رقم المشاركة :1 (رابط المشاركة)
|
|||||||||||||||||||||
|
|||||||||||||||||||||
الرد على إدعاء أن الإسلام دين حرب و ليس دين سلام
بسم الله الرحمن الرحيم و به نستعين مضمون الشبهة: يزعم بعض الطاعنين أن الإسلام ليس دين سلام، ولو كان كذلك لما فرض فيه الجهاد القتالي، ويتساءلون: كيف تتفق الدعوة إلى الجهاد مع الدعوة إلى السلام؟!! ويهدفون من وراء ذلك إلى التشكيك في الغايات السامية للجهاد في الإسلام. وجوه إبطال الشبهة: إن المتأمل المنصف لحقيقة الإسلام وطبيعة أحكامه ومقاصد شرائعه،يدرك أنه دين سلام للبشرية كلها، عربها وعجمها،بكل مللها ونحلها. الباعث على الحرب والقتال في الإسلام هو دفع الاعتداء، لا البدء به، قال عز وجل: )وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (190)( (البقرة). السلم هو الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم، وهو أصل في عقيدة الإسلام، وعنصر من عناصر تربيته، وهدف يعمق الإحساس به في ضمير الفرد، وفي واقع المجتمع، وفي بناء الأمة. الجهاد القتالي في الإسلام لم يكن قط دون ضوابط وآداب، فللجهاد ضوابط قبل بدء القتال، وفي أثناء القتال وبعده. التاريخ والمنصفون من غير المسلمين يشهدون بعدالة الفتح الإسلامي، سماحة المسلمين مع أهل البلاد المفتوحة. التفصيل: أولا. الإسلام دين سلام للبشرية كلها، عربها وعجمها، بكل مللها ونحلها[1]: مع عناية الإسلام البالغة بقوة المسلمين أفرادا وأمة، وأمره ببذل ما في الوسع للإعداد للقتال، وإعداده الأمة كلها لتكون عند الحاجة جيشا يقاتل في سبيل الله، وتربيتها على الأخذ بأسباب القوة والصبر على الجهاد، فإنه لا يعتبر الحرب هي الأصل في الحياة، إنما يعدها ضرورة لدفع العدوان والظلم، ويعد السلام هو الأصل والهدف الذي يعمل لتحقيقه. إن العالم في حاجة ماسة إلى قوة تدافع فيه عن الحق، وتكفل الحرية لجميع الناس، وتقف في وجه الدول الطاغية التي تستذل الشعوب وتمتص دماءها وتتحكم في مصائرها، والإسلام يريد لأمته أن تكون هي هذه القوة، تحافظ على أمن العالم وسلامته، والانتصار للحق في كل مكان، بصرف النظر عن الدين والجنس والوطن، ومن ثم كان لا بد لها من القوة: قوة الإيمان بالحق، وقوة النفوس، وقوة الإعداد، فالسلام الذي يريده الإسلام إذن، ليس سلام الضعف والاستكانة، ولا السلام على حساب مثله الرفيعة في الحياة. والسلام في مبادئ الإسلام أعمق من أن يكون مجرد رغبة يدعو إلى تحقيقها في الحياة، إنما هو أصل في عقيدته، وعنصر من عناصر تربيته، وهدف يعمق الإحساس به في ضمير الفرد وفي واقع المجتمع وفي بناء الأمة، إنه يتصور الحياة وحدة إنسانية غايتها التعارف والتعاون بين الجميع، ولا يتصورها صراعا بين الطبقات، ولا حربا بين الشعوب، ولا عداوة بين الأجناس: )يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم( (الحجرات:13)، ويتصور الأديان كلها دينا واحدا بعث الله به رسله للبشرية الواحدة. والمؤمنون الذين آمنوا بهذا الدين أمة واحدة - في كل زمان ومكان - ويصور النبي هذه الوحدة بالبناء الواحد الذي لا يشغل منه إلا موضع لبنة: «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بني بنيانا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة، فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين»[2]. ثم يخطو الإسلام خطوة كبيرة في سبيل تحقيق هذا الهدف، وذلك بتقرير حقوق الإنسان، تلك الحقوق التي لم يصل إليها حتى اليوم نظام ولا شريعة ولا فلسفة، في عمقها وأصالتها ورفعتها، فالإنسان في نظر الإسلام مخلوق كريم وكائن ممتاز، كرمه ربه بنفحة علوية من روحه، وزوده بالمواهب والطاقات التي تمكنه من تعمير الأرض والرقي بالحياة، وأسجد له ملائكته وجعله خليفته في أرضه، وسخر له في حياته كل ما يحتاج إليه لتحقيق رسالته: )ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا (70)( (الإسراء). ويرمي الإسلام إلى تحقيق هذه الكرامة للإنسان في واقع الحياة، للإنسان بوصفه إنسانا، بصرف النظر عن دينه وجنسه ولونه ووطنه، فأعطاه حق الحياة الحرة الكريمة، ففرض لكل جاهل أن يتعلم، ولكل محتاج أن يعان، ولكل مريض أن يداوى، ولكل خائف أن يؤمن، وصان عرضه وماله ومسكنه، وحرم دمه أن يسفك، وحريته أن يعتدى عليها، وضميره أن يتحكم فيه، ولم يترك هذه الحقوق عرضة للعبث والضياع، ولم يصغها في أسلوب الحكم والنصائح، إنما جعلها من صميم العقيدة لها حرمة الإيمان، كما جعلها فرضا على المجتمع والدولة. وأكد حرمة الدم البشرى، فحرم سفكه إلا بالحق، لا فرق بين إنسان وإنسان: )ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق( (الأنعام:151). وعظم من حرمة النفس البشرية، ومن زور الاعتداء عليها، فاعتبر النفوس كلها واحدة، من اعتدى على إحداها فكأنما اعتدى عليها جميعا؛ لأنه اعتدى على حق الحياة، ومن قدم لإحداها خيرا فكأنما قدم الخير للإنسانية بأسرها، قال عز وجل: )من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا( (المائدة:32). وعلى أساس احترام النفس الإنسانية كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يربي أصحابه، فقد جاء عن جابر قال: «مرت بنا جنازة، فقام النبي وقمنا، فقلنا: يا رسول الله، إنها جنازة يهودي، فقال: "أوليست نفسا»[3]؟ وبهذا الفقه كان المسلم يتحرج من سفك الدماء في أحرج المواقف؛ فحينما حاصر الثوار أمير المؤمنين عثمان بن عفان، ومنعوا عنه الماء، وأجمعوا على قتله، حاول الصحابة أن يقاتلوا الثوار فأبى عثمان، يقول أبو هريرة: دخلت على عثمان يوما الدار، فقلت له: جئت لأنصرك، وقد طاب الضرب يا أمير المؤمنين، فقال: يا أبا هريرة، أيسرك أن يقتل الناس جميعا وإياي معهم؟ قلت: لا، قال: فإنك إن قتلت رجلا واحدا فكأنما قتلت الناس جميعا، فانصرف مأذونا لك، مأجورا غير مأزور[4]. وروح الإسلام ومبادئه ومنهجه في التربية ترمي كلها إلى إقرار السلام وتعميق حبه في ضمير المسلم وسيادته في المجتمع، وليس في الدنيا شريعة ولا نظام يفرض على أتباعه رياضة أنفسهم على السلام إلا الإسلام؛ ففي فريضة الحج مثلا يحرم على المسلم أن يقتل حيوانا أو يهيج طائرا أو يقطع نباتا أو يؤذي إنسانا بيد ولا لسان: )الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج( (البقرة:197). وكذلك الصوم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الصوم جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث ولا يصخب، وإن سابه أحد أو قاتله، فليقل: إني صائم، إني صائم»[5]. وهي تربية عملية على تذوق حياة السلام، وتعود ممارستها في الحياة، والتعامل على أساسها في المجتمع. ومما يؤكد أن الدعوة للسلام تحتل المقام الرئيس في أهداف الإسلام العامة ومقاصد شريعته السامية ما يأتي[6]: أكد القرآن الكريم أن المقصود الأعظم من اعتناق الإسلام الاهتداء إلى طرق السلام والنور، قال الله عز وجل: )يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين (15) يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم (16)( (المائدة)، و بالاستقراء في كتاب الله - سبحانه وتعالى - نجد أن لفظ "السلام" وما اشتق منه يزيد على 133 آية قرآنية، بينما لم يرد لفظ "الحرب" إلا في ست آيات فقط. إن اسم "الإسلام" من "مادة السلام"[7]. من أسماء الله - عز وجل - السلام، قال الله عز وجل: )هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون (23)( (الحشر). تحية المسلم لرسول الإسلام سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة في التشهد: "... السلام عليك أيها النبي... " وعند قبره الشريف كذلك. تحية المسلم لنفسه وللمسلمين أحياء وأموات في الصلاة في التشهد "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين... ". تختم الصلاة عند المسلمين - فرضا ونفلا - بصيغة "السلام عليكم... ". التحية المشروعة للمسلم لإخوانه "السلام عليكم... ". من أسماء الجنة "دار السلام" قال الله عز وجل: )لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون (127)( (الأنعام). )والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (25)( (يونس). وليلة القدر التي نزل فيها القرآن كلها سلام: )سلام هي حتى مطلع الفجر (5)( (القدر). تحية المؤمنين في الجنة "السلام" قال الله عز وجل: )تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما (44)( (الأحزاب). هناك آيات قرآنية محكمة تحض على السلام، منها: )يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين (208)( (البقرة). )وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم (61)( (الأنفال). )يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا (94)( (النساء). )إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا (90)( (النساء). )فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير (15)( (الشورى). )لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (8)( (الممتحنة(. وفي الحديث الشريف: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أيامه التي لقي فيها العدو انتظر حتى مالت الشمس، ثم قام في الناس فقال: «أيها الناس، لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف"، ثم قال: اللهم منزل الكتاب، ومجرى السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم»[8]. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يربي المسلمين على إيثار السلام، واستنفاد الحيلة في دفع العدوان وعدم القتال: جاء عن أبي هريرة قال: «جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، أرأيت إن عدي على مالي؟ قال: "فانشد بالله"، قال: فإن أبوا علي؟ قال: "فانشد بالله" قال: فإن أبوا علي؟ قال: "فانشد بالله"، قال: فإن أبوا علي؟ قال: فقاتل، فإن قتلت ففي الجنة، وإن قتلت ففي النار»[9]. وعلى أساس هذه الأصول يعتبر الإسلام السلام هو الأصل، ويعتبر الحرب ضرورة لا يلجأ إليها إلا مقاومة للظلم والعدوان، وحين لا يكون بد منها، أما الحروب العدوانية أو الهجومية بالمفهوم الحديث - فهي حروب لا يعرفها الإسلام: )وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (190)( (البقرة). وكذلك يأمر القرآن بوقف الحرب بمجرد طلب العدو للصلح، حتى ولو كان في طلبه مظنة خيانة أو غدر، أو كان يبغي من وراء وقف القتال كسب الوقت للإعداد لحرب ثانية )وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم (61) وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين (62)( (الأنفال). ثانيا. الباعث على الحرب في الإسلام دفع الاعتداء لا البدء به: إن الباعث الوحيد على الجهاد في الإسلام - رد الاعتداء ودفعه، وليس في الإسلام دعوة إلى المبادأة بالقتال ألبتة، ويوضح هذا الشيخ محمد أبو زهرة فيقول: إن المتتبع لنصوص القرآن وأحكام السنة النبوية في الحروب يرى أن الباعث على القتال، ليس هو فرض الإسلام دينا على المخالفين، ولا فرض نظام اجتماعي، بل الباعث على القتال في الإسلام هو دفع الاعتداء. وها هنا قضيتان إحداهما نافية والأخرى مثبتة: أما النافية، فهي أن القتال ليس للإكراه في الدين، ودليلها قوله عز وجل: )لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي( (البقرة:256)، ولقد منع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا حاول أن يكره بعض ولده على الدخول في الإسلام، وجاءت امرأة عجوز إلى عمر بن الخطاب في حاجة لها، وكانت غير مسلمة، فدعاها إلى الإسلام فأبت، فتركها عمر، وخشي أن يكون في قوله - وهو أمير المؤمنين - إكراه، فاتجه إلى ربه ضارعا قائلا: "اللهم أرشدت ولم أكره"، وتلا قوله عز وجل: )لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي(، لقد نهى القرآن الكريم عن الفتنة في الدين، واعتبر فتنة المتدين في دينه أشد من قتله، وأن الاعتداء على العقيدة أشد من الاعتداء على النفس؛ ولذا جاء فيه صريحا: )والفتنة أشد من القتل( (البقرة: ١٩١). وأما القضية المثبتة، فهي أن القتال لدفع الاعتداء، وقد نص عليها القرآن أيضا، إذ يقول: )فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين (194)( (البقرة)، وإن القرآن بمحكم نصوصه جعل الذين لا يقاتلون المؤمنين في موضع البر إن وجدت أسبابه، وأن الذين يقاتلون هم الذين يعتدون؛ فقد جاء فيه: )لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (8)( (الممتحنة). ومع أن القتال شرع لدفع الاعتداء، إلا أن القرآن لم يأمر بالحرب عند أول بادرة من الاعتداء، أو عند الاعتداء بالفعل إذا أمكن دفع الاعتداء بغير القتال؛ فقد جاء فيه: )وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين (126) واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون (127)( (النحل). هذه نصوص واضحة تثبت - بلا ريب - أن حرب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الأخيار من بعده لم يكن الباعث عليها إلا دفع الاعتداء، ولم يكن الباعث عليها فرض رأي أو دين، ولكن يجب علينا أن نفرض أن كل مبدأ سام يتجه إلى الدفاع عن العقيدة وعن الحرية الشخصية يهم الداعي إليه أن تخلو له وجوه الناس، وأن يكون كل امرئ حرا فيما يعتقد، يصطفي من المذاهب بحرية كاملة ما يراه أصلح للاتباع في اعتقاده، وما يراه أقرب إلى العقل في نظره، فإذا كان طاغية أو ملك قد أرهق شعبه من أمره عسرا، وضيق عليه في فكره، وحال بينه وبين الدعوات الصالحة تتجه إليه، فإن حق صاحب الدعوة إذا كان في يده قوة أن يزيل تلك الحجز التي تحول بينه وبين دعوته ليصل إلى أولئك المستضعفين، وتخلو وجوههم لإدراك الحقائق الجديدة وإعلان اعتناقها إن رأوا ذلك وآمنوا به، ولكن محمدا النبي الأمين - صلى الله عليه وسلم - لم يلجأ إلى ذلك ابتداء حتى لا يظن أحد في الأخلاف أن محمدا قاتل ليفرض دينه على الناس، أو ليكرههم عليه؛ ولذلك سلك طريقين: أولهما: أن يرسل الدعوة الدينية إلى الملوك والرؤساء في عصره يدعوهم إلى الإسلام، ويحملهم إثمهم وإثم من يتبعونهم إن لم يجيبوا دعوته، ولذلك جاء في كتابه إلى هرقل: " أسلم تسلم، وإلا فعليك إثم الأريسين" أي: الرعية من الزراع وغيرهم )قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله( (آل عمران: ٦٤). ثانيهما: أنه بعد هذه الدعوة الرسمية أخذ يعلن الحقائق الإسلامية ليتعرفها رعايا تلك الشعوب فيتبعها من يريد اتباعها، وقد اتبعها فعلا بعض أهل الشام ممن يخضعون لحكم الرومان، وعرف المصريون وغيرهم حقيقتها، حتى لم تعد مجهولة لمن يريد أن يتعرفها، وتسامعت بها البلاد المتاخمة للعرب. وما اتجه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قتال الفرس و الروم، إلا بعد أن ثبتت حقيقتان: أولاهما: أن الروم قد ابتدءوا فاعتدوا على المؤمنين الذين دخلوا في الإسلام من أهل الشام، فكان ذلك فتنة في الدين وإكراها للمسلمين على الكفر، وما كان محمد - صلى الله عليه وسلم - ليسكت على ذلك، وقد جاء لدعوة دينية، وإنه إن كان لا يحمل الناس على اعتناق الإسلام كرها، إلا أنه لا يمكن أن يسكت عمن يحاولون أن يخرجوا أتباعه من دينهم كرها، إنه لا يريد أن يعتدي، ولا أن يعتدى عليه؛ ولذلك اعتبر هذا العمل من جانب الرومان اعتداء على دينه وعليه؛ لأنه صاحب الدعوة فلا بد أن يزيل هذه الفتنة. الأخرى: أن كسرى عندما بلغه كتاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - هم بقتل من حملوه، وأخذ الأهبة ليقتل النبي - صلى الله عليه وسلم ـواختار من قومه من يأتيه برأسه الشريف الطاهر، ولكن أنى لكسرى وأمثاله من الطغاة أن يمكنهم الله - عز وجل - من ذلك، والنبي - صلى الله عليه وسلم ــ وقد علم بالأمر - ما كان ليسكت حتى يرتكب كسرى هذا الإثم، بل إنه القوي العادل الحصيف؛ ولذلك كان لا بد أن يصرعه وجيشه قبل أن يصرعه هو. لهاتين الحقيقتين اتجه النبي - صلى الله عليه وسلم - لقتال الرومان والفرس لمنع الفتنة في الدين من أولئك الرومان ومحاربيهم، كما قاتل المشركين لمنع هذه الفتنة، إذ يقول القرآن الكريم: )وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين (193)( (البقرة)[10]. ويقول ابن تيمية في قتال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل الروم: "وأما النصارى فلم يقاتل النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدا منهم، حتى أرسل رسله إلى قيصر وإلى كسرى، وإلى المقوقس والنجاشي، وملوك العرب بالشرق والشام، فدخل في الإسلام من النصارى وغيرهم من دخل، فعمد النصارى بالشام فقتلوا بعض من قد أسلم، فالنصارى هم الذين حاربوا المسلمين أولا، وقتلوا من أسلم منهم بغيا وظلما، فلما بدأ النصارى بقتل المسلمين أرسل محمد - صلى الله عليه وسلم - سرية أمر عليها زيد بن حارثة، ثم جعفرا، ثم ابن رواحة، وهو أول قتال قاتله المسلمون بمؤتة من أرض الشام، واجتمع على أصحابه خلق كثير من النصارى، واستشهد الأمراء الثلاثة - رضي الله عنهم - وأخذ الراية خالد بن الوليد[11]. وبهذا يتبين أن قتال النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن إلا دفعا للاعتداء، والاعتداء الذي حدث في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان على صورتين: إحداهما: أن يهاجم الأعداء النبي - صلى الله عليه وسلم ـفيرد كيدهم في نحورهم. ثانيتهما: أن يفتن الأعداء المسلمين عن دينهم، ولا بد أن يمنع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك الاعتداء على حرية الفكر والعقيدة. وفي الصورتين نجد النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يفرض دينه، ولا يكره أحدا عليه، ولكن يحمي حرية الاعتقاد التي هي مبدأ من مبادئه، إذ قد جاءت مقررة في القرآن، إذ يقول عز وجل: )لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي( (البقرة: 256). فالحق أن قتال النبي - صلى الله عليه وسلم - كان دفاعا عن حرية الرأي وحماية العقيدة من أن يفتن صاحبها. وما انتقل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ربه حتى كانت كل البلاد التي حوله قد تحركت لتفتن المؤمنين عن دينهم، وقد ابتدأ الرومان فعلا، فلم يكن بد من الاستعداد لهم، وهم كسرى بأن يقتله؛ ولذا أوصى - صلى الله عليه وسلم - بأن يذهب جيش كثيف إلى الشام، وجعل أسامة بن زيد أميرا عليه، وجعل من جنوده الشيخين الجليلين أبا بكر - وعمر رضي الله عنهما. ولما آلت الخلافة إلى أبي بكر، ثم عمر أرسلا الجيوش إلى كسرى وهرقل بعد أن خمدت الردة، وصارت الكلمة لله ولرسوله وللمؤمنين في شبه جزيرة العرب. وكذلك كان القتال في عهد الخلفاء الراشدين جميعا، لا في عهد الخليفتين الأولين فقط، ولقد سارت المعركة في طريقها بين الفرس ومن وراءهم من الشرق، وفي الشام وما وراءها من ملك هرقل، وأمن الناس بهذه الحرب في عقائدهم، ولم يكن الأمن خاصا بالمسلمين، بل إن اليعقوبيين من المسيحيين أمن لهم اعتقادهم فحيل بين الرومان وبين ما يشتهون من محاولة حملهم على "الكثلكة"، أي: حملهم على الدخول في المذهب الكاثوليكي؛ ولذا رحبوا بالفاتحين من المؤمنين، ولم يكن قتال إلا مع الرومان، حتى إذا هزموا في أول صدمة، صارت المعركة بين المسلمين والمصريين مناوشات وليست حروبا، وانتهى الأمر بالتسليم لعدالة الإسلام، الذي يحمي الحريات، وخصوصا حرية الاعتقاد. ثالثا. السلم هو الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم، وهو أصل في عقيدة الإسلام: وإذا كان القتال في الإسلام لدفع الاعتداء، وليس للحمل على اعتقاد معين، فإن الأصل في العلاقة بين المسلمين وغيرهم هي السلم حتى يقع اعتداء، فإن كان الاعتداء، فإن الحرب تكون أمرا لا بد منه، ردا للشر بمثله، ولتحمي الفضيلة نفسها من الرذيلة كما قررنا، وإن ذلك الأصل ثابت بالنصوص القرآنية، وثابت بالوقائع التاريخية في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - ففي القرآن الكريم: )يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين (208)( (البقرة)، وفيه أيضا: )وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم (61)( (الأنفال)، وفي القرآن أيضا: )يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا( (النساء: ٩٤)، وإن كل هذه النصوص قاطعة في أن الأصل هو السلام حتى يكون الاعتداء، فالذين آمنوا بمقتضى النص الأول يدعون إلى الدخول في السلم بكل ضروبه وأشكاله، ولا شك أنه لو كان الأصل هو الحرب ما دعوا إلى هذا الأمر السامي، والنص الثاني يدعو إلى الميل إلى السلم والدخول فيه إن مالوا إليه، ولو كان القتال للكفر ما كان السلم إلا بعد الإيمان، ولكنه دعا إلى الجنوح إلى السلم إن مالوا إليه، ولو لم يكن إيمان، والنص الثالث ينهى عن القتال إذا ألقى العدو إلى المسلمين السلام. وقائع التاريخ تشهد بأن القتال فرض على المسلمين: إن الوقائع التاريخية في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - تؤكد أن القتال في الإسلام كان دفاعا، وأن العلاقة بين المسلمين وغيرهم علاقة سلم، وذلك يتبين من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرفع سيفا على مخالفيه، حتى كان منهم اعتداء بالفعل أو تربص بالاعتداء: فأما كفار قريش، فقد مكث النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهم ثلاث عشرة سنة يدعوهم بدعاية الله عز وجل، يدعوهم إلى التوحيد والتطهر من أرجاس الجاهلية ومظالم العصبية، ما ترك بابا من أبواب الدعوة بالموعظة الحسنة إلا دخله، تحقيقا لأمر الله له )ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن( (النحل:125)، ولكنهم آذوه وآذوا أصحابه، ولم يتركوا بابا من أبواب الأذى إلا دخلوه فجاهدهم - صلى الله عليه وسلم - بالصبر والمصابرة، حتى هموا بقتله، وجمعوا من كل قبيلة شابا ليضربوه ضربة رجل واحد، وأحاطوا بداره ليفعلوا فعلتهم، ولكن الله - عز وجل - نجاه، فخرج من بيته مهاجرا، وكان أصحابه من قبله قد هاجروا فرارا بدينهم الذي ارتضوا، وعندئذ جاء الإذن بالقتال، كما قال عز وجل: )أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير (39) الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز (40)( (الحج). وكان القتال مقصورا على قريش لا يعدوهم؛ لأنهم هم الذين اعتدوا، واستمروا على اعتدائهم باستمرارهم على أذى المستضعفين الذين بقوا بمكة لا يستطيعون عنها حولا، وكانت غزوتا بدر وأحد خاصتين بقريش، ولكن قريشا جمعوا له الجموع من العرب جميعا في غزوة الأحزاب، فتضافروا جميعا على اقتلاع المدينة الفاضلة من أرض العرب، فكان لا بد من قتال العرب كافة؛ لأنهم جميعا قد اعتدوا؛ ولذا نزل قوله عز وجل: )وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين (36)( (التوبة)، فقد اعتدوا جميعا فكان حقا على المؤمنين أن يردوا اعتداءهم جميعا: )ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز (40)( (الحج). وأما اليهود، فعندما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة لم يستبح دماءهم، بل سالمهم وعقد معهم عقد جوار يجعل لهم حقوقا وعليهم واجبات، وكان حلفا كريما، لم يفكر في نقضه، فلم يكن المؤمنون وعلى رأسهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ممن ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، واستمر - صلى الله عليه وسلم - على عهده نحو ثلاث سنين، حتى بعد غزوة بدر، التي خذل الله بالإيمان فيها الشرك كله، فقد أذلت فيها قريش، ولكن كانت الخيانة من اليهود في غزوة أحد في السنة الثالثة، ثم في غزوة الأحزاب في السنة الخامسة، حين اجتمعت العرب كلها لتجتث الإسلام من موطنه، وكانت خيانات لو تمت لذهب أهل الإيمان، وكان لا بد من نبذ العهد، كما يقرر القرآن: )وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين (58)( (الأنفال). وأما النصارى، فقد بينا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحاربهم إلا بعد أن قتلوا المؤمنين في الشام، ولم يحارب النصارى كافة بل حارب الرومان فقط، وقد كان على أتم ولاء مع نصارى العرب، وأنه لم يحارب الرومان بوصفهم نصارى، بل حاربهم بوصفهم معتدين، وأن النصارى من العرب قد جاء القرآن بالثناء عليهم في قوله عز وجل: )لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون (82) وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين (83)( (المائدة). وبهذا الاستقراء التاريخي نجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ما حارب أحدا لم يعتد عليه، أو لم يدر الأمر ضده، أو لم يتآمر على الإسلام مع أعدائه، وهو الذي يقرر الحقائق الإسلامية وحده، وإنه يقرر أن من سالم المسلمين لا يحل لهم أن يقاتلوه، ومن اعتدى عليهم لا يحل لهم أن يتركوه[12]. رابعا. الجهاد القتالي في الإسلام له ضوابط وآداب، قبل بدء القتال، وفي أثناء القتال، وبعده: تقرر سلفا أن باعث الجهاد في الإسلام رد الاعتداء، وتحطيم كل قوة تعترض طريق الدعوة وإبلاغها للناس في حرية، أو تهدد حرية اعتناق العقيدة وتفتن الناس عنها، ومع أن الإسلام حدد الهدف - وهو جد نبيل - إلا أنه لا يقر مبدأ " الغاية تبرر الوسيلة"، ولذا حدد المدى ووضع الضوابط والقيود، لينأى بنفسه وبأتباعه عن هذه الشناعات التي عرفتها حروب الجاهليات الغابرة والحاضرة على السواء، إذ ينفر منها حسه وتأباها تقواه. ومن أفضل من تناولوا هذه الضوابط بالتفصيل الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه " نظرية الحرب في الإسلام" فيقول: ضوابط قبل المعركة: لا يبتدئ القتال في الإسلام إلا بعد تخيير المقاتلين بين أمور ثلاثة: الإسلام، أو العهد، أو الحرب، وقد ذكرنا أنه بعد أن انتشر الإسلام في البقاع صار المسلمون في وسط أعداء يتحينون الفرصة للانقضاض على الإسلام وأهله، وإن سكنوا فليستعدوا ويضربوا الضربة التي يرونها قاصمة، فكان لا بد من أن يسبقهم الإسلام قبل أن يسبقوه، والهجوم في أحيان كثيرة يكون الطريق الوحيد لرد الاعتداء. ولكن الإسلام لا يريد أن يأخذ مخالفيه على غرة، بل هو يعلنهم قبل الهجوم، وإعلانه دليل على أنه لا يقصد بالقتال أن يستولي على أرض، أو يحكم الرقاب، أو يتحكم في مصائر العباد، بل يريد أن يأمن جانبهم، إما بالعهد يعقدونه، أو بالإسلام يعتنقونه، فإن لم يكن واحد من الأمرين، كانت نية الاعتداء واضحة بينة، فلا بد أن يقوا أنفسهم منه. وقد سار المسلمون على ذلك المنهاج في فتوحاتهم، وصار من بعد ذلك أمر الإسلام مشهورا، وقد نسي بعض القواد أن يخير بين هذه الأمور، فهجم من غير تخيير، ومن هؤلاء "قتيبة بن مسلم الباهلي" الذي فتح ما وراء النهر، وانساب في الأرض حتى أوشك أن يصل إلى الصين، وحدث وهو يغزو سمرقند ويقاتل أهلها أن دخل صغد - من أعمالها - من غير هذا التخيير بين الأمور الثلاثة، فشكوا إلى "عمر بن عبد العزيز"، وقالوا: ظلمنا قتيبة وغدر بنا فأخذ بلادنا، وقد أظهر الله العدل والإنصاف، وطلبوا أن يؤذن لهم ليقدموا على أمير المؤمنين، ويبسطوا قضيتهم فأذن لهم، ولما علم شكواهم كتب إلى واليه ذلك الكتاب: "إن أهل سمرقند شكوا ظلما وتحاملا من قتيبة عليهم، حتى أخرجهم من أرضهم، فإذا أتاك كتابي فأجلس إليهم القاضي فلينظر في أمرهم، فإن قضى لهم، فأخرج العرب إلى معسكرهم قبل أن يظهر عليهم قتيبة". فأجلس الوالي لهم القاضي، فقضى أن يخرج العرب إلى معسكرهم، وينابذوهم على سواء، فيكون صلحا جديدا، أو ظفرا عن عنوة، فقال أهل الصغد من سمرقند: بل نرضى بما كان ولا نحدث. فأي مثل للعدالة أروع من هذه المثل، وأي محارب يعامل محاربه هذه المعاملة؟ هل رأى التاريخ الإنساني أن منتصرا يتخلى عن الأرض من غير قوة تخرجه؟! بل يخرج استجابة لداعي العدالة التي حكم بها قاضيه، فيتخلى عن الأرض التي فتحها، وقتل فيها من قتل، ثم يعرض عليهم من جديد، إما الصلح، وإما الإسلام، وإما الحرب، ولقد اختار أهل سمرقند لأنفسهم، فآثروا العافية، بل آثروا الحق والعدل، ودخلوا في الإسلام أفواجا. ومن وصايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمجاهدين: وصيته - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب، ونصها: "إذا نزلت بساحتهم، فلا تقاتلهم حتى يقاتلوك، فإن قاتلوك فلا تقاتلهم حتى يقتلوا منكم قتيلا، فإن قتلوا منكم قتيلا فلا تقاتلهم حتى ترهم أناة. ثم تقول لهم: هل لكم إلى أن تقولوا: لا إله إلا الله؟ فإن قالوا: نعم، فقل: هل لكم أن تصلوا؟ فإن قالوا: نعم، فقل: هل لكم أن تخرجوا من أموالكم صدقة تردونها على فقرائكم؟ فإن قالوا: نعم. فلا تبغ منهم غير ذلك، والله لأن يهدي الله على يدك رجلا واحدا خير لك مما طلعت عليه الشمس أو غربت"[13]. ونقف وقفة قصيرة عند هاتين الوصيتين فإنهما تكشفان عن مقصد القتال، وهو دفع الاعتداء، وإن نية السلم ثابتة حتى عندما يتلاقى الجيشان، ويقف كل واحد منهما لصاحبه ينتهز فرصة الانقضاض، أو ينتظر ساعة الالتحام، وما كانت الدعوة إلى الإسلام أو المعاهدة إلا من قبيل إيثار جانب السلم على جانب القتال، وإبعاد فكرة الانتقام من الاعتداء الماضي، وإيثار السلم في المستقبل على توريث العداوة وإشعال نيران الحرب، فهل بعد ذلك يقال أن الإسلام دين قتال، وليس دين سلام؟! بل إنه يحرض جنده على ألا يبدءوا بالقتال؛ لأن دم المخالف حرام حتى يبيحه باعتدائه، ودم الحربي حرام حتى يبادر بالقتل، فإن قتل فقد أصبح غير معصوم الدم. ومع ذلك إذا ابتدءوا وقتلوا بالفعل لا يقاتلهم حتى يريهم المقتول، ويقول - في روح المسالم القوي الذي يبغي حقن الدماء -: أما كان خير من هذا؟! وهو السلام والأمن باعتناق الإسلام، أو عقد المعاهدة على الأمن، فإن لم تجد رؤية المقتول، ولم تثر عطفهم، وتحملهم على إيثار المودة والسلم أو الدخول في أمان المسلمين، لم يكن بد من القتال، وعندئذ يتقدم المؤمنون طالبين إحدى الحسنيين؛ النصر أو الشهادة، ويكون النصر من عند الله العزيز الحكيم. هذه صورة عن ابتداء حرب النبوة، وهي تؤكد بلا ريب أن الحرب كانت ضرورة لا بد منها، فإما أن يسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - ويترك الفضيلة تنتهك حرماتها، والرذيلة تلقي حممها، وإما أن يكفها ويدفع أذاها، ويخلص الحق وأهله، وهو ابتداء يكشف عن الغاية ويوضح الباعث. يتبع للمزيد من مواضيعي
الموضوع الأصلي :
الرد على إدعاء أن الإسلام دين حرب و ليس دين سلام
-||-
المصدر :
مُنتَدَيَاتُ كَلِمَةٍ سَوَاءِ الدَّعَويِّة
-||-
الكاتب :
الشهاب الثاقب
المزيد من مواضيعي
|
الأعضاء الذين شكروا الشهاب الثاقب على المشاركة : | ||
رقم المشاركة :2 (رابط المشاركة)
|
|||||||||||||||||||||
|
|||||||||||||||||||||
ضوابط القتال في المعركة: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسير على سياسة التأليف بين الناس ما أمكن التأليف، وكان يأمرجنوده وهم في القتال أن يحرصوا على التأني بدل التقتيل والفتك، وجاء في ذلك أنه قال لجنده: «إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم أدعهم إلى الإسلام».[14] هي إذن حرب رفيقة تتسم بالتأني، وتتسم بالمحافظة حتى على الأعداء، وأحب إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يأتوه بهم سالمين قد عمر الإيمان بالحق قلوبهم من أن يأتوا إليه بالنساء والذرية سبايا، فليست حربا وحشية، بل هي حرب نبوية. وإن بين أيدينا وصيتين إحداهما للنبي - صلى الله عليه وسلم - والأخرى لخليفته، ومنهما يتبين قانون الحرب الإسلامية في ميدان القتال: أما الوصية الأولى: فهي قول النبي صلى الله عليه وسلم:«سيروا باسم الله في سبيل الله، وقاتلوا أعداء الله، ولا تغلوا[15]، ولا تغدروا، ولا تنفروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا».[16] ويقول لخالد بن الوليد: «لا تقتل ذرية ولا عسيفا»[17] [18]. أما الوصية الثانية: فقد جاء «عن أبي بكر الصديق أنه بعث جيوشا إلى الشام، فخرج يمشي مع يزيد بن أبي سفيان، وكان أمير ربع من تلك الأرباع، فزعموا أن يزيد قال لأبي بكر: "إما أن تركب وإما أن أنزل"، فقال أبو بكر: "ما أنت بنازل، وما أنا براكب، إني أحتسب خطاي هذه في سبيل الله". ثم قال له: "إنك ستجد قوما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله، فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له، وستجد قوما فحصوا عن - أي حلقوا - أوساط رؤوسهم من الشعر، فاضرب ما فحصوا عنه بالسيف، وإني موصيك بعشر: لا تقتلن امرأة ولا صبيا ولا كبيرا هرما، ولا تقطعن شجرا مثمرا، ولا تخربن عامرا، ولا تعقرن شاة ولا بعيرا إلا لمأكلة، ولا تحرقن نخلا ولا تغرقنه، ولا تغلل، ولا تجبن» [19]. ما يحل وما لا يحل في القتال: هذه الوصايا التي نطق بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ونطق بها خليفته وصديقه من بعده تصرح لنا بقانون الميدان، وبالقيود التي يقيد بها المقاتل في الميدان، حتى لا يكون في سيفه رهق، وحتى لا يصاب غير مقاتل. وإن الأساس في هذه الوصايا أنه لا يقتل في الميدان إلا من يقاتل بالفعل، أو يكون له رأي وتدبير في القتال، وأن الأساس في القتال هو رد الاعتداء، وكسر شوكة الأعداء، وليس القتل انتقاما، بل هو منع للظلم؛ ولذلك لا تخريب، ولا هدم، ولا إتلاف، ولا تمثيل بالقتلى، ولنذكر بعض هذه الأمور التي نهى عنها خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اتباعا لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - واقتداء به - صلى الله عليه وسلم - فيما أمر ونهي. منع قتل رجال الدين: أول ما نهى عنه أبو بكر هو قتل رجال الدين؛ ذلك أنه أرسل جنده إلى الشام التي كانت بها الأرض المقدسة، والتي بها المعابد التي عكف عليها العباد، فكان لا بد من أن يمنعه من أن يمتد سيفه إلى أولئك الذين انصرفوا للعبادة، فليس لهؤلاء شأن بالقتال، وقد قسم الصديق الرجال الذين يتسربلون بسربال الدين إلى قسمين: أحدهما: أولئك الذين التزموا بدور العبادة لا يقتلون ولا يقاتلون، وليس لهم رأي في القتال ولا تدبير ولا مكيدة فيه، وأولئك لا يقتلون باتفاق جمهور الفقهاء، ويقول السرخسي في تعليل ذلك: "إن المبيح للقتل شرهم من حيث المحاربة، فإذا أغلقوا الباب على أنفسهم اندفع شرهم مباشرة وتسبيبا، فأما إذا كان لهم رأي في الحرب وهم يصدرون عن رأيهم فإنهم يقتلون". والقسم الثاني: من تسربلوا بسربال الدين ظاهرا لا باطنا، وقد وصفهم الصديق بأنهم حلقوا أوساط رؤوسهم، وتركوا من شعورهم ما يشبه العصائب، وهؤلاء قرر أنهم يقتلون، وجاء أنه قال فيهم: "فاضربوا مقاعد الشيطان"، ولماذا خص الصديق هؤلاء بالقتل؟ لقد أجمع كتاب السير والفقهاء على أن هؤلاء كانوا يشتغلون فعلا بالقتال، وهم الذين كانوا يحرضون على المؤمنين، ويظهر من وصفهم أنهم كانوا من الرومان المتحكمين في رقاب أهل الشام باسم الدين، والذين كانوا يحاولون فرض المذهب الروماني على أهل المشرق، وأذاقوهم في ذلك الوبال، وهم لا يكفون عن القتال دفاعا عن الرومان. وإنه يتبين من هذا أن المؤمنين في ميدان القتال يؤمنون بحق كل متدين في القيام بعبادته، وإنهم ليحمون اعتقاده، وإن كانوا لا يؤمنون به، وإن احترام حرية التدين ليبلغ بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب أن يزيل التراب بيده عن هيكل لليهود قد طمس الرومان معالمه، حتى أصبح لا يرى إلا أعلاه، وذلك أن عمر - رضي الله عنه - عندما ذهب إلى إيليا ليعقد الصلح مع أهلها سنة 16 من الهجرة النبوية، نظر ووراءه جيشه إلى بناء بارز قد ظهر أعلاه وطمس أكثره، فسأل ما هذا؟ قالوا: هيكل لليهود قد طمسه الرومان بالتراب، فأخذ من التراب بفضل ثوبه وألقاه بعيدا، فصنع الجيش صنيعه، ولم يلبثوا إلا قليلا حتى بدا الهيكل وظهر. منع قتل الأطفال والشيوخ والنساء: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتل الأطفال والشيوخ والنساء؛ لأن هؤلاء ضعفاء لا يقاتلون ولا رأي لهم في قتال، وإن ذلك منبعث من نظرية الحرب الإسلامية نفسها، وهي أن القتل ليس إلا دفعا للاعتداء ومنعا للأذى، ولقد مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد المعركة يتفحص القتلى، فرأى امرأة مقتولة فغضب وقال: «هاه، ما كانت هذه لتقاتل، أدرك خالدا فقل له لا تقتلن عسيفا ولا ذرية».[20] ولقد كان - صلى الله عليه وسلم - يغضب أشد الغضب، إذا علم أن جنده قتلوا صبيا أو طفلا، ولقد بلغه قتل بعض الأطفال فوقف يصيح في جنده: «ما بال أقوام ذهب بهم القتل حتى قتلوا الذرية، ألا لا تقتلوا ذرية. ثلاثا»[21]. إن الاعتداء لا يتصور من الذرية الضعاف فكيف يحملون وزر اعتداء غيرهم، وليست حرب الإسلام لإفناء الأعداء، إنما هي لمنع الاعتداء، ولا يصح أن يتجاوز القتال البواعث الذي بعثت عليه. وأما الشيوخ فهم قسمان: قسم يدير الحروب ويشير بالرأي، وقسم لا يقدر على ذلك، وليس من شأنه هذا، وهذا القسم الأخير لا يباح قتله، لعدم توفر الأسباب الموجبة للقتال بالنسبة إليه، أما القسم الأول فإنه يباح قتله؛ لأنه مقاتل برأيه وتدبيره ومكايده في الحروب، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتل دريد بن الصمة في حنين، وكان قد بلغ العشرين بعد المائة، ولكن كان فيه وعي وله رأي، وقد أشار عليهم فعلا في هذه الغزوة، فكان مقاتلا بهذا الرأي. منع قتل العمال: تكرر نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتل العسفاء، وهم العمال الذين لا يحاربون، وليس لهم في الحروب يد ولا عمل؛ وذلك لأن هؤلاء لا يقاتلون، والحرب محصورة في دائرة من يقاتل لا تخرج عنه؛ ولأن القتال ليس قتالا للشعوب، إنما هو دفع لقوى الشر والفساد، وهي في الذين يحملون السيوف ويقاتلون، أو يدبرون ويرسمون الخطط؛ لأن العمال الذين عكفوا على الزرع أو العمل اليدوي هم بناة العمران ودعائمه، والحرب الإسلامية ليست لإزالة العمران، إنما هي لدفع الفساد في الأرض؛ ولأن هؤلاء العمال هم الذين كانوا مستضعفين تحت سلطان الملوك الغاشمين، فهم فريسة الظلم؛ فلا يصح أن يكونوا وقود الحرب، يكتوون بنارها، وليسوا من جناتها. منع التخريب: جاء النهي عن التخريب وعن قطع الشجر وعن قطع النخل وحرقه صريحا في وصية أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ومع ذلك فقد اختلف الفقهاء في جواز قطع الشجر وإحراق النخل، فالأوزاعي منع قطع الشجر والثمر والتخريب أخذا من ظاهر هذا النص، وكلام الصديق حجة؛ لأنه لا يمكن أن يقوله من غير أصل يعتمد عليه من الهدي النبوي، وهو الذي لازم النبي - صلى الله عليه وسلم - طوال مدة البعثة وقبلها، فكلامه في هذا له مكانته؛وهذا إذا لم تكن هناك ضرورة حربية لذلك، أما إذا كانت هناك ضرورة حربية؛ كأن يتحصن المحاربون بحصن ولا سبيل للانتصار إلا بدكه، أو تكون الأشجار غابة كثيفة ويستتر وراءها الأعداء ويكمنون للمسلمين بها، فإنه في هذه الحال يجوز لهم قطعها ليخلص لهم وجه العدو ويدفعوا أذاه. والخلاصة التي انتهينا إليها من مراجعة الشريعة في مصادرها ومواردها هي: أن الأصل هو عدم قطع الشجر والزرع والثمر؛ لأن الغرض من القتال ليس إيذاء الرعية، ولكن دفع أذى الراعي الظالم، وبذلك وردت الآثار، ولكن إذا تبين أن قطع الشجر وهدم البناء ضرورة حربية لا مناص منها، كأن يستتر العدو به، ويتخذ منه وسيلة لإيذاء الجيش الإسلامي، فإنه لا مناص من قطعه أو هدمه على أنه ضرورة من ضرورات القتال، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في حصن ثقيف. رد الاعتداء والمعاملة بالمثل مع التقوى والتمسك بالفضيلة: انتهينا إلى أن الباعث على القتال هو دفع الاعتداء، وأن ذلك الباعث يعين من يجوز قتله ومن لا يجوز، ويعين ما يسوغ للقواد أن يفعلوه وما لا يسوغ، وما دام القتال لرد الاعتداء المسلح بمثله ولحماية الحريات الدينية، فإن القاعدة العامة في حرب المسلمين مع أعدائهم هي المعاملة بالمثل، فالجيش المسلم يعامل جيش العدو بمثل ما يعامل به، فإذا استرق العدو أسرى المسلمين استرق المسلمون أسرى العدو، وإذا استعمل العدو سلاحا معينا في الميدان، كان للجيش المسلم أن يستعمل السلاح نفسه... وهكذا. ولكن إذا كان العدو منطلقا من كل القيود الخلقية، لا ينطلق المسلمون من تلك القيود؛ ولذلك كان الأمر بالتقوى ثابتا مقررا بجوار الإذن برد الاعتداء بمثله، فقد قال عز وجل: )فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين (194)( (البقرة)، وتقوى الله - عز وجل - قوامها الاستمساك بالفضيلة، فالمعاملة بالمثل يجب أن تكون في دائرة الفضيلة الإنسانية، واحترام الكرامة للإنسان لذات الإنسان، فإذا كان الأعداء يمثلون بالقتلى من المسلمين، فإنه لا يسوغ للمسلمين أن يمثلوا بالقتلى؛ ولذا جاء عن عبد الله بن يزيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه نهى عن النهبة والمثلة».[22] ولقد مثل المشركون في غزوة أحد بعم النبي - صلى الله عليه وسلم - حمزة بن عبد المطلب، وقد حز في نفسه - صلى الله عليه وسلم - مقتله والتمثيل بجثته، ومع ذلك لم يفكر - صلى الله عليه وسلم - في أن يمثل بأحد من قتلاهم فيما جاء بعد ذلك من حروب. وإذا كان الأعداء يقتلون الشيوخ والضعاف، فإنه لا يباح لجيش الإيمان أن يقتلهم، وإذا كان الأعداء يعذبون الأسرى من المسلمين بالجوع والعطش، فإنه لا يباح لجيش الإسلام أن يعذب بالجوع والعطش، وإذا كان الأعداء يقتلون الأسرى، فإنه لا يجوز لجيش محمد الكريم - صلى الله عليه وسلم - أن يقتل الأسرى بعد أن يثخن في الأرض. وإن الإسلام قد بالغ في إكرام الأسرى، حتى إن نصوص القرآن تعد إطعام الأسير من أكرم البر، وتذكر أنه صفة من صفات المؤمنين، فيقول سبحانه في صفات المؤمنين الأبرار: )ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا (8)( (الإنسان)، وكأن الأسير يكون في ضيافة، لا في أسر يؤدي إلى الرق. ولقد كان القواد الذين يأخذون بهدي الإسلام في حروبهم يكرمون الأسرى ولا يجيعونهم، وإن التاريخ قد سجل هذا لصلاح الدين الأيوبي عندما كان يحارب الصليبيين، فقد أسر عددا ضخما من جيوش الفرنجة، ولكن لم يجد عنده طعاما يكفيهم، فأطلق سراحهم جميعا، ولما تكاثفوا وكونوا من أنفسهم جيشا يقاتله، رحب بذلك، ورأى أن من الخير أن يقتلهم في الميدان محاربين، ولا يقتلهم في الأسر جائعين، وكانت المفارقة كبيرة بينه وبين قائد الفرنجة عندما استسلم له جماعة من المسلمين بشرط ألا يقتلهم، فقبل الشرط ثم قتلهم جميعا، ويقول في ذلك جوستاف لوبون: "كان أول ما بدأ به ريكارد أنه قتل صبرا أمام معسكر المسلمين ثلاثة آلاف أسير مسلم، سلموا أنفسهم إليه بعد أن أعطاهم عهدا على نفسه بحقن دمائهم، ثم أطلق لنفسه العنان باقتراف هذا القتل والسلب، وليس من الصعب أن يتمثل المرء درجة تأثير تلك الكبائر في صلاح الدين النبيل الذي رحم نصارى القدس، فلم يمسهم بأذى، والذي أمد فيليب وقلب الأسد بالمرطبات والأزواد في أثناء مرضهما، فقد أبصر الهوة السحيقة بين تفكير الرجل المتمدين وعواطفه، وتفكير الرجل المتوحش ونزواته. ولسنا نوازن بين عمل صلاح الدين هذا، وبين عمل نابليون لما أسر طائفة كبيرة من أهل الشام عند إرادته فتح عكا، ولما لم يجد لهم قوتا حصدهم جميعا حصدا بمدافعه.. لسنا نوازن بين عمل القائد الكردي المتدين النابغة الذي هزم جميع أعدائه في ميدان القتال، وبين من يعدونه نابغة الحروب في العصر الأخير؛ لأن الموازنة تقتضي قدرا مشتركا بين العملين يرجح فيه أحدهما على الآخر، ولا شيء من ذلك في هذا، فلا يوازن بين النور والظلمة، ولا بين الفضيلة والرذيلة، ولا بين البطولة والنذالة، ولا بين الإنسانية الكريمة والوحشية غير المحكومة بدين أو خلق. ومن المقررات الشرعية أنه إذا كان العدو ينتهك الأعراض، فإن جيش الفضيلة لا يعامله بمثلها؛ لأن الأعراض حرمات الله - عز وجل - لا تباح في أرضه، ولا يختلف التحريم فيها باختلاف الأشخاص أو الأجناس أو الأديان. ولقد بالغ الإسلام في الحث على الابتعاد عن المحرمات في أرض العدو، وقرر الفقهاء أن الربا كما لا يحل مع المسلمين لا يحل من المخالفين، ولا يحل مع المقاتلين، فإنه أكل لأموال الناس بالباطل، وأكل أموال الناس بالباطل غير جائز في الحرب كما هو غير جائز في السلم. وقد يقول قائل: إن هذه صور مثالية للحروب، وهي بلا شك حروب نبوة، وليست حروبا تستمد نظمها من الطبائع البشرية الأرضية.. ولكن هل كان القواد المسلمون يلتزمون ذلك في كل حروبهم؟ ونحن نقول: إن ما نقوله هو الوصايا الخالدة، والأحكام القطعية السرمدية، ولا يغض من قيمتها أن يخالفها بعض القواد من المسلمين، وليست أعمال هؤلاء القواد حاكمة على القواعد الدينية المقررة، بل إن الواجب أن تكون أعمال هؤلاء القواد خاضعة لهذه القواعد، ولا يخرج القانون عن كونه فاضلا مخالفته في قليل أو كثير. المزيد من مواضيعي
|
رقم المشاركة :3 (رابط المشاركة)
|
|||||||||||||||||||||
|
|||||||||||||||||||||
الضوابط بعد انتهاء القتال: تكريم الإنسانية مع ما في الحرب من استباحة الأنفس وإراقة الدماء: وإنه من الغرابة أن تكون الإنسانية مكرمة في الحروب، وقد استبيحت فيها الأنفس وأريقت الدماء، ولكن لا غرابة فإنه قتال النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي كان لدفع الاعتداء، والمعاملة بالمثل مع التمسك المطلق بالفضيلة، لا يحيد عنها قيد أنملة؛ ولذا كان حريصا فيه على احترام الكرامة الإنسانية، ونهى عن التمثيل بالقتلى فلا تشوه أجسامهم بعد القتل، ولا تقطع رؤوسهم وتحفظ في دور الملوك على أنها تحف إنسانية تدل على الوحشية الآدمية ممن يفعلون؛ ولذا «نهى - صلى الله عليه وسلم - عن النهبة والمثلة».[23] وقد كان المجاهدون من أصحاب النبي أتباعا لهديه لا يمثلون بالقتلى، ولو كان الأعداء يمثلون كما أشرنا، ولم يجاروهم فيما يفعلون؛ لأن الفاضل لا يعد فاضلا إذا جارى الأرذلين فيما يفعلون. وكان ينهى عن القتل بالجوع والعطش، فإن ذلك ليس من تكريم الإنسانية، ولو فعل العدو ذلك لا يجاريه؛ لأن المجاراة لا تكون في أحط الرذائل، ونهى عن تعذيب الجرحى، بل كان يقول صلى الله عليه وسلم: «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة»[24]. وإنه في سبيل احترام الكرامة الإنسانية والفضيلة كان ينهى عن سلب أموال غير المقاتلين، فإن الكرامة وصف للمقاتل في ميدان القتال، كما هي وصف له في أزمان السلم، وإذا كان السلب والنهب غير لائق من الإنسان الكريم دائما، فإنه لا يصح أن يسلب في الحرب؛ ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا جلب، ولا جنب، ولا شغار في الإسلام، ومن انتهب نهبة فليس منا»[25]. وإنه - والحرب قائمة عنيفة - نهي عن ضرب الوجوه وتشويهها؛ ذلك لأنه ليس من حسن القتلة، وليس من المروءة، وهو اعتداء على الكرامة الإنسانية؛ إذ الوجه هو مجمع المحاسن الإنسانية، وإنه في سبيل المحافظة على الكرامة الإنسانية لا تترك جثث القتلى تنهشها السباع، بل إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بوضع جثث قتلى بدر في القليب، حتى لا تنهشها الذئاب، أو سباع الأرض أو الطير؛ وذلك لأنه إذا كان قد نهى عن المثلة بأيدي المحاربين أهل العدل، يجب حماية أجسامهم من أن يمثل بها حيوان مفترس، أو تنقض عليها سباع الطرق تمزقها. ولقد نهى - صلى الله عليه وسلم - احتراما لمعنى الإنسانية - عن تعذيب الجرحى؛ لأن ذلك ليس من حسن القتال في شيء كما ذكرنا، وإن قعدت قوة المجروح عن المقاومة لا يسوغ قتله، بل يبقى ليؤسر، أو يفدى أو يمن عليه، وذلك لاحترام الإنسانية؛ ولأن القتال ليس القصد منه إلا كسر شوكة العدو فلا يعتدي، هذا، وإن احترام الكرامة الإنسانية ليبدو على أكمله في معاملة الأسرى. الوصية بالأسرى خيرا والرفق بهم: ولأن الإسلام يحافظ على الكرامة الإنسانية في الحروب، ولأنه لا يريد بالحرب إلا رد الاعتداء - دعا إلى الرفق بالأسرى، ولم يعرف التاريخ محاربا رفيقا بالأسرى مثل المسلمين الأولين الذين اتبعوا أوامر دينهم، فالوصايا التي دعت إلى الرفق بالأسرى في النصوص الدينية كثيرة؛ وذلك لأن الأسرى يقبض عليهم ونيران الحرب ملتهبة في الميدان ومشبوبة في قلوب المقاتلين، والغيظ قد يتحكم فيندفعون إلى الأذى يلحقونه بأولئك الذين عنت رقابهم، ويشفون غيظهم فيهم؛ ولذا حرض - صلى الله عليه وسلم - على الرفق بالأسرى، فقال: «استوصوا بالأسارى خيرا»[26]. وقد أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه يوم بدر أن يكرموا الأسرى، فكانوا يقدمونهم على أنفسهم عند الطعام، وكأن أولئك الأسرى لم يؤخذوا بالنواصي والأقدام في ميدان الحرب، وكأنهم لم يلقوا السلاح حتى شدوا بالوثاق، ولكنها سماحة الإسلام، واحترامه لكرامة الإنسان ودمه، لا يستبيح كرامة الإنسان، ولا يستبيح دمه إلا لرد الاعتداء. ولقد تعلم المجاهدون المسلمون بهذا نوعين من الجهاد: أولهما: جهاد في ميدان القتال، وذلك بأن يبيعوا أنفسهم لله وللحق الخالص. وثانيهما: جهاد النفس فلا تسترسل في الغضب، بل تقاتل من يقاتلها بالرفق لا بقانون الغابة، وهم في ذلك آخذون بقوله - عز وجل - في ساعة النصرة: )خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين (199)( (الأعراف). إعطاء الأمان لرعايا الأعداء وأموالهم: قلنا: إن الباعث على القتال في الإسلام هو رد الاعتداء، وأنه مقصور على الميدان؛ ولذلك كانت الحروب الإسلامية ليست حروبا مع الشعوب، إنما هي حروب مع المتغلبين المسيطرين عليها الذين اتخذوا من القوة المسلحة أداة للاعتداء على الحق وإرهاق رعاياهم. ولذلك لا تنقطع العلاقة بين المسلمين والرعايا إذا كان الاتصال بها في دائرة الإمكان، فلا يكون من المسلمين ما يقع الآن من غيرهم في الحروب، فإنه بمجرد أن تقوم الحرب الآن بين الدول - فأول ما تعمله الدولة المحاربة هو أن تعتقل رعايا الدولة التي تحاربها إذا كانوا في أرضها تجارا قد منحوا حق الإقامة مدة طالت أو قصرت؛ وقد أقرت قوانين هذا الزمان ذلك، كما أقرت مصادرة أموالهم واحتجازها. أما الإسلام فإنه لا يرتضي ذلك ولم يصنعه، بل إنه يقرر أن العلاقة التجارية بين الشعوب لا تقطعها الحرب؛ ولذلك يقرر أن الذين يدخلون الديار الإسلامية من التجار مستأمنين، وقد أعطوا عقد الأمان، يستمر أمانهم وإن كانوا منتمين لدولة معادية، بل لدولة نشبت بينها وبين المسلمين الحرب، فيزاولون تجارتهم وأعمالهم، وتكون أموالهم مصونة محترمة لا تمس، ما داموا قائمين بحق الأمان الذي أعطي لهم، والعهد الذي تعاهدوا عليه، فلا يقيدون بقيد إلا الشروط التي أخذت عليهم، ولقد قال السرخسي في (المبسوط) في أموالهم بعد نشوب الحرب: "أموالهم صارت مصونة بحكم الأمان، فلا يمكن أخذها بحكم الإباحة". بل إن الإسلام لحرصه على أموال التجار الذين دخلوا بعقد أمان يقرر أن مال التاجر المستأمن يستمر على ملكه، ولو عاد إلى دار الحرب وحمل السلاح محاربا المسلمين، واقرأ ما كتبه ابن قدامة في المغني، فقد قال: "إذا دخل حربي دار الإسلام بأمان، فأودع ماله مسلما أو ذميا، أو أقرضهما إياه، ثم عاد إلى دار الحرب نظرنا.. فإن دخلها تاجرا أو رسولا أو متنزها أو لحاجة يقضيها ثم يعود إلى دار الإسلام، فهو على أمانه في نفسه وماله؛ لأنه لم يخرج عن نية الإقامة بدار الإسلام، فأشبه الذمي إذا دخل لذلك، وإن دخل مستوطنا بطل الأمان في نفسه وبقي في ماله؛ لأنه بدخوله دار الإسلام بأمان ثبت الأمان لماله، فإذا بطل في نفسه بقي في ماله، لاختصاص المبطل بنفسه، فيختص البطلان به. وبهذه الأحكام وأشباهها تثبت تلك الحقيقة المقررة الثابتة، وهي أن الإسلام لا يستبيح الدماء إلا في ميدان القتال، ولا يستبيح الأموال أيضا إلا في ميدان القتال؛ لأن القتل لرد الاعتداء، فلا تتجاوز الإباحة فيه إلى غير موضع الاعتداء، وفي غير ميدان القتال، فالحرمات كلها محترمة مصونة لا يضيع حق، ولا يذهب مال، ولا يؤكل بالباطل ما دام المال لم يؤخذ في ميدان القتال. والأمن ثابت للذين لا يقاتلون، فلا يزعجون في أنفسهم ولا في أموالهم، والمتاجر تسير في طريقها فلا تجويع، ولا منع للقوت عن الشعوب التي لا رأي لها في القتال، وليس لها فيها ناقة ولا جمل. فالإسلام ما كان يحارب الرعايا، إنما كان يحارب الملوك الذين كانوا يرهقون الشعوب، ويفرضون إراداتهم الظالمة على تلك الشعوب بقوة الجند الذين كانوا ضد هذه الشعوب. تنتهي الحرب مع الدولة المحاربة كليا بعد معاهدة يتفق الطرفان فيها على إنهاء القتال؛ وذلك لأن القصد من القتال قد تحقق، وهو منع الاعتداء، وقد أمن الاعتداء بأخذ العهد، فلا قتال من بعده، وقد أمرنا بالوفاء بالعهد، فقد قال عز وجل: )وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا (34)( (الإسراء)، وقال عز وجل: )وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون (91)( (النحل). وإنه تجب العدالة عند كتابة العهد؛ ذلك لأن الإسلام يقصد في العهد إلى أمرين: الأول: حقن دماء الفريقين، ووقف المجزرة البشرية، فذلك مقصد من مقاصد الإسلام. الثاني: منع الفساد في الأرض ودفع الشر، والقتال كان على قدر هذه الضرورة، فإذا زالت، زال ما أوجب الحرب ولم يبق إلا المعاملة بالعدل، وقد أمر الإسلام بالعدل مع الأعداء كالعدل مع الأولياء، فقد قال عز وجل: )ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى( (المائدة:2). ولذلك يلاحظ عند كتابة المعاهدات في الإسلام أنها ليست بين غالب ومغلوب، تفرض فيها الغرامات الحربية التي ترهق الشعوب، وتضيق في القوت، وتفرض فيها الشروط المذلة، بل يكون الأمر فيها على قدم المساواة؛ وذلك لأن فرض الشروط المذلة نوع من الاعتداء، وقد نهى الإسلام عن الاعتداء نهيا مطلقا، فقال عز وجل: )ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (190)( (البقرة)؛ ولأن المعاهدة عقد، وكل عقد في الإسلام يبنى على أساس التساوي بين الحقوق والواجبات، فيكون كل حق يوجبه العقد في مقابلة واجب يلتزمه صاحب الحق، وذلك ثابت في المعاهدات مثل سائر العقود. بل إن المعروف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في معاهدة الحديبية أنه قبل التزامات في معاهدته لم يلتزمها المشركون مع أنه كان الغالب صاحب القوة، وكان معه من الجند والعتاد ما يستطيع أن يفرض به شروطا يلزم بها المشركين، وتكون في مصلحة المسلمين، ولكنه قبل أن يكون العهد فيه غبن عليه في نظير حقن الدماء ووقف القتال، فقد اشترطوا في هذه المعاهدة أن من خرج من مكة مسلما رد إليهم، ومن خرج من المدينة مشركا لا يرد إلى المسلمين، وقبل - صلى الله عليه وسلم - هذا الشرط، حتى إنه ليشق على المسلمين قبوله، ويقف عمر بن الخطاب غاضبا متعجبا قائلا: لماذا نقبل الدنية؟! ويتشرطون عليه في سبيل الصلح أن يعود وجيشه إلى المدينة ولا يدخلوا مكة لأداء الحج أو العمرة في هذا العام، وقد لبسوا ملابس الإحرام، فيقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، ويشق هذا على المسلمين، فيأمرهم بالتحلل من الإحرام، وذبح ما ساقوه من هدي، فيمتنعون، فيغضب النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فتشير عليه زوجه أم سلمة بأن يبدأ فينحر هديه، وإنهم ليتبعونه بعد ذلك، ويفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ما تشير به أم المؤمنين، فينقادون. ولما جاء محمد - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك إلى مكة - وقد دانت له كثرة القبائل العربية؛ وبرها ومدرها - صاح أحد قواده: «اليوم يوم الملحمة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة». [27] وعزل ذلك القائد عن قيادته، ولما أحيط بأهل مكة، ووجدوا جندا لا قبل لهم به، وصار الأمر فيها بيد النبي صلى الله عليه وسلم، وذهب إليه أبو سفيان، فأشار علي بن أبي طالب عليه بوسيلة يترضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: «ائته من قبل وجهه فقل له: ما قال إخوة يوسف ليوسف عليه السلام: )قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين (91)( (يوسف)، فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه جوابا، ففعل ذلك أبو سفيان، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: )قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين (92)( (يوسف)»[28]. تلك هي حرب النبوة، وتلك معاهداتها، ولكن يجب أن نشير هنا إلى أمر يقع في الحرب الإسلامية قد حث عليه الإسلام، وهو إعطاء الأمان لأي مقاتل في الميدان، فإنه إذا طلب أي محارب من جند الأعداء الأمان من أي مسلم وأعطاه المسلم الأمان وحقن دمه، وصار لا يجوز لأي جندي أن يقتله وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، يسعى بذمتهم أدناهم»[29]. وكانت إجازة هذا الأمان في ميدان القتال لمنع استمرار القتال جزئيا، كما يسعى الإسلام لمنعه كليا، وهذا الأمان يجوز لآحاد الجنود من الأعداء، كما يجوز للجماعات الكثيرة منهم، فيصح أن يعطى الأمان لجماعة، ولو كانوا في حصن قد اعتصموا به، ولهم أمانهم ما لم يعتدوا على المسلمين، ولم يخلوا بعهدهم فينقضوا بذلك حقهم في الأمان الذي أعطوه. وإن هذا ينبئ بلا ريب عن رغبة الإسلام في منع القتال ما أمكن المنع، فهو لا يقاتل إلا من يحمل السيف مقاتلا مهاجما، وهو قتال للضرورة كما قلنا، فإن ألقى سيفه وطلب الأمان أعطيه وكان ذلك عهدا له، ولا يعد بهذا الأمان أسير حرب، بل يعد ذميا إن استمر في الديار الإسلامية، له ذمة المسلمين، فله ما لهم وعليه ما عليهم. وإن إعطاء الأمان يتم ولو بالإشارة، بل اعتبروا من إعطاء الأمان كلمة: "لا تخف"، ولقد بلغ عمر بن الخطاب أن بعض المجاهدين يقول للمقاتل من الأعداء: لا تخف، ثم يقتله، فكتب إلى قائد الجيش: "إنه بلغني أن رجالا منكم يطلبون العلج،[30] حتى إذا اشتد في الجبل وامتنع، فيقول له الرجل لا تخف، فإذا أدركه قتله، وإني والذي نفسي بيده لا يبلغني أن أحدا فعل ذلك إلا ضربت عنقه". وإن توسيع دائرة الأمان دليل على رغبة الإسلام في الحد من دائرة القتال ما أمكن، وقد توسعوا في دائرة الأمان في نواح عدة، منها: لم يجعلوا الأمان بيد قائد الجيش وحده، ولا قائد سرية من الجيش، أو كتيبة من كتائبه، بل جعلوه بيد أي مسلم، فأي مسلم أعطى مقاتلا الأمان فهو أمان المسلمين، وليس لأحد أن ينكث بعهد ذلك المسلم إلا أن يخون ذلك ما عاهد عليه، وقد ذكرنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، يسعى بذمتهم أدناهم». [31] أي أن المسلمين متساوون، ويستطيع أقل واحد فيهم مقاما في الحرب أن يعقد عقد أمان". وإنه قد بلغ من التوسعة في الأمان أن العبد المسلم له أن يؤمن جيشا، ولا يكون رجال ذلك الجيش أسرى بعد هذا الأمان، ولقد حدث أن عبدا مسلما من عبيد المسلمين أعطى أمانا لأهل حصن تحصنوا به، فأرسل أمير الجيش إلى عمر يستفتيه، فكتب عمر إليهم: "إن عبد المسلمين من المسلمين، ذمته ذمتهم"، وبذلك أجاز عمر العادل الرفيق الشفيق بالناس - أمان العبد. وإنهم ليتوسعون في عبارات الأمان والإشارات التي تدل عليه، حتى إنهم ليعتبرون الإشارة إلى السماء لخائف أمانا، فإن عمر بن الخطاب يقول: "أيما رجل دعا رجلا من المشركين، وأشار إلى السماء فقد أمنه، وإنما نزل بعهد الله وميثاقه". هذه توسعة في الأمان لمنع القتل أو لمنع الإكثار منه، ونكرر هنا أن الأمان لا يوجب الاستسلام بأن يكون المؤمن أسير حرب، بل إن مقتضى الأمان أن يحقن دمه، وتحفظ رقبته من الرق، وأن يخرج بهذا الأمان من صفوف المقاتلين إلى صفوف الآمنين الذي يكونون مع المسلمين في دارهم على شروط تشترط عليهم وشروط تشترط لهم. وهذا بلا شك يشير بمرماه ومغزاه إلى أن القتال في الإسلام شرع لدفع الاعتداء، وأن القتل فيه ألجأت إليه الضرورة، فتكون هذه الضرورة في أضيق الحدود، ويفتح الباب لحماية الأنفس ما أمكن، والله ولي الصابرين[32]. خامسا. التاريخ والمنصفون من غير المسلمين خير شاهد على عدالة الفتح الإسلامي سماحته مع أهل البلاد المفتوحة: شهادة غير المسلمين على السماحة الإسلامية: أشار "جوستاف لوبون" إلى معاملة "أبي عبيدة بن الجراح" لأهل حمص، فقد رد عليهم ما جباه منهم باسم الجزية عندما بلغته حشود الروم في اليرموك قائلا: "سكتنا عن نصرتكم والدفع عنكم، فأنتم على أمركم"، وغادر مدينتهم منسحبا بجيشه، مما دعا أهل حمص للقول: لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والضيم، ولندفعن جند هرقل عن المدينة - حمص - مع عاملكم. وقارن "جوستاف لوبون" بين تصرف المسلمين هذا في عدلهم ورحمتهم وسماحتهم، وبين تصرف بريطانيا واستعمارها، قال: "إن اللورد مليورن "ـ رئيس وزراء بريطانيا في عهد الملكة "فكتوريا" القريب من عصرنا هذا، سنة 1840م - خاض مع الصين "حرب الأفيون" المشهورة، فأدار عليهم المدافع من سفنه الحربية ومن النقاط التي ارتكز عليها في السواحل، فصب عليهم شواظا من النيران بلا رحمة ولا هوادة، فأحرقت المدن والمنازل والسكان بما فيها من الشيوخ والنساء والأطفال،حتى أكرههم على قبول هذه التجارة المحرمة في بلادهم. وقال جوستاف لوبون: الحق أن الأمم لم تعرف فاتحين راحمين متسامحين مثل العرب. إن الإسلام هو الذي أعطى المسلمين هذه الرحمة وهذا التسامح، ونحن رأينا صورا مختلفة مثل حرب الأفيون، وأقسى منها حروب الاستعمار الحديث،وأشد منها ظلم الصهيونية وقسوتها، وحبها للدماء والعدوان والإبادة". ويقول "سير توماس أرنولد" عن الإسلام: "إنه الدين الذي يسمو فيه نشر الحق وهداية الكفار إلى واجب مقدس، على يد مؤسس الدين أو خلفائه من بعده.. إنها روح الحق في قلوب المؤمنين التي تستقر حتى تتجلى في الفكر والقول والعمل، ولا تقنع حتى تؤدي رسالتها إلى كل نفس إنسانية، وتعترف أفراد الجماعة الإنسانية بما تعتقد أنه الحق. وإن الذي دفع المسلمين إلى أن يحملوا رسالة الإسلام معهم إلى شعوب البلاد التي دخلوها، وجعلهم ينشدون لدينهم بحق مكانا بين الأديان، لهي حماسة من ذلك النوع، من أجل صدق عقيدتهم[33]. وفي ظل فتوحات الإسلام وسماع الناس به، لم يكن غريبا أن نجد كثيرا من البدو والمسيحيين وغيرهم ينجرفون في التيار الدافع لهذه الحركة الضخمة، وأن نجد كثيرا من القبائل العربية التي دانت بالمسيحية قرونا نبذتها في ذلك الوقت لتدين بالإسلام، ويمكننا أن نحكم من الصلات الودية التي قامت بين المسيحيين والمسلمين من العرب بأن القوة لم تكن عاملا حاسما في تحويل الناس إلى الإسلام؛فمحمد - صلى الله عليه وسلم - قد عقد حلفا مع بعض القبائل المسيحية، وأخذ على عاتقه حمايتهم، ومنحهم الحرية في إقامة شعائرهم الدينية، كما أتاح لرجال الكنيسة أن ينعموا بحقوقهم ونفوذهم القديم في أمن وطمأنينة، وقد وجد حلف مثل هذا بين أتباع النبي ومواطنيهم الذين كانوا يدينون بالوثنية دينهم القديم، والذين تقدم كثير منهم عن طواعية لمؤازرة المسلمين في حملاتهم الحربية، وأظهروا للحكومة الجديدة نفس روح الولاء التي جعلتهم يقفون بمنأى عن الردة التي رفعت لواء العصيان في كافة أرجاء بلاد العرب إثر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد زعم بعض الباحثين أن العرب المسيحيين الذين كانوا يخفرون حدود الإمبراطورية البيزنطية الواقعة على أطراف الصحراء، ألقوا بجموعهم مع جيش الفتح الإسلامي حين رفض هرقل دفع الجزية التي تعود إعطاؤهم إياها مقابل خدماتهم الحربية التي كانوا يؤدونها باعتبارهم حراسا للحدود. وبالنسبة إلى السواد الأعظم من المسيحيين، فإنهم انتهوا إلى الامتزاج بالمجتمع الإسلامي الذي كان يحيط بهم عن طريق ما يسمونه (الاندماج السلمي) الذي تم بطريقة لم يحسها أحد منهم، ولو أن المسلمين حاولوا إدخالهم في الإسلام بالقوة عندما انضموا بادئ الأمر تحت لواء الحكم الإسلامي؛ لما كان من الممكن أن يعيش المسيحيون بين ظهرانيهم حتى عصر الخلفاء العباسيين. ومن هذه الأمثلة التي قدمناها آنفا عن السماحة التي بسطها المسلمون الظافرون إلى العرب المسيحيين في القرن الأول من الهجرة، واستمر في الأجيال المتعاقبة، نستطيع أن نستخلص بحق أن هذه القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام إنما فعلت ذلك عن اختيار وإرادة حرة، وإن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات مسلمة لشاهد على هذه السماحة. "وإذا نظرنا إلى السماحة التي امتدت على هذا النحو إلى رعايا المسلمين من المسيحيين في صدر الحكم الإسلامي، ظهر أن الفكرة التي شاعت بأن السيف كان العامل في تحويل الناس إلى الإسلام بعيدة التصديق، ومن ثم لم يكن بد من أن نلتمس بواعث أخرى غير الباعث الذي أوحى بالاضطهاد، وإنما الذي كان يدفع الناس إلى الإسلام بقوة ويجذبهم إليه إنما هي تلك العقيدة، وكذلك بمقدار ما كان يشتد العبء على كاهل الشعوب المغلوبة على أمرها كانت تشتد رغبتهم في تخليص أنفسهم من الشقاء، فيقولون: لا إله إلا الله، محمد رسول الله[34]. شهادة التاريخ تدل على السماحة الإسلامية مع غير المسلمين: كثيرا ما توضع شروح حسنة، وأحكام عادلة، ومبادئ قيمة، ولكنها تظل حبرا على ورق، فلا توضع موضع التنفيذ، ولا يبالي بها الذين في أيديهم سلطة الأمر والنهي، والإبرام والنقض، ولكن ميزة المبادئ والأحكام الإسلامية أنها مبادئ ربانية الأصول، دينية الصبغة، ولهذا وجدت من القبول والاستجابة ما لم تجده أي شريعة أخرى أو قانون مما يضع البشر بعضهم لبعض، وقد حفل الواقع التاريخي للأمة الإسلامية في مختلف عصورها وشتى أفكارها بأروع مظاهر التسامح، الذي لا يزال الناس يتطلعون إليه إلى اليوم في معظم بقاع الأرض فلا يجدونه. فعن العصر الأموي: يقول ول ديورانت في كتابه "قصة الحضارة": "لقد كان أهل الذمة المسيحيون والزرادشتيون واليهود والصابئون - يتمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح لا نجد لها نظيرا في البلاد المسيحية في هذه الأيام، فلقد كانوا أحرارا في ممارسة شعائرهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم، ولم يفرض عليهم أكثر من ارتداء زي ذي لون خاص، وأداء ضريبة عن كل شخص تختلف باختلاف دخله، وتتراوح بين دينار وأربعة دنانير، ولم تكن هذه الضريبة تفرض إلا على غير المسلمين القادرين على حمل السلاح، ويعفى منها الرهبان والنساء والذكور الذين هم دون البلوغ، والأرقاء والشيوخ والعجزة، وذوي العمى الشديد والفقر، وكان الذميون يعفون في نظير ذلك من الخدمة العسكرية، أو إن شئت فقل لا يقبلون فيها، ولا تفرض عليهم الزكاة البالغ قدرها 2.5% من الدخل السنوي، وكان لهم على الحكومة أن تحميهم، ولم تكن تقبل شهادتهم في المحاكم الإسلامية، ولكنهم كانوا يتمتعون بحكم ذاتي يخضعون فيه لزعمائهم وقضاتهم وقوانيهم. أما عن العصر العباسي: عصر ازدهار الحضارة الإسلامية ومكانة أهل الذمة فيه، فيكفينا فيه فقرات من كتاب "الإسلام وأهل الذمة" للدكتور الخربوطلي؛ لأنه يعتمد فيما يقرره على المراجع التاريخية الأساسية أو على كتابات المستشرقين أنفسهم، يقول: "اشتهر من بين أهل الذمة في العصر العباسي كثير من العظماء، مثل "جرجيس بن يختيشوع" طبيب الخليفة العباسي "أبي جعفر المنصور" وقد وثق الخليفة فيه وأكرمه، ومن هؤلاء "جبرائيل بن يختيشوع" طيبب هارون الرشيد، الذي قال الرشيد عنه: كل من كانت له حاجة إلى فليخاطب بها جبريل؛ لأني أفعل كل ما يسألني فيه ويطلبه مني، وكان مرتب الطبيب عشرة آلاف درهم شهريا، ومن هؤلاء أيضا "ماسويه" الذي كان الرشيد يجري عليه ألف درهم شهريا، ويصله كل سنة بعشرين ألفا. وأشاد "ترتون" بسماحة المسلمين، فقال: والكتاب المسلمون كريمون في تقدير فضائل هؤلاء ممن على غير ملتهم، حتى ليسمون "حنين بن إسحاق" برأس أطباء عصره، "وهبة الله بن تلميذ" بأبي قراط عصره وجالينوس دهره، وكان "بختيشوع بن جبرائيل" ينعم بعطف الخليفة المتوكل حتى إنه كاد يضاهيه في ملابسه، وفي حسن الحال وكثرة المال وكمال المروءة ومباراته في الطيب والجواري والعبيد. وتحدث جوستاف لوبون عن عدل الفتح الإسلامي، فقال: "إن العرب وهم أعقل من الكثيرين من أقطاب السياسة في الزمن الحديث، كانوا يعلمون جيدا أن النظم الواحدة لا تلائم شعوب الأرض قاطبة، وكان من سياستهم أن يتركوا الأمم حرة في المحافظة على قوانينها وعاداتها ومعتقداتها. كان من الممكن أن تعمى فتوح العرب الأوائل أبصارهم فيقترفوا من المظالم ما يقترفه الفاتحون عادة، وليسيئوا معاملة المغلوبين ويكرهوهم على اعتناق دينهم ونشره في أنحاء العالم، ولكن الخلفاء السابقين الذين كان عندهم من العبقرية ما ندر وجوده في دعاة الديانات الأخرى - أدركوا أن النظم والأديان ليست مما يفرض قسرا، فعاملوا كثيرا من الشعوب ومن كل قطر استولوا عليه بلطف عظيم، تاركين لهم قوانينهم ونظمهم ومعتقداتهم، غير فارضين عليهم سوى جزية زهيدة في مقابل حمايتهم لهم، وحفظ الأمن بينهم، فالحق أن الأمم لم تعرف فاتحين راحمين متسامحين مثل العرب، ورحمة العرب الفاتحين وتسامحهم كانا من أسباب اتساع فتوحهم واعتناق كثير من الأمم لدينهم ونظمهم، ولغتهم التي رسخت وقاومت جميع الغارات وبقيت قائمة. المزيد من مواضيعي
|
رقم المشاركة :4 (رابط المشاركة)
|
|||||||||||||||||||||
|
|||||||||||||||||||||
الخلاصة: روح الإسلام ومبادئه ومنهجه في التربية ترمي جميعا إلى إقرار السلام والإخاء الإنساني، وتعميق حبه في ضمير المسلم، وسيادته في المجتمع، لذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يربي المسلمين على إيثار السلام واستنفاد الحيلة في دفع العدوان بالحسنى، وعدم القتال: "لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية "، وعلى هذا الأساس يعتبر الإسلام السلام هو الأصل، ويعتبر الحرب استثناء وضرورة، لا يلجأ إليها إلا لمقاومة الظلم ودفعا للعدوان، وأما الحروب العدوانية أو الهجومية بالمفهوم الحديث، فهي حروب لا يعرفها الإسلام ولا يقرها،والدليل على ذلك المغازي الكبرى في العهد النبوي، كان المسلمون هم المعتدى عليهم فيها، وكذلك حروب التتار والصليبيين، كان المسلمون يردون الظلم والعدوان عن أرضهم ومقدساتهم، ومن ثم كان الإسلام بحق دين السلام العادل الذي يحرم الظلم والعدوان. إن المتتبع لنصوص القرآن وأحكام السنة النبوية في الحروب يرى أن الباعث على القتال هو دفع الاعتداء، وليس فرض رأي أو دين بالقوة، فالأصل في العلاقة بين المسلمين وغيرهم هي السلم حتى يقع الاعتداء، فإن وقع الاعتداء عليهم كانت الحرب أمرا لا بد منه، ردا للشر بمثله، ولتحمي الفضيلة نفسها من الرذيلة، وإن ذلك الأصل ثابت بالنصوص القرآنية، وثابت بالوقائع التاريخية في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - وعصر الخلفاء من بعده. للقتال في الإسلام ضوابط عديدة، قبله وفي أثنائه وبعده تلزم المقاتل المسلم، ولا يجوز له أن يتعداها، منها - على سبيل المثال - عدم قتل رجال الدين و الشيوخ والأطفال والنساء والعمال، وعدم التخريب. شهد المستشرقون وغيرهم من غير المسلمين بالسماحة الإسلامية وعدالة الفتح الإسلامى، وقد حفل الواقع التاريخي للأمة الإسلامية في مختلف عصورها وشتى أقطارها بأروع مظاهر التسامح الذي لا يزال الناس يتطلعون إليه إلى اليوم في معظم بقاع الأرض، فلا يجدونه، وقد رأينا صورا ناصعة من هذا التاريخ المشرق الصفحات، ورأينا روح هذه السماحة والأساس الفكري والعقائدي الذي تقوم عليه على مر العصور، وخصوصا بعد عصر الراشدين في العصرين الأموي والعباسي، وبهذا يبطل الزعم بأن الإسلام دين قتال وسفك للدماء، لا دين سلام واحترام للآخرين، وقد ثبتت عدالة الإسلام وإنصافه للآخرين من القرآن والسنة والتاريخ وشهادة الأعداء أنفسهم؛ فبأي حديث بعده يؤمنون. (*) السلام والحرب في الشريعة الإسلامية: دراسة مقارنة، محمود محمد طنطاوي، مصر، ط1، 1416هـ/ 1996م. المستشرقون والقرآن، د. إسماعيل سالم عبد العال، سلسلة دعوة الحق، تصدرها رابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة، السنة التاسعة، العدد 104، 1410هـ/1990م. [1]. الجهاد في الإسلام، محمد شديد، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1405هـ/ 1985م، ص119: 126. [2]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم (3341)، وفي موضع آخر بطريق آخر، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب ذكر كونه خاتم النبيين (6101). [3]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجنائز، باب من قيام لجنازة يهودي (1250)، ومسلم في صحيحه، كتاب الجنائز، باب القيام للجنازة (2269). [4]. ذكره ابن عساكر في تاريخ دمشق، حرف العين، عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف (39/396)، والذهبي في تاريخ الإسلام (3/453). [5]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصوم، باب هل يقول: إني صائم إذا شتم (1805)، ومسلم في صحيحه، كتاب الصيام، باب فضل الصيام (2762). [6]. الجهاد في الإسلام: دراسة فقهية مقارنة، د. أحمد محمود كريمة، الدار الهندسية، مصر، ط1، 2003م ، ص26:22. [7]. لسان العرب، محمد بن منظور المصري، دار الفكر، بيروت، مادة "سلم". [8]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب لا تمنوا لقاء لعدو (2861)، ومسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب كراهية تمني لقاء العدو والأمر بالصبر عند اللقاء (4640). [9]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة رضي الله عنه (8456)، والنسائي في المجتبى، كتاب تحريم الدم، باب ما يفعل من تعرض لماله (4082)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن النسائي (4082). [10]. نظرية الحرب في الإسلام، الإمام محمد أبو زهرة، دار الفكرالعربي، القاهرة، ط1، 1425هـ/ 2004م، ص12: 17. [11]. نظرية الحرب في الإسلام، الإمام محمد أبو زهرة، دار الفكرالعربي، القاهرة، ط1، 1425هـ/ 2004م، ص15. [12]. نظرية الحرب في الإسلام، الإمام محمد أبو زهرة، دار الفكرالعربي، القاهرة، ط1، 1425هـ/ 2004م، ص20: 23. [13]. ذكره الواقدي في المغازي، سرية علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ إلى اليمن (1/1079). [14]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته إياهم بآداب الغزو (4619). [15]. الغلول: الخيانة، ومعنى لا تغلوا أي لا تخونوا. [16]. صحيح: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الجهاد، باب وصية الإمام (2858)، والنسائي في سننه الكبرى، كتاب السير، باب عدد السرية (8837)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه (2858). [17]. العسيف: العامل المنصرف للزراعة أو نحوها، وكذلك العامل المنصرف لأي عمل. [18]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الشاميين، حديث حنظلة الكاتب الأسيدي رضي الله عنه (17647)، وابن ماجه في سننه، كتاب الجهاد، باب الغارة والبيات وقتل النساء والصبيان (2842)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه (2842). [19]. أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الجهاد، باب النهي عن قتل النساء والوالدان في الغزو (1627)، وعبد الرزاق في المصنف، كتاب الجهاد، باب عقر الشجر بأرض العدو (9375). [20]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الشاميين، حديث حنظلة الكاتب الأسيدي رضي الله عنه (17647)، وابن ماجه في سننه، كتاب الجهاد، باب الغارة والبيات وقتل النساء والصبيان (2842)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه (2842). [21]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكيين، حديث الأسود بن سريع رضي الله عنه (15627)، والدارمي في سننه، كتاب السير، باب النهي عن قتل النساء والصبيان (2463)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (402). [22]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الذبائح والصيد، باب ما يكره من المثلة والمصبورة والمجثمة (5197)، وفي موضع آخر. [23]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الذبائح والصيد، باب ما يكره من المثلة والمصبورة والمحثمة (5197)، وفي موضع آخر. [24]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصيد والذبائح، باب الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة (5167). [25]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الكوفيين، حديث عمران بن حصين رضي الله عنه (20001)، والترمذي في سننه، كتاب النكاح، باب النهي عن نكاح الشغار (1123)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف الترمذي (1123). [26]. إسناده حسن: أخرجه الطبراني في الكبير، مسند من يعرف بالكنى من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ممن لم ينقل، أبو عزيز بن عمير بن هاشم بن عبد مناف (977)، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، كتاب المغازي والسير، باب ما جاء في الأسرى (10007)، وقال: رواه الطبراني في الصغير والكبير، وإسناده حسن. [27]. أخرجه البخاري في صحيحه،كتاب المغازي، باب أين ركز النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الراية يوم الفتح (4030). [28]. حسن: أخرجه النسائي في سننه الكبرى، كتاب التفسير، سورة الإسراء (11298) بلفظ: فإني أقول كما قال أخي يوسف، والبيهقي في سننه الكبرى، كتاب السير، باب فتح مكة حرسها الله تعالى (1854) بنحوه، وحسنه الألباني في فقه السيرة (1/376). [29]. صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، كتاب الديات، باب إن المسلمين تتكافأ دماؤهم (27969)، وابن ماجه في سننه، كتاب الديات، باب المسلمون تتكافأ دماؤهم (2683)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه (2683). [30]. العلج: هو الرجل من أهل فارس، ولا يعارض قول عمر هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: « الحرب خدعة »، فإن القائد يخادع المحاربين له ـ وهم في قوتهم ـ بالخطط، فيوهمهم أنه سيجيئهم من جانب، وهو يريد جانبا آخر، فإن ذلك جائز بالاتفاق، أما هنا فالمراد القتل في أثناء الحرب بخداع الفارين، أو بتغريرهم لقتلهم؛ ولأن قول المسلم: لا تخف، أمان، والأمان لا يصح النكث فيه، ولقد اعتبروا من الأمان أن يرفع المسلمون وجوههم إلى السماء مشيرين إلى السلام، فيقول عمر: "لو أن أحدكم أشار بأصبعه إلى مشرك، ثم نزل إليه على ذلك، ثم قتله، لقتلته به". [31]. صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، كتاب الديات، باب إن المسلمين تتكافأ دماؤهم (27969)، وابن ماجه في سننه، كتاب الديات، باب المسلمون تتكافأ دماؤهم (2683)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه (2683). [32]. نظرية الحرب في الإسلام، الإمام محمد أبو زهرة، دار الفكرالعربي، القاهرة، ط1، 1425هـ/ 2004م، ص26: 63 بتصرف. [33]. سماحة الإسلام، د. عمر بن عبد العزيز قريشي، مكتبة الأديب، السعودية، المكتبة الذهبية للنشر والترجمة، مصر، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص167، 168 بتصرف، ولا يصح قوله: مؤسس، إنما هو رسول فحسب. [34]. سماحة الإسلام، د. عمر بن عبد العزيز قريشي، مكتبة الأديب، السعودية، المكتبة الذهبية للنشر والترجمة، مصر، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص173،172 بتصرف. المزيد من مواضيعي
|
رقم المشاركة :5 (رابط المشاركة)
|
|||||||||||||||||||||
|
|||||||||||||||||||||
بوركتَ أخي الحبيب ،، ---------------- لوقا 12 :56 يَامُرَاؤُونَ! تَعْرِفُونَ أَنْ تُمَيِّزُوا وَجْهَ الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَأَمَّا هذَا الزَّمَانُ فَكَيْفَ لاَ تُمَيِّزُونَهُ؟ مواضيع للإطلاع : هل الإرهاب و التطرف مرتبط بالإسلام فحسب ؟ المزيد من مواضيعي
|
الأعضاء الذين شكروا * إسلامي عزّي * على المشاركة : | ||
العلامات المرجعية |
الكلمات الدلالية |
إدعاه, الإسلام, الرد, سلام |
الذين يشاهدون هذا الموضوع الآن : 1 ( 0من الأعضاء 1 من الزوار ) | |
|
|
الموضوعات المتماثلة | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | ردود | آخر مشاركة |
الرد على إدعاء إلوهية المسيح فى القرآن | الشهاب الثاقب | إجابة الأسئلة ورد الشبهات حول القرآن الكريم | 4 | 03.05.2023 21:19 |
الرد على إدعاء المسيح هو الله لأنه يخلق من الطين كهيئة الطير فيكون طيرا | الشهاب الثاقب | إجابة الأسئلة ورد الشبهات حول القرآن الكريم | 2 | 27.04.2022 01:04 |
هل مريم أخت هارون !؟ | الشهاب الثاقب | إجابة الأسئلة ورد الشبهات حول القرآن الكريم | 6 | 26.08.2020 10:49 |
الرد على سؤال هل يوجد آية كلم الله فيها رسول الإسلام | قدوتي الصالحآت | إجابة الأسئلة ورد الشبهات حول السيرة و الأحاديث النبوية الشريفة | 13 | 24.01.2012 09:18 |
سؤال عن السبايا فى الإسلام | أحمــ 1990 ــد | إجابة الأسئلة ورد الشبهات حول الفقه و الشريعة | 8 | 06.12.2011 03:07 |