر الله لا يؤخر ولا يُترك لاسيما إن كان المأمور هو النبي محمد فخر الإنسانية...
رابعًا: إنّ أمية النبيَّ محمد r وإنْ كانت دليلًا على إعجازِ القرآنِ إلا أن الإعجاز لا يزال قائمًا في كلِ الأحوالِ سواء كان النبي r أميًّا أم لا ؟
فالقرآن لم يتحد فئةَ معينةَ من البشرِ؛ وإنما تحدى كل البشرِ أن يأتوا بسورةِ من مثلِه، وقد شهد له أعتا عتاةِ العربِ في زمنِ النبيِّ محمد r ، وكانوا أفصح الناسِ ، وأبلغهم بيانًا على مر الحقب التاريخية...
بل وشهد له أهلُ اللغةِ والبيان في عصرنا من أدباء، ومؤرخين، وأطباء، وحكماء، وجيولوجيين، وكيميائيين... فما زال الإنسان عاجزًا أمام معجزةِ القرآنِ الكريم؛ فكلما ازداد علمه،كلما ازداد شعوره بالعجز أمامه، وأيقن أنه من رب البرية....
والعجيب أن مشركي قريش حينما أرادوا مهاجمة القرآن الكريم وهم أفصح بيانًا ولسانًا من معترضين اليوم...تضاربوا في أكاذيبهم حامله وناقله r ؛ فتارة يقولون شاعر، وتارة كاهن، وتارة ساحر،تارة مجنون...وهذا التضارب في الزعم يشعرنا بمدى تخبطهم نحو كلماته ، وعجزهم نحو آياته ...في حين أنهم أهل الشعر الفصاحة، وأصحاب المعلقات...واكتفي بكلمة حق قالها الوليد بن المغيرة من لهم لما سمع آيات من القرآن الكريم ....قال: "فَوَاللَّهِ مَا فِيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمَ بِالأَشْعَارِ مِنِّي ، وَلا أَعْلَمَ بِرَجَزِهِ وَلا بِقَصِيدَتِهِ مِنِّي ، وَلا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ ، وَاللَّهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا ، وَوَاللَّهِ ، إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ حَلاوَةً ، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلاوَةً وَإِنَّهُ لَمُثْمِرٌ أَعْلاهُ ، مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلا ، وَأَنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ ".(شعب الإيمان للبيهقي برقم 134).
فعلى فرض جدلًا أن النبي محمدًا كان يعرف القراءة والكتابة قبل نزول الوحي إلا أن الإعجاز لا يظل قائمًا إلى يوم القيامة ، وترد خائبةً دومًا شبهاتُهم الخيالية....
خامسًا: إن النبيَّ محمدًاr كان يحرك لسانَه بالقرآنِ، ويرهق نفسَه في ترديده خلف الملك (جبريل) قبل أن يقضى إليه وحيه؛خشية أن ينسى منه شيئًا...فيطمئنه ربُّه ويخبره أن حفظه موكول إليه ، وأنه سيجمعه في صدره، ولن ينساه...
قال : لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) ( القيامة) .
وقال : فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً (طه114 ).
وبالتالي لو كان النبيُّ محمد r يعرف الكتابةَ لكتب ما يوحى إليه من الملك جبريل وقتِ وحيِه أو بعده مباشرة كي لا ينسى، وهو أولى من إرهاق بُغية حفظة... لكنه لم يكن يعرف الكتابة حينها، ولو عرفها كان هذا دورها بالأولوية... !
سادسًا: بعد أن قمتُ بإثبات أميةِ النبي محمد r جاء دور توضيح وبيان الروايات التي آتى بها المعترضون للتشكيك في أُميته قبل الوحي ونسفها بالكلية..!
أولًا: بالنسبة للرواية الأولى: قال النوويُّ في بَاب ( تَرْكِ الْوَصِيَّةِ لِمَنْ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ): في هذا الحديث عدة فوائد...وَمِنْهَا: : جَوَاز اِسْتِعْمَال الْمَجَاز لِقَوْلِهِ r: ( أَكْتُب لَكُمْ ) أَيْ : آمُر بِالْكِتَابَةِ . اهـ
ثانيًا : الرواية الثانية : قَوْله r : " أَرِنِي مَكَانهَا فَأَرَاهُ مَكَانهَا فَمَحَاهَا وَكَتَبَ اِبْن عَبْد اللَّه " الإشكال نشأ عن التوهم الحاصل عن ظاهرِ النصِ ؛ كأن النبيَّ محمدا r أخذ الكتابَ من علىِّ بنِ أبى طالبٍ ثم كتب بنفسِه ، وليس الأمرُ كذلك ، ولكي يتضح فهم الروايةِ التي معنا فهمًا صحيحًا يُجمع بين الرواياتِ كما يلي :
1- صحيح مسلم كتاب (الجهاد و السير) باب ( صلح الحديبية في الحديبية) برقم 3337 عَنْ أَنَسٍ أَنَّ قُرَيْشًا صَالَحُوا النَّبِيَّ rفِيهِمْ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ النَّبِيُّ r لِعَلِيٍّ : " اكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" قَالَ سُهَيْلٌ: أَمَّا بِاسْمِ اللَّهِ فَمَا نَدْرِي مَا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَلَكِنْ اكْتُبْ مَا نَعْرِفُ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ فَقَالَ :" اكْتُبْ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ " قَالُوا : لَوْ عَلِمْنَا أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ لَاتَّبَعْنَاكَ وَلَكِنْ اكْتُبْ اسْمَكَ وَاسْمَ أَبِيكَ فَقَالَ النَّبِيُّr :" اكْتُبْ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ " فَاشْتَرَطُوا عَلَى النَّبِيِّ rأَنْ مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكُمْ وَمَنْ جَاءَكُمْ مِنَّا رَدَدْتُمُوهُ عَلَيْنَا فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَكْتُبُ هَذَا ؟! قَالَ: نَعَمْ إِنَّهُ مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إِلَيْهِمْ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ وَمَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ سَيَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا.
2- صحيح مسلم كتاب (الجهاد والسير) باب ( صلح الحديبية في الحديبية ) 3335 عن الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قال: كَتَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الصُّلْحَ بَيْنَ النَّبِيِّ r وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ فَكَتَبَ هَذَا مَا كَاتَبَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالُوا: لَا تَكْتُبْ رَسُولُ اللَّهِ فَلَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ لَمْ نُقَاتِلْكَ فَقَالَ النَّبِيُّr لِعَلِيٍّ : " امْحُهُ " فَقَالَ : مَا أَنَا بِالَّذِي أَمْحَاهُ فَمَحَاهُ النَّبِيُّ r بِيَدِهِ قَالَ: وَكَانَ فِيمَا اشْتَرَطُوا أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ فَيُقِيمُوا بِهَا ثَلَاثًا وَلَا يَدْخُلُهَا بِسِلَاحٍ إِلَّا جُلُبَّانَ السِّلَاحِ قُلْتُ لِأَبِي إِسْحَقَ: وَمَا جُلُبَّانُ السِّلَاحِ ؟ قَالَ: الْقِرَابُ وَمَا فِيهِ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى وَابْنُ بَشَّارٍ قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ يَقُولُا : لَمَّا صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ r أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ كَتَبَ عَلِيٌّ كِتَابًا بَيْنَهُمْ قَالَ : فَكَتَبَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ثُمَّ ذَكَرَ بِنَحْوِ حَدِيثِ مُعَاذٍ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْحَدِيثِ هَذَا مَا كَاتَبَ عَلَيْهِ
3-صحيح مسلم كتاب (الجهاد و السير) باب (صلح الحديبية في الحديبية) 3336 عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ: لَمَّا أُحْصِرَ النَّبِيُّ r عِنْدَ الْبَيْتِ صَالَحَهُ أَهْلُ مَكَّةَ عَلَى أَنْ يَدْخُلَهَا فَيُقِيمَ بِهَا ثَلَاثًا وَلَا يَدْخُلَهَا إِلَّا بِجُلُبَّانِ السِّلَاحِ السَّيْفِ وَقِرَابِهِ وَلَا يَخْرُجَ بِأَحَدٍ مَعَهُ مِنْ أَهْلِهَا وَلَا يَمْنَعَ أَحَدًا يَمْكُثُ بِهَا مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ قَالَ لِعَلِيٍّ :" اكْتُبْ الشَّرْطَ بَيْنَنَا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ" فَقَالَ لَهُ الْمُشْرِكُونَ : لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ تَابَعْنَاكَ وَلَكِنْ اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَمْحَاهَا فَقَالَ عَلِيٌّ: لَا وَاللَّهِ لَا أَمْحَاهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِr :" أَرِنِي مَكَانَهَا " فَأَرَاهُ مَكَانَهَا فَمَحَاهَا وَكَتَبَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَأَقَامَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَلَمَّا أَنْ كَانَ يَوْمُ الثَّالِثِ قَالُوا لِعَلِيٍّ : هَذَا آخِرُ يَوْمٍ مِنْ شَرْطِ صَاحِبِكَ فَأْمُرْهُ فَلْيَخْرُجْ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ: نَعَمْ فَخَرَجَ. و قَالَ ابْنُ جَنَابٍ فِي رِوَايَتِهِ مَكَانَ تَابَعْنَاكَ بَايَعْنَاكَ.
نلاحظ من خلالِ الجمعِ بين الرواياتِ : أن النبيَّ محمدًاr أمر عليًّا أن يمحو جملةَ (محمد رسول الله) فأبى عليُّ ذلك ، ولم تطاوعه نفسه ، فأخذ النبيُّ محمد r الكتابَ وسأل عليًّا أن يريه مكانها، وهذا في حد ذاته يثبت عدم معرفته القراءة يقينًا فسأل عن مكانِها ليمحوها فقط، وذلك بعد رفض عليُّ شطبها...
ثم أمر النبيُّ محمد r عليًّا أن يكتب بدل من (من محمدٍ رسول اللهِ) فقال : " اكتب من محمدٍ بنِ عبدِ اللهِ..... " وبهذا لم يكتب النبي محمد بنفسه ...
فكلمة ( وكَتَبَ ) مَعْنَاها: أنهr أَمَرَ بِالْكِتَابَةِ ، كَمَا يُقَال : رَجَمَ مَاعِزًا ؛أي : أَمَرَ برجمِه ؛ فالرجم وقع من أصحابِه وليس المعنى أنّ النبي محمدا r رجمَ هو بنفسه ..!
" أَرِنِي مَكَانَهَا " فَأَرَاهُ مَكَانَهَا فَمَحَاهَا وَكَتَبَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أي: أَمَرَ بِالْكِتَابَةِ ، والذي كتبها هو عليٌّ بعد أن مسحها النبيُّ محمد...
وأتساءل: ما المانع أن يكون النبيُّ محمدr قد كتب اسمَه بنفسِه كما هو ظاهر من الروايات ومُحتمل ؟!
الجواب: معلوم أن هناك أميين كُثُرٌ لا يعرفون القراءةَ ولا الكتابةَ، ولكن يعرفون كتابة أسمائِهم جيدًا، فبالأولى لا يُمتنع ذلك على إنسان ذكي عبقري مثل محمد النبي....؟!
ثالثًا: الرواية الثالثة فلا يُصح إسنادها؛ ضعفها الشيخ الألباني في ضعيف الجامع برقم 6828 " رأيت ليلة أسري بي على باب الجنة مكتوبا : الصدقة بعشر أمثالها و القرض بثمانية عشر فقلت يا جبريل : ما بال القرض أفضل من الصدقة ؟ قال : لأن السائل يسأل و عنده و المستقرض لا يستقرض إلا من حاجة".
قال الشيخ الألباني: ( ضعيف جدا ) انظر حديث رقم : 3083 في ضعيف الجامع .
سابعًا : ذهب أبو الوليد الباجي - رحمه اللهُ من علماء المغرب- وغيرُه إلى أن النبيَّr قرأ وكتب في آخرِ حياتِه ... واستشهد على ذلك بأدلةِ قوية منها:
1- قولُ اللهِ : وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) (العنكبوت ).
2-الأدلة التي ساقها المعترضون وغيرها؛ قطعية وظنية...
ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه قائمًا: ما المانع أن يكون النبيُّ r قرأ وكتبَ في آخرِ حياتِه ( قبل موته) ؛ فالقرآن المعجز نزل معظمه عليه وهو r أمي لم يكن يعرف القراءةَ ولا الكتابة...وهذا لا يقدح أبدًا في الإعجاز الذي يحاول المعترضون إسقاطه بالتبعية....
قلتُ: كتب وقرأ في آخرِ حياتِهr وهذا يظهر من قوله : r" ائْتُونِي بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ ... " كان قوله في مرضِه الأخير الذي مات بهr ؛ أي: قبل وفاتِه مباشرة ، وقد ذكره البخاريُّ في بَابِ مَرَضِ النَّبِيِّ r وَوَفَاتِهِ ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ...
وعلى هذا يزول الإشكال ويرفع القناع عن كل مُشكك مُحتال ، وتُتبدد الآمال ، وتُدفع الشبه والأذية....
كتبه / أكرم حسن مرسي