آخر 20 مشاركات |
|
أدوات الموضوع | أنواع عرض الموضوع |
رقم المشاركة :1 (رابط المشاركة)
|
|||||||||||||||||||||
|
|||||||||||||||||||||
هذا هو الإسلام معالي الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ حفظه الله
هذا هو الإسلام معالي الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ حفظه الله الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين ، أما بعد : فهذه كلمات تحت عنوان « هذا هو الإسلام » ، وقد قسمت الموضوع إلى عدة عناصر ومباحث سأعرض لها إجمالاً ، فإذا جدّ السير جاز الجمع والقصر . وسيتناول الموضوع ما يلي : - هذا هو الإسلام في العقيدة والعبادات . - هذا هو الإسلام في الشريعة . - هذا هو الإسلام في نظام الحكم . - هذا هو الإسلام في الأخلاق . - هذا هو الإسلام في الاقتصاد والمال . - هذا هو الإسلام في الاجتماع والألفة والافتراق . - هذا هو الإسلام في العلاقات الدولية . - هذا هو الإسلام في المدنية . - هذا هو الإسلام في الخلاف والحوار . - هذا هو الإسلام في المذاهب والأحزاب . - هذا هو الإسلام في الوسطية والاعتدال والتحذير من الغلو . عقيدة المسلمين : أما العقيدة : فأساس الإسلام هو ما اجتمعت عليه الرسل - عليهم صلوات الله وسلامه - من إسلام الوجه والقلب لله - جل وعلا - ، وهو الملخص المختصر في تحقيق الشهادتين : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا رسول الله ، وفيهما التوحيد الخالص . ومعنى شهادة « أن لا إله إلا الله » : أنه لا معبود بحق في ملكوت الله - جل وعلا - إلا الله وحده لا شريك له ، وكل ما عُبد سوى الله – عز وجل - فهو معبود بالباطل ، ﴿ ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ ٱلْبَـٰطِلُ ﴾ (1) . ومعنى شهادة « أن محمدًا رسول الله » : الإقرار والإعلام قولا وعلمًا بأن محمد بن عبد الله الهاشمي القرشي هو آخر رسل الله - صلى الله وسلم عليهم - ، وأنه مرسل من ربه إلى الناس كافة بشيرًا ونذيرًا ، وأنه يجب أن يُطاع فيما أمر ، وأن يُنتهى عما نهى عنه - عليه الصلاة والسلام - ، وأن لا يُعبد الله إلا بما شرعه هو - عليه الصلاة والسلام - ، لا بالأهواء والبدع والمحدثات . والإسلام عقيدة يتلخص في أركان الإيمان الستة : الإيمان بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، وبالقدر خيره وشره من الله - تعالى - ، وذلك لقوله تعالى ﴿ ءامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ وَٱلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَـئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾ (2) ، وقال أيضًا - جل وعلا - ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَـٰهُ بِقَدَرٍ ﴾ (3) ، ومعنى الإيمان بالله هو الإيمان بوحدانية الله - جل وعلا - في كونه ربًّا واحدًا متصرفًا في هذا الكون ، وفي كونه إلهًا واحدًا مستحقًّا للعبادة وحده دون ما سواه ، وفي كونه - جل وعلا - له الأسماء الحسنى ، والصفات العلا ، التي لا يماثله فيها أحد من خلقه ، وإن اشتركوا في إطلاق الصفة بين الخلق وبين الخالق . والإيمان بأركان الإيمان الستة هو حقيقة العقيدة بالله - جل وعلا - ، ومن الإسلام عقيدة الإيمان بالغيب ، بكل ما أخبر الله - جل وعلا - به ، أو أخبر به رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، والإيمان بالغيب لا يعترضه عقل ، ولا إدراك متصور ، ولا قياس مِثْلِي ، ولا قياس جزئي ، وذلك لأن أمور الغيب مبناها على التسليم ، وعلمها عند الله - جل وعلا - ، فنؤمن بها كما أخبر الله - جل وعلا - دون دخول في الكيفية ، أو دخول في المماثلة ، ولهذا وصف الله عباده في أول القرآن بقوله ﴿ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ ﴾ (4) فجعلها صفة المؤمنين الخاصة ، وهي إيمانهم بالغيب الذي أخبرهم به - جل وعلا - ، إذ لا أحد يخبر عن الغيب أعلم من الله - جل جلاله - . من أصول الإسلام في العقيدة : التسليم للكتاب والسنة ، ووحدة مصدر التلقي في الاعتقاد والشريعة ، ومصادر التلقي يجب أن تكون منصوصًا عليها ، وبهذا يدخل أساسًا في مصدر التلقي الكتاب والسنة وإجماع الأمة والاجتهاد الذي عليه دليله من الكتاب والسنة ، ويبعد بذلك مصادر التلقي الأخرى ، كالعقول المجردة من الدليل ، أو المنامات ، أو الأحلام ، أو المصالح المتوهمة المناقضة لما دل عليه الشرع . من أصول الإسلام في العقيدة : أن يوالى أهل الإيمان موالاة خاصة تقتضي محبتهم ومودتهم ونُصْرتهم ، كما قال الله - جل وعلا – ﴿ وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ﴾ (5) يعني بعضهم يحب بعضًا ، وبعضهم ينصر بعضًا ، ولهذا جعل علماء الاعتقاد مسألة موالاة المؤمنين في مسائل الاعتقاد ، لا في مسائل الفقه ، مع كونها لها صلة بمسائل الفقه . ومن أصول الإسلام في العقيدة : الترضي عن جميع الصحابة الذين أثنى الله - جل وعلا - عليهم ، وعن أمهات المؤمنين ، والتسليم للعلماء الربانيين ، وموالاة عباد الله الصالحين ، وموالاة جميع المؤمنين ، على تفاضل في هذه الموالاة بحسب مقتضى الإيمان . العبادات في الإسلام : أما من جهة العبادات : فالإسلام بُني على خمس : على شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج بيت الله الحرام ، وهذه العبادات الأربع : الصلاة والزكاة والصيام والحج ، هي أركان الإسلام العملية العظام ، التي من أجمع على تركها ، وعدم امتثال أمر الله - جل وعلا - فيها جميعًا ، فهو خارج من الملة . شريعة الإسلام : أما من جهة الشريعة : فالإسلام شريعته من الله - جل وعلا - وحْيُه في كتابه ، أو في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - : « الأنبياء أولاد عَلَّات (6) أمهاتهم شَتَّى ودينهم واحد » (7) . كما أخبر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال - جل وعلا - ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَـٰجًا ﴾ (8) ، وقال لنبيه ولعباده المؤمنين ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَـٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مّنَ ٱلأَمْرِ فَٱتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾(9) . وهذه الشريعة من الله - جل وعلا - أوحاها إلى نَبِيِّه - صلى الله عليه وسلم - ، ومنها ما هو منصوص عليه ، وهو المراد بالوحي ، ومنها ما دل الوحي على الاجتهاد فيه والاستنباط منه . من صفات هذه الشريعة أنها شاملة تشمل جميع ما يحتاجه الناس في حاضرهم ، أو في مستقبلهم ، مع اختلاف الزمان والمكان ، وهذه الشمولية إما بالنص ، وإما بالاجتهاد ، ولذلك كان اجتهاد العلماء ، والأئمة من الصحابة - رضوان الله عليهم - ، والتابعين ، وأئمة الإسلام راجعًا إلى اتباع النص . والاجتهاد يكون في حالة عدم ورود النص ، أو إذا عرض للنص ما يحتمله الفهم ، ذلك لأن النصوص شاملة ، والوقائع تضيق ، والنصوص واسعة ، والوقائع تختلف ، ولهذا تعتبر الشريعة صالحة لكل زمان ومكان ، فلزم أن تكون نصوصها ، وقواعدها ، وأصولها فيها من السعة والشمول ما يشمل الأزمنة والأمكنة مهما تعدد الزمان ، وهذا يظهر في أثر اجتهاد العلماء فيما اختلفوا فيه ، فإن علماء الملة اختلفوا في مسائل كثيرة ، ومن أسباب اختلافهم أنهم راعوا اختلاف الزمان والمكان ، ولهذا قال أهل العلم بالأصول والقواعد الفقهية : الأحكام ثابتة لا تتغير ، والفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان . فالحكم واحد ، أما الفتوى فقد تتغير لرعاية قاعدة ، أو رعاية مصلحة شرعية راجحة أو نحو ذلك ، ولهذا أدلته المعروفة المبسوطة عند أهل الاختصاص . والنصوص الشرعية منها ما هو قطعي الدلالة ، ومنها ما هو ضمني الدلالة يقبل الاجتهاد ، وهذه النصوص الشرعية في فهمها من جهة تطبيق الشريعة يجب أن تُفهم بروح مقاصد الشرعية ، ومقاصد الإسلام ، وروح الإسلام التي يقصد منها إصلاح الناس بما ينفعهم في دينهم وآخرتهم ، فصلاحية الشريعة لكل زمان ومكان ظاهر في بقاء الإسلام إلى قيام الساعة ، وظاهر في سعة النصوص وعدم ضيقها ، وهذا يظهر فيما نعاني منه اليوم في كثير من الأنحاء في ضيق النظر في بعض المستجدات الفقهية . وسبب هذا الضيق أن من نظر في كثير من المسائل المعاصرة ينظر بنظر عالم أو فقيه مضى عليه قرون من الزمان ، ولم يعش الوقت الحاضر ، وذلك يظهر في التعريفات الفقهية وفي الشروط ، والتعريفات الفقهية والشروط الفقهية للمسائل إنما ظهرت بعد ظهور الفروع لكل إمام ، ولكل عالم ، فإذا ارتبط الناس بتعريفات أو بشروط اشترطها الأئمة في وقتٍ ما تصلح لزمانهم وبلدانهم في ذلك الوقت ، فقد لا تصلح لمكان ، أو لوقت آخر ، والنصوص واسعة . والتعريفات والشروط يجب أن يُرجع فيها إلى سعة النص ، لا إلى تعريفات العلماء في وقت ما ، وذلك إذا كانت التعريفات والشروط اصطلاحية ، وهذا هو الأكثر ، لأننا نجد أن تعريف كثير من المسائل يختلف بين المذاهب ، فتعريف البيع عند الحنابلة يختلف عن تعريفه عند الشافعية وعند الحنفية وعند المالكية ، وذلك لأن تعريفهم لذلك اصطلاح ، وكذلك غيرها من المسائل تختلف تعريفاتهم بحسب ذلك ، وهذا يجعلنا نريد في هذا الزمن أن نخرج من التعريفات إلى سعة النص ، والنص يسع الزمان والمكان فيما يُصلح الناس ، ولهذا تفاصيل يضيق المقام عن بسطها . من سمات هذه الشريعة أن الشارع راعى فيها مصالح الناس ، فالأحكام كلها قد راعى فيها هذا الجانب ، فأحكام المعاملات ، والعبادات ، وأحكام الأسرة ، والأمور الاجتماعية ، والتبرعات كالوقف والوصايا والهبات ونحو ذلك ، كل هذا للشارع مقصد منه ، فالشريعة لها مقاصد جعلتها تتسع ، فإذا غاب النظر إلى المقاصد في الشريعة ، فسيغيب هدف مهم للشارع في النظر إلى الأحكام الفقهية ، وسعة الإسلام في شريعته ، ومن ذلك ما قاله الشاطبي في كتابه "الموافقات" (10) : المصلحة إذا كانت غالبة فلا اعتبار بالندور في انخرامها ، إذ لا توجد في العادة مصلحة عَرِيَّة عن المفسدة جملة ، إلا أن الشارع إنما اعتبر في مجاري الشرع غلبة المصلحة ، ولم يعتبر ندور المفسدة ، إجراء للشرعيات مجرى العاديات في الوجود . وهذا وفقًا للقاعدة المقررة عند أئمة الإسلام ، وهي أن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها ، وبدرء المفاسد وتقليلها ، والمصالح هذه المقصود منها المصالح في الدنيا بتيسير أمور الناس في حياتهم ، وما فيه قوتهم ، وفيما يحقق لهم الضروريات والحاجيات والتحسينيات ، وفي مصلحتهم في آخرتهم بغفران الله لهم ، وتحصيل الجنة لعباده . ومن أصول هذه الشريعة التي يصح أن نقول : إنها سمة لهذا الإسلام أن الشريعة يسر ، كما قال الله - جل وعلا - في وصفها ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ٱلدّينِ مِنْ حَرَجٍ مّلَّةَ ﴾ (11) ، وقال الله - جل وعلا - في وصفها ﴿ مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ ﴾ (12) والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد طبق ذلك عمليا في حياته ، فما خُيِّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين إلا اختار أَيْسَرَهما ما لم يكن إثما ، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه . (13) وثبت عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال : « أحبُّ الأديانِ إلى الله الحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ » (14) . وقال أيضًا : « إن الدين يُسْر ، ولن يُشَادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه » (15) . وقاعدة التيسير في الشريعة قاعدة مهمة ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يروم التيسير دائما ، بل وجدنا التيسير في كل أمور العبادات ، وكل أمور المعاملات ، فكل شأن الشريعة هو التيسير ، فيجب على المجتهد والناظر في الإسلام ، والذي ينسب قولا ، أو فتوى ، أو حكمًا للإسلام أن يجعل هذا قاعدة عنده ، وهي أن الشريعة مبناها على التيسير ، فكلما كان الحكم مُيَسِّرًا على الناس - فيما لم يرد فيه النص - فهو الأولى بالقبول ، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - وصف هذا الدين ، وهذه الشريعة بأن أحَبَّها إلى الله - جل وعلا - الحنيفية السمحة ، فالسماحة واليسر ورفع الحرج من أهم سمات هذه الشريعة . نظام الحكم في الإسلام : الإسلام ليس ذلك الدين الذي جاء ليحبس في المساجد ، بل هو دين للفرد ، ودين للجماعة ، الإسلام نظام للإنسان في نفسه وفي مجتمعه ، وهو أيضًا نظام حكم ، قال - جل وعلا - لنبيه ﴿ وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ ﴾ (16) ، وقال أيضًا لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في هؤلاء الذين يحكمون بحكم الجاهلية ﴿ أَفَحُكْمَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكْمًا لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ (17) . الحرية الدينية : راعى الإسلام أساسيات ما يقوم عليه مجتمع الناس في نظام حكمهم فراعى أولا الحرية ، والحرية تتنوع ، فمنها الحرية الدينية ، قال الله - جل وعلا - ﴿ لا إِكْرَاهَ فِى ٱلدّينِ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيّ ﴾ (18) وقال لنبيه ﴿ فَذَكّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ ﴾ (19) ، وقال أيضًا لنبيه ﴿ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾ (20) ، وهذه الحرية طُبِّقت بتطبيق ظاهر واضح في عهده - عليه الصلاة والسلام - ، وفي عهد الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم أجمعين - فلم يُجْبَر أحد على أن يعتنق الإسلام ، بل كان يُعرض له الإسلام ، فإن قبله وإلا تُرِك ، وهذا لأجل هذا الأصل في أنه من كان على ملة كاليهودية والنصرانية ، فإنه لا يُفتن عنها ، فقد كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل اليمن ، فقال : « لاَ يُفْتَنُ يَهُودِىٌّ عَنْ يَهُودِيَّتِهِ » (21) . يعني لا يُلجأ حتى يترك دينه ، وسيرة الخلفاء في التسامح في هذا الجانب ظاهرة بيِّنة . الحرية الاقتصادية والحرية الشخصية : من أساسيات الشرع في الحريات رعاية الحرية الاقتصادية ، ورعاية الحرية الشخصية ، قال الله - جل وعلا - ﴿ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلْبَيْعَ وَحَرَّمَ ٱلرّبَوٰاْ ﴾ (22) ، فقد راعى الإسلام الحرية الشخصية للإنسان في شئون حياته ، وهذا أصل قَعَّدَه الشرع ، ولذلك راعى الشرع حرية الإنسان في بيته ، فعندما نظر أحد الناس إلى داخل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - غضب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقال في ذلك : « لو أن امْرَأ اطلع عليك بغير إذن فَخَذَفْتَه (23) بحصاة فَفَقَأْتَ عَيْنَه ، لم يكن عليك جناح » (24) . ذلك لأنه تدخل ونظر إلى ما لا يجوز له النظر فيه ، فالإسلام راعى الحريات ، ولا يمكن أن يكون هناك اجتماع حكم ، أو اجتماع دولة ، أو اجتماع للناس ، يجتمعون فيه لقضاء مصالحهم إلا بنوع من الحريات ، وهذا كله قد كفله الشرع لهم . العدالة والمساواة : أيضًا من أساسيات الشرع في حكم الناس ، العدالة والمساواة ، العدل بين الناس والمساواة ، فأصل الحكم في الناس إنما هو لأجل تحصيل مصالحهم ، الناس يجتمعون على واليهم ، أو على أميرهم ، أو على دولتهم ، أو على حاكمهم ، لأجل تحقيق مصالحهم ، وأعظم ما يرضي الناس ، وما تُحقق به المصالح العدلُ فيما بينهم ، والعدل عرَّفه العلماء بأنه إعطاء كل ذي حَقٍّ حَقَّه ، ومعلوم أن أصحاب الحقوق يتفاوتون كما فرق عمر - رضي الله عنه - بين الناس في إعطائهم بعض الحقوق . العدالة أن يوصل الحق إلى صاحبه ، دون مماطلة أو تسلط ، ودون طغيان على صاحب الحق . والمساواة من آكد الأشياء المطلوبة ، فكما أن الناس في التكليف سواء ، ولا فرق بين أعرابي ولا أعجمي إلا بالتقوى ، والناس سواسية - في التكليف - كأسنان المُشْط ، فإنهم كذلك يُطلب أن يكونوا سواسية فيما يحتاجونه في دنياهم ، في مصالحهم ، وفيما يدفعون به الأذى ، وفي القضاء ، ونحو ذلك . ولهذا فقد أكد الشرع على سواسية الناس في مُجْمَل حقوقهم ، وما به حياتهم ، وعلى سواسية الناس أمام القاضي ، وعلى سواسية الناس في تحصيل مصالحهم . من أساسيات الشرع في الحكم أن تُحْفظ بيضتهم (25) ، وأن يحفظ اجتماعهم وقُوتُهم ، فهذا أول مهمات الحكم ، ومن أساسيات ذلك التي راعاها الشرع النصح بين المؤمنين ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « إن الدين النصيحة ، إن الدين النصيحة ، إن الدين النصيحة » . قالوا : لمن يا رسول الله ؟ قال : « لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم » (26) . فالنصح يكون للعامة ، ويكون لولاة الأمر ، وهذا أصل من أصول الشريعة ، وقد عاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض الصحابة (27) على أن يقولوا الحق ، لا تأخذهم في الله لومة لائم ، وعاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - طائفة من الصحابة على أن ينصحوا لكل مسلم (28) ، وذلك على اختلاف طبقات المسلمين ، وهذا داخل في أصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فقد وصف الله - جل وعلا - هذه الأمة بهذه الصفة ، قال - جل علا - ﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ ﴾ (29) . والنصح من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهذا هو القاعدة ، أما أشكاله وضوابطه وظروفه فتختلف باختلاف الزمان والمكان ، ولذلك فإن الأنظمة الحديثة كمجلس الشورى ، أو مجلس الأمة ، ونحو ذلك ، إنما هي وسيلة من وسائل النصح التي راعى الشرع فيها القاعدة العامة ، وتَرَك الوسيلة للناس ليطوروها كلما احتاجوا إلى ذلك ، فإذا تعقدت علاقات الناس ، ولم يُتوصل إلى النصح إلا بأسلوب ينظمه ولي الأمر ، فإنه يجب عليه أن ينظمه حتى تكون النصيحة واضحة واصلة إلى الحاكم وولي الأمر . كذلك النقد ، أو ما يُسمى في هذا العصر بالمعارضة ، إذا كانت بالضوابط الشرعية فهي مقبولة ، ومن أهم هذه الضوابط أن لا تُحدث فتنة ، وأن لا تفرق المسلمين ، فإذا كان النقد والمعارضة فيه مصلحة الناس ، ولا يسبب فتنة قولية ، أو عملية ، ولا يؤدي بهم إلى فساد في اجتماع كلمتهم ، فإنه حينئذ يكون مأذونا به . أما الحكم في نفسه ، فأركانه التي طُبقت هي : الحاكم ، وأهل الحل والعقد ، وأهل الشورى والرقابة ، والقضاء ، والدواوين والأجهزة التنفيذية . وكذلك بين الشرع للحاكم ما يجب عليه ، وما يجب له ، وكيف يُختار ، وكيف تكون ولايته ، وكذلك في أهل الحل والعقد ومن يكونون ، وكيف يكون التعامل بينه وبين كل هؤلاء ، وكذلك الشورى والرقابة ، فقد كان أهل الشورى عند عمر – رضي الله عنه - معروفين ، وهذا الأمر يتطور بتطور الزمان ، فربما صار اليوم له مجالس وأعداد كثيرة يمثلون شرائح الأمة حتى في اختلافهم في علومهم ، وفي إدراكاتهم ، وفي بلدانهم ، وفي قبائلهم ، حتى تكون مسألة الشورى ، أو مجالس الشورى هي التي يُناط بها - كما يسمى - التشريع ، أو يُناط بها وضع الأنظمة والرقابة على أداء الأجهزة التي تنفذ هذه الأنظمة . والقضاء أصل من أصول الشرع ، ولم تَرْعَ حضارة ، أو دين ، أو شريعة القضاء كما راعته هذه الشريعة ، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في وصف القضاة : « القُضَاة ثلاثة ، اثنان فى النار ، وواحد فى الجنة ، رجل علم الحق فقضى به ، فهو فى الجنة ، ورجل قضى للناس على جهل ، فهو فى النار ، ورجل عرف الحق فجار فى الحكم ، فهو فى النار » (30) . فالقاضي يجب عليه أن يبلغ حكم الله - جل وعلا - ، وقوله في ذلك ملزم ، وقد يكون القضاء على رتبة واحدة ، وقد يكون على عدة رتب ، كما هو الحال عندنا ، فعندنا القضاء في المحاكم ، ثم التمييز ، ثم مجلس القضاء الأعلى ، وفي بلدان أخرى له مراتب ثلاث ، والمهم أن تكون سلطة القضاء نزيهة ، لا سلطان لحاكم ، ولا لمحكوم عليها ، لأن القاضي يحكم بحكم الله - جل وعلا - ، فإذا تدخل أحد في السلطة القضائية ، فإنه تدخل في حكم الله - جل وعلا - فيما شرعه للفصل بين الناس ، فإذا تدخل الناس في السلطة القضائية ارتفع العدل ، وحل بعض الظلم فيما بين الناس ، وهذا مما يفكك الجماعة ، وينشر الكراهية والبغضاء بين الناس ، لأن الشرع رعى كل الوسائل التي تجلب للناس سعادة الدنيا والآخرة . وهناك الأجهزة التنفيذية من الوزارات ، والمصالح المختلفة ، وهذه الوزارات ، والمصالح المختلفة ، والدواوين إنما هي أجهزة للتنفيذ ، لتنفيذ ما أمر الله - جل وعلا - به ، لتنفيذ ما جعله ولي الأمر لهؤلاء من الأمانة ، لتنفيذ الأنظمة والتشريعات . ويجب على هؤلاء أن يؤدوا الأمانة كما أمرهم الله – جل وعلا – ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلامَـٰنَـٰتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ ﴾ (31) . الأخلاق في الإسلام : أما الأخلاق فإن أعظمها ما وصف الله - جل وعلا - نبيه - صلى الله عليه وسلم - به ، حيث قال لنبيه – صلى الله عليه وسلم – ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ (32) ، وقد قال نبينا - صلى الله عليه وسلم - : « إنما بُعِثْت لأتمم مكارم الأخلاق » (33) . وهذا الحصر في قوله « إنما بُعثت » يفيد أن القصد من البعثة إنما هو تتميم مكارم الأخلاق ، وهو بهذا يجعل الأخلاق شاملة لكل ما اشتملت عليه الشريعة ، وما اشتمل عليه دين الإسلام ، وهذا هو الظاهر . والإنسان فيه خَلق وخُلق ، أما الخَلق فهو الصورة الظاهرة ، وأما الخُلق فهو الصورة الباطنة لروحه ، وكما أن الإنسان يجب عليه أن يعمل على تحسين ظاهره ، فإنه كذلك يجب عليه أن يعمل على تحسين باطنة ، وهذا الأمر يدخله التكليف ، لأنه متعلق بالروح والنفس والغرائز ، لهذا نقول : إن الأخلاق التي دعا إليها الإسلام متنوعة ، فأولها خُلق الإنسان مع ربه ، فالإنسان المسلم خُلقه مع ربه يجب أن يكون أسمى الأخلاق في جميع ما يتصل بروحه ، وهل محبة الله - جل وعلا - ورجاؤه ، والخوف منه ، والأنس به ، ودعاؤه ، والذل له ، والتوكل عليه ، وحسن الظن به ، إلا من الأخلاق الواجبة بين الإنسان وبين ربه - جل وعلا - . خُلق الإنسان مع ربه يدخل فيه إخلاصه لربه - جل وعلا - فلا يُشرك مع الله أحدا ، ولا يقصد بعمله سوى وجه الله - جل وعلا - ، كما قال ابن القيم – رحمه الله - : فلواحدٍ كُنْ واحدًا في واحدٍ أعْني طريقَ الحق والإيمان وخُلق المسلم مع والديه وأهله وأولاده ، مع جميع المسلمين بأن يُعاملهم بالصدق والأمانة ، وأن يحب لهم ما يُحب لنفسه ، وأن يرعى فيهم الأمانة ، وأن يجنب نفسه وإياهم كل ما فيه نزغ للشيطان في الصدور ، ولهذا قال - جل وعلا - في جماع ذلك ﴿ وَقُل لّعِبَادِي يَقُولُواْ ٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ﴾ (34) . ولم تَعْلُ الأخلاق إلا بالفعل الحسن ، والقول الجميل ، ولم تتصدع الأخلاق إلا بالقول المشين ، أو الفعل المعيب ، فلهذا كلما حسُنت الأقوال والأفعال في تعاملات الإنسان ، وأحب للناس ما يحب لنفسه من الخير ، صار على خلق محمود ، وجميع الصفات ، مثل الصدق والأمانة والوفاء بالعهد وأداء الحقوق هذه جميعها من أنواع الأخلاق المحمودة . كذلك خُلق المسلم مع غير المسلمين ، فكون الرجل ليس مسلما لا يعني أن نسيء معاملته ، ونكون معه على خُلق غير حسن ، فقد قال الله - جل وعلا – ﴿ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا ﴾ (35) ، وقال أيضا ﴿ لاَّ يَنْهَـٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمْ يُقَـٰتِلُوكُمْ فِى ٱلدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دِيَـٰرِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ ﴾ (36) ، فلم يَنْهَ الله - جل وعلا - في هذا الخُلق الحميد عن بِرِّ مَن لا يقاتلنا في الدين ، وعن الإحسان إليه ، وعن العدل معه ، فالعدل أساس في كل أنواع التعاملات مع غير المسلمين ، وكذلك بِرّهم ، والإحسان إليهم ، وهذا كله مع من لم يظهر العداوة للإسلام وأهله . كذلك خُلق المسلم في الحرب ، الإسلام أول تشريع جاء في الحرب بعزل المدنية والمدنيين عن الحرب ، واختص في الحرب بمواجهة المحاربين دون مواجهة المدنيين ، فقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتل الشيخ ، والمرأة ، والوليد ، ونهى عن قطع الشجر ، وهدم البيوت ، وذلك لأن المدنيين لم يحاربوا ، وإنما الحرب تكون على المحاربين ، وهذا عُلُوٌّ في الانتقائية حتى في حال الحرب ، فالحرب ليس معناها في الإسلام أن تحصد الأخضر واليابس ، أو أن تحصد الناس لأجل الانتصار ، وإنما راعى الإسلام في الحرب انتقاء من يُهاجَم ومن يُقتل . الخُلق في تعريف وجيز فيما راعاه الإسلام : هو حمل الغرائز في صفاتها على موافقة أمر الخالق - جل وعلا - . الاقتصاد في الإسلام : الإسلام أعطى المال والاقتصاد أهمية كبيرة جدًّا ، وذلك لأن الاقتصاد والمال قوة للأمة ، واقتصادها يقويها ، ويقوي تكاتفها ، ويقوي أيضًا أمرها مع أعدائها ، فقوة الدولة في الإسلام ، وقوة المسلمين في داخلهم تنبع من عدة أشياء ، ومنها قوتهم الاقتصادية والمالية ، وذلك لأن مظهر القوة في أمة الإسلام لا يكون إلا بالاهتمام بالاقتصاد والمال ، وأن يُراعى هذا الجانب كثيرًا ، ولكن الشرع في رؤيته للمال مع كل هذا جعل هناك عدة أصول : الأصل الأول : أن المال مال الله - جل وعلا - ، قال الله - تبارك وتعالى - ﴿ وَءاتُوهُمْ مّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِى ءاتَـٰكُمْ ﴾ (37) والبشر مستخلفون في هذا المال ، يسيرون فيه على وَفْق مراد الله - جل وعلا - ، قال سبحانه ﴿ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ﴾(38) ، فجعل الإنفاق مما استخلفنا فيه ، فالمال بأنواعه مما استخلفنا الله - جل وعلا - فيه ، ولذلك قال العلماء : التبذير هو أن يُنْفَق المال في غير ما أمر الله - جل وعلا - به ، فالإنفاق في الحرام تبذير ، والإنفاق على وفق الشرع هو الإنفاق المحمود . الأصل الثاني : من أصول النظر إلى الاقتصاد والمال هو ضمان حد الكفاية لأفراد الأمة ، فالشرع راعى أن يوفر حد الكفاية لأفراد الأمة بحسب حاجتهم ، وذلك قد يكون عن طريق الدولة من خزانتها ، كما فرض النبي - صلى الله عليه وسلم - من بيت المال أشياء للمحتاجين ، وكما فرض أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - إلى آخره ، وقد يكون من التشريعات الإسلامية كالزكاة ، والصدقة ، والواجب في الإنفاق على الأقربين ، ونحو ذلك . من أصول نظرة الإسلام للاقتصاد والمال احترام الملكية الخاصة ، فالملكية الخاصة محترمة ، والشرع يعمل دائما على تنمية الملكيات الخاصة ، الصغيرة قبل الكبيرة ، فالإسلام يهتم بالصغار قبل الكبار ، وهذا بخلاف النظرة الرأس مالية ، أو النظرات الأخرى التي تُحَرِّم الغِنَى ، أو التي تجعل الغَنِيَّ هو السلطان ، بل رغب الشرع في عمل الصغير حتى يكون منتجا ليكون المال في يده ، قال الله - جل وعلا - ﴿ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ ٱلاْغْنِيَاء مِنكُمْ ﴾ (39) . من أصول ذلك أيضًا إعطاء الحرية الاقتصادية ، فلا اقتصاد ، ولا قوة إلا بنوع من الحرية ، ولهذا فتح الشرع باب الاقتصاد ، وجعل المحرم من المعاملات الجاهلية محدودا ، فأهل الجاهلية كانوا يتعاملون بمعاملات كثيرة متنوعة ، فحرم الشرع منها أشياء ، وجعل الباقي على أصل الجواز . أيضًا من أصول ذلك الحث على أنواع التنمية الاقتصادية ، والعقارية والزراعية ، والصناعية ، والتجارية ، ولكل هذا أدلته من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعل الخلفاء - رضي الله عنهم أجمعين - . من أصول الشرع في نظرته للاقتصاد والمال ترشيد الإنفاق ، والنهي عن التبذير والإسراف . من أصول ذلك أيضا تحريم كل معاملة تئول إلى الظلم الفردي أو الجماعي ، لأنه قد يتسلط صاحب المال ، فيسعى من جهته في حريته الاقتصادية إلى أن يظلم الفرد ، أو يظلم المجموع ، قد لا يحس الفرد بظلمه ، ولكن قد يظلم المجموع ، والشرع حرم الظلم في الاقتصاد بأنواعه ، وجعل التشريعات المتنوعة كفيلة بصد الظلم بأنواعه ، وأن يكون العدل هو المطلوب ، العدل في الرؤية للفرد ، والعدل في الرؤية للجماعة . كذلك راعى الشرع نمو رأس المال ، وأن يكون ذلك متاحًا للصغير والكبير . من القواعد العامة في نظرة الشرع للاقتصاد والمال ، أن الأصل في المعاملات المالية والاقتصادية الحل والإباحة إلا ما ثبت تحريمه في الشرع ، وهذه قاعدة معروفة عند أهل العلم ، أن العبادات الأصل فيها الحظر - يعني المنع - حتى يأتي دليل بالأمر بها ، لأن العبادات لا يدخلها العقل ، ولا الرأي فيُنظر فيها إلى أمر الشارع ، وأما المعاملات فهي حياة الناس ، وهي دنياهم ، فلهم ما يجعلون من التفريعات في المعاملات ، ومن أنواع المعاملات ، والأوضاع الاقتصادية ، والمالية ما يشاءون ، ولكن بشرط أن لا يكون فيها خمسة أنواع من المحاذير : الأول : الربا ، الثاني : الميسر والقمار ، والثالث : الجهالة التي تؤدي إلى الخصومات والنزاعات ، الرابع : الغش والخداع ، والخامس : الظلم . فإذا انتفت هذه الخمسة في أي نوع من المعاملة ، أو أي نوع من الوضع الاقتصادي ، أو أي نوع مما يريد الناس أن يحدثوه في أوضاعهم المالية ، والاقتصادية ، أو مؤسساتهم المالية ، والاقتصادية ، فلا بأس بذلك ، وهو عمل مشروع . من القواعد في ذلك أن الاقتصاد يجب أن يحقق مصالح الفرد ، ومصالح المجتمع ، ومصالح الدولة ، فلا يحقق مصلحة أفراد مخصوصين ، أو مصلحة طائفة معينة ، أو مصلحة حزب بعينه فقط ، قال الله - جلا وعلا - ﴿ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ ٱلاْغْنِيَاء مِنكُمْ﴾ (40) ، ولهذا لما قال الناس : يا رسول الله غلا السعر فَسَعِّر لنا . قال : « إن الله هو الْمُسَعِّر ، القابض ، الباسط ، الرازق ، وإنى لأرجو أن ألقى الله ، وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في دم ، ولا مال » (41) . وذلك في فتح المجال ، حتى يستفيد الصغير ، والكبير ، وأن لا يتحكم أناس في الأسعار لصالحهم ، مما يؤدي إلى الضرر العام . الاجتماع وعدم الافتراق : يحرص الإسلام على الاجتماع وعدم الافتراق ، وهذا من قواعد الإسلام ، قال الله - جل وعلا - ﴿ وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾ (42) ، وقال ﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ٱلْبَيّنَـٰتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ (43) ، وقال ﴿ شَرَعَ لَكُم مّنَ ٱلِدِينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَٱلَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ ﴾(44) . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الحسن : « الجماعة رحمة ، والفُرْقة عذاب » (45) . وبهذا يتضح لنا أن الإسلام أساسه الاجتماع ، وعدم الافتراق ، وينقسم هذا إلى نوعين : الأول : هو الاجتماع وعدم التفرق في الدين ، بألا يُشَرِّع الناس في الدين ما يريدونه من عبادات ، ومن أقوال ، ومن أوضاع ، ومن طقوس ، فالأساس أن يجتمعوا على الدين الحق في عقيدتهم ، وفي عباداتهم ، وألا يفتأتوا على الشارع ، وأن لا يتجاوزوا حدهم ، وأن يتركوا التشريع لله وحده ، قال الله - جل وعلا - في سورة الشورى ﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُواْ لَهُمْ مّنَ ٱلدّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ ٱللَّهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ ٱلْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ﴾ (46) . الثاني : هو الأمر بالاجتماع ، والنهي عن الافتراق في أمور الدنيا ، والدولة والإمام ، فالله - جل وعلا - أمر بالاجتماع على الوالي المسلم ، وأن يُنصر ، وأن يُنصح ، وألا يُخذل في أي موطن من المواطن ، أمر الإسلام بحفظ ذلك ، ونهى عن التفرق عنه ، وأمر بالجماعة مع الإمام الحق ، وأن يؤيد ويُنصر ، لأن في ذلك نصرة للدين ، وقوة له ، حتى لو كان عنده بعض القصور ، أو الأخطاء ، أو الآراء التي قد لا يوافقه عليها الآخرون ، ولكن لا بد للناس من اجتهاد ، وإذا صار الاجتهاد هنا وجب على الجميع أن يقفوا مع ولي الأمر فيما فيه مجال للاجتهاد ، حتى لا تحدث الفرقة ، وأقوى ما تجتمع به الأمة عدم فراقها على دولتها ، وأقوى ما تتفرق وتضعف به أن تكون أحزابًا وشِيَعًا ، قال الله - جل وعلا - ﴿ وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذٰلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾ (47) ، فأثنى على أهل الاجتماع ، لأنهم أهل الرحمة . العلاقات الدولية : الحال دائمًا بين الدول إما حال سلم ، وإما حال حرب ، فإذا كانت حال الحرب قائمة ، فالشرع لا يتشوف للحرب ، بل الحرب تقوم مقام الضرورة في ذلك ، وإذا كان المجال مفتوحًا للدعوة إلى الله - جل وعلا - وإلى تبليغ رسالة الله - جل وعلا - فإن أصل الجهاد في سبيل الله - جل وعلا - لم يُشرع - كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في أول كتابه في رده على النصارى - : إن الجهاد لم يُشرع إلا حماية للدعوة ، فإذا كانت الدعوة يمكن تبليغها ، فإن جهاد الطلب لا وجه له . وأعطى أدلة على ذلك وشواهد معروفة . وفي حال الحرب يجب أن يكون هناك دفاع ، وهذا واجب على الإمام ، وواجب على الأمة أن تدفع عنها الأعداء بحسب ما تستطيع ، فإذا كانت لا تستطيع ، فإنها ترتكب أدنى المفسدتين لتفويت أعلاهما ، لأن الظلم وقع بالصحابة ، ولم يؤذن لهم بالجهاد في وقتها ، قال الله - جل وعلا - ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَـٰتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴾ (48) فجهاد الدفع مطلوب بحسب القدرة ، وبحسب الحال ، وبإذن وأمر ولي الأمر . أما حال السلم فالعلاقات بين الدولة الإسلامية ، وبين غيرها تكون إما حال عهد وميثاق ، وإما حال أمان ، وهذه ما يُعبر عنها العلماء بحال المعاهدين ، أو حال المستأمنين ، أما حال العهد ، فالشرع رعى المواثيق والعهود ، قال الله - جل وعلا - ﴿ يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ﴾ (49) ، وقال ﴿ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولًا﴾ (50) ، وقال - جل وعلا - لنبيه - عليه الصلاة والسلام - ﴿ وَإِنِ ٱسْتَنصَرُوكُمْ ﴾ ، يعني المؤمنين ، يعني لو أن طائفة من المؤمنين استنصروكم ﴿ فَعَلَيْكُمُ ٱلنَّصْرُ إِلاَّ عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مّيثَاقٌ ﴾ (51) ، فإذا كان هناك ميثاق بين الدولة الإسلامية ، وبين دولة غير مسلمة ، ووقع اعتداء على بعض المسلمين ، فهنا يكون لولي الأمر الخيار بين أن ينبذ العهد ، وأن يقاتل العدو ، وبين أن يرعى الميثاق ، وذلك على وفق المصالح لحفظ بيضة الأمة ، بحسب ما تراه الدولة . العهود كثيرة متنوعة ، فالعلاقات الدولية مقررة فيما فيه مصلحة للمسلمين ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - استقبل الرسل ، وأدناهم ، وأجلسهم في مجلسه ، وأخذ الرسائل منهم ، وبعث الرسائل لرؤساء الدول والأقاليم والأمصار التي كانت في زمنه . المدنية والحضارة : المدنية والحضارة قامت بمفهومها الشامل والواسع في العهد الإسلامي ، ذلك أن المسلمين رأوا في الشريعة ما يحثهم على عمارة الأرض ، وعلى أن يخدموا مدنيتهم بما فيه راحتهم وسعادتهم . والبناء المدني في الداخل سواءً من جهة بنائهم للمدن ، أو من جهة التشريعات ، أو من جهة الأنظمة ، وهذا لن يكون إلا بالتعاون بين النظام التشريعي ، وبين الناس ، وبين الجهات التنفيذية ، ولذلك أقام الشرع الاهتمام الكبير بالنظام المدني بأنواعه ، فأقام الولاية ، ووضع الدواوين ، والأجهزة التنفيذية ، والقضاء ، وحث الناس على التعاون فيما فيه مصلحتهم وخدمتهم . وبناء الأحوال المدنية ببناء الاقتصاد ظاهر ، بل شَرْعُ الإسلام في بيت المال أن يُنظم ، وأن يكون هناك أناس مخصصون للحفاظ على هذا المال ، وأن يُتصرف فيه على وفق الشرع ، كما حث الإسلام على الوقف ، وعلى أنواع التبرعات ، فالوقف سمة من سمات التنوع المدني ، وتوسيع الاهتمامات المدنية ، ولهذا نرى في زمن الحضارة والمدنية الإسلامية أنه ليس هناك مجال إلا غُطي بالوقف ، سواءً في مجال المساجد ، أو التعليم ، أو الصحة ، أو المكتبات ، أو الطرق ، أو المياه ، كما أن هناك أيضا أوقافا على الأرامل والمساكين ، وعلى المحتاجين ، وعلى من لا وسيلة له للكسب . وهذا كله نوع من أنواع اهتمام الإسلام بحث الناس على أن يسهموا في هذا الجانب ، وألا يَكِلُوه إلى خزانة الدولة ، بل تشريعات الإسلام تحث على التكامل في البناء المدني ، في تشريع الزكاة ، والصدقات ، والتكافل الاجتماعي وما إلى ذلك . الخلاف والحوار : لا بد للناس أن يختلفوا ، وإذا كان الأمر كذلك ، فلا بد أن يتحاوروا ، ولهذا دعا الله - جل وعلا - المؤمنين أن يكون القول بينهم فيما يتحاورون فيه بالأحسن ، قال الله - جل وعلا - ﴿ وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ ٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ﴾ (52) ، وأكثر ما يكون القول السيئ عند المناقشة ، وعند الحوار ، فإذا اختلف الناس ، ولم يأخذوا بأحسن ما يجدون من الأقوال ، فإنهم سيختلفون ، ولذلك علَّمنا الشرع عند الخلاف أنه لا بد من الأدب ، بأن يكون قولنا بالتي هي أحسن ، أن يكون قولنا بالحكمة ، قال - سبحانه وتعالى - ﴿ ٱدْعُ إِلِىٰ سَبِيلِ رَبّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ وَجَـٰدِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ (53) ، وهذا مع جميع أصناف الناس من المسلمين ، وغير المسلمين يُجادَلون بالتي هي أحسن ، والْحَظ أن الله - تعالى - قال ﴿ بِٱلَّتِي هِىَ أَحْسَنُ ﴾ ولم يقل : بالحسنى . لأنه عليك أن تبذل من القول أحسن ما تجد ، لأن المقصود هو الوصول إلى النتيجة ، فالناس سيختلفون ، وإذا لم نَرْعَ هذا الاختلاف فيما بيننا بالحوار بالتي هي أحسن ، فسينشق المجتمع ، وتتعدد فيه الطوائف وتنتشر فيه البغضاء ، وهذا خلاف ما أوجب الشرع من حماية البيضة ، واجتماع الكلمة . وقال أيضًا في حوار ومجادلة غير المسلمين ﴿ وَلاَ تُجَـٰدِلُواْ أَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ ﴾ (54) ، فالمجتمع بطبيعته بتنقصه وبنمائه وبكبره ، لا بد أن يكون فيه بعض الاتجاهات المذهبية ، أو الطائفية ، وهذه بذرت من أول يوم ، والانتماءات المختلفة موجودة ، سواءً كانت انتماءات عرقية ، أو قبلية ، أو بلدانية ، أو مذهبية ، أو نحو ذلك ، وفي عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - انقسم الناس إلى مهاجرين وأنصار ، وكان هذان الاسمان - أعني المهاجرين والأنصار - اسمين شرعيين ذكرهما الله في كتابه ، ومع ذلك لما تعصب الناس من الأنصار للأنصار ، ومن المهاجرين للمهاجرين أنكر عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك أنهم لما كانوا في إحدى الغزوات منصرفين منها اقْتَتَلَ غُلاَمَانِ ، غُلاَمٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ ، وَغُلاَمٌ مِنَ الأَنْصَارِ ، فَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ : يَا لَلْمُهَاجِرِينَ ، وَقَالَ الأَنْصَارِيُّ : يَا لَلأَنْصَارِ ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : « أَدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ » (55) . مع أن اسم المهاجرين اسم شرعي ، واسم الأنصار اسم شرعي ، فلما كانت الموالاة والمعاداة على اسم غير اسم الإسلام ، وكان هذا من العوامل التي قد تؤدي إلى تفرق الأمة نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - . فالاختلاف المذهبي ، والاختلاف الحزبي ، واختلاف الواقع ، لا بد أن يوجد ، لا سيما مع هذا التمدد ، ومع تنوع الناس في معارفهم ، لا بد أن يكون هناك انتماءات ، وأن يكون هناك أنواع من التعصبات ، وأنواع الآراء المختلفة ، ولكن يجب أن يُراعى الشرع فيها ، وأن لا يكون الولاء لاسم غير اسم الإسلام ، وأن لا يكون الاجتماع على غير كلمة الله - جل وعلا - ، وتحت راية ولي الأمر . وأما إذا تفرق المجتمع في وجود المذاهب والأحزاب والطوائف إلى أن يطعن بعضهم في بعض ، ويفتأت على ما يراه ولي الأمر ، فإن هذا يضعف الأمة ، ويُفَتِّت قوة كلمتها ، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - كان في وقته بعض المنافقين ، وكان يراعي الظاهر منهم ولم يحاسبهم على بواطنهم ، بل ترك ذلك إلى الله - جل وعلا - ، ولذلك لما قال عبد الله بن أُبَيٍّ - وهو رأس المنافقين - : أو قد فعلوا ، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل . قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « دعه ، لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه » (56) . الإسلام هو دين الوسطية والاعتدال : الإسلام هو دين الوسطية والاعتدال ، وهو الدين الذي يحارب الغلو ، وينهى عنه ، قال الله - جل وعلا - ﴿ وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ (57) ، وهذه الوسطية ظاهرة جَلِيَّة في جميع عقائد الإسلام وتشريعاته ، فعقيدة الإسلام وَسَطٌ ، وتشريعاته وسط ، وهذا الذي يجب أن نمارسه فيما بيننا في أقوالنا وآرائنا ، حتى في تفكيرنا يجب أن نكون وسطًا بين المغالين ، وبين الجافين وحتى في رؤيتنا لبعضنا البعض ، يجب أن نسعى للمنهج الوسط ، والمنهج الوسط هو الذي يجب أن نَحُضَّ عليه ، وندعو الناس إليه ، لأنه هو أساس الإسلام . والغلو منهي عنه أعظم نهي ، قال الله - جل وعلا - لأهل الكتاب ﴿ يأَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ ﴾ (58) ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الغلو ، فقال : « إياكم والغُلُوَّ في الدين ، فإنما هلك من كان قبلكم بالغُلُوِّ في الدين » (59) . والغلو هو مجاوزة الحد ، كل ما تجاوز به حده فقد غلا فيه ، والغلو في الدين مذموم ، وأصحابه خارجون عن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وما ظهرت الفرق ، والطوائف الضالة ، والمحدثات إلا بظهور الغلو ، فالخوارج ما ظهروا إلا بالغلو في دين الله - جل وعلا - ، وهل نَكَبَ الأمة في تاريخها إلا الغلو والازدياد في التدين بما لا دليل عليه . وربما نحا أصحاب الغلو إلى أدلة ، ولكن الغلو والانحراف موجود في النفوس قبل أن يبحث أصحابه في الأدلة ، وهذا ما نص الله عليه في كتابه حيث قال ﴿ هُوَ ٱلَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ مِنْهُ آيَـٰتٌ مُّحْكَمَـٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَـٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَـٰبِ ﴾ ، هناك متشابهات يشتبه علمها ، يمكن أن تستدل بها على كذا ، ويمكن أن تستدل بها على كذا ، قال الله - جل وعلا - ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَـٰبَهَ مِنْهُ ﴾ ، الذي في قلبه زيغ أصلا في قلبه غلو ، في قلبه انحراف ، فيتبعون ما تشابه منه ، فصار اتباع المتشابه من القرآن ، أو من السنة ، لا لأنه يوقع في الحيرة ، ولكن لما وُجِدَ الزَّيْغُ في قلبه ذهب إلى غير دليل يستدل به ، ليقنع نفسه بأنه على صواب ﴿ وَٱلرسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا ﴾ (60) . أسأل الله - جل وعلا - أن يغفر لي زللي وخطئي وقصوري ، وأن يجعلني فيما ذكرت متحريًّا الصواب ، وكلمة الحق في وصف الإسلام ، وفي شرحه وبيانه ، وأستغفر الله مما قصرت به عبارتي ، أو نحا به فهمي على غير الصواب ، أسأل الله - جل جلاله - أن يجعلنا من الهداة المهتدين ، وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن ، وأن يُعِزَّ هذه الأمة ، وأن يُقَوِّيَها على أعدائها ، وأن ينصرها نصرًا مؤزرًا إنه - سبحانه - جواد كريم ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد . ========================================== (1) سورة الحج : الآية 62 . (2) سورة البقرة : الآية 285 . (3) سورة القمر : الآية 49 . (4) سورة البقرة : الآية 3 . (5) سورة التوبة : الآية 71 . (6) أولادُ العَلَّات : الذين أمَّهاتُهم مُخْتَلفةٌ ، وأبوهم واحِدٌ . أرادَ أنَّ إيمانَهم واحِدٌ وشرائِعَهُم مُخْتَلِفة . النهاية : علل . (7) أخرجه البخاري (3/1270 ، رقم 3258) ، ومسلم (4/1837 ، رقم 2365) . (8) سورة المائدة : الآية 48 . (9) سورة الجاثية : الآية 18 . (10) راجع تفصيل ذلك في كتاب الموافقات للشاطبي 3/74 بتحقيق مشهور بن حسن آل سلمان . (11) سورة الحج : الآية 78 . (12) سورة المائدة : الآية 6. (13) أخرجه البخاري (3/1306، رقم 3367) ، ومسلم (4/1813، رقم 2327) . (14) أخرجه أحمد (1/236 ، رقم 2107) ، والبخاري فى الأدب (1/108 ، رقم 287) قال الحافظ فى الفتح (1/94) : إسناده حسن . (15) أخرجه البخاري (1/23 ، رقم 39) . (16) سورة النساء : الآية 58 . (17) سورة المائدة : الآية 50 . (18) سورة البقرة : الآية 256 . (19) سورة الغاشية : الآية 21 - 22 . (20) سورة يونس : الآية 99 . (21) أخرجه البيهقي 9/187 وقوَّاه الألباني في الإرواء 5/97 . (22) سورة البقرة : الآية 275 . (23) الخَذْفُ : رَمْيُكَ بحَصاة ، أَو نواة تأْخُذها بين سَبّابَتَيْك ، أَو تَجْعَلُ مِخْذَفةً من خشب ترمي بها بين الإبهام والسبابة . النهاية : حذف . (24) أخرجه البخاري (6/2525 ، رقم 6493) ، ومسلم (3/1699 ، رقم 2158) . (25) أي مجْتَمعهُم ومَوْضِع سُلطانهم ومُسْتَقَرّ دَعْوتهم . النهاية : بيض . (26) أخرجه مسلم (1/74 ، رقم 55) . (27) منه حديث أَبِي ذَرٍّ – رضي الله عنه – قَالَ : أَمَرَنِي خَلِيلِي - صلى الله عليه وسلم - بِسَبْعٍ : أَمَرَنِي بِحُبِّ الْمَسَاكِينِ وَالدُّنُوِّ مِنْهُمْ ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ دُونِي ، وَلاَ أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقِي ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَصِلَ الرَّحِمَ وَإِنْ أَدْبَرَتْ ، وَأَمَرَنِي أَنْ لاَ أَسْأَلَ أَحَدًا شَيْئًا ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَقُولَ بِالْحَقِّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا ، وَأَمَرَنِي أَنْ لاَ أَخَافَ فِي اللهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ، وَأَمَرَنِي أَنْ أُكْثِرَ مِنْ قَوْلِ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ ، فَإِنَّهُنَّ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ . أخرجه أحمد ( 5/159 ، رقم 21745) . وصححه الألباني في الصحيحة 2166 . (28) منه حديث جَرِيرٍ – رضي الله عنه – قَالَ : بَايَعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى إِقَامِ الصَّلاَةِ ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ . أخرجه البُخَارِي ( 1/22 ، رقم 57 ) . (29) سورة آل عمران : الآية 110 . (30) أخرجه أبو داود (3/299 ، رقم 3573) ، والترمذي (3 /613 ، رقم 1322) ، والنسائي فى الكبرى (3/461 ، رقم 5922) ، وابن ماجه (2/776 ، رقم 2315) . وصححه الألباني في الإرواء 2614 . (31) سورة النساء : الآية 58 . (32) سورة القلم : الآية 4 . (33) أخرجه البخاري في " الأدب المفرد " رقم ( 273 ) ، وأحمد (2/381 ، رقم 8939) وغيرهما . وصححه الألباني في الصحيحة 45 . (34) سورة الإسراء : الآية 53 . (35) سورة البقرة : الآية 83 . (36) سورة الممتحنة : الآية 8 . (37) سورة النور : الآية 33 . (38) سورة الحديد : الآية 7 . (39) سورة الحشر : الآية 7 . (40) سورة الحشر : الآية 7 . (41) أخرجه أبو داود (3/272 ، رقم 3450) ، والبيهقي (6/29 ، رقم 10926) ، والطبراني في الأوسط (1/136 ، رقم 427) . وقال الهيثمي (4/99) : رجاله رجال الصحيح . (42) سورة آل عمران : الآية 103 . (43) سورة آل عمران : الآية 105 . (44) سورة الشورى : الآية 12 . (45) أخرجه أحمد ( 4 / 278 ) ، وابن أبى الدنيا في فضيلة الشكر (1/62 ، رقم 82) ، والبيهقي في شعب الإيمان (4/102 ، رقم 4419) . وحسنه الألباني في الصحيحة 667 . (46) سورة الشورى : الآية 21 . (47) سورة هود : الآية 118-119 . (48) سورة الحج : الآية 39 . (49) سورة المائدة : الآية 1 . (50) سورة الإسراء : الآية 34 . (51) سورة الأنفال : الآية 72 . (52) سورة الإسراء : الآية 53 . (53) سورة النحل : الآية 125 . (54) سورة العنكبوت : الآية 46. (55) أخرجه مسلم (4/1998 ، رقم 2584) . (56) أخرجه البخاري (4/1861 ، رقم 4622) ، ومسلم (4/1998 ، رقم 2584) . (57) سورة البقرة : الآية 143 . (58) سورة النساء : الآية 171 . (59) أخرجه أحمد (1/347 ، رقم 3248) ، والنسائي (5/268 ، رقم 3057) ، وابن ماجه (2/1008 ، رقم 3029) . وصححه الشيخ الألباني في صحيح ابن ماجه 2455 . (60) سورة آل عمران : الآية 7 . المصدر للمزيد من مواضيعي
الموضوع الأصلي :
هذا هو الإسلام معالي الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ حفظه الله
-||-
المصدر :
مُنتَدَيَاتُ كَلِمَةٍ سَوَاءِ الدَّعَويِّة
-||-
الكاتب :
أبوحذيفة الأثري
المزيد من مواضيعي
|
العلامات المرجعية |
الكلمات الدلالية |
أغاني, الله, الإسلام, الشيخ, حفظه, سامح, عبدالعزيز |
الذين يشاهدون هذا الموضوع الآن : 1 ( 0من الأعضاء 1 من الزوار ) | |
أدوات الموضوع | |
أنواع عرض الموضوع | |
|
|
الموضوعات المتماثلة | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | ردود | آخر مشاركة |
لا يوجد فرق بين ( الفرق الناجية ) و ( الطائفة المنصورة ) لفضيلة الشيخ العلامة صالح الفوزان حفظه الله | أبوحذيفة الأثري | ركن الفتاوي | 0 | 03.04.2012 12:56 |
[هو الذي أنزل عليك الكتاب] فضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان حفظه الله | أبوحذيفة الأثري | القرآن الكـريــم و علـومـه | 0 | 26.03.2012 11:08 |
هذا هو الإسلام معالي الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ حفظه الله | أبوحذيفة الأثري | القسم الإسلامي العام | 0 | 19.03.2012 22:29 |
سفينة الجوديّ أم تابوت أراراط ؟ ج2 - الشيخ عرب حفظه الله مع الشيخ عماد المهدي | join_islam | مصداقية الكتاب المقدس | 1 | 03.06.2010 02:03 |
سفينة الجوديّ أم تابوت أراراط ؟ ج1 - الشيخ عرب حفظه الله مع الشيخ عماد المهدي | دعاة ضد التنصير | مصداقية الكتاب المقدس | 1 | 03.06.2010 01:55 |