إليك أيها القارىء الكريم ما جاء في كتيب صادر عن منشورات كلية البابا كيرلس السادس اللاهوتية للكرازة المرقسية، وهو بعنوان (تعليم كنيسة الإسكندرية فيما يخص طبيعة السيد المسيح) وهو عبارة عن نص الكلمة التي ألقاها الأرشيدياكون وهيب عطا الله جرجس، ممثلاً لوجهة نظر كنيسة الإسكندرية في المؤتر العالمي الذي عقد بمدينة القدس القديمة في المدة من 12_15 أبريل 1959. وسيتضح لك أيها القارىء الكريم أن المسيحيين أنفسهم، وبعد عشرين قرناً من المسيح، لم يستطيعوا بعد أن يتفقوا على تصور واحد لألوهية المسيح
المزعومة.
والتزاماً بالأمانةالكاملة، ننقل هنا ما ورد في هذا الكتيب، في شأن طبيعة المسيح عليه السلام:
يقول الأرشيدياكون وهيب عطا الله جرجس: (إني أجرؤ على أن أقرر أن الخلاف، كل الخلاف، بين الكاثوليك ومن يقول بقولهم من أصحاب الطبيعتين كالبروتستانت وبعض الأرثوذكس الذين يعترفون بمجمع خلقيدونية من جانب، وبين القائلين بالطبيعة الواحدة في السيد المسيح وممن لا يؤمنون بقانونية مجمع خلقيدونية من جانب آخر، أقول إن الخلاف بين هؤلاء وأولئك خلاف فلسفي صرف يقوم على أساس التعبير الصحيح الذي ينبغي أن يعبر به عن الاتحاد الكائن بين لاهوت السيد المسيح وناسوته.
أما نحن في الشرق، فإننا نتخوف كل التخوف من استخدام مصطلحات فلسفية في تعريف أو تحديد معنى أو حقيقة من الحقائق اللاهوتية، فالكنائس الأرثوذكسية غير الخلقيدونية (وهي كنيسة الإسكندرية والكنيستان السوريانية والأرمنية) تؤمن بلاهوت المسيح كما تؤمن أيضاً بناسوته. ولكن المسيح عندهم طبيعة واحدة مع ذلك. وقد يبدو في هذا نوع من تناقض. ولكن على الرغم مما يبدو في هذا من تناقض منطقي عقلي، إلا أن كنيستنا لا ترى فيه شيئاً من التناقض لأنها تنظر إلى طبيعة السيد المسيح نظرة صوفية روحانية ينحل فيها كل ما يبدو أمام الفكر البشري أنه متناقض أو محال! هذه التجربة الصوفية أو الروحانية تعلو على كل تناقض عقلي أو فلسفي . فيها لا يسأل المسيحي لم؟ أو كيف؟ إن في ديانتنا أسراراً نؤمن بها ونقبلها بكل يقين وإيمان لا شيء إلا لأنها قد أعلنت لنا من الله. ونحن نؤمن بها على الرغم من معارضتها لحواسنا ومناقضتها لعقلنا المادي، لا لشيء إلا لأننا أيقنا أنها من الله. وكما نؤمن بوجود الله وأنه قادر على كل شيء ، كذلك نؤمن بأسرار ديانتنا من دون أن نكون في حاجة إلى أن نسأل، لم؟ أو كيف؟ ولا شك أن العقل الفلسفي لا يستطيع أن يقبل هذا الإيمان الصوفي. ولكن العقل الفلسفي ليس في الواقع عقلاً روحياً على الحقيقة. إنه عقل لا يؤمن إلا بقدراته ومقاييسه وحدها. والديانة بالنسبة إلى العقل الفلسفي هي علم يمكن أن يوضع على قدم المساواة مع أي فرع آخر من فروع المعرفة الإنسانية. والعقل الفلسفي يحاول أن يخضع الديانة لذات المنهج العلمي الذي تخضع له كل فروع المعرفة المادية. ومن هنا فقد يدخل إلى الدين مناهج التحليل والتصنيف والاستنباط والاستقراء وما إليها من أجل أن تجعله أكثر إساغة وقبولاً للعقل الفلسفي.
ويا للأسف، أننا لانستطيع بهذا المنهج في معالجة المسائل الدينية والحقائق اللاهوتية، أن نفهم روح الديانة، فعندما يتدخل العقل، تقف التجربة الروحية الصوفية، بل تختفي. إن لنا أن نستخدم عقولنا إلى حد معين، وحينئذ يجب أن يقف العقل ويسلم قياده للتجربة الروحية الصوفية.
الإيمان الأرثوذكسي في طبيعة السيد المسيح
إن الإيمان الأرثوذكسي كما نعترف به في كنيستنا هو أن ربنا يسوع المسيح كامل في لاهوته، وكامل في ناسوته. ومع ذلك لا نجرؤ على القول إنه إله وإنسان معاً. لأن هذا التعبير ينطوي على معنى الانفصال بين اللاهوت والناسوت. وإنما نقول بالحري أنه (الإله المتجسد). فاللاهوت والناسوت متحدان فيه اتحاداً تاماً في الجوهر، وفي الأقنوم، وفي الطبيعة. ليس هناك انفصال أو افتراق بين اللاهوت والناسوت في ربنا يسوع المسيح. بل أنه منذ اللحظة التي حل كلمة الله في رحم السيدة العذراء ، اتخذ الاقنوم الثاني من الثالوث القدوس، من دمها، أي من دم العذراء، جسداً بشريا ذا نفس إنسانية ناطقة عاقلة، واتحد بالناسوت الذي أخذه من القديسة مريم العذراء. فالمولود من القديسة مريم إذن هو الإله المتجسد، جوهر واحد، شخص واحد، أقنوم واحد، طبيعة واحدة. أو قل هو طبيعة واحدة من طبيعتين، وبعبارة أخرى يمكن أن نتكلم عن طبيعتين من قبل أن يتم الاتحاد، أما بعد الاتحاد فهناك طبيعة واحدة لها صفات وخصائص الطبيعتين!!
وعلى ذلك فالاتحاد الذي تقول به الكنائس الأرثوذكسية التي لا تعترف بمجمع خلقيدونية يختلف اختلافاً جوهريا وأساسياً عن نوع الاتحاد الذي يقول به يوطيخيا.
يقول يوطيخيا إن ربنا يسوع المسيح له طبيعة واحدة، ولكن على أساس أن ناسوت المسيح قد تلاشى تماماً في لاهوته، اختلط به وانعدم فيه، مثله مثل نقطة الخل عندما تختلط بالمحيط، فيوطيخيا ينكر في الحقيقة ناسوت السيد المسيح إنكاراً تاماً.
وتقول الكنائس الأرثوذكسية التي لا تعترف بمجمع خلقيدونية بأن السيد المسيح ذو طبيعة واحدة تجتمع فيها جميع الصفات والخصائص الإنسانية أو الناسوتية وجميع الصفات والخصائص اللاهوتية، بدون اختلاط ، وبدون امتزاج ، وبدون تغيير . وهذا هو الإيمان الذي يجهر به الكاهن في القداس القبطي عندما يتلو الاعتراف الأخير، وهو يحمل الصينية المقدسة على يديه قائلا ً: ((آمين، آمين، آمين، أؤمن، أؤمن، وأعترف إلى النفس الأخير أن هذا هو الجسد المحيي الذي أخذه ابنك الوحيد ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح (أخذه) من سيدتنا وملكتنا كلنا والدة الإله القديسة مريم، وجعله واحداً مع لاهوته بغير اختلاط ، ولا امتزاج، ولا تغيير .. . بالحقيقة أؤمن أن لاهوته لم يفارق ناسوته لحظة واحدة أو طرفة عين)) .
وعلى ذلك فصفات اللاهوت باقية، وصفات الناسوت باقية، ولكن في طبيعة واحدة.
((المسيح إذن من طبيعتين، ولكنه ليس هو طبيعتين بعدم الاتحاد)) كما يقول البابا ديوسقورس . فلا اللاهوت امتزج بالناسوت ولا اختلط به، ولا استحال أحدهما إلى الآخر. إنما اللاهوت والناسوت قد اتحدا. واتحادهما ليس من قبيل الاجتماع أو الاقتران أو المصاحبة، ولكنه اتحاد بالمعنى الحقيقي لكلمة اتحاد. وإذا كان اللاهوت والناسوت قد اتحدا، فقد صارا واحداً، ولا محل للقول بعد ذلك أن هناك طبيعتين، وإلإ فلا يكون الاتحاد صحيحاً أو حقيقياً!
ولكن كيف صار هذا الاتحاد، أو كيف يكون لطبيعة السيد المسيح الواحدة صفات اللاهوت وصفات الناسوت معاً بدون اختلاط وبدون امتزاج وبدون تغيير، أو كيف يكون للسيد المسيح صفات الطبيعتين ولا تكون له الطبيعتان، هذا ما لا نعرفه!!
إنه سر من الأسرار الإلهية، لا يمكن أن نفهمه أو نعيه أو نحتويه في عقولنا. من هنا سمي في الاصطلاح الكنسي بسر التجسد الإلهي. فنحن نؤمن بنوع من الاتحاد يفوق كل فهم بشري وكل تصور.
قد تكون هذه مشكلة كبيرة بالنسبة للعقل الفلسفي أو للعقل المادي، وقد يكون فيها تناقض، وقد يكون فيها ما يتعارض مع قوانين العقل والمنطق والحس والمادة والمصطلحات الفلسفية. كل هذا قد يكون صحيحاً، ولكننا نصدق ونؤمن بتجربة باطنية روحية صوفية عالية على كل منطق وعقل. أن هذا أمر ممكن، ذلك لأن الله أراده، وإذا أراد الله شيئاً فهو ممكن، وحتى لو كان هذا غير معقول للعقل فإنه معقول للعقل الروحاني الذي لا يعرف لقدرة الله حدوداً. وهذا هو ((الإيمان الذي بلا فحص)) الذي يصرخ من أجله الكاهن القبطي في القداس الالهي.
قد نتكلم أحياناً عن الطبيعة اللاهوتية والطبيعة الناسوتية، لكن هذه التفرقة تفرقة ذهنية بحته لا وجود لها في الواقع بالنسبة للسيد المسيح، الإله المتأنس. ذلك أنه لم يحدث بتاتاً أنالناسوت واللاهوت كانا منفصلين أو متفرقين في الخارج ثم اتحدا معاً بعد ذلك . إن ماحدث هو هذا: أن الاقنوم الثاني مناللاهوت القدوس نزل وحل في أحشاء البتول مريم، وأخذ من لحمها ودمها جسداً إنسانية ناطقه عاقلة) [صفحة 13 _ 18].
أما بعد، فيبدو أن الخلاف بين الكنائس الأرثوذكسية غير الخلقيدونية مجرد خلاف في التعبير، ذلك لأن كل فريق يقر بالاتحاد بين اللاهوت والناسوت.
وإني أرى أن هذا صحيح إلى حد بعيد، وأن الخلاف بين الفريقين هو خلاف في الحقيقة على التعبير الصحيح الذي ينبغي أن يعبر به المسيحيون عن إيمانهم بحقيقة الاتحاد القائم بين اللاهوت والناسوت.
ومع ذلك فكنيستنا المرقسية الأرثوذكسية وللكنائس الأرثوذكسية الأخرى التي لا تقر بقانونية مجمع خلقيدونية أسباب تحدوها إلى أن تتمسك بالتعبير((طبيعةواحدة للكلمة المتجسدة)) أو ((طبيعة واحدة من طبيعتين))، أو((طبيعة واحدة لها صفات وخصائص الطبيعتين بدون اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير)) . وهي الأسباب عينها التي نرفض من أجلها الاقرار بتعبير الغربيين ((طبيعتان متحدتان)) .
هذه الأسباب يمكن تلخيصها في النقاط الآتية:
أولاً : ليس هناك نص إنجيلي واحد يدل بوضوح على أن للسيد المسيح طبيعتين بعد الاتحاد.
على العكس تماماً فإن هذه النصوص المقدسة تساند التعبير ((طبيعة واحدة لها صفات وخواص الطبيعتين)).
ثانياً : إن التعبير القائل بطبيعتين متحدتين للسيد المسيح _ وهو التعبير الذي تقول به الكنائس الخلقيدونية _تعبير خطر لأنه يشمل على معاني، أو على الأقل على احتمالات بمعاني، تتعارض مع حقائق ديانتنا المسيحية.
1_ إنه يتضمن الثنائية في السيد المسيح. والثنائية نوع من الافتراق والانفصال بين لاهوت السيد المسيح وناسوته. وإلا فلماذا تصر الكنائس الخلقيدونية على القول بطبيعتين متحدتين، ولايقولون بطبيعة واحدة للكلمة المتجسد.
2_ إن تعبير الكنائس الخلقيدونية القائل ((بطبيعتين متحدتين)) يحمل التصريح بأن هناك طبيعتين للسيد المسيح كانتا مفترقتين ثم اجتمعتا معاً. وهذا يفتح السبيل للمذهب النسطوري بعينه، وهو المذهب الذي ترفضه الكنائس الخلقيدونية رفضاً باتاً وتعتبره هرطقه فاسدة.
إن تعبير ((الطبيعتين المتحدتين)) تعبير هادم لقضية الفداء والخلاص الذي قام به السيد المسيح من أجل الجنس البشري. لأنه إذا كانت للسيد المسيح طبيعتان بعد الاتحاد، فمن المنطقي أن عمل الفداء قام به جسم السيد المسيح، لأنه هو الذي وقع عليه الصلب، وعلى ذلك ففداء المسيح ليست له أي قوة على خلاص الجنس البشري، إذ يكون الذي مات من أجل العالم هو إنسان فقط، ومع أن الفداء يأخذ كل قيمته في أن الذي صلب عنا هو بعينه الكلمة المتجسد! حقاً إن اللاهوت لم يتألم بآلام الصليب التي وقعت على ناسوت المسيح، ولكن اللاهوت هو الذي أعطى فعل الصلب قيمته اللانهائية لفداء جميع أفراد النوع الانساني !!
إن التعبير ((طبيعة واحدة لها صفات وخصائص الطبيعتين)) تعبير سليم ينقذ قضية الفداء من الانهيار، بينما أن القول بطبيعتين متحدتين يقبل الاحتمال بأن الصليب كان صلباً لجسد يسوع فقط، ولم يكن صلباً للمسيح باعتباره الإله المتجسد، وهذا يفقد الخلاص كل قيمته التي يتعلق عليها فداء الجنس البشري بأسره. وهو معنى تعارضه كل نصوص الكتاب المقدس التي تتكلمعن الفداء . ولسنا في حاجة إلى أن نكرر مرة أخرى ما قاله الرسول القديس بولس من أن الدم الذي سفك لفداء البشرية هو دم الله عينه ((كنيسة الله التي افتداها بدمه)) [أعمال20 : 8].
4_ إن تعبير الطبيعتين المتحدتين لا يستطيع أن يفسر اعتقاد الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الأرثوذكسية الخلقيدونية، في أن القديسة مريم هي والدة الإله.
لست أدري كيف يستطيع الكاثوليك والأرثوذكس الخلقيدونيون، أن ينقذوا أو يبرروا اعتقادهم في أن السيدة العذراء هي والدة الاله، إذا كانوا يصرون على القول بأن للسيد المسيح طبيعتين متحدتين.
أما التعبير القائل بطبيعة واحدة للكلمة المتجسد، فهو وحده الذي يمكن أن يفسر أن العذراء والدة الإله، من حيث أن الذي ولد من مريم هو الإله المتجسد. ولو كان في المسيح طبيعتان لكانت العذراء والدة الإنسان يسوع فقط، ولا يصح تلقيبها بوالدة الإله، لأنها ليست أصلاً للاهوت. فالقول بطبيعتين في المسيح يسلم إلى الاعتقاد النسطوري الذي يؤيده البروتستانت بكافة نحلهم ومذاهبه ، وهو أن العذراء ليست والدة الإله، وإنما والدة الإنسان يسوع) [صفحة 20 _ 27] من الكتيب.
(هذا هو الوضع اليوم ،الوضع الصحيح للمشكلة القائمة بين القائلين بالطبيعة الواحدة والقائلين بالطبيعتين، وهي مشكلة التعبير الصحيح الذي يجب أن يعبر به المسيحيون عن اعتقادهم في لاهوت السيد المسيح وناسوته في نفس الوقت.
ولا شك أن الكنائس الكاثوليكية والكنائس الأرثوذكسية التي تقر بمجمع خلقيدونية ليست نسطورية على الإطلاق. كما أن الكنائس الأرثوذكسية الشرقية القديمة التي لا تقر بمجمع خلقيدونية ليست بأوطاخية على الإطلاق.
عزيزي القارىء:
إن هذه العبارات التي أوردناها من هذا الكتيب تلقى بعض الضوء على الخلافات بين المذاهب المسيحية في هذا الخصوص، ومنها نعرف أن هناك العديد من هذه المذاهب، بل إن المذهب الواحد يتفرع بدوره إلي نحل ومذاهب، فقد قرأنا في الكتيب إشارة الي البروتستانت بكافة نحلهم ومذاهبهم، وحتى المذهب الأرثوذكسي وجدناه ليس واحداً، فهناك كنائس أرثوذكسية خلقيدونية، وأخرى غير خلقيدونية، ومن هذه الاخيرة، الكنيسة المرقسية الإسكندرية وأحسب أن في هذا الكتيب الكفاية لبيان أن المسيحيين أنفسهم، وبعد نحو عشرين قرن منرفع المسيح، لم يستطيعوا أن يتفقوا على تصور واحد لهذه الألوهية المزعومة.
_________
المسيحية في الميزان
|