مجد الإسلام
16.08.2010, 14:06
من فتوحات رمضان: فتح مكة فكان فتحاً لأمَّة
مجدى داود
المصدر/ http://qawim.net/index.php?option=com_content&task=view&id=7370&Itemid=1468
من معارك وانتصارات شهر رمضان الكريم، ومن أعظم فتوحات هذا الشهر المبارك في التاريخ الإسلامي كله هو فتح مكة الذي كان في العام الثامن من الهجرة النبوية المباركة من مكة المكرمة إلى يثرب التي صارت فيما بعد مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إنني ما أظن أن أحدا من المسلمين الذين يقدمون على القراءة يجهلون فتح مكة، لذا فلن أسرد تفاصيل هذا الفتح المبارك ولكنى سأركز فيه على بضع نقاط نستلهم ونرى كيف تعامل معها نبينا الكريم وصحابته الأفاضل رضوان الله عليهم أجمعين، فإذا عرفنا المنهج النبوي في التعامل في أوقات الحروب فيجب علينا نحن المسلمين بصفة عامة والمجاهدين منا المرابطين على الثغور في فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها بصفة خاصة أن نسير على نهجه صلى الله عليه، فهو النهج الحق الذي عز وانتصر من تبعه، وذل وانتكس من أعرض عنه.
في صلح الحديبية الذي عقد في العام السادس الهجري بين المسلمين بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش اتفق الفريقان على وضع الحرب عشر سنوات بين الجانبين وقد دخلت خزاعة في عهد المسلمين ودخلت بنو بكر في عهد قريش، والتزمت قريش بالصلح سنتان تم فيهما تغيير بعض بنود الصلح بناء على رغبة قريش مع أنهم هم الذين أصروا على هذه الشروط.
لكن في العام الثامن الهجري غارت بنو بكر على خزاعة بمساعدة قريش، وقتلت منهم أكثر من عشرين رجلا، فدخلت خزاعة البيت الحرام لتستجير به لكن بنو بكر لم يعطوا حرمة البيت وقتلوهم فيه، فخرج عمرو بن سالم الخزاعي في نفر من قومه متوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنشد أمامه قصيدة يصف له ما فعلته بنو بكر ويستحثه على الوفاء بالعهد الذي تم في صلح الحديبية فوعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه سينصرهم.
بعد ذلك أرسلت قريش أبو سفيان بن حرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ليفاوضه وليطلب منه مد الهدنة والصلح الذي عقد في الحديبية لكنه عاد بخفي حنين فلم يستجب له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقي أبو سفيان بن حرب في المدينة أشد ما يلاقيه المرء من المذلة، فقد ذهل إلى أبى بكر يتوسط له عند النبي فأبى، فذهب إلى عمر فأبى وكذلك عثمان، فذهب إلى على فأبى فاستجار بفاطمة الزهراء رضي الله عنها فأبت فرأى الحسن يلعب فقال ابنك هذا يجيرني فأبت ذلك، فتوجه إلى ابنته أم المؤمنين أم حبيبة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبت وعاملته كما يجب أن يعامل الكافر ولم تدفعها قرابته لها من محاباته والتوسط له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الموقف من النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وصحابته وزوجته أم حبيبة وابنته فاطمة رضي الله عنهم جميعا لهو موقف جدير بأن نقف عنده، ونتأمله، لنرى كيف جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من دولته الناشئة مكانة ومنزلة عند الجميع يجب أن يعرفوا قدرها ويعطوها حقها، فلم يتنازل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفرط في ذلك الجرم البشع الذي ارتكبه سفهاء قريش وبنو بكر، فالدولة القوية التي تهابها الدول الأخرى هي التي تتخذ موقفا قويا حازما حيال التعرض لرعاياها أو لحدودها أو لمصالحها وحلفائها، أما الدولة التي لا يكون لها رد فعل قوى حيال هذه الأمور فهي دولة ضعيفة تتلاعب بها الدول الأخرى كما يتلاعب الصبيان بالكرة، وكذلك فصائل المقاومة فتلك التي تدافع عن شعبها في حالة العدوان ولا تفرط أبدا في حقه يهابها عدوها ويحسب له ألف حساب أما التي تظهر العجز والضعف فإنها تتلقى الكثير من الضربات القاضية ويستخف بها عدوها.
ومن هذا الموقف أيضا نرى أثر التفاف الخلفاء الأربعة ومن خلفهم بقية الصحابة رضي الله عنهم أجمعين حول نبيهم وقائدهم صلى الله عليه وسلم حيث أن أبا سفيان ذهب إلى أقرب أصحاب رسول الله منه مكانة وهم الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم، وطالما أن هؤلاء أظهروا له عدم جرأتهم على الحديث مع رسول الله في الأمر فإن غيرهم لن يفعل ذلك، ومع أن أيا منهم كان يمكنه أن يحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أنهم أظهروا للعدو أن له في نفوسهم هيبة، وأنه قد اتخذ قرارا ولا رجعة فيه، وفى ذات الوقت اظهروا حبهم الشديد له صلى الله عليه وسلم، فأشعروا العدو أن للقائد في القلوب مكانة وفى النفوس هيبة بلا خوف وأنهم متبعوه في أمره لا محالة، وعندما تكون الصلة بين القائد والجنود بهذا الشكل فهذا جيش لا محالة منتصر.
ومن هذا الموقف أيضا نتعلم أهمية اكتناز الفرص، فالقائد المحنك هو الذي يتصيد الفرص، فرسول الله صلى الله عليه وسلم استغل الهدنة مع قريش في تثبيت أركان الدولة والقضاء على قوى التمرد المحيطة بالمدينة ونشر الإسلام في هذه البلاد المحيطة، بل وأرسل الرسل إلى بلاد فارس والروم ومصر، وغزا خيبر وهزم اليهود فيها وسير جيشه إلى الروم فكانت غزوة مؤتة، ثم لما نقضت قريش عهدها استغل الفرصة في أن يقضى على أكبر معاقل الشرك والكفر في شبه الجزيرة العربية، وهو يفعل ذلك من منطلق قوة، فالدولة قوية وآمنة لا تستطيع قوة مهاجمتها، والسبب المباشر والرئيس موجود وهو نقض العهد الذي كان في الحديبية لذا فلا أحد يستطيع أن يوجه اللوم له صلى الله عليه وسلم أو يتهمه بانتهاك هدنة أو نقض عهد.
ويقول الدكتور المؤرخ على الصلابي في كتابه الماتع عن السيرة النبوية (ونلحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضيع قانون الفرصة وتعامل معه بحكمة بالغة، فكان فتح خيبر، وذلك بعد صلح الحديبية، والآن تتاح فرصة أخرى بعد أن نقضت قريش عهدها، وتغيرت موازين القوى في المنطقة، فكان لا بد من الاستفادة من المعطيات الجديدة، فأعد صلى الله عليه وسلم جيشًا لم تشهد له الحجاز مثيلاً من قبل، فقد وصلت عدته إلى عشرة آلاف رجل).
وقد استعد الرسول صلى الله عليه وسلم للغزو وأمر المسلمين بالاستعداد، لكنه كتم عنهم وجهته حتى عن أقرب الناس له أبو بكر وعائشة رضي الله عنهما، لكن حاطب بن أبى بلتعة أرسل رسالة لقريش مع إحدى النساء يحذرهم من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينوى غزوهم، فجاء جبريل عليه السلام ليخبر نبينا صلى الله عليه وسلم فأرسل على بن أبى طالب والزبير بن العوام رضي الله عنهما فأتياه بتلك الرسالة، فاستدعى النبي صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبى بلتعة فقال له حاطب أنه ليس له في مكة عشيرة تمنعه فأراد أن يكون له عند قريش يد كي يكرموا أهله في مكة، فعفا النبي عليه الصلاة والسلام عنه وقال لعمر بن الخطاب الذي أراد قتله (وما يدريك يا عمر؟ لعل الله قد اطلع إلى أهل فقال لهم اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم).
وهنا موقف تربوي عظيم من النبي صلى الله عليه وسلم، يبين لنا كيفية التعامل مع الجند والسابقين في الجهاد حينما تضعف نفوسهم ويخطؤوا، فهو صلى الله عليه وسلم استدعى حاطب بن أبى بلتعة واستوضح منه عن سبب تلك الرسالة، ولما عرف أنه لم يكن يريد بها خيانة الله ورسوله، وأن هذه الرسالة ما كانت لتضر المسلمين عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الأمر ليس على إطلاقه، فليس كل من يخطئ خطأ كهذا نعفو عنه أو نقتله، فالأمر راجع إلى حنكة وحكمة القائد، فهو الذي ينظر في المفاسد المترتبة على هذا الخطأ، أما لو كانت العمل هذا نابعا من الخيانة فليكن حينئذ رأى سيدنا عمر هو الأساس وهو قتل مرتكب هذا الجرم العظيم.
تحرك الرسول صلى الله عليه وسلم بالمسلمين في شهر رمضان الكريم متجها إلى مكة فاتحا بعد أن أخرجوه منها متخفيا يخشى القتل من قبل ثمان سنوات كاملة، وكان تعداد المسلمين في ذلك الفتح العظيم عشرة آلاف مقاتل، وفى الطريق إلى مكة قابل النبي صلى الله عليه وسلم عمه العباس مهاجرا وكان قد أسلم منذ زمن طويل وكان عينا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وكان بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم مراسلات، وقيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو من أرسل له ليخرج.
وعندما اقترب الجيش الإسلامي من مكة المكرمة وحل الظلام أمر النبي صلى الله عليه سلم أن يشعل كل جندي في الجيش نارا فصارت عشرة آلاف شعلة من النار، فدخل الرعب قلوب مشركي قريش، وخرج أبو سفيان مع نفر من صحبه ليعرفوا الخبر فقابلهم العباس وأخبرهم بالأمر وأخذ معه أبا سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان مزية وجعل له مكانة حينما قال (من دخل دار أبى سفيان فهو آمن)، ثم أمر بحبسه ليمر عليه الجيش الإسلامي بكل فرقه، فاستشعر أبو سفيان عظم أمر الإسلام ومدى قوته، ورأى كيف أن محمدا صلى الله عليه وسلم ذاك الذي خرج قبل سنوات في ظلمات الليل متخفيا عن الأنظار واختفى ثلاثة أيام في غار ثور صار اليوم يحرك جيشا قوامه عشرة آلاف مجاهد لو أمرهم أن يزحزحوا الجبل من مكانه لفعلوا.
وهنا موقفان تربويان عظيمان للقائد المحنك والسياسي البارع محمد صلى الله عليه وسلم، الأول هو إشعار العدو بمدى قوة المسلمين وتمثل ذلك في إشعال النار وحبس أبى سفيان ليمر عليه الجيش، وهذا من شأنه أن يربك العدو، ويدخل الخوف في قلبه ومن ثم يكون الخلاف في كيفية التعامل مع جيش المسلمين فتختلف الآراء وتشتت الجهود ويسهل القضاء على أي تمرد إن وجد، والموقف التربوي الثاني هو تمييز أبى سفيان عن بقية الناس، فذلك رجل له بين الناس مكانة، فإن هو أسلم تبعه الناس، وإن هو أكرم وقدر أخلص في إسلامه وخدم الدعوة والدين خير خدمة وهذا ما حدث، فلقد دخل أبو سفيان مكة مطالبا أهلها بعدم مواجهة المسلمين وداعيا إياهم إلى التسليم والإسلام، فأبى البعض في البداية إلى أنهم وافقوه في النهاية.
ودخل النبي مكة مهللا ومكبرا فاتحا منتصرا عزيزا دائما أبدا، ومن حوله المهاجرين الذين طردوا بالأمس من ديارهم وأهليهم، وحوله الأنصار الذي استقبلوه خير استقبال فكانوا نعم الأصحاب هم وإخوانهم المهاجرين، وجاء بلال ذلك الحبشي الأسود الذي عذبه أمية بن خلف من قبل أشد عذاب، وصعد على البيت الحرام وأعلن انتصار الحق وهزيمة الباطل وكبر وأذن وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
ذلك كان فتح مكة، ورأينا كيف كان النبي محمد الذي يوحى إليه من السماء هو القائد العسكري والسياسي الأعلى، فهل يستقيم اليوم أن يخرج بعض الجهال ممن لا يعقلون ولا يدركون فيقولوا لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين؟!، فليوضحوا وليفسروا لنا تلك الأفعال النبوية الكريمة!
ووالله ما ضعف المسلمون ولا انهزموا أمام أنفسهم قبل عدوهم إلا لأنهم تركوا مذاكرة سنة وسيرة خير البشر وذهبوا يدرسون سيرة فلان الكافر وفلان المشرك، واتبعوا كل ناعق.
المراجع:
من معارك المسلمين في رمضان للعبيدي.
الكامل في التاريخ لابن الأثير
السيرة النبوية للصلابي
سيرة ابن هشام
الرحيق المختوم للمباركفوري
المغازي للواقدى
مجدى داود
المصدر/ http://qawim.net/index.php?option=com_content&task=view&id=7370&Itemid=1468
من معارك وانتصارات شهر رمضان الكريم، ومن أعظم فتوحات هذا الشهر المبارك في التاريخ الإسلامي كله هو فتح مكة الذي كان في العام الثامن من الهجرة النبوية المباركة من مكة المكرمة إلى يثرب التي صارت فيما بعد مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إنني ما أظن أن أحدا من المسلمين الذين يقدمون على القراءة يجهلون فتح مكة، لذا فلن أسرد تفاصيل هذا الفتح المبارك ولكنى سأركز فيه على بضع نقاط نستلهم ونرى كيف تعامل معها نبينا الكريم وصحابته الأفاضل رضوان الله عليهم أجمعين، فإذا عرفنا المنهج النبوي في التعامل في أوقات الحروب فيجب علينا نحن المسلمين بصفة عامة والمجاهدين منا المرابطين على الثغور في فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها بصفة خاصة أن نسير على نهجه صلى الله عليه، فهو النهج الحق الذي عز وانتصر من تبعه، وذل وانتكس من أعرض عنه.
في صلح الحديبية الذي عقد في العام السادس الهجري بين المسلمين بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش اتفق الفريقان على وضع الحرب عشر سنوات بين الجانبين وقد دخلت خزاعة في عهد المسلمين ودخلت بنو بكر في عهد قريش، والتزمت قريش بالصلح سنتان تم فيهما تغيير بعض بنود الصلح بناء على رغبة قريش مع أنهم هم الذين أصروا على هذه الشروط.
لكن في العام الثامن الهجري غارت بنو بكر على خزاعة بمساعدة قريش، وقتلت منهم أكثر من عشرين رجلا، فدخلت خزاعة البيت الحرام لتستجير به لكن بنو بكر لم يعطوا حرمة البيت وقتلوهم فيه، فخرج عمرو بن سالم الخزاعي في نفر من قومه متوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنشد أمامه قصيدة يصف له ما فعلته بنو بكر ويستحثه على الوفاء بالعهد الذي تم في صلح الحديبية فوعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه سينصرهم.
بعد ذلك أرسلت قريش أبو سفيان بن حرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ليفاوضه وليطلب منه مد الهدنة والصلح الذي عقد في الحديبية لكنه عاد بخفي حنين فلم يستجب له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقي أبو سفيان بن حرب في المدينة أشد ما يلاقيه المرء من المذلة، فقد ذهل إلى أبى بكر يتوسط له عند النبي فأبى، فذهب إلى عمر فأبى وكذلك عثمان، فذهب إلى على فأبى فاستجار بفاطمة الزهراء رضي الله عنها فأبت فرأى الحسن يلعب فقال ابنك هذا يجيرني فأبت ذلك، فتوجه إلى ابنته أم المؤمنين أم حبيبة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبت وعاملته كما يجب أن يعامل الكافر ولم تدفعها قرابته لها من محاباته والتوسط له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الموقف من النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وصحابته وزوجته أم حبيبة وابنته فاطمة رضي الله عنهم جميعا لهو موقف جدير بأن نقف عنده، ونتأمله، لنرى كيف جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من دولته الناشئة مكانة ومنزلة عند الجميع يجب أن يعرفوا قدرها ويعطوها حقها، فلم يتنازل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفرط في ذلك الجرم البشع الذي ارتكبه سفهاء قريش وبنو بكر، فالدولة القوية التي تهابها الدول الأخرى هي التي تتخذ موقفا قويا حازما حيال التعرض لرعاياها أو لحدودها أو لمصالحها وحلفائها، أما الدولة التي لا يكون لها رد فعل قوى حيال هذه الأمور فهي دولة ضعيفة تتلاعب بها الدول الأخرى كما يتلاعب الصبيان بالكرة، وكذلك فصائل المقاومة فتلك التي تدافع عن شعبها في حالة العدوان ولا تفرط أبدا في حقه يهابها عدوها ويحسب له ألف حساب أما التي تظهر العجز والضعف فإنها تتلقى الكثير من الضربات القاضية ويستخف بها عدوها.
ومن هذا الموقف أيضا نرى أثر التفاف الخلفاء الأربعة ومن خلفهم بقية الصحابة رضي الله عنهم أجمعين حول نبيهم وقائدهم صلى الله عليه وسلم حيث أن أبا سفيان ذهب إلى أقرب أصحاب رسول الله منه مكانة وهم الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم، وطالما أن هؤلاء أظهروا له عدم جرأتهم على الحديث مع رسول الله في الأمر فإن غيرهم لن يفعل ذلك، ومع أن أيا منهم كان يمكنه أن يحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أنهم أظهروا للعدو أن له في نفوسهم هيبة، وأنه قد اتخذ قرارا ولا رجعة فيه، وفى ذات الوقت اظهروا حبهم الشديد له صلى الله عليه وسلم، فأشعروا العدو أن للقائد في القلوب مكانة وفى النفوس هيبة بلا خوف وأنهم متبعوه في أمره لا محالة، وعندما تكون الصلة بين القائد والجنود بهذا الشكل فهذا جيش لا محالة منتصر.
ومن هذا الموقف أيضا نتعلم أهمية اكتناز الفرص، فالقائد المحنك هو الذي يتصيد الفرص، فرسول الله صلى الله عليه وسلم استغل الهدنة مع قريش في تثبيت أركان الدولة والقضاء على قوى التمرد المحيطة بالمدينة ونشر الإسلام في هذه البلاد المحيطة، بل وأرسل الرسل إلى بلاد فارس والروم ومصر، وغزا خيبر وهزم اليهود فيها وسير جيشه إلى الروم فكانت غزوة مؤتة، ثم لما نقضت قريش عهدها استغل الفرصة في أن يقضى على أكبر معاقل الشرك والكفر في شبه الجزيرة العربية، وهو يفعل ذلك من منطلق قوة، فالدولة قوية وآمنة لا تستطيع قوة مهاجمتها، والسبب المباشر والرئيس موجود وهو نقض العهد الذي كان في الحديبية لذا فلا أحد يستطيع أن يوجه اللوم له صلى الله عليه وسلم أو يتهمه بانتهاك هدنة أو نقض عهد.
ويقول الدكتور المؤرخ على الصلابي في كتابه الماتع عن السيرة النبوية (ونلحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضيع قانون الفرصة وتعامل معه بحكمة بالغة، فكان فتح خيبر، وذلك بعد صلح الحديبية، والآن تتاح فرصة أخرى بعد أن نقضت قريش عهدها، وتغيرت موازين القوى في المنطقة، فكان لا بد من الاستفادة من المعطيات الجديدة، فأعد صلى الله عليه وسلم جيشًا لم تشهد له الحجاز مثيلاً من قبل، فقد وصلت عدته إلى عشرة آلاف رجل).
وقد استعد الرسول صلى الله عليه وسلم للغزو وأمر المسلمين بالاستعداد، لكنه كتم عنهم وجهته حتى عن أقرب الناس له أبو بكر وعائشة رضي الله عنهما، لكن حاطب بن أبى بلتعة أرسل رسالة لقريش مع إحدى النساء يحذرهم من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينوى غزوهم، فجاء جبريل عليه السلام ليخبر نبينا صلى الله عليه وسلم فأرسل على بن أبى طالب والزبير بن العوام رضي الله عنهما فأتياه بتلك الرسالة، فاستدعى النبي صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبى بلتعة فقال له حاطب أنه ليس له في مكة عشيرة تمنعه فأراد أن يكون له عند قريش يد كي يكرموا أهله في مكة، فعفا النبي عليه الصلاة والسلام عنه وقال لعمر بن الخطاب الذي أراد قتله (وما يدريك يا عمر؟ لعل الله قد اطلع إلى أهل فقال لهم اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم).
وهنا موقف تربوي عظيم من النبي صلى الله عليه وسلم، يبين لنا كيفية التعامل مع الجند والسابقين في الجهاد حينما تضعف نفوسهم ويخطؤوا، فهو صلى الله عليه وسلم استدعى حاطب بن أبى بلتعة واستوضح منه عن سبب تلك الرسالة، ولما عرف أنه لم يكن يريد بها خيانة الله ورسوله، وأن هذه الرسالة ما كانت لتضر المسلمين عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الأمر ليس على إطلاقه، فليس كل من يخطئ خطأ كهذا نعفو عنه أو نقتله، فالأمر راجع إلى حنكة وحكمة القائد، فهو الذي ينظر في المفاسد المترتبة على هذا الخطأ، أما لو كانت العمل هذا نابعا من الخيانة فليكن حينئذ رأى سيدنا عمر هو الأساس وهو قتل مرتكب هذا الجرم العظيم.
تحرك الرسول صلى الله عليه وسلم بالمسلمين في شهر رمضان الكريم متجها إلى مكة فاتحا بعد أن أخرجوه منها متخفيا يخشى القتل من قبل ثمان سنوات كاملة، وكان تعداد المسلمين في ذلك الفتح العظيم عشرة آلاف مقاتل، وفى الطريق إلى مكة قابل النبي صلى الله عليه وسلم عمه العباس مهاجرا وكان قد أسلم منذ زمن طويل وكان عينا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وكان بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم مراسلات، وقيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو من أرسل له ليخرج.
وعندما اقترب الجيش الإسلامي من مكة المكرمة وحل الظلام أمر النبي صلى الله عليه سلم أن يشعل كل جندي في الجيش نارا فصارت عشرة آلاف شعلة من النار، فدخل الرعب قلوب مشركي قريش، وخرج أبو سفيان مع نفر من صحبه ليعرفوا الخبر فقابلهم العباس وأخبرهم بالأمر وأخذ معه أبا سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان مزية وجعل له مكانة حينما قال (من دخل دار أبى سفيان فهو آمن)، ثم أمر بحبسه ليمر عليه الجيش الإسلامي بكل فرقه، فاستشعر أبو سفيان عظم أمر الإسلام ومدى قوته، ورأى كيف أن محمدا صلى الله عليه وسلم ذاك الذي خرج قبل سنوات في ظلمات الليل متخفيا عن الأنظار واختفى ثلاثة أيام في غار ثور صار اليوم يحرك جيشا قوامه عشرة آلاف مجاهد لو أمرهم أن يزحزحوا الجبل من مكانه لفعلوا.
وهنا موقفان تربويان عظيمان للقائد المحنك والسياسي البارع محمد صلى الله عليه وسلم، الأول هو إشعار العدو بمدى قوة المسلمين وتمثل ذلك في إشعال النار وحبس أبى سفيان ليمر عليه الجيش، وهذا من شأنه أن يربك العدو، ويدخل الخوف في قلبه ومن ثم يكون الخلاف في كيفية التعامل مع جيش المسلمين فتختلف الآراء وتشتت الجهود ويسهل القضاء على أي تمرد إن وجد، والموقف التربوي الثاني هو تمييز أبى سفيان عن بقية الناس، فذلك رجل له بين الناس مكانة، فإن هو أسلم تبعه الناس، وإن هو أكرم وقدر أخلص في إسلامه وخدم الدعوة والدين خير خدمة وهذا ما حدث، فلقد دخل أبو سفيان مكة مطالبا أهلها بعدم مواجهة المسلمين وداعيا إياهم إلى التسليم والإسلام، فأبى البعض في البداية إلى أنهم وافقوه في النهاية.
ودخل النبي مكة مهللا ومكبرا فاتحا منتصرا عزيزا دائما أبدا، ومن حوله المهاجرين الذين طردوا بالأمس من ديارهم وأهليهم، وحوله الأنصار الذي استقبلوه خير استقبال فكانوا نعم الأصحاب هم وإخوانهم المهاجرين، وجاء بلال ذلك الحبشي الأسود الذي عذبه أمية بن خلف من قبل أشد عذاب، وصعد على البيت الحرام وأعلن انتصار الحق وهزيمة الباطل وكبر وأذن وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
ذلك كان فتح مكة، ورأينا كيف كان النبي محمد الذي يوحى إليه من السماء هو القائد العسكري والسياسي الأعلى، فهل يستقيم اليوم أن يخرج بعض الجهال ممن لا يعقلون ولا يدركون فيقولوا لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين؟!، فليوضحوا وليفسروا لنا تلك الأفعال النبوية الكريمة!
ووالله ما ضعف المسلمون ولا انهزموا أمام أنفسهم قبل عدوهم إلا لأنهم تركوا مذاكرة سنة وسيرة خير البشر وذهبوا يدرسون سيرة فلان الكافر وفلان المشرك، واتبعوا كل ناعق.
المراجع:
من معارك المسلمين في رمضان للعبيدي.
الكامل في التاريخ لابن الأثير
السيرة النبوية للصلابي
سيرة ابن هشام
الرحيق المختوم للمباركفوري
المغازي للواقدى