بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَنْ والاه، وبعد.
فالهجمةُ على الإسلامِ قديمةٌ قِدَمَ الإسلامِ نفسه، فمنذُ بزوغِ فجرِ هذا الدين، بدأ الطعنُ والتشكيك فيهِ، وكانتِ الحربُ _ ولا زالت _ تارةً بالسيفِ، وتارةً بالقلمِ.
ويؤرِّخُ لنا الدكتور عبد الرحمن بدوي -رحمهُ اللهُ تعالى - في كتابهِ: (دفاعٌ عن القرآنِ ضدَّ منتقديه ) شيئًا من تاريخِ تلكَ الكتاباتِ الحاقدةِ المسمومةِ؛ بدءًا من كتاباتِ الراهبِ يوحنا الدمشقي ( 650 – 750 )، ومرورًا بإمبراطورِ بيزنطةَ: ( جان كنتاكوزين )، إلى كتابات: الكاردينال نيقولا دي كوزا ( 1401- 1464)، والمستشرقينَ أمثالَ: مرجليوث، وجولدتسيهر، وغيرهم.
وترافقَ الهجومُ على القرآنِ الكريم: - لكونه المصدرَ الأولَ من مصادرِ التشريعِ في الإسلام- هجومًا آخر على السنة، كمصدرٍ ثانٍ للتشريع.
وما فَتِئَتِ الأقلامُ المأجورةُ، والأسماءُ المغمورةُ، تُثيرُ الشبهاتِ حولَ القرآن والسنة تحديدًا.
وقد تمَّ استهدافُ الصحيحينِ بالنقد والطعنِ فيهما؛ لأنَّ الأمةَ قد تلقَّتْ ما فيهما بالقبول والصحة، فحينما نعزو الحديثَ إلى البخاري، أو إلى مسلم، أو إلى كليهما، يتبادرُ في أذهاننا صحةَ هذا الحديث، فإجماعُ الأمة هذا قد ساءَ أعداءَ الإسلام! فلا بُدَّ إذًا من الطعن فيه، وضَرْبِ هذا الإجماعِ، كسلسلةٍ متواصلةٍ في الطعن في مصادر الإسلام.
والناظرُ في كتابات هؤلاءِ الطاعنينَ: يجدُ أنهم يدَّعون أن انتقادهم للصحيحين مبنيٌ على أُسُس من النقد العلمي، والتشكيك المنهجي.
والواقعُ: أن هذا المنهجَ العلمي المزعوم يقوم على أُسُس واهية، ودعائمَ هي أوهنُ من بيت العنكبوت.
وقد ثبُتَ أن طعونهم في الصحيحين: لا تقومُ على أساسٍ علمي، بل على أهواء ونزعات لا تقوم لها قائمةٌ في ميزان العقل والوجدان.
وسَنَسْتَعْرضُ في هذا المقال: سلسلةً من القضايا التي أثارها هؤلاء على الصحيحين، وسنقوم -باذن الله تعالى- بالرد عليها؛ مبيِّنينَ فَقْرَ تلك المناهجِ النقدية المزعومة، وقلةَ عقول أصحابها.
لا عصمةَ إلا للأنبياء
هي كلمة حقٍ أُريدَ بها باطلٌ، فَنَفْيُ العصمةِ عن البخاري ومسلم يتطلبُ عدمَ التسليمِ بصحةِ ما رَوَوْهُ من أحاديث، فما دام احتمالُ الخطأ واقعًا؛ فإن ادعاءَ الصحةِ لما في الكتابينِ لا يُسلَّمُ به لأصحابه ومُدَّعِيه، هكذا يزعمُ القوم!
والصحيحُ أن هذا الادعاءَ: هو طعن في المنهج العلمي الذي ينصُ على عدم افتراض الخطأ قبلَ التأكدِ من وقوعه، فالحكمُ على الشيء قبلَ مراجعتهِ وِفْقَ الأصولِ والمناهجِ التي اعتمدها في التأليف= هو ضربٌ من العبث والجهل.
فمن يُريد انتقادَ قصةٍ أدبيةٍ - مثلا - لا بدَّ من أن يكونَ متمكِّنًا من مناهجِ النقدِ الأدبي حتى يكونَ لكلامه وقْعًا، فلا يستطيعُ خَبَّازٌ -مثلا- لا يحسن سوى عمله أن يحاكي قولا نقْديًا في عملٍ أدبيٍ!
مِنْ هنا: فقدْ كانَ على هؤلاءِ الطاعنينَ أن يكونوا على اطلاعٍ بقواعدِ علمِ الجرحِ والتعديل التي أُسِّسَتْ لتمييزِ الأحاديثِ الصحيحةِ من تلكَ الضعيفة التي قِيْلَتْ على لسانِ النبي -صلى الله عليه وسلم - والتي تم تأليفُ الصحيحينِ وفْقًا لشروطِ وضوابط هذيْنِ العِلْمين.
ولهذا: فإن أيَّ نقدٍ موجهٍ للصحيحين لا قيمةَ له أبدا، ما دامَ يصدرُ عمَّنْ لا يملكُ أبجدياتِ ضوابط الجرح والتعديل، وأُسُسِ تصحيحِ الأحاديثِ وتضعيفها، وهذا مُسَلَّمٌ به بينَ أهلِ العلمِ، ولا خلاف بينهم في ذلك أصلا.
وثمةَّ أمرٌ آخرُ ضمنَ مسألةِ العصمةِ هذه: وهو أننا لا ندَّعي العصمةَ لأيِّ مخلوقٍ بعدَ النبي -صلى الله عليه وسلم.
وما دامَ الأمرُ كذلك: فإنَّ هناكَ بعضَ الأحرفِ اليسيرة التي انتقدها العلماءُ على بعض أحاديث الصحيحين، لكنَّ هذهِ الأحاديث المنْتَقَدَة لا تعدِلُ سوى نسبةٍ ضئيلةٍ من مجموع أحاديث الصحيحين، فنسبةُ الخطأ إذًا قليلةٌ، وللهِ الحمدُ والمنة.
والمتتبِّعُ للأحاديث التي انتقدها هؤلاءِ الطاعنون- على افتراضِ التسليمِ بصحةِ انتقادهم! ودونَ إثبات صحة ذلك خَرْطُ القَتَاد -: يجدُ أنَّ هذه الأحاديث زيادةً عن كَوْنها تفتقرُ لآليةِ النقد المعهودةِ عندَ أهل الحديث= فإنها أيضا لا تُشَكِّلُ إلا نسبةً ضئيلةً من مجموع أحاديث الصحيحين.
وأقولُ للْمُنْصِفينَ: هل بعدَ هذا يجوزُ تعميمُ الخطأ على مجْمَلِ أحاديث الصحيحين ؟؟
وكيفَ تريدونَ منا أن نقبلَ طَعنَكُم وأنتم تفتقرونَ لأدوات علم الحديث اللازمةِ لدراسة الأسانيد والمتون؟
ويتبينُ مما سبقَ: أن كونَ البخاري ومسلم غيرَ معصوميْنَ لا يستلزمُ بالضرورةِ أن تكونَ نسبةُ الخطأ في صحيحيهما كبيرةٌ تكفي لرد أحاديثهما جملةً!
بل إن الأحرفَ اليسيرة المنْتَقَدَة: لا تساوي شيئا؛ مقارنةً بنسبةِ الصحيحِ من الأحاديث.
حولَ تواترِ الصحيحينِ إلينا
ثمَّةَ مَنْ يدَّعِي جهلا: أن الصحيحين لمْ يصلا إلينا بالتواتر! بل رُبما تعرَّضا خلالَ فتراتِ التاريخ المترامية لشيءٍ من إقحامِ الأحاديث فيهما! وهذهِ دعوى تفتقرُ للدليل.
والمستشرقونَ قد كانوا أكثرَ ذكاءً من هؤلاءِ الطاعنينَ، والمثيرينَ لهذه الفريةِ؛ إذْ أنهم لم يُفكروا فيها أصلا، فمخطوطاتِ الصحيحين التي تحتَ اطلاعِ المستشرقين لا تُحْصَى لِكثرتها، والأسانيدُ المتصلةُ من يومنا هذا، وحتى البخاري ومسلم = لمْ ولنْ تنقطعَ بحمد الله تعالى.
وسأتحدثُ هنا عن مسألتينِ في هذا المطلب.
ففي المسألةِ الأولى:
سأتحدَّثُ عن رواية صحيحي البخاري ومسلم، مع ترجمةٍ موجزةٍ لرواة الكتابيْن.
وفي المسألةِ الثانية:
سأتحدثُ عن مخطوطاتِ الصحيحين، وتواجدهما في مكتباتِ ومتاحفِ العالم المختلفة، واللهُ الموفق.
فبخصوصِ رواةِ الصحيحينِ إلينا:
اعلمْ أنَّ من روى (صحيح البخاري) عن البخاري -نفسه- لا يُحْصون لكثرتهم، وأسانيدُهم بالآلاف.
وقد اشتهرَ منهم أربعةٌ من الرواة، أكثرَ الناسُ أخْذَ صحيح البخاري عنهم؛ لملازمتهم للبخاري رحمه الله تعالى.
منهم: الحافظ الفِرَبْري -رحمه الله تعالى- ( 231- 320 هـ). وقد ترجمَ له الذهبيُّ -رحمه الله تعالى- في سير أعلام النبلاء [15/10] فقال:
( أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بنُ يُوْسُفَ بنِ مَطَرِ بنِ صَالِحِ بنِ بِشْرٍ الفِرَبْرِيُّ، رَاوِي: (الجَامِعِ الصَّحِيْحِ) عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ البُخَارِيِّ ... قَالَ: سَمِعْتُ (الجَامِع) فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِيْنَ وَمائَتَيْنِ، وَمَرَّةً أُخْرَى سنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِيْنَ وَمائَتَيْنِ).
ومِنْ رُواة الصحيحِ عن الفِرَبْري: نذكرُ -مثلا لا حَصْرًا- الكُشْمِيْهَنِيّ، والمَرْوَزي، والمُسْتَمْلِي، وغيرهم.
أما الراوي الثاني للصحيح: فهوَ إبراهيمُ بنُ مَعْقِل النَّسَفي ( توفيَ سنةَ 295 هـ )، وقدْ كانَ فقيهًا عالما بالتفسير والحديث.
والراوي الثالثُ: هوَ حمادُ بنُ شاكر النَّسَوي ( توفي سنة 311 هـ )، وهوَ ثقةٌ مأمونٌ، رحمهُ الله تعالى.
أما الراوي الرابعُ: فهوَ منصورُ بنُ محمدٍ البَزْدَوِي، وهوَ آخرُ من روى الصحيحَ عن البخاري مباشرةً، رحمهُ اللهُ تعالى. وقد توفيَ ( عامَ 329 هـ).
فهؤلاءِ: أشهرُ من روى (الجامعَ الصحيحَ) عن البخاري -رحمهُ الله تعالى - وكَما تَرى فعددُهم يفوقُ التواترَ بحمدِ اللهِ تعالى.
ويذكر لنا الحافظُ ابن حجر -رحمهُ الله تعالى- في (فتحِ الباري) [2/8-12/طبعة دار طيبة] أن عددَ من روى الصحيح عن الفربري تسعةُ رواةٍ.
وعن هؤلاء التسعة: أخذَ أكثرُ من اثني عشر روايًا آخر، وتجدُ كلُّ ذلكَ مبسوطًا في المجلدِ الأولِ من (فتح الباري)، المعروف بـ: ( هدي الساري ).
أما مخطوطاتُ البخاري: فيذكرُ لنا الدكتور محمود مصري في بحثٍ له مقدمٌ إلى (مؤتمر المخطوطاتِ الألفية) بمكتبةُ الاسكندرية (عام 2004 ): أنَّ أقدمَ مخطوطٍ للبخاري موجودٌ في دارِ الكتبِ القطرية (وزارة التربية)، ويعودُ تاريخهُ لعام: (265 هـ ).
ومخطوطٌ آخرَ: موجودٌ في (كلياتِ سيلي أوك) وهو من مجموعِ مخطوطاتِ المستشرقِ (منجانا)، ويعودُ تاريخهُ إلى (سنةِ 391 هـ) .
بالإضافةِ: إلى مخطوطٍ آخرَ في دارِ الكتبِ في (صوفيا) يعود تاريخهُ لـ: (سنةِ 407 هـ ).
ومخطوطٌ آخر: في الخزانةِ العامةِ في (الرباط ) يحتوي على الأجزاءِ (من 2-5 )، ويعود تاريخهُ لسنة 492 هـ .
ويذكرُ المؤلفُ نفسَه: أن عددَ مخطوطاتِ البخاري المتواجدةَ في مكتباتِ العالمِ يصلُ مجموعهُا إلى حوالي (2327 نسخة مخطوطة) في العالم .
ولعلَّ منْ أهم تلك النُّسَخ: هي نسخةُ الحافظِ اليونيني -رحمهُ الله تعالى- والمأخوذُ عنها النص الحالي في الطبعة السلطانية- وهي أضبطُ نسخةٍ، وموجودةٌ في تركيا، ويعودُ تاريخها إلى القرن السابع للهجرة، وتجدُ كلامَ العلامةِ أبي الأشبال أحمد شاكر -رحمه الله تعالى- حولِ هذهِ النسخةِ ووصْفِها في مقدمةِ الطبعةِ السلطانية لـ ( صحيح البخاري) التي طُبِعتْ بأمرٍ من السلطان عبد الحميد -رحمه الله تعالى- قبلَ ما يقرب من مئة وعشرين عامًا. ولله الحمد والمنة.
أما بخصوصِ صحيحِ الإمام مسلم:
فقدْ روى صحيحهُ الكثيرُ من أهل العلمِ أيضًا.
وأشهرُ من روى عنه: إبراهيمُ بن محمد بن سفيان، أبو إسحاق النيسابوري، وقد كانَ من الملازمينَ للامامِ مسلم -رحمه الله تعالى- ومن الثقاتِ العابدين، توفيَ -رحمهُ الله تعالى- في رجب ( سنة 308 هـ).
أما الراوي الثاني للصحيح: فهو أحمدُ بن علي بن الحسين، أبو محمد القلانسي، وقد اشتهرَ بالروايةِ عنهُ أهلُ المغرب.
أما الراوي الثالث: فهو مكيُّ بن عبدان التميمي النيسابوري، وقد كانَ ثقةً متقنًا -رحمه الله تعالى- توفيَ (سنة 325 هـ ) في جمادى الآخرة.
وممن روى عنِ إبراهيمُ بن محمد بن سفيان النيسابوري: محمدُ بن عيسى أبو احمد الجُلُوْدِيُّ، توفيَ (سنة 368 هـ)، ومحمد بن إبراهيم الفارسي.
وممنْ روى عن الجلودي: أبو العباس الرازي، وقد عاشَ إلى (سنة 409 هـ )، وعمر بن محمد أبو سعيد السجزي المتوفي (سنة 410 هـ)، وغيرهم من الرواةِ كثير. وتجدُ ذلكَ في مقدمةِ (صحيحِ الإمام مسلم) طبعة دار طيبة.
أما أقدمُ مخطوطاتِ صحيحِ الإمام مسلم: فيذكرُ العلامة عبد الحي الكتاني في كتابهِ (فَهْرس الفَهارس) [2/706-707] أن أقدمَ مخطوطٍ لـ (صحيحِ مسلم) في إفْرِيقيَّا يوجدُ في خزانةِ القرويينَ بفاس في المغرب، ويعودُ تاريخهُ إلى (سنة 573 هـ ).
وفي (مكتبةِ الملك عبدِ العزيز العامةِ) بالرياض: يوجدُ (مختصرُ صحيح الإمام مسلم) للحافظ المنذري، ويعودُ تاريخه إلى (سنة 656 هـ).
ويوجدُ كذلك مخطوطةٌ من (صحيحِ الإمام مسلم) في مكتبةِ الإسكندرية يعودُ تاريخها لـ ( سنة 386 هـ ).
والله أعلم وأحكم.
|