القسم الإسلامي العام يجب تحري الدقة والبعد عن الأحاديث الضعيفة والموضوعة |
آخر 20 مشاركات |
|
أدوات الموضوع | أنواع عرض الموضوع |
رقم المشاركة :1 (رابط المشاركة)
|
|||||||||||||||||||||
|
|||||||||||||||||||||
قوافل العائدات -خالد الراشد- محاضرة مسموعة ومفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم الحقيقة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أيتها الغالية! أيتها الأخت المسلمة المؤمنة! حياك الله وبياك وسدد على طريق الحق خطاك. أسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يجعلك آمنة مطمئنة، تقية نقية خفية. أيتها الغالية! العباد يشرقون ويغربون، وتلهيهم لذات الدنيا وشهواتها، ثم في النهاية لا بد للعبد وللأمة -حتى يجدا الراحة والسعادة والطمأنينة- أن يعودا وينيبا ويرجعا إلى علام الغيوب، فإن الدنيا مهما أعطت ومهما تبهرجت ومهما تزينت، فلن يجد العبد فيها ولا الأمة طعماً للسعادة. فالسعادة كل السعادة في العودة إلى الله، وفي الخضوع لأوامره، والانتهاء عن نواهيه تبارك وتعالى. الباحثات عن السعادة كثيرات، والباحثات عن الراحة والطمأنينة كثيرات، لكن أيتها الغالية! أين هي السعادة؟ أين مصادرها؟ ظنت كثيرات أنها في المال، فبحثن عنها هناك فلم يجدنها، وظنت أخريات أنها في الشهرة، فبحثن عنها هناك فلم يجدنها. جاء في الحديث الذي رواه أنس رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (لو كان لابن آدم واد من الذهب لابتغى ثانياً، ولن يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب). وظنت كثيرات أن السعادة في الشهوات واللذات؛ فبحثن عنها هناك فلم يجدنها، فأين هي السعادة؟ وكيف الحصول عليها؟ وأين مكانها؟ قصة فتاة عادت إلى الله عز وجل أعطيني السمع أيتها الغالية! وافتحي القلب قبل أن تفتحي الأذن، هيا نستمع وإياك إلى هذه القصة من فتاة كانت تبحث عن السعادة، هيا نسمع كلمات من فتاة انضمت إلى قوافل العائدات، فنحن في درس بعنوان: قوافل العائدات، فهيا نبدأ الدرس بقصة تلك التي عادت وانضمت إلى قوافل العائدات. تقول الفتاة: بدت أختي شاحبة الوجه نحيلة الجسم، ولكنها كعادتها تقرأ القرآن الكريم، بحثت عنها -يعني: عن أختها- فوجدتها في مصلاها راكعة ساجدة رافعة يديها إلى السماء، هكذا حالها في الصباح وفي المساء، وفي جوف الليل، لا تفتر ولا تمل، تقول عن نفسها: كنت أحرص على قراءة المجلات الفنية، والكتب ذات الطابع القصصي، أشاهد الفيديو والتلفاز بكثرة، لدرجة أنني عرفت به، تقول: لا أؤدي واجباتي كاملة، ولست منضبطة في صلواتي، -ومثلها كثيرات- وبعد ثلاث ساعات متواصلة على التلفاز أغلقته، والأذان يرتفع من المسجد المجاور، فإذا بأختي تناديني من مصلاها، فقالت: ماذا تريدين يا نوره ؟ قالت لي بنبرة حادة: لا تنامي قبل أن تصلي الفجر، قلت: أوه! باقي ساعة على صلاة الفجر، والذي سمعتيه كان الأذان الأول، فنادتني بنبرة حنونة، وهكذا كانت قبل أن يصيبها المرض الخبيث، وتسقط طريحة الفراش، وقالت: تعالى بجانبي يا هناء ! وكنت لا أستطيع إطلاقاً رد طلبها، فكم كنت أشعر بصفائها وصدقها! قلت لها: ماذا تريدين؟ قالت: اجلسي، قلت: ها قد جلست، ماذا لديك؟ فقرأت بصوت عذب رخيم: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185]، وسكتت برهة ثم سألتني: ألم تؤمني بالموت؟ قلت: بلى، ولكن الله غفور رحيم، قالت لي: ألم تؤمني بأنك ستحاسبين على كل صغيرة وكبيرة؟ قلت: بلى، ولكن الله غفور رحيم، والعمر طويل، قالت: ألا تخافين -أخية- من الموت بغتة؟ أليست هند أصغر منك وقد توفيت في حادث سيارة، وفلانة وفلانة؟ أخية! الموت لا يعرف عمراً وليس له مقياس، فقد أجمع أهل العلم على أن الموت ليس له سبب معين، ولا وقت معين، ولا مكان معين، يأتي بغتة ونحن لا نشعر، قالت: فأجبتها: إني أخاف من الظلام، ولقد أخفتيني من الموت، فكيف أنام الآن؟ كنت أظن أنك ستقولين: إنك وافقت على السفر معنا في هذه الإجازة، فقالت بصوت متحشرج اهتز له قلبي: لعلي هذه السنة أسافر سفراً بعيداً! أسافر ربما إلى مكان آخر يا هناء ! وسكتت ثم قالت: الأعمار بيد الله، وأخذنا نمشي سوياً، ففكرت في مرضها الخبيث، وأن الأطباء أخبروا أبي سراً أن المرض ربما لن يمهلها طويلاً، ولكن من أخبرها بذلك؟ أم أنها تتوقع هذا الشيء؟ قالت لي: ما لك تفكرين؟ هل تعتقدين أني أقول هذا لأنني مريضة؟ كلا، ربما أكون أطول عمراً من الأصحاء. فكم من صحيح مات من غير علة وكم من سقيم عاش حيناً من الدهر وأنت إلى متى ستعيشين؟ ربما عشرين سنة، ربما أكثر، ثم ماذا؟ لا فرق بيننا؛ فالكل سيرحل، وسنغادر هذه الدنيا إما إلى جنة وإما إلى النار، ألم تسمعي قول الواحد القهار: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]؟ تصبحين على خير، هرولت مسرعة وصوتها يطرق أذني: هداك الله، لا تنسي الصلاة. وفي الثامنة صباحاً سمعت طرقاً على الباب، وهذا ليس موعد استيقاظي، وسمعت صوت بكاء وأصوات، يا إلهي! ماذا جرى؟ قالوا لي: لقد تردت حالة نوره ، وذهب بها أبي إلى المستشفى، قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون؛ لا سفر هذه السنة، مكتوب علينا البقاء هذه السنة في بيتنا، وبعد انتظار طويل إلى الواحدة ظهراً، اتصل أبي من المستشفى قائلاً: تستطيعون زيارتها الآن، فأتوا بسرعة، فانطلقنا إلى المستشفى وأمي تدعو لها. إنها بنت صالحة مطيعة، لم أرها تضيع وقتها أبداً، فدخلنا المستشفى، ورأينا مناظر عجيبة! هذا يتأوه، وهذا يتألم، وهذا يصيح، وثالث: لا ندري هل هو من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة، ولا يعرف قيمة الصحة إلا من فقدها، فصعدنا درجات السلم، وكانت في غرفة العناية المركزة، فأخبرتنا الممرضة أنها في تحسن بعد الغيبوبة التي حصلت لها، ولم يسمحوا إلا بدخول شخص واحد فقط، فدخلت أمي ووقفت أنظر من نافذة الغرفة الصغيرة، فرأيت عينيها وهي تنظر إلى أمي واقفة بجوارها، خرجت أمي ولم تستطع إخفاء دموعها، ثم سمحوا لي بالدخول والسلام عليها، بشرط أن لا أمكث طويلاً فحالتها لا تسمح، فدخلت وقلت: كيف حالك يا نوره ؟! لقد كنت بخير البارحة، فماذا جرى لك؟! أجابتني بعد أن ضغطت على يدي: أنا الآن -ولله الحمد- بخير، فقلت: الحمد لله، لكن يدك باردة، وكنت جالسة على حافة السرير، ولامست يدي ساقها فأبعدت يدي، فقلت لها: آسفة إذا ضايقتك، قالت: كلا، ولكني تفكرت في قوله تعالى: وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ [القيامة:29-30]، ثم قالت: عليك يا هناء ! بالدعاء لي، فربما أستقبل عن قريب أول أيام الآخرة: سفري بعيد وزادي لن يبلغني وقوتي ضعفت والموت يطلبني ولي بقايا ذنوب لست أعلمها الله يعلمها في السر والعلن سقطت دمعة من عيني بعد أن سمعت ما قالت، وبكيت، ولم أع أين أنا، استمرت عيناي في البكاء، أصبح أبي خائفاً علي أكثر من نوره ، لم يتعودوا مني هذا البكاء والانطواء في غرفتي، ومع غروب شمس ذلك اليوم الحزين، ساد صمت طويل في بيتنا، دخلت علي ابنة خالتي، ثم ابنة عمتي، وحصلت أحداث سريعة متتالية، كثر القادمون، واختلطت الأصوات، شيء واحد عرفته هو قولهم: نوره ماتت! لم أعد أميز من جاء، ولا أعرف ماذا قالوا، يا ألله! أين أنا؟ وماذا يجري؟ عجزت حتى عن البكاء، وأخبروني فيما بعد أن أبي ودع أختي الوداع الأخير بيده، وأني قبلتها، ثم لم أعد أتذكر إلا شيئاً واحداً: نظري حين نظرت إليها وهي ممددة على فراش الموت، وتذكرت قولها وهي تقرأ قوله تعالى: وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ [القيامة:29] وعرفت عندها حقيقة، إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ [القيامة:30]. في تلك الليلة ذهبت إلى مصلاها المظلم وجلست فيه، تذكرت من قاسمتني رحم أمي، فنحن توءمان، وتذكرت من شاركتني همومي، وتذكرت من نفست عني كربتي، وتذكرت تلك التي كانت تدعو لي بالهداية، فكم ذرفت عيناها من الدموع في ليالٍ طويلة وهي تحدثني عن الموت والحساب، والله المستعان! هذه أول ليلة لها في قبرها، اللهم ارحمها، اللهم اغفر لها، اللهم نور لها قبرها، نظرت حولي فرأيت مصحفها وسجادتها، ورأيت الفستان الوردي الذي قالت لي: سأخبئه لزواجي، تذكرتها وبكيت، وبكيت على أيامي الضائعة، بكيت بكاءً متواصلاً، ودعوت الله أن يرحمني ويتوب علي ويعفو عني، دعوت الله أن يثبتها في قبرها كما كانت تكثر أن تدعو، وفجأة سألت نفسي: ماذا لو كنت أنا الميتة؟ ويا أيتها الغالية! اسألي نفسك هذا السؤال: ماذا لو كنت أنت الميتة؟ وما هو المصير؟ تقول: لم أبحث عن الإجابة من الخوف الذي أصابني، بكيت بحرقة، ثم انطلق صوت: الله أكبر، الله أكبر، هاهو أذان الفجر قد ارتفع، ولكن ما أعذبه هذه المرة! أحسست بطمأنينة وراحة، وأنا أردد ما يقوله المؤذن، لففت ردائي وقمت واقفة أصلي صلاة الفجر، صليت صلاة المودع كما صلتها أختي من قبل، وكانت آخر صلاة لها، ثم جلست أدعو وأقول: اللهم اغفر لي، اللهم ارحمني، اللهم اقبلني في قوافل العائدات. ضرورة السعي للنجاة من العذاب أختي الغالية! لا أظنك ترضين بجهنم يوم القيامة موطناً، ولا بلهيب النار متنفساً، فما بالك تلقين نفسك فيها راضية، أراك تعصين رب الأرض والسماوات، الذي إن شاء أبدل فرحك حزناً وهماً وعافيتك مرضاً وسقماً، وسعادتك شقاءً ونكداً، فهل تستطيعين رد ذلك؟! أم هل تملكين من الأمر شيئاً؟! أختي الغالية! يوم القيامة لن يقف معك أب ولا أم ولا صاحبة ولا قريب، بل ستقفين وحيدة ذليلة قد أرهقتك الذنوب والمعاصي، وكبلتك الخطايا والعثرات، تنظرين يمنة فلا ترين إلا روحاً وريحاناً، وتنظرين يسرة فلا ترين إلا لهب جهنم ودخانها، وفحيح عقاربها ودوابها، ألا فاختاري: إما الانضمام إلى قوافل العائدات، فحينها أبشري بروح وريحان ورب راضٍ غير غضبان، وأبشري حينها بعز الدنيا وسعادة الآخرة، وإلا فاسمعي النتيجة: صياح بأعلى الصوت: يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا [الأحزاب:66]، وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا [الفرقان:27-29] ويزداد الصياح عند قولهم: قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [المؤمنون:106-107] فلا مجيب لهم، وإنما الحال كما قال سبحانه: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167]. أتدرين ما الداء والدواء والشفاء أيتها الغالية؟! تحتم المسارعة إلى التوبة النصوح قال الربيع بن خيثم لأصحابه: الداء هو الذنوب، والدواء هو الاستغفار، والشفاء أن تتوب فلا تعود. قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التحريم:8]، فما هي التوبة النصوح أيتها الغالية؟! قال عمر رضي الله عنه: التوبة النصوح: أن يذنب العبد ثم يتوب فلا يعود. وقال الحسن البصري في معنى التوبة النصوح: أن يكون العبد نادماً على ما مضى، مجمعاً على أن لا يعود إليها. وقال أيضاً: التوبة النصوح: ندم بالقلب، واستغفار باللسان، وترك بالجوارح، وإظمار بأن لا يعود. قال يحيى بن معاذ : الذي حجب الناس عن التوبة طول الأمل، وعلامة التائب والتائبة: إسبال الدمعة، وحب الخلوة، والمحاسبة للنفس في كل همة. قال محمد الوراق رحمه الله: قدم لنفسك توبة مرجوة قبل الممات وقبل حبس الألسن بادر بها غلق النفوس فإنها ذخر وغنم للمنيب المحسن وقال الشاعر: من منا لم يخطئ قط ومن له الحسنى فقط إن أنت رمت محسناً رمت الشطط أخية! ليس العيب أن تخطئي، فكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، كما قال صلى الله عليه وسلم، لكن العيب كل العيب أن تصري على الخطأ، فتدبري هذه الدعوة العظيمة من الرحمن الرحيم، وهو يدعوك ويدعو الجميع إلى المسارعة إلى رحمته وجنته، قال سبحانه وتعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:133-134]، لكن هل هم معصومون عن الخطأ؟ الجواب: لا، فلا عصمة لأحد، فقد قال الله عنهم: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135] فالإصرار على الذنب هو الهلاك، وهو سبب التعاسة والشقاوة، ولكن لما أخطأ العبد أو الأمة ولم يصرا على خطئهما كانت النتيجة: أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:137-138]. أيتها الغالية! ينقصنا الضمير الحي، النفس اللوامة التي إذا أذنبت لامت وعاتبت، فإن الإصرار على المعصية معصية أخرى، والقعود عن تدارك الفارط من المعصية إصرار ورضىً بها، وطمأنينة إليها، وذلك علامة الهلاك، وأشد من هذا كله المجاهرة بالذنب، مع تيقن نظر الرب جل جلاله من فوق عرشه، قال صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي معافى إلا المجاهرون) أو كما قال صلى الله عليه وسلم. تعريف التائبة فمن هي التائبة؟ التائبة: هي المنكسرة القلب، الغزيرة الدمع، الحية الوجدان، القلقة الأحشاء. التائبة صادقة العبارة، جمة المشاعر، جياشة الفؤاد، حية الضمير. التائبة خالية من العجب، فقيرة إلى الرب. التائبة بين الرجاء والخوف والنجاة والهلاك. التائبة في قلبها حرقة، وفي وجدانها لوعة، وفي وجهها أسى، وفي دموعها أسرار. التائبة لها في كل وقفة عبرة، إذا غرد الحمام بكت، وإذا صاح الطير ناحت، وإذا شدا البلبل تذكرت، وإذا لمع البرق اهتزت. التائبة تجد للطاعة حلاوة وللعبادة طلاوة، وللإيمان طعماً، وللإقبال لذة. التائبة تكتب من دموعها قصصاً، وتنظم من الآهات أبياتاً، وتؤلف من البكاء خطباً. التائبة كالأم اختطفت طفلها من يد الأعداء، وكالغريق في البحر نجا من اللجة إلى شاطئ الأمان. التائبة أعتقت رقبتها من أسر الهوى، وأطلقت قلبها من فكر المعصية، وفكت روحها من شباك الرذيلة، وأخرجت نفسها من بحر الخطيئة. أخية! من واجب الناس أن يتوبوا. ولكن ترك الذنوب أوجب. والدهر في تركه عجيب. ولكن غفلة الناس عنه أعجب. والصبر في النائبات صعب. ولكن فوات الثواب أصعب. وكل ما يرتجى قريب. والوقت من دون ذلك أقرب. تعريف التوبة وأقسام الناس فيها التوبة من تاب يتوب، ومعناها: العودة والرجوع، التوبة: ترك الذنوب على أجمل الوجوه، وهو أبلغ وجوه الاعتذار، فالاعتذار على ثلاثة أوجه: إما أن يقول المعتذر: لن أفعل. أو يقول: فعلت لأجل كذا. أو يقول: فعلت وأسأت وقد أقلعت، وتبت ورجعت. ولا رابع لذلك، والأخير هو التوبة قال سبحانه: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]. أقسام الناس: قال سبحانه: وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات:11]، قسم الله العباد إلى تائب وظالم، وليس هناك قسم ثالث، وأوقع اسم الظالم على من لم يتب، فمن لم تتب لا أظلم منها؛ لجهلها بربها وبحقه عليها، وبعيب نفسها، وآفات أعمالها، ففي الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس! توبوا إلى الله، فوالله! إني لأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة). وهو المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومع هذا يتوب في اليوم والليلة أكثر من سبعين مرة، وفي رواية: (أكثر من مائة مرة)، وكان أصحابه يعدون له في المجلس الواحد قبل أن يقوم: (رب اغفر لي وتب علي، إنك أنت التواب الغفور) مائة مرة، وما صلى صلاة قط بعد إذ أنزلت عليه: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1] إلا قال فيها: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي). والتوبة -أخية- هي الرجوع إلى الله، ومفارقة صراط المغضوب عليهم والضالين، ولا تصح التوبة إلا بعد معرفة الذنب، والاعتراف به، وطلب التخلص من سوء عواقبه في الدنيا والآخرة. فتعالي نقول بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور بسيد الاستغفار: (اللهم! أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، وأبوء لك بنعمتك علي، أبوء بذنبي- يعني: أعترف وأقر- فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت). علامات التوبة الصحيحة المقبولة التوبة الصحيحة لها علامات تعرف بها، منها: أولاً: أن تكون الأمة بعد التوبة خيراً مما كانت عليه قبلها. ثانياً: أنه لا يزال الخوف مصاحباً لها، فلا تأمن مكر الله طرفة عين، فخوفها مستمر إلى أن تسمع قول ملائكة الرحمة عند الموت: أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:30-32]، فهناك يزول الخوف والجزع. ومن علامات التوبة الصحيحة المقبولة: انخلاع القلب، وتقطعه ندماً وخوفاً، وهذا على قدر الجناية وعظمها، فمن لم يتقطع قلبها في الدنيا حسرة وخوفاً على ما فرطت تقطع في الآخرة إذا حقت الحقائق، ورئي ثواب المطيعات، وعقوبة العاصيات، فلا بد من تقطع القلب إما في الدنيا وإما في الآخرة. قال عمر بن ذر : كل حزن يبلى، إلا حزن التائب عن ذنوبه. ومن علامات التوبة الصحيحة أيضاً: كسرة خاصة تحصل للقلب لا يشبهها شيء، كسرة أحاطت بالقلب من جميع جهاته، وألقته بين يدي ربه طريحاً ذليلاً خاشعاً، فلا شيء أحب إلى الله من هذه الكسرة والخضوع، والتذلل والإخبات، والانطراح بين يديه، والاستسلام له، وما أحلى قول الأمة في هذه الحال: اللهم إني أسألك بعزك وذلي إلا رحمتني، وأسألك بقوتك وضعفي وبغناك عني وفقري إليك، هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك، إمائك سواي كثير، وليس لي رب سواك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، سؤال من خضعت لك رقبتها، ورغم لك أنفها، وفاضت لك عينها، وذل لك قلبها، أن تغفر لي وترحمني، فهذا وأمثاله من آثار التوبة المقبولة، فمن لم تجد ذلك في قلبها، فلتتهم تلك التوبة ولتراجع الحسابات، فما أسهل التوبة في اللسان! وما عالج أهل الصدق شيئاً أشق من التوبة الخالصة الصادقة. يا من يرى مد البعوض جناحها في ظلمة الليل البهيم الأليل ويرى مناط عروقها في نحرها والمخ في تلك العظام النحل ويرى خرير الدم في أوداجها متنقلاً من مفصل في مفصل ويرى وصول غدا الجنين ببطنها في ظلمة الأحشا بغير تمقل ويرى مكان الوطء من أقدامها في سيرها وحثيثها المستعجل ويرى ويسمع حس ما هو دونها في قاع بحر مظلم متهول امنن علي بتوبة تمحو بها ما كان مني في الزمان الأول قال شقيق البلخي : علامة التوبة: البكاء على ما سلف، والخوف من الوقوع في الذنب، وهجران إخوان السوء، وملازمة الأخيار. اللهم! اجعلنا من التوابين، واجعلنا من المتطهرين، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. سعة رحمة الله عز وجل وعفوه وهذا نداء من غافر الذنوب وقابل التوب، فاسمعي وتدبري وتأملي، قال عز وجل: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ * وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الزمر:54-61]. فهل سمعت؟ وهل فهمت؟ فالله ينادي من؟ بأحب الأسماء، وبألطفها ينادي الذين نسوه، والذين تجرءوا عليه، ثم يفتح لهم باب الرحمة، ولا يقنطهم منها. فيا أمة الله! يا من تواتر إحسان الله إليك؛ حيث أزاح عللك، ومكنك من التزود إلى جنته، وبعث إليك الدليل، وأعطاك مؤنة السفر، وما تتزودي به، وما تحاربي به قطاع الطرق عليك، فأعطاك السمع والبصر والفؤاد، وعرفك الخير والشر، النفع والضر، وأرسل إليك رسوله، وأنزل إليك كتابه للذكر والفهم والعمل، وأعانك بمدد من جنده الكرام يثبتونك ويحرسونك، ويحاربون عدوك، ويطردونه عنك، ويريدون منك أن لا تميلي إليه ولا تخالطيه- أي: الشيطان الرجيم- وهم يكفونك مؤنته، وأنت تأبين إلا مظاهرته عليهم، قال عز وجل: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [الكهف:50]. غنى الله عز وجل عن خلقه وحاجتهم إليه أمة الله! أمرك الله بشكره، لا لحاجته إليك، ولكن لتنالي به المزيد من فضله، فجعلت كفر نعمه والاستعانة بها على مساخطه شعاراً لديك، أمرك بذكره ليذكرك بإحسانه عليك، فجعلت نسيانه ونسيان أوامره هيناً عليك، تشكين من يرحمك إلى من لا يرحمك، وتتظلمين ممن لا يظلمك، وتدعين من يعاديك ويظلمك، وإن أنعم عليك بالصحة والعافية والمال والجاه استعنت بنعمه على معاصيه! عظيم فضل الله عز وجل وإحسانه إلى خلقه أمة الله! دعاك الرحمن إلى بابه، فما وقفت عليه، ولا طرقته، ثم فتحه لك فلم تلجيه، أرسل إليك رسوله يدعوك إلى دار كرامته، فعصيت الرسول وقلت: لا أترك ما أراه لشيء سمعت به، ومع هذا فلم يقنطك من رحمته، بل قال: متى جئت قبلناك، إن أتيت ليلاً قبلناك، وإن أتيت نهاراً قبلناك، إن تقربت مني شبراً تقربت منك ذراعاً، وإن تقربت مني ذراعاً تقربت منك باعاً، وإن مشيت إلي أتيتك هرولة، لو لقيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشركي بي شيئاً أتيتك بقرابها مغفرة ولا أبالي، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي. من أعظم مني جوداً وكرماً؟! عبادي يبارزونني بالعظائم وأنا أكلؤهم على فرشهم، إني والجن والإنس في نبأ عظيم؛ أخلق ويعبد غيري! أرزق فيشكر سواي! خيري إلى العباد نازل، وشرهم إلي صاعد! أتحبب إليهم بنعمي وأنا الغني عنهم، ويبتعدون عني بالمعاصي، وهم أفقر شيء إلي! فاسمعي النداء يا رعاك الله: من أقبلت إلي تلقيتها من بعيد، ومن أعرضت عني ناديتها من قريب، ومن تركت لأجلي أعطيتها المزيد، ومن أرادت رضاي أردت ما تريد، ومن تصرفت بحولي وقوتي ألنت لها الحديد، أهل ذكري أهل مجالستي، أهل شكري أهل زيادتي، وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل معصيتي لا أقنطهم أبداً من رحمتي، إن تابوا إلي فأنا حبيبهم، فإني أحب التوابين وأحب المتطهرين، وإن لم يتوبوا إلي فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعائب، من آثرتني على سواي آثرتها على سواها، الحسنة عندي بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، والسيئة عندي بواحدة، فإن ندمت عليها واستغفرتني غفرت لها على ما كان منها ولا أبالي، أشكر اليسير من العمل، وأغفر الكثير من الزلل، رحمتي سبقت غضبي، وحلمي سبق مؤاخذتي، وعفوي سبق عقوبتي، وأنا أرحم بعبادي من الوالدة بولدها، وأنا أفرح بتوبة التائبين وعودة العائدين. جاء في البخاري و مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده من رجل أضل راحلته في أرض مهلكة دوية، عليها طعامه وشرابه، فطلبها حتى إذا أيس من حصولها نام في أصل شجرة ينتظر الموت، فاستيقظ فإذا هي على رأسه، وقد تعلق خطامها بالشجرة، فلله أفرح بتوبة عبده من هذا براحلته)، وهذه فرحة إحسان وبر ولطف لا فرحة محتاج إلى توبة عبده. قال عز وجل: أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [فاطر:16-17]، وقال سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني، يا عبادي! إنكم تخطئون في الليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم). فهيا أخية! بعد هذا النداء العظيم انضمي إلى قوافل العائدات، وهبي من غفلتك، وانفضي تراب زلتك، وشمري عن همتك، واسمعي النداء: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف:31]. من أخبار التائبات تقول إحداهن: كان الدين هامشياً في حياتي، مع أنني كنت أحس أن الإسلام شيء عظيم، ولكني كنت تائهة، كنت أصلي الصبح فقط، وبقيت الوقت كنت مشغولة بأعمالي في الوسط الفني، كنت أشعر بالملل والضيق من سهرات الوسط الفني مع أنني كنت في ذروة النجاح، فبدأت أحرص نوعاً ما على الصلاة، حتى كانت ليلة كنت في بيت صديق لقضاء ليلة رأس السنة - تأملي الضياع أيتها الغالية- ووسط الصخب والموسيقى والضجيج، سمعت صوتاً هزني هزة عنيفة، سمعت أذان الفجر، ومنادي الله يناديني، من يومها بدأت بالانسحاب من هذه اللقاءات وهذه الاجتماعات العفنة، أقبلت على كتاب الله أقرءوه وأنظر في تفسيره، كنت أجلس عند شباك حجرتي أتطلع إلى السماء، وأجد في ذلك متعة لا حد لها، لقد وجدت الشيء المفقود في حياتي، وجدت الإيمان، ووجدت في الإيمان الراحة مهما كانت الهموم، تقول: أقولها عن تجربة، فالقلب عندما يرتبط بالله يختفي منه القلق والضيق والحزن، ويحل مكانه الهدوء والراحة والاطمئنان، وراحة البال، كنت في الوسط الفني دائمة القلق، أحس أني أجري ألهث خلف سراب، زائدة العصبية مضطربة، الجو حولي مليء بالعفن والكذب، فأنقذني الله، وأخرجني من الظلمات إلى النور، قالت: أنا أعيش حالياً أعظم حب في حياتي، أحب الله بحق، وأناجيه، وأكلمه وأدعوه، جربت الحب الذي يقولونه وخضت في بحاره، ووجدت أن أعظم حب هو حب الله تبارك وتعالى. نعم أخية! من وجدت الله فقد وجدت كل شيء، ومن فقدت الله فقد فقدت كل شيء، قال عز وجل: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت:53]. والأخرى تقول: كنت أستعرض جمالي أمام العيون الحيوانية بلا حرمة تحت مسميات التحرر والتمدن، كنت في غيبوبة عن الإسلام، لا أعرف من القرآن إلا رسمه، ومن الإسلام إلا اسمه، رغم المال والجاه إلا أنه كان في داخلي خوف من شيء ما، كنت أخاف من مصادر الغاز والكهرباء، وكنت أظن أن الله سيحرقني جزاء ما أنا فيه من المعاصي، كنت أقول في نفسي: كيف أنجو غداً من عذاب الله؟ تقول: عندما تزوجت ذهبت مع زوجي إلى فرنسا لقضاء ما يسمى بشهر العسل، ثم ذهبنا إلى كنيسة -اسمعي ضياع أبناء المسلمين والمسلمات- ولما أردت الدخول أجبروني على ارتداء ما يستر جسمي؛ احتراماً لأماكنهم، فقلت في نفسي: سبحان الله! هكذا يحترمون دياناتهم المحرفة، فما بالنا نحن لا نحترم ديننا؟ فقلت لزوجي: أريد أن أصلي شكراً لله على نعمته، فأحضرت معي إلى الغد ملابس طويلة وغطاء للرأس، ودخلت المسجد الكبير بباريس، فأديت الصلاة، وعند باب المسجد عندما خرجت خلعت الحجاب وغطاء الرأس والملابس الطويلة، وهنا كانت المفاجأة: اقتربت مني فتاة فرنسية لن أنساها طوال عمري، ترتدي الحجاب، أمسكت يدي برفق، وضربت على كتفي، وقالت لي بصوت منخفض: لماذا تخلعين الحجاب؟ ألا تعلمين أنه أمر الله؟ كنت أستمع إليها بذهول، حاولت أن أتفلت منها، لكن أدبها وحوارها أجبراني على الاستماع، سألتني: تشهدين أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ قلت: نعم، قالت: تفهمين معناها؟ قالت لي: إنها ليست كلمات تقال باللسان أخية! لا بد من التصديق وإتباع التصديق بالعمل، لقد علمتني الفتاة أقسى درس في حياتي، لقد اهتز قلبي لكلماتها، قالت لي وهي تنصرف: انصري هذا الدين أخية! ونصر هذا الدين لا يكون إلا باتباع الأوامر وترك النواهي والزواجر، تقول: خرجت من المسجد وأنا غارقة في التفكير، بالليل صحبني زوجي إلى مكان إباحي يتراقص فيه الرجال مع النساء شبه عرايا، يفعلون كالحيوانات، بل الحيوانات تترفع عن أفعالهم، تقول: كرهت نفسي الغارقة في الظلام، أردت الخروج بسرعة، وطلبت العودة إلى دياري وبلادي، ومنها بدأت رحلتي مع قوافل العائدات، تقول: لم أكن أعرف الطمأنينة والسكينة إلا كلما صليت وقرأت القرآن، هجرت الجاهلية رغم رفض زوجي ومن حولي، كلهم يريدونني أن أبقى في الظلام، ولكني لا أريد أن أرجع إلى الظلام بعد أن وجدت النور والحياة مع الله، ثم هدى الله زوجي بدعائي وتضرعي، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. وثالثة تقول: سبقتني صاحبتي في ترك الفن والضياع، وبقيت مترددة، فأخذت المصحف يوماً ففتحته فوقعت عيني على قوله تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [المائدة:92] فأغلقته، ثم فتحته مرة ثانية فوقعت عيني على قوله تعالى: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي [طه:25-28] فأغلقته ثم فتحته مرة ثالثة فوقعت عيني على آية جعلتني أصرخ من الأعماق، إنها قوله تعالى: وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ [الحج:7] فقمت وأخرجت طراحة بيضاء ولبستها، ونظرت في المرآة فرأيت نوراً قد أحاطني، شعرت أنني في معية الله، وأنه سبحانه قريب مني، وأني قريبة منه، رفعت سماعة الهاتف واتصلت على صاحبتي أبشرها، قلت لها: ادعي لي بالثبات، فلقد انضممت إلى قوافل العائدات، تقول: أشعر أني قريبة منه وأنه قريب مني. نعم أليس هو القائل: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة:186]؟ قريب أسمع وأجيب، وأعطي البعيد والقريب، وأرزق العدو والحبيب، قريب يغيث اللهفان ويشبع الجوعان ويسقي الظمآن، ويتابع الإحسان، قريب عطاءوه ممنوح، وخيره يغدو ويروح، وبابه مفتوح، حليم كريم صفوح. قريب يدعوه الغريق في البحار، والضال في القفار، والمحبوس خلف الأسوار، كما دعاه عبده في الغار. قريب فرجه في لمحة البصر، وغوثه في لفتة النظر، المغلوب إذا دعاه انتصر، اطَّلع فستر، وعلم فغفر، وعبد فشكر، قريب جواد مجيد، لا ضد له ولا نديد، أقرب إلى العبد من حبل الوريد، على كل نفس قائم وشهيد، محمود ممدوح حميد. قريب دعا المذنبين للمتاب، وفتح للمستغفرين الباب، ورفع عن أهل الفجأة الحساب. الله ربي لا أريد سواه هل في الوجود حقيقة إلا هو الشمس والبدر من أنور حكمته والبر والبحر من فيض عطاياه الطير سبحه والوحش مجده والموج كبره والحوت ناجاه والنمل تحت الصخور الصم قدسه والنحل يلهج حمداً في خلاياه والناس يعصونه جهراًً فيسترهم والعبد ينسى وربي ليس ينساه. ضرورة الحذر من شباك الهواتف والمكالمات أخية! هل سمعتي عن ضحايا الهواتف والمكالمات، إنها معاصٍ وفضائح وآهات ليلية، وزفرات وأنات، حب وهمي، ووعود كاذبة، والنهاية فضائح. تقول فتاة مسكينة: اتصل بي شاب في منزلنا، فخاطبني برقة، فرققت له، ترددت في البداية في الكلام معه، ولكن خطوات الشيطان تبدأ بخطوة، فأصبحت أنتظر هاتفه ومواعيده، ودارت بيننا أحاديث، ثم تحولت إلى قضية حب ووعود وأوهام، حتى كانت ليلة طلب مني أن أخرج معه؛ لأننا سوف نتزوج كما زعم ونتفق على الزواج، قال لي: ذرينا نتقابل حتى نرى بعضنا قبل الخطبة، فإن أعجبنا ببعضنا فبها، وإلا فكأن شيئاً لم يكن، فرفضت بشدة، وأخذ يصر على ذلك وهو يقول: إنه أمر يعين على الوفاق في الزواج، أصبحت في قلق وحيرة، هل أخلع ثوب الحياء، وأرمي العفاف؟ كلما اتصل طلب الرؤية والمقابلة، وأنا أعتذر، أصبحت أعيش في حيرة واضطراب، أصبحت أخاف أن يعلم والدي أو أخي، أصبحت أخاف من نظرات المجتمع، وقبل ذلك كله الخوف من الله سبحانه وتعالى، في الصباح ذهبت إلى إحدى معلماتي في المدرسة فأخبرتها بقصتي وأنا أبكي، فقالت لي: لا عليك، وهدأت من خاطري، وقالت لي: الأمر بيدك والحبل ممدود معك، فاحذري من مثل هذا، احذري أن يسلبك العز والشرف، ويعطيك الذل والعار، احذري أن تستبدلي الجنة بالنار، تخيلي لو أنك ركبت معه مرة ثم مرة ثم مرة فكيف ستكون النتيجة، لا تغتري بحال أولئك الذئاب الأخباث اللئام، فإنهم وإن زينوا لك لين الجانب فإنهم يرتدون جلود الضأن، وقلوبهم قلوب الذئاب، إنها قلوب خلت من مراقبة الديان، وانساقت إلى سبيل الهوى والشيطان، فما قيمة الفتاة إذا ذهب شرفها وحياءها؟! أسألك بالله: ما المصير لو علم أهلك؟! كم من شابة قتلها أبوها، وأخرى قتلها أخوها! كم من شابة أصابها الجنون وذهب عقلها! كم من شابة طعنت نفسها! ما السبب؟ إنها سماعة الهاتف. تقول المسكينة: بكيت وبكيت، وقلت لمعلمتي: لقد أيقظتني من سبات عميق ومن غفلة عظيمة، رفعت الفتاة يدها إلى السماء قائلة: رباه! عفوك، رباه! حلمك ومغفرتك يا أرحم الراحمين! رباه! اقبل توبتي واجبر كسرتي، وأجب دعوتي. اللهم! اقبلها في قوافل العائدات. أخية! لا تكوني ساجذة ولا غبية، فاسمعي هذا الشاب الذي عاش يطارد الفتيات وله علاقات وعلاقات، فلما أراد الزواج قال لصاحبه: ابحث لي عن أسرة لديها فتيات محترمات، فقال له صاحبه: وأين اللاتي كنت تعرفهن؟ فقال - اسمعي ما قال-: هؤلاء غير محترمات، هؤلاء لا يصلحن للزواج، فالواحدة منهن إن كانت خرجت معي مرة فستخرج مع غيري مرات!! فاحذري -أيتها الغالية- أن تكوني فريسة لهم. والحل: انضمي إلى قوافل العائدات. بعض الأمور التي تعين على التوبة والاستمرار عليها إليك أخيراً بعض الأمور التي تعين على التوبة والاستمرار عليها. قيل: الصادق هو الذي يثبت على توبته، فأخلصي النية، واجتهدي في الأعمال الصالحة، واستشعري قبح الذنب وفداحته، وابتعدي عن مكان المعصية، وأتلفي الأدوات المحرمة من أشرطة ومجلات، وابحثي عن رفقة صالحة، وداومي قراءة القرآن وخاصة الآيات المخوفة والمرققة للقلوب، وتذكري أن العقوبة قد تكون معجلة، وداومي ذكر الله حتى يطمئن القلب، قولي: إليك إله الخلق أرفع رغبتي وإن كنتُ يا ذا الجود والمن مجرما ولما قسى قلبي وضاقت مذاهبي جعلت الرجا مني لعفوك سلما تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما اللهم اجعلنا من التوابين، واجعلنا من المتطهرين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. اللهم احفظ نساءنا من الفتن، ما ظهر منها وما بطن. اللهم اجعلهن تقيات نقيات صفيات، حافظات للغيب بما حفظ الله. اللهم من أرادنا وأرادهن بسوء فأشغله في نفسه، واجعل تدبيره تدميره. اللهم اجعلهن ممن يستمعن القول فيتبعن أحسنه. اللهم احفظهن من بين أيديهن ومن خلفهن، اللهم! احفظهن في دينهن ودنياهن يا رب العالمين! ربنا ظلمنا أنفسنا وإلا تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم عاملنا بما أنت أهله ولا تعاملنا بما نحن أهله، إنك أنت أهل التقوى وأهل المغفرة! وأستغفر الله العظيم، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. http://audio.islamweb.net/audio/inde...o&audioid=6769 للمزيد من مواضيعي
الموضوع الأصلي :
قوافل العائدات -خالد الراشد- محاضرة مسموعة ومفرغة
-||-
المصدر :
مُنتَدَيَاتُ كَلِمَةٍ سَوَاءِ الدَّعَويِّة
-||-
الكاتب :
خَادم الإسلام
المزيد من مواضيعي
|
العلامات المرجعية |
الكلمات الدلالية |
-خالد, محاضرة, مصنوعة, ومفرغة, الراشد-, العائدات, قوافل |
الذين يشاهدون هذا الموضوع الآن : 1 ( 0من الأعضاء 1 من الزوار ) | |
أدوات الموضوع | |
أنواع عرض الموضوع | |
|
|
الموضوعات المتماثلة | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | ردود | آخر مشاركة |
قبل الندم محاضرة للشيخ خالد الراشد - تحميل واستماع مباشر - MP3 | muslim_906 | قسم الصوتيات والمرئيات | 4 | 13.11.2011 15:02 |
مقطع مؤثر جدا عن الموت للشيخ خالد الراشد .. | ابوحازم السلفي | قسم الصوتيات والمرئيات | 2 | 26.01.2011 12:49 |
أكبر سجادة مصنوعة من الزهور في العالم | أم جهاد | التاريخ والبلدان | 5 | 03.01.2011 02:55 |
قصة فتاة عادت الى الله(قوافل العائدات) | ام البراء الاندلسيه | القسم الإسلامي العام | 1 | 08.11.2010 16:13 |
تسنامى للتذكرة مع خالد الراشد | مسلم للابد | القسم الإسلامي العام | 1 | 24.06.2010 23:23 |