اعرض النسخة الكاملة : رأيي في الحضارة الغربية ، للرافعي
أبو عبد الله البخاري
26.02.2010, 15:08
جاء في كتاب تحت راية القرآن للأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي رحمه الله هذا التحليل الدقيق والغوص العميق في بطون الحضارة الغربية ومضائقها فأجلى حقيقتها بما يكشف عن الزيف الذي تدثرت به قروناً طويلة فما انفك غزلها أن انهار وتبدّت عن وجه كالح تتقاطر من تجاعيده أنواع الرذائل وأوساخ الفجور ، ولقد كان في العزم نقل هذا المقال من مدة مضت إلا أن لله في حكمه شؤوناً ، فلتتفضّلوها مشكورين ولا تنسوا أخاكم من خالص الدعاء ..
أبو عبد الله البخاري
26.02.2010, 15:09
علم الله ما فتن المغرورين من شبابنا إلاّ ما أخذهم من هذه الحضارة ، فإن لها في زينتها ورونقها أخذة كالسحر ، فلا يميزون بين خيرها وشرها ، ولا يفرقون بين مبادئها وعواقبها ، ثم لا يفتنون منها إلا ما يدعوهم إلى ما يميت ويصدهم عما يحيي وما يحول بينهم وبين قلوبهم ، فليس إلا المتابعة والتقليد ؛ وسأوجز هذا الرأي ما استطعت ، وسأجعل كلامي فيه بلغة النظر: تأتي اللمحة القصيرة على ما تطول العبارة فيه وتمتد.
إن هذه الحضارة لا تظهر أبداً على حقيقتها ، إذ كانت حقيقتها لم تجتمع بعد ، وقد أنشأها جيل قريب منا وورّثها من بعده وترك معها أخلاقه وطباعه ، فما برح الناسُ يشبهون الناسَ ، وإنما صبغت الحياة ولونت ودخلها التمويه و الزخرف والخطب في هذا يسير ، إذ كان اللون الإنساني لا يزال ولكن الشأن حين تتناسخ الأجيال خلقاً بعد خلق ويظهر على هذه الأرض الإنسان الميكانيكي الوارث أخلاقه من الآلات أكثر مما يرثها من النفوس ، فيومئذ لا يكون القول في الحضارة موضع حسبان وظن كما هو الآن.
وعلى أن الدنيا لا تزال بخير ، وعلى أن الحضارة لم تعد من الإنسانية موقع الألوان و التحاسين ؛ فقد غمر شرّها وكثر أذاها وأخذ أهلها يتدافعونها ويتذمّمون منها وألزموها الإثم وألحقوا بها الفساد وأبكى عقلاءهم وحكماءهم ما جلبت عليهم من الأخانيث والمضاحيك والمهازل والمفاسد وكبائر الإثم والفواحش ، ولم يقم خيرها بشرها ولا غطت مصالحها على مفاسدها.
يحمل الإنسان في نفسه نقيضين ، هما عقله وهواه ، أو دافعه ووازعه ، فإذا أطلقهما معا أفسداه ، وإذا قيدهما معا أفسداه كذلك ، ولكن تمام الإنسان ونظامه أن يطلق العقل ويحدّ الهوى فيصفى بعضه في بعض فإذا هو قد خلص وتحرر ؛ ومادامت الأهواء مقيدة في حدودها فليس في العقل إلا محض الخير، فإذا تركا جميعاً لغاياتها طمّ شيء على شيء ورجعت الحياة صراعاً حيوانياً ، واحتالت العقول لتغيير الوضع الإنساني ، وتواضع الناس على الأخلاق البهيمية الفاسدة يدخلونها في آدابهم فلا ينكرونها ولا يردونها ولا يرون الأدب يكون بغيرها أدباً.
أبو عبد الله البخاري
26.02.2010, 15:10
فالحضارة الغربية أطلقت العقول تجدّ وتبتدع ، وأطلقت من ورائها الأهواء تلذ وتستمتع وتشتهي ، فضرب الخير بالشر ضربة لم تقتل ولكنها تركت الآثار التي هي سبب القتل ، إذ لا تزال تمدّ مدّها حتى تنتهي إلى غاياتها ، وذلك هو السر في أنه كلما تقادمت الأزمنة على هذه الحضارة ضجّ أهلها وأحسّوا عللاً اجتماعية لم تكن فيهم من قبل ، ولو قد عمت الحضارة وتغشي أروبا كلها فلم يبق في تلك الأرض سواد ريفي أقرب إلى الطبيعة وأشكل بها ولا يزال في الحياة على إرثه القديم كالسواد الأعظم الذي يعمر قراها ويملأ صميمها في كلّ مملكة منها - لرأيت أفظع ما ترى العين من بلاد متعادية متنابذة ، لما ينازع أهلها من طلب المنافع الشخصية والتكالب عليها و الاستهتار بالشهوات والتناحر على تكاليف حياتهم الثقيلة المملولة المستوخمة ، بيد أن ريف أروبا وقراها وما فيها من نزعة الدين ومن معاني الطبيعة البعيدة عن الحضارة ومن الأخلاق السوية الصحيحة التي لم تزغها المدنية - كل ذلك هو الذي يمسك بهذه القارة أن تنهار ويحفظها أن تتحلل ، وهو كالبداوة المحضة بإزاء الحضارة في معانيها المستهلكة ، فهو بذلك مادة التجديد الإنساني في أروبا ، على حين أن هذه المدنية هي مادة التجديد الحيواني بما تصرف عليه الحواس من المتاع واللذة ، والحواس روّاد القلب فما أدت إليه أصلحه أو أفسده ؛ ولقد قرأت في هذه الأيام رواية يقال إن كاتبها نادرة ، فما فرغت منها إلا وأنا أعتقد أن كاتب أروبا هذا هو حيوان أروبا ... إن العقول الناضجة المميزة لا تهب منها الحكمة الإلهية بقدر ما تهب من الأهواء ولا بعض ذلك ، بل هي من قسط من الأفراد الذين لا يبلغون فصلا في الكتاب الإنساني الكبير ، أما الشهوات فهي للجنس كله ؛ إذ هي غايات طبيعية في تركيب الأجسام ؛ ولذا قامت الأديان على سنة حكيمة كافلة للمصلحة ، وهي إبعاد الشهوات عن المجتمع وإباحة القليل منها بشروط وقيود ، واعتبار درء المفسدة مقدماً على جلب المصلحة ، وذلك وإن لم يؤت الناس عقلاً فإن العقل لا يؤتيهم غيره في آداب الحياة ، ولكن الحضارة قامت على إطلاق العقل والهوى ، فاستباحت الدينَ طوائفُ من الناس وتركته بلا أثر في طوائف أخرى ، فكانت تحكيماً للشهوات في الخلق وتمكيناً لأسبابها في الاجتماع ، ومن ثم أخذت تقتلع الأخلاق الإنسانية من أصولها ، وما أعرف أكثر مظاهر المدنية إلا أمراضاً مسماة بغير أسمائها ، و كلها جميلة سائغة مشرقة ، لأنها كلها تؤلف حلما مريضا كأحلام الخمر والأفيون ...
أصبح الغربي المتحضر عصبياً ثائراً حساساً يدلف إلى الجنون بخطى بطيئة لكنها سائرة متحركة ، وابتلته المدنية بأمراضها التي لم تكن في أسلافه ، كالسرطان وغيره ، وضربته الشهوات بخدر الحاسة الروحية وخمولها فأصبح يعمل للغرض الأسمى بوسائل معكوسة لا تؤدي إلا إلى الغرض الأسفل ، ورجع كأنه غريب عن الطبيعة الخشنة التي لا بد من خشونتها ليبقى قوياً بها وقوياً فيها وقوياً عليها ، وتغير من كل ذلك تاريخ عقله وأعصابه ، فضعف النبوغ الفني وأصبح النمط العالي منه خاصاً بالتاريخ القديم وحده ، مع أنه ليس بين القديم وبين الجديد إلا طبيعة هذه الحضارة وأثرها على العقول ، أما الإنسان فهو هو ، بيد أنه في الحضارة الأولى المتخشنة كان كالدينار الجديد رزيناً خشناً ، فأصبح في هذه الحضارة الناعمة كالدينار الأملس مسحته الأيدي وأزالت حرشته فهو إلى ضعف وإلى نقص ...
أبو عبد الله البخاري
26.02.2010, 15:10
اتخذت الحضارة المرأة الغربية من وسائلها في ترقيق الطباع وإرهاف الملكات ، ومع المرأة ما معها من فنون الدعابة والمغازلة والمفاكهة والإغراء وما تحت هذه من الطباع والأخلاق ، فإذا العالم المتحضر في صبغة من الأنوثة متى أخذ الدهر مأخذه فيها استحالت من بعد صبغة من الفجور يشمل هذا العالم .
ويقولون : الجمال والفن ولا يعلمون أنهما إذا استفاضا وعمّا جاء منهما الخبال والهوس ، وخرج من اجتماع كل ذلك الانحلال والسقوط ، كما وقع في التمدن الروماني والحضارة الغربية .
إني لا أرى أكثر مظاهر هذه الحضارة إلا أسلحة قاتلة تقتل الخير والرحمة في قلوب الناس ، فهي ترفع تكاليف الحياة وتزيد فيها وتعسر آمالها ، فتنشيء بذلك الفقر المدقع ، وتخرج معه الفوضى والاختلال ، وتحدث به الأخلاق السافلة كالتلصص والدماء والخبث والحسد ونحوها ويزيد العالم كل يوم بأسباب كثيرة تبدعها الحضارة ؛ فلا تكون الزيادة إلا عبثاً وشراً ومضايقة ، لأن ما كان يكفي الجماعة ذات العدد أصبح لا يكفي إلا فرداً واحداً ، ويومئذ لا تستقيم الإنسانية إلا بأن يتغذى بعضها من بعض ، فيكثر القتل والاستراق والإباحة ، ولكن في ألفاظ وتعابير مدنية ، والآفة يومئذ أن الإنسانية تكبر والأرض لا تكبر ، فتضيق الحياة بأهلها وتزيد مطامعهم ضيقا ، فيتقرر عندهم نظام التقتيل ويصبح قانوناً إنسانياً عاماً ، وما أرى هذا القانون سينفذ إلا في الأجنة في بطون أمهاتهن ، بحيث يكون في كل أسرة ميزان للموت لا يعطي الدنيا من إحدى كفتيه طفلاً إلا بعد أن يجتمع في الكفة الأخرى أربعة موتى أو أقل أو أكثر
ولن يجدوا علاجاً من داء الحضارة إلا بالحمية منها ، فيوشك إذا هم تنبهوا إلى ذلك أن يمنعوا الناس من بعض فنون هذه الحضارة بقوة القانون ، وأن يفرضوا عليهم بعض الجهل فرضا يؤخذون به ليبقى تاريخ العالم متصلا وليجد النوع الإنساني على هذه الأرض من يوجده بصفائه وخصائصه ، فإن الأخلاق في تلك الحضارة قائمة على خير قواعدها ، إذ لم يكن من سبيل لتغيير البناء الإنساني إلا بتغيير تلك القواعد .
وأنا أرى أنه لو انتزع من هذه المدنية أكثر حسناتها لذهب في ذلك أكثر سيئاتها ، إذ كانت الحسنة هي التي تخرج السيئة ؛ فالغنى الواسع بإزاء الفقر الأوسع ، والرفاهيّة السّرية بإزاء الشيوعية والفوضى وهكذا ، ونعيم هذه الحضارة نعيم في أقله وشقاء في أكثره ، وهو يفسد من يناله بإضعاف أخلاقه القوية الصالحة ، ويفسد من لم ينله بتقوية أخلاقه الضعيفة الفاسدة ؛ ذاك تسقط به مؤاتاة الشهوات إياه ، وهذا يسفل به امتناعها عليه وهي لغيره معرضة ؛ ذاك يفسده ما في نفسه ، وهذا يفسده ما في نفسه وما في غيره.
أبو عبد الله البخاري
26.02.2010, 15:11
ولا يذهبن عنك أن الحضارة تقرر في جميع الناس هذين الأصلين العظيمين : الحرية والمساواة ، فينشأ الناشيء عليهما ويترشح لهما في الحياة ، حتى إذا شب وانتهى إلى الواقع وجد تلك الحضارة بعينها هي التي تقتلع الأصلين وترمي بهما في وجهه ، فليس في الواقع إلا أشراف ووضعاء ، وإلا علية وسفلة ، وإلا أفراد معدودون من طبقة يراغمون سائر الناس من العمال والمهّان والمساكين ونحوهم ، كأن أساطين المال والسياسة هم وحدهم أصابع الدنيا تأخذ بهم ما هي آخذة ، وبذلك ترجع عقيدة المساواة وإنها لعقيدة الظلم ، وتعود فكرة الحرية وهي فكرة الاستعباد ، فإذا سواد العالم المتحضر هو الناقم على الحضارة المستريب بها ، وهو على سخطه ونقمته مسخّر لمعيشته الضيّقة المقسومة بالجرام من أيدي أصحاب القناطير ، يعطيهم دمه بخبزه ، ويشتري موته بعيشه ، وذلك كله مما يجعله متربصاً بالفتن ، سريعاً فيها إذا وقعت ، تابعاً لكل من يدعوه إليها أو يستجيشه عندها ، متوثباً على ما يدري وما لا يدري ، كما يقع الآن في أروبا
فالكبير في هذه الحضارة ظالم هو أشبه بمظلوم ، والصغير مظلوم هو أشبه بظالم ، وكأن الحقيقة نفسها خرجت من موضعها فكل شيء حقيقة وكل شيء زور ، والروح الإنسانية متى أصبحت موتورة ساخطة متبرمة بأسباب مختلفة كأسباب هذه المدنية من سياسية واجتماعية ووطنية – لم تكن روح الحياة ولكن روح القتل وما في حكمه ، ومن ثم فلا بد في هذه الحضارة من انفجارات حربية مستمرة ، ولا بد لها أن تجد من تقتله ومن تظلمه ومن تستعبده ؛ وإذا تحاجزت الدول وتتاركت زمناً فإنما يسمن بعضها بعضاً في مراعي السلم والعيش وكلّ أمة عينها على شحم الأخرى .
ولقد كانت الحرب العظمى تنقيحاً إلهياً عنيفا لهذه الحضارة الزائفة ، فوضع الله يده عليها فمحت أكثر حسناتها ورقائقها وطرفها البديعة ، وأميتت طباع الترف لتنبعث طباع القوة ، وقرّ في الرجل معنى الرجل وفي المرأة معنى المرأة وكانا قبل ذلك وإن الرجل نصف امرأة وإن المرأة ضِعف نفسها .
فكأن الحرب كانت مصفاة للحضارة ثقوبها الخرائب والخنادق والقبور ، ومتى جمعت الأوساخ بعد زمن فالمصفاة باقية (°) ..
لست أنكر أن الحضارة زينة الحياة الدنيا وبهجتها ، ولكن آفتها أن غايتها التي تجري إليها غنماً هي المتعة واللذة وانتهاب العمر ؛ فهي بذلك تؤتي جميع لذات الحياة ، لمن أطاق واتسع ؛ كما تؤتي جميع مكارهها لمن حرم وقتر عليه ؛ وبهذين توجد ألفاً من السفلة والحشوة وسقاط الناس إذا هي أوجدت واحداً من أهل الفضل والرحمة والإنسانية ، ولا قصد فيها بل هي إسراف من طرفيها لا يألو أن يدفع الناس من حدّ إلى حد إلى غير حد علواً وسفلاً ؛ فالنزاع بيّن في المادة والنزاع في العاطفة ذاهبان إلى ملتقى واحد ؛ هو سخط الإنسان على الإنسان سخطاً شقياً مدنفاً ؛ إذ لا أشقى في الاجتماع من ساخط على من لا يرضاه ، هي حضارة على المجاز إذا توسعنا في العبارة لتعم الناس ، فإذا حققنا في صريح هذا المجاز رأينا فيها الذلة والمسكنة والتهلكة بوسائل هي العز والغنى والحياة .
..................................................
قال المحقق : (°) قلت : يتحدث المؤلف عن أثر الحرب العالمية الأولى سنة 1914-1918 ، وقد جمعت الأوساخ بعدها ولم يمض كبير زمن فكانت الحرب العالمية الثانية سنة 1939-1945 ، ولا تزال المصفاة قائمة ..
vBulletin® v3.8.7, Copyright ©2000-2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
diamond